أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الخميس، يونيو 23، 2016

'أوفيليا لم تمت' لكنها حية في الرباط

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, يونيو 23, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية
مسرحية 'أوفيليا لَمْ تَمُتْ' نجحت في العام 2016 كما نجحتْ في أول عرض لها قبل أكثر من أربعين سنة.
                             مسرحية اوفيليا عمل مايزال جذابا بعد عقود من كتابته

مسرحية ” أوفيليا لَمْ تَمُتْ” للكاتب والمخرج المغربي نبيل لحلو عرضت مؤخراً على مسرح محمد الخامس بمدينة الرباط وحققت نجاحاً لافتاً.
كُتب النص في العام 1968 بالفرنسية، وتُرجم إلى العربية في العام 1974 وقدم عدة مرات آخرها هذا العام، وبين العامين 1968 و2016 أكثر من أربعة عقود وبالرغم من هذا بقيَّ النصُ حيّاً .

تناوب على تمثيله العديد من الممثلين الموهوبين كأمل عيوش، جوزيان نعيم، رشيد فكاك، عباس إبراهيم، ميشيل دومولن، وأخيراً، صوفيا هادي ونادية نيازي. اختار الموسيقى يونس ميكري، وصمم اللوحات الرقمية كرم الزين، والسينوغرافيا عادل الطاهري.


أعمال متمردة

جسد لحلو في كتاباته للمسرح وللسينما -كتب جميع سيناريوهات أفلامه وأنتجها وأخرجها بنفسه- هذا الطابع الرافض، المتطلع إلى حلول مجتمعية، وفكرية تبدو في بعض الأحْيان للنقّاد والناس متمرّدة وغير واقعية.

نبيل لحلو درس السينما والمسرح بفرنسا، والجامعة الأخيرة التي درس فيها المسرح، هي جامعة الأمم للمسرح، وعمل عدة سنوات في المسرح الجامعي المغربي. وظهرت تأثيرات المسرح العالمي على مسرحياته، كمسرح العبث والمسرح الملحمي البريختي.

ونجد على سبيل المثال في مسرحياته السابقة أصداء هذه التأثيرات، كما في “سقراط” التي نقل فيها محاكاة كوميدية لما يدور في كواليس صنع الأفلام المغربية. و”مذكرات غوغل”، التي سخر فيها من الفكر المتخلف. ومسرحية “تشخ مخ الإمبراطور”، التي تناول فيها أوضاع الحكم المتعسف في بلدان المشرق، “شريشماتوري”، و”السلاحف”.

وكذلك في عدد من أفلامه التي كتب سيناريوهاتها وأنتجها، وأخرجها بنفسه، كـ”ليلة القتل”، “إبراهيم ياش”، “الحاكم العام لجزيرة شاكر باكر بن”، “نهيق الروح”، و”القنفوذي”، وجميعها أعمال متمرّدة على المألوف في السينما المغربية.


أحداث المسرحية

"أوفيليا لَمْ تَمُتْ" لا تنتمي للوقت الحاضر بأحداثها، لكنها في الوقت ذاته تتحدث عن الحاضر من خلال منولوجات ممثلين مثليين (Homosexuality) أديا أدواراً لهاملت وأوفيليا (أدت صوفيا هادي ونادية نيازي دوريهما).

ووجدا سعادتيهما في تمثيل دوريهما في الحياة كمشلولين للتعبير عن رفضهما للمجتمع، الذي ينعتانه بالجبن والخسة والمداهنة من خلال تبادل ديالوجات مفعمة بالمرارة. حمل النص مضامين كثيرة، وتناول كل ما مرَّ على الناس من هزائم، وعنف، خلال الأربعين سنة الماضية.

النص حمل أيضاً أصداء جيل الغضب في أميركا، الذي بدأ بالشعر في خمسينات القرن الماضي، ومثّله غريغوري كورسو، جاك كيرواك، وألن غينسبرغ، وتأثّر بأفكاره كتّاب الرواية والمسرح. الديالوجات التي دارت بين الممثلتين كشفت مدى وضاعة الصامتين عما يدور حولهم من جرائم باسم الحق والعدالة والنظام. والكثير ممّا دار من الكلام حمل رموزاً وإشارات وتلميحات إلى ما نعيشه وما ينبغي أن نرفضه.

والنص إدانة لكل ما نعيشه، إدانة صريحة لفهمنا للعيش الآمن، وتواطئنا مع الشر بصمتنا، الصمت جريمة كبرى -حسب جدالهما- لأنه يصنع الطغاة، ويديم الحياة الوضيعة في المجتمع. والنص قدم وجبة فكرية كاملة لمن يود أن يعرف كيف يعيش حراً في مجتمع حر.

تناول النص المسرحي شخصيتين مسرحيتين للشاعر الانكليزي وليام شكسبير، من خلال ممثلين لأدوار مسرحياته، ومن يتتبع تأثير ماكبث كشخصية تأريخية يعرف أهمية الكتابة للمسرح، فقد تحولت الشخصية من خلال دراما خيالية إلى أنموذج أدبي حيّ يمثل تراجيديا الحياة بأطماعها وحب التسلط فيها
لذا فليس من المستبعد أن يطَّوّعَ نبيل لحلو الأيقونتين المسرحيتين “أوفيليا” و”ماكبث” في نصه المسرحي، ليتخذ من هيولى شخصيتهما، وشهرتيهما عمقاً درامياً ونفسياً، لما ستقولانه عبر ممثلين لدوريهما.

وظهرت مانشيتات لمسرحيات سبق عرضها بالفعل على مسرح محمد الخامس بالرباط في الديكور، وظهرت السينوغرافيا التي أثثت المشاهد البسيطة، لا تلفت النظر. وكأن المخرج أراد عدم تشتيت انتباه المتفرجين، فهو سيقدم وجبة فكرية، وإن جاءت كفرجة مسرحية. وأظهر المكياج الممثلتين كمهرّجتين في سيرك.

لقد جاء العرض المسرحي “أوفيليا لَمْ تَمُتْ” لنبيل لحلو في وقته المناسب، ليقول أن دوراً مهماً للمثقف العربي في هذا الخضم من الجدل السياسي، الذي يشير إلى غياب دور المثقف العربي. وعدم ردّه على دعوات التطرف الديني، وما تواجهه المجتمعات العربية من مخاطر الإرهاب.


استخدام الأيقونات

تناول النص المسرحي شخصيّتين مسرحيّتين للشاعر الانكليزي وليام شكسبير، من خلال ممثلين لأدوار مسرحياته، ومن يتتبع تأثير ماكبث كشخصية تأريخية يعرف أهمية الكتابة للمسرح، فقد تحولت الشخصية من خلال دراما خيالية إلى أنموذج أدبي حيّ يمثل تراجيديا الحياة بأطماعها وحب التسلط فيها. اضطر فيها قائد عسكري مثل ماكبث لقتل ملك أسكتلندا دنكن ليصير ملكاً مكانه.

وكتب العديد من الأدباء والشعراء عن ماكبث بالرغم من أن شكسبير لم يتناول إلا جزءاً صغيراً من الحكاية التأريخية، وبقي ماكبثه لا يشبه ماكبث الحقيقي. ولكن عبقرية النص الأدبي، جعلته أيقونة تراجيدية مثلت صراع الروح النبيلة مع أطماع الحياة.

فاستلهم بتهوفن إحدى مقطوعاته الموسيقية من لقاء ماكبث بالساحرات الثلاث اللائي تنبأن له وصاحبه بانكو بما سيكون مستقبلهما.

وأبدع جاستين كورزيل في فيلمه ماكبث من خلال تمثيل فاسبيندر، وماريون كوتّيار لقطات إنسانية قلَّ مثيلها في تأريخ السينما. ونتذكر ما كتبه الروائي كازانتزاكيس عن مشاعر الندم لدى ماكبث في يومياته (الطريق إلى غريكو) مُلقياً بظلال ندم هذه الشخصية على خائن سيدنا المسيح يهوذا الإسخريوطي.

وتكررت شخصية ماكبث أيضاً في شعر إليوت وعزرا باوند، ولدى شعراء عرب مثل عبدالمنعم رمضان وعبدالكريم كاصد وغيرهم. أما أوفيليا، فهي الأخرى أيقونة للشاعرية والجنون، والحب الخالص، والموت المتمرد أكثر من كونها شخصية مسرحية اخترعها شكسبير، في مسرحيته هاملت. أوفيليا مجّدها شعراء وروائيون ورسامون، كمخلوق حيّ لا كشخصية مسرحية خيالية.

وجدناها نابضة بالحياة في قصائد لأرثور رامبو، ملارميه، وفرناندو بيسوا، ولدى شعراء عرب كعبدالوهاب البياتي، بلند الحيدري، د.حسن طلب، د. عبدالمعطي حجازي، فاروق شوشة، أدونيس، نزار قباني، نوري الجراح، أديب كمال الدين وغيرهم. وكذلك وجدناها متألقة المحيا ترفل بالجمال، والبراءة في لوحات لرسامين كبار، كجون وليام ووترهاوس، أوديلون ريدون، وجون ميليه.

نجحت مسرحية “أوفيليا لَمْ تَمُتْ” في العام 2016 كما نجحتْ في أول عرض لها قبل أكثر من أربعين سنة، وجاء نجاحُها لسببين الأول أن نصها حكي عن المَسْكُوتِ عنه في حياتنا بكلام مُبَاح فضحَ الكثيرَ من رموز فسادِنا، السّياسّية وتطرّفنا الدينيّ، والاجتماعيّ، والثاني لأداء ممثلتيها البارعتين صوفيا هادي ونادية نيازي.
--------------------------------------
المصدر : فيصل عبدالحسن -العرب

تابع القراءة→

0 التعليقات:

فن المسرح في فرنسا لا يتوقف عن التمرد على الشكل والمضمون

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, يونيو 23, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

ينقضي العام تلو العام وباريس لا تزال على عهدها عاصمة للأنوار والثقافة والفنون، لا تنفك برغم ما تعرضت له من اعتداءات في يناير ونوفمبر ترقص وتغني، تحتفي بالحياة وتستطعم مباهجها في نزق طفولي، وتفتح صدرها لشتى التجارب الإبداعية، قديمها وحديثها، من الأعمال الكلاسيكية أو المعاصرة، ولمبدعين من جهات الأرض الأربع، كانت “العرب” سباقة دوما لتقديمهم وأعمالهم لقرائها الأفاضل، وفي ما يلي استعادة لأبرز تلك التجارب.

تفتح الساحة المسرحية في فرنسا بعامة صدرها لكل التجارب كعادتها في كل سنة ثقافية، وفي عام 2015 لم تشذ عاصمة الأنوار باريس عن القاعدة رغم هجمات يناير ونوفمبر، لتبث الفرح أيقونة الحياة ببلاد الفنون.
في سنة فرنسا المسرحية لهذا العام تجاورت الأعمال الكلاسيكية والحديثة جنبا إلى جنب سواء خلال المهرجانات، كمهرجان أفينيون أو مهرجان الخريف بباريس، أو أثناء العروض الموسمية في المسارح العامة والخاصة، مع ميل شديد إلى الفودفيل الذي لا يزال يستهوي الفرنسيين منذ جورج فايدو وأوجين لابيش.

فشكسبير وموليير وماريفو وبومارشيه وتشيخوف حاضرون على الدوام جنبا إلى جنب مع أعلام المسرح الحديث كصامويل بكيت وهارولد بنتر وتادوز كانتور وبرنار ماري كولتيس، والمخرجون العالميون لا يزالون يقبلون على باريس لتقديم جديدهم، كذا الألماني توماس أوسترماير والإيطالي روميو كاستيلّوتشي، أو اختاروا الإقامة فيها على غرار الإنكليزي بيتر بروك الذي يواصل مسيرته في مسرح “بوفدينور”. وقد سجلت “العرب” مما أتيحت لها مشاهدته في مختلف مسارح باريس وضواحيها الملاحظات التالية.


تمرد على المضمون

يتبدّى التمرّد على مستوى المضمون جليا في مسرحية “التمرّد” التي عدّها النقاد طليعية، إذ فتح مؤلفها دو ليل آدم (1838/1889) الباب لمسرح جديد تؤكد فيه المرأة رغبتها في التحرر والانعتاق من قيود المجتمع، فتهجر عالم المظاهر وتحيا بعمق حياة روحية لتحقيق الذات.

تحتوي المسرحية على عدة ألغاز، من ذلك مثلا أن يعطي رجل الكلمة لامرأة للتعبير عن أفكاره، وهو ما لم يكن معهودا في ذلك الوقت. ومنها أيضا أن تتقمص تلك المرأة وحدها توق النساء إلى عالم شاعري يواجه عالم المال، ما يوحي بأن من يملك حياة روحية في تلك الفترة من نهاية القرن التاسع عشر لا يمكن أن يكون إلا من جنس الإناث.

في مسرحية "التمرد" التي عدها النقاد طليعية، تتقمص امرأة وحدها توق النساء إلى عالم شاعري يواجه عالم المال
وفي مسرحية “دون جوان يعود من الحرب” للألماني من الأصول النمساوية المجرية أودون فون هورفات (1901/1938) يستدعي شخصية زير النساء الشهير ليصور كيف يغلب الطبع التطبع، وكيف ينقاد دون جوان من جديد وراء غرائزه حتى بعد أن عاش ويلات الحرب، رغم أنه يجد نفسه في مجتمع يعاني من جرائر هزيمة عسكرية مذلة وتضخم مالي خانق، يسير أفراده كالمنوّمين خلف شعارات الحزب النازي.

وقد استعمل هورفات شخصية دون جوان والأنماط التعبيرية السائدة ليعالج موضوعا معاصرا هو الخطأ التاريخي الذي ارتكبه مجتمع فايمار الألماني، بقرع طبول حرب جديدة، بدل البحث في الأسباب التي أدّت إلى الحرب العالمية الأولى.

وفي مسرحية “المصطافون” يقدّم مكسيم غوركي (1868/1936) نقدا جارحا للأنتليجنسيا الروسية التي أنساها النجاح الاجتماعي جذورها، فصارت امتثالية سلبية أسلمت مصيرها للقضاء والقدر، في ظرف كان يهدّد بالانفجار والتداعي.

والمسرحية صدى لانفصال نخب تقدّم النجاح الوظيفي والاجتماعي على العمل الذي ينفع طبقات شعبية ما عادت تحسّ أن ثمة من يمثلها أو يسمع شكواها. وبالرغم من كونها متجذرة في فترتها التاريخية، تعلن بجرأة عن وشك اندلاع الثورة البلشفية الأولى، فإنها لا تفقد راهنيتها بتقادم الزمن.

والمسرحية تطرح قضايا ستكون محل تطورات جذرية في شتى بلدان الغرب، مثل النسوية والمساواة بين الرجل والمرأة والعلاقة بين الأزواج. كما أن ما حملته من نظرة تأمّلية حول دور الكتّاب والفنانين، والمعنى الذي ينبغي على المرء أن يعطيه لوجوده تجعلها سابقة لعصرها.

“بيت برناردا ألبا” التي ألفها لوركا (1898/1936) قبل إعدامه بشهرين، لم تعرض أول مرة إلاّ عام 1945 في بوينس آيرس، وظلت محظورة في أسبانيا زمن فرانكو لما تتضمنه من إدانة لثقل التقاليد، وتنبّؤٍ بما سوف تشهده أسبانيا من انحسار نتيجة بقائها رهينة معتقداتها. ومن خلال ثلاثة أجيال نسوية حبيسة بيت لا تغادره، يضع هذا النص جوهر الاستبداد، في وجهيه السياسي والعائلي الحميم، موضع مساءلة. ما قدر الإنسان المسحوق بتقاليد بالية تكبت توقه إلى العيش عيشة طبيعية؟ وما مصير مجتمع يخنق الاستبداد تطلعه إلى الحرية؟

                        فيلسوف سوداوي الطبع يتقمص دور "المصلح"

نلمس التمرّد نفسه في مسرحية “المصلح” للنمساوي توماس برنارد (1931/1989) وكان قد صاغها كمرآة يتأمل فيها ذاته المطبوعة على كره كل ما حوله؛ ينقم على أبيه وأمه وأخواته، وعلى فيينا ومثقفيها الذين كشف دناءاتهم في نص آخر عنوانه “أشجار للقطع.

والمصلح هنا هو فيلسوف سوداوي الطبع، أقعده المرض وعكّر مزاجه، فلم يعد ينتظر سوى أن تمنحه جامعة فرنكفورت شهادة دكتوراه فخرية عن عمل أسماه “رسالة في إصلاح العالم” وما هو في الواقع سوى تنظير لدمار شامل: أن يُمحَق كل شيء عسى أن ينبت على أنقاضه عالم أفضل.

وتتحدث مسرحية “هينكمان” للألماني إرنست تولّر (1893/1939) عن الحب الممنوع، وقضية السعادة المستحيلة. فالبطل لن يعرف السلام الداخلي بعد أن فقد رجولته في الجبهة، ولا يمكن للنضال السياسي أن يعينه على استعادة سعادته، وكأن الإنسان، في نظر تولّر، محكوم عليه بالوحدة، ليس له من نصير.

هذه الرؤية المأساوية، التي نجدها أيضا عند جورج بوخنر، تعطي المسرحية عمقها وسموّها. ويتميز تولّر بطريقة في الكتابة نشيطة، تخلق جوّا من العنف والإرباك، وتتوسل بخطاب مباشر أحيانا للتنديد بوحشية الإنسان وجنون البشر، ولكن دون أن يكون للجانب التحريضي كبير أثر كما هو الشأن في بعض مسرحيات معاصره بريخت.


تمرد على الشكل

من بين العروض التي مارس فيها المخرجون مقاربة ركحية تجريبية مسرحية متمردة على الشكل نذكر هنا “887” للكيبكي روبير لوباج، وهي غوص في تجاويف الذاكرة، يعود بالمتفرج إلى ستينات القرن الماضي من خلال عمل ينهض لوباج وحده بكل مكوناته من جهة التأليف والإخراج والسينوغرافيا والأضواء والأداء.

والعنوان “887” هو رقم العمارة التي كان الطفل روبير يسكنها مع أهله في مونتريال. فلا ديكور غير ماكيت ضخمة تمثل تلك العمارة التي تبدو مثل صندوق عجيب، يظهر من نوافذها المضاءة بعض السكان، كلما أتى لوباج على ذكرهم، وهو ماض في سرد ذكرياته، فتنفتح هذه النافذة أو تلك على ديكور مصغّر يعرض مشاهد قديمة من حياة البطل والأهل والجيران. ندخل العمارة من نوافذها، كما ندخل خلسة عقل إنسان.

الشأن نفسه يتبدّى مع المخرج الأوكراني فلاد ترويتسكي في “بيت الكلاب” التي تطرح أسئلة جارحة: كيف يقارب الفن المسرحي واقعا مأزوما يُسحق فيه الإنسان، ويُعامل معاملة تسلب إنسانيته وتُرديه إلى درك وضيع؟ وكيف ينقل أحاسيس الفرد المضطهد إلى المتفرج، ويحمله على مشاطرته معاناته؟

في مسرحية تجريبية مرعبة اختار أن يجعل المتفرجين يعتلون قفصا من حديد بداخله مساجين، كي يشاهدوا من فوق ما يكابدونه، ثم جعل المتفرجين داخل ذلك القفص والممثلون من فوقهم يؤدون دور المجتمع الغافل عمّا يجري في زنزانات الصمت. مسرحية ملتزمة ولكن في شكل جديد يضع المتفرج شاهدا على تراجيديا قد يكون طرفا فيها إذا ما استسلم للمقادير تجرفه كيفما شاءت.

نفس التمرد الشكلي يظهره الفرنسي ألكسيس ميشاليك في “حامل الحكاية” التي أعدّها بنفسه، تأليفا وإخراجا، وفيها يغترف من التاريخ وجوهه الأدبية والفنية، ويمزج بين الواقع والخيال ليبدع عملا أقرب إلى المسلسل، دون الالتزام بخطية زمنية، حيث تتعدد مشاهد الفلاش باك عودا على بدء.

"بيت الكلاب" الفن المسرحي يقارب واقعا مأزوما يسحق فيه الإنسان، ويعامل معاملة تسلب إنسانيته وترديه إلى درك وضيع
عمل يعبر الأزمنة والأمكنة ينهض به خمسة ممثلين (ثلاثة رجال وامرأتان) يوهمون المتفرج -لكثرة الأشخاص التي يتقمصونها- أنهم عشرات، يتناوبون على ركح خال للانتقال من شخصية إلى أخرى، ومن مرحلة إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد، ومن مشهد إلى آخر، في عمليات تتبدّى من خلالها سعة التخييل وميزة الحكي في تمرير حكايات تتناسل من رحم بعضها بعضا، وتهوّم بالمتفرج في عوالم عجيبة وغريبة، وكأن الغاية هي دفع المتفرج إلى التفكير في الحكي وفي الحكاية وفي التاريخ بوجه عام.

ومع ذلك فالطريف جاء مع نوع جديد من المسرح يعرف بالمسلسل المسرحي، وهو عبارة عن عروض تتوزع فيها المسرحية إلى حلقات متتابعة، تبدأ بالجينريك، ثم تنتقل إلى تمثيل أحداث تتنامى حتى الذروة على خلفية موسيقى تصويرية، وتنتهي بـالصنّارة التي تشدّ المتفرج، وترغّبه في مشاهدة حلقة موالية تدور في يوم لاحق وتبدأ بالجينريك وبصوت “تسجيلي” يلخص ما جرى في الحلقة السابقة.

هذه التجربة بدأها ماتيوبوير مدير المركز الدرامي الوطني بضاحية مونتروي بمسرحية “الثغرة”، ووجدت صداها لدى فرق أخرى. تجربة تستفيد من قدرة المسلسلات على رصد الواقع بكيفية تفوق الأفلام أحيانا، والأخذ بمستجدات العصر، فالمسرح من هذه الزاوية، يستغني عن سلطة المؤلف ويستعيد نهج الحكايات الشفوية التي تقوم على الإثارة والتشويق وإرجاء البقية إلى ليلة لاحقة، على غرار حكايات ألف ليلة وليلة.


تجليات الواقع

قدمت المسارح الفرنسية أيضا هذا العام نصوصا تعالج تجليات الواقع وهي مسرحيات غير كلاسيكية ولا تجريبية، دون أن يعني ذلك أنها متصالحة مع الواقع، بالعكس، فهي تغوص فيه تحليلا للوقوف على حياة الإنسان في مجتمع مديني ساحق، كما في مسرحية “الأب” للمؤلف الفرنسي الشاب فلوريان زيلر، وفيها يسلط الضوء على حياة الإنسان حين يُردّ إلى أرذل العمر، فيفقد الاهتداء إلى المعالم والموجودات، ويجهد في التشبث بوجود لا يريد فراقه، رغم أنه لم يعد يفهم قواعده.

وقد عمد زيلر إلى تشويش المسالك ليترك لخيال المتفرج فرصة ملء لحظات السكوت وفهم تكرار الخطابات، سيرا على منوال مؤلفين مسرحيين يميلون إلى ترك نصيب من التردد في نصوصهم، كناية على عدم الوثوق من مسألة محيرة لا يريدون البتّ فيها، على غرار الإنكليزي هارولد بنتر والنرويجي جون فوس، دون أن يلتزم بمقاربتهما حرفيا، بل يتبناها ويضيف إليها تصورا مخصوصا يرقى بالنص إلى مصاف النصوص العالمية الكبرى.

                     "المصطافون" نقد جارح للأنتليجنسيا الروسية

وهو ما بدا أيضا في “أبناء الصمت” للأميركي مارك ميدوف (المولود عام 1940) وهو ممثل ومخرج ومؤلف مسرحي وكاتب سيناريو أميركي، فهي تعالج ثيمات ثلاثا: الأولى موقع الصّم والبكم داخل المجتمع وطرق التعامل معهم. والثانية رغبتهم في أن يعامَلوا معاملة سائر الناس ورغبتهم في التواصل مع الآخرين.

والثالثة وهي التي جعلت كمحرّك للعملية الدرامية قدرة الحب على تجاوز الاختلاف في شتى مظاهره، الخَلقية منها بوجه أخص، فعادة ما يميل الصّمّ البكم إلى أمثالهم تجنبا لسوء الفهم الذي قد ينشأ عنه الخلاف والصدام والقطيعة. ومع ذلك فالحبّ أقوى من أي اعتبار. تقول سارة لتبين أنّها فطنة لا يفوتها أمر “عيناي هما أذناي”، ويقول جاك مسوّيا بين الصمت والصوت “الصمم هو صوت مليء بالضجيج”.

وفي مسرحية “منظر من الجسر” التي صاغها الأميركي آرثر ميلر (1915/2005) على طراز المسرح اليوناني القديم، قدم للمشاهد تراجيديا ذات بنية وعمق إغريقيين. نقد لعالم المهاجرين الإطاليين القادمين من صقلية، ليس بهدف إدانة استغلال اليد العاملة المهاجرة، بل للوقوف على ما يعيشه أولئك المهاجرون في حياتهم الحميمية، وعلاقاتهم العاطفية بخاصة.

والبطل إدي كربوني عانى الأمرّين من أجل أن تحظى كاترين، ابنة أخت زوجته بياتريس، بعد أن فقدت أبويها، بتربية مثلى وتعليم يجعلانها شخصية مهمة من شخصيات المجتمع. وكان يحبوها بعطف خاص، ولا يريد أن يعترف بأنها صارت امرأة شابة، لأنه كان يحبها حبا غامضا، يولّد في نفسه الغيرة والغضب ويدفعه إلى القتل، ورغم طيبته وأمانته يقع في المحظور.

رغم ظهور جيل جديد من المؤلفين المسرحيين المتميزين مثل فلوريان زيلر وألكسيس ميشاليك وجويل بوميرا وياسمين رضا وإريك إمانويل شميت، فإن هناك نزوعا دائما إلى توليف نصوص سردية في القصة والرواية لكبار الكتاب في العالم ومسرحتها، وقد أتيح للمشاهد هذا العام أن يشهد أعمالا جيّدة مستوحاة من أعمال أدبية كـ”الطاعون” رواية ألبير كامو التي قدمها للمسرح فرنسيس هوستر، و”مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير التي أخرجتها سندرين مولارو.

ومن الأعمال الممسرحة عن نصوص أدبية نجد أيضا “حلم رجل مثير للسخرية” عن قصة للروسي دوستويفسكي، وقد عرضت في مسرح بلفيل بإخراج أوليفيي إيتييه، و”أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة” عن قصة للنمساوي ستيفان زفايغوقع عرضها في مسرح الضفة اليسرى بإخراج ستيف سويسّا.

-------------------------------
المصدر : أبو بكر العيادي- العرب

تابع القراءة→

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9