أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الاثنين، أغسطس 27، 2012

من المسرح التركي المعاصر: "في الكمين" تأليف جاهد آتاي ترجمة نصرت مردان

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, أغسطس 27, 2012  | لا يوجد تعليقات





(كوميدية من فصل واحد)


جاهد آتاي (1925 –) : كاتب مسرحي متميز حصل على عدة جوائز مسرحية من أعماله المسرحية: مقعد على الشاطيء، طيور السنونو، حمدي وحمدي، الإنسانية لم تمت، الأم خاتون والبنت خاتون.


الشخصيات:

ييلان اوغلو،الاقطاعي (الاغا)
دورمون البستاني
يشار


زاوية طريق.. مرتفع تغطيه الاحراش وأشجار العليق. على مسافة منه حقول ممتددة نحو الجبال.. نهار مشمس.. ييلان أوغلو مقبلاً من اليسار يسترعي الانتباه لأول وهلة حاجباه، بنطاله الذي من القطيفة، حذائيه اللامعين، سترته الضيقة.
يتأمل حواليه.. يمد يده متناولاً من جيبه ساعته ذات السلسلة، يتأمل الطريق باستمرار وبميكانيكية واضحة الطريق تارة، وتارة أخرى ينظر الى ساعته.يبدو عليه أنه ينتظر شخصاً حركاته الالية تبعث على الضحك. يضع ساعته بارتياح في جيب سترته عندما يظهر دورسون،تغادره الحالة القلقة التي كان عليها، بحيث يبدو رجلاً متماسكاً كالصخر..
بعد قليل يدخل دورسون وهو يتصبب عرقاً.. ما عدا بريق البندقية التي على كتفه، كل ما عليه يبدو بالياً.. أنه شاب يبدو عليه البله، يضع طرفي بنطاله البالي المرقع، داخل جاربيه. في قدميه حذاء عسكري قديم وعلى رأسه قبعة من القش، استهلكت أطرافها تماماً على كتفه الأيسر خرقة، وجراب صيد)
الأغا – أين أنت يا هذا؟
دورسون – (خائفاً) أعذرني يا آغا.. كنت في الحقل.
الآغا – دعنا من الحقل!
دورسون – (ببراءة) كيف يا سيدي. الحقل هو كل ما نملك.. (بفرح مفاجئ) عندما طلبت مني أن أحضر ببندقيتي فهمت كل شيء فنحن سنخرج للصيد (فجأة) هل أنت على استعداد للذهاب إلى جاتال يا آغا.. فالأحراش هناك تغلي بالحجل. (يتأمل الاغا) هل ستأتي هكذا، أليست لك بندقية؟
الأغا – أنت تملك بندقية، وهذا يكفي.
دورسون – ارتح هنا يا سيدي تحت شجرة ودعني ألقي نظرة.. لن أدع حجلاً واحداً يبقى في منطقة جاتال.. لست برجل إذا لم أصطد لك ما يكفيك كمزة لمدة شهر كامل. وسوف أملأ هذا الجراب بالحجل.. وسترى يا آغا.. سترى دورسون البستاني..!
الأغا – اذهب خلف هذا المرتفع!.. (دورسون ينفذ الأمر).
الأغا – (يتوجه نحو الجهة اليسرى من الطريق، ويعود نحو المرتفع ببطء) صوب البندقية نحوي..
دورسون – (باستغراب) نحوك يا آغا؟ حاشا ان افعل ذلك..!هل تختبرني يا سيدي
الأغا – مجرد تطبيقات يا حمار، خطة!
دورسون – وهل يحتاج إطلاق النار من هذه المسافة إلى تطبيقات.. في كل يوم أقتل عشرة غربان في الحقل على الأقل.. من مسافة أبعد من هذه بكثير.
الأغا – (يتأمل الطرف الأيمن من الطريق. يقبل بعده نحو دورسون) أخرج!.. (يجلس قرب المرتفع يخرج سيكارة.. مخاطبا دورسون) إجلس...!
دورسون – (يجلس متردداً. يمدد البندقية على ركبتيه. يتأمل بخشية الأغا منتظراً منه الحديث).
الأغا – (يلف سيكارته، بصوت أمر) ستلبث خلف المرتفع.. (بخشونة) هل فهمت؟
دورسون – (دون أن يفهم شيئاً) أجل فهمت ياسيدي.
الأغا – حسن.. (يمد علبة السكائر له وكأنه يمن عليه بلطف كبير) خذ لف سيكارة لنفسك.
دورسون (يتردد) كلا، عفوا يا سيدي..
الأغا – قلت لك لف..!
(يمد دورسون يده، وهو غير مصدق. يبدأ بلف السيكارة بأصابع مرتعشة)
الأغا – (يضع سيكارة في مبسم من صدف ويشعلها) تملأ البندقية، ثم تطلق النار.. هذا كل ما في الأمر..
(دورسون منهمك في لف السيكارة، تبدو وكأن العملية جعلته يصاب بالطرش)
الأغا – (غضباً) قل هل في هذه البلدة من هو أفضل مني؟
دورسون – (منهمك في اللف، بارتخاء) أنا.. أنا لم أفلح.
الأغا – كن رجلاً رجل! لا خير في العمل بالبستان. (كمن يخطب) يا هذا أليس لديك شرف؟ يا هذا أليس لك عرض؟ يالك من خروف!
دورسون – (يسحب نفسه قليلاً من مكان جلوسه) والله يا سيدي..
الأغا – هل تتصور حالك لو خرجت للمقهى؟!
دورسون – من البستان الى المقهى..؟
الأغا – لنفرض إنك خرجت للمقهى. من يهتم بك؟ لقد تحولت إلى فزاعة من جراء بقائك في البستان. سوف لن يتنازلوا، ليلقوا عليك بنظرة.. فلا فرق بينك وبين كلب الجزار..
دورسون – انهم يخشونك انت يا سيدي، وليس بمقدور أي شخص، أن يدخل مجلسك.
الأغا – لماذا؟
دورسون – أنت ييلان اوغلو، أغا ولك شهرة واسعة..
الأغا – أن الأغاوية لم تهبط عليّ من السماء بل كسبناها بجهدنا وعرق جبيننا. ماذا تظن لقد قتلنا عدة الأشخاص في وضح النهار.. داخل السوق.. لقد ارتكبت حوادث تكفي لسابع سلالتي. كي يرتاح أبناء أبنائي.. (فترة) أما أنت؟
دورسون – أنت على حق يا سيدي.. فلن يضعني أحد في مرتبة الرجال. أنا مجرد فزاعة في بستانك.
الأغا (يشير إلى البندقية) لكي تتخلص من هذا المصير دعها تنطلق فقط.. إنني أريد أن أحسن إليك.
دورسون - (بأمل) كنت متوقعاً.. قلت ما دام قد طلبني سيدي ييلان اوغلو التي تملأ شهرته الافاق فلا بد أن هناك شيئاً ما.. شيء بالغ الاهمية.
الأغا – (ناصحاً) هذه الفرصة لن تسنح لك إلا لمرة واحدة. استعمل عقلك ففي الحقيقة هناك العديد من الذين يقومون بهذه المهمة طواعية. ولن يصلك الدور لو أعلنت عنها بمذياع البلدية.. لذلك فضلت أن أحتفظ بالأمر سراً، لتكون أنت المستفيد. الله يعرف بما في نفسي، فأنا أود مساعدتك، لتحسين وضعك.
دورسون – (وكأن الاغا وهب له مزرعة) دمت يا سيدي.. اطال الله لك عمرك.
أغا – (مبسطا الامر)..بعد الايفاء بالمهمة الموكولة اليك، ستخلد إلى الراحة في السجن خمس أو عشر سنوات..السجن مدرسة ستتعلم هناك كتابة العرائض..
دورسون –(ينتبه لأول مرة) تقول السجن يا سيدي؟
الأغا – وماذا في ذلك؟ إياك أن تفكر بالفرار. الفرار لا يليق بالرجال! ماذا قلت؟
دورسون – أنت تعلم أفضل مما أعلم يا سيدي.
الاغا – أجل ستهتم بالبستان، بدل أن تجلس القرفصاء في البيت.. حين ستخرج من السجن، وتذهب إلى المقهى، سترى ما يحصل.. ستجلس في الصدارة، وسيتنافس الجميع في إكرامك بالقهوة والمشروبات.. وستتزوج من بنات الأشراف.. إن نعمة هذه المهمة، لا تعد ولا تحصى. ستمتلك بستاناً وحقلاً وحصاناً. أجل سيكون لك حصان!
دورسون – (متخيلاً) هكذا إذن يا سيدي؟
الأغا – وماذا كنت تظن (ينظر إلى الطريق)
دورسون – (يقبل يد الاغا بانفعال) سيدي.. سيدي الوحيد.. قلت لابد في الامر شيئاً.. ييلان اوغلو العظيم.. لأكن عبدك.. كل هذا ويقولون عنك ييلان اوغلو بلا رجل رحمة، رجل عديم الشرف..
الأغا – (لا ينتبه لكلامه..عيناه على الطريق) المطلوب ان تطلق يا هذا النار ان كان القادم حجلاً كان أم غراباً.. سيمر بعد قليل من هنا. تعرفه جيداً انه يشار.
دورسون – وكيف لا أعرفه لقد شب في محلتنا (بحقد) لقد خطف مني حبيبتي.
ألاغا –ما دمت تحقد عليه..المسالة اذن هينة.
دورسون – هل درس يا اغا؟
الاغا – ليته لم يدرس.. لكن ماذا تقول في عناد خاله؟
دورسون –خاله إبراهيم الاعور.
الأغا – قلنا له لا تدعه يدرس، بل دعه يعمل عندك لكن إبراهيم الاعور لم يصغ لكلامنا باع البساتين والحدائق ليدرسه في المدارس العليا. وهو يعمل الآن على فتح مكتب هنا ويريد الاقتران بزهرة ابنة الأرملة امينة.. يريد الاستيلاء على ما نملك لم يصغ إلينا.. هيا لا تغفو.. فهمت ما هو المطلوب..الهدف هو يشار. اقتله لتظفر بالشهرة والمجد لن يستطيع أحد أن يتجاوزك. (مشيرا إلى البندقية) اذهب أنت إلى مكانك.. وصوب البندقية كما صوبتها علي قبل قليل (يربت على كتفه ينظر إلى ساعته) انه الان في الطريق. حصاني يرعى تحت شجرة الدلب.. سأغفو في ظلها قليلاً وسأعود حينما أسمع صوت الرصاص. لا تخف على الاطلاق..
دورسون – (بغرور) بإذن الله، سأقوم بالمطلوب يا سيدي.
الاغا – استودعك الله (ثانية) تكرار الامر شرط أساسي في العسكرية. أنا عريف الان، وأنت جندي (بلهجة خشنة) ماذا ستفعل؟
دورسون – (يقف بوضع الاستعداد) سأقوم..أعني..
الاغا – كلا، عليك أن تقول : سأستلقي خلف المرتفع يا سيدي وسأطلق النار على يشار باعتباره هدفاً متحركا !
دورسون – لا تقلق ابداً يا سيدي.
الأغا – إلى اللقاء..
دورسون – (معتبراً نفسه شخصية كبيرة كالأغا)مع السلامة ييلان اوغلو.
الاغا – (يرجع متفسرا) هل قلت ييلان اوغلو؟! صاحب الحانة رفعت وزوجتي فقط لهما الحق بمناداتي باسمي.. ما أسرع تصورك لنفسك شخصية هامة. يا غبي ما قيمة العمل الذي ستقوم به ! مجرد إطلاق النار من كمين.
دورسون – (متراجعاً) سامحني يا سيدي.. كنت أود أن اقول سيدي الاغا..
الأغا – لا.. لا على المرء أن يعلم حده (بابتسامة مصطنعة) رغم ذلك أنت لست بقليل الأهمية.. أدر فوهة البندقية للناحية الأخرى نحو العدو!
(يخرج مشيراً إلى الطريق.. ينظر دورسون خلفه بعدان يتأكد تماماً من ذهابه)
دورسون – إذن هذا هو الموضوع.. من كان يقول أن ييلان اوغلو يكشف سره لدورسون البستاني..! (يداعب البندقية ثم يبتسم بغباء) يا إلهي (ينظر إلى الجهة التي ذهب اليها ييلان اوغلو.. يمسك ظهره متألماً) أوف يا ظهري.. لاستلقي قليلاً فلا احد هناك (يقكر بالأغا) حسن يا اغا (يجلس في نهاية المرتفع يقبض على البندقية بقوة.. يتثاءب) لقد قتلني المحراث.. وهذا البستان..
(تنغلق عيناه. ينام على الفور. تقع البندقية من يده.بعد قليل يظهر يشار في الجانب الايمن من الطريق، شاب يلبس نظارة، تبدو علائم الطيبة عليه.. يرتدي بنطالاً وقميصا رياضياً، يعقد منديلاً على رقبته بسبب الحر. في يده حقيبة صغيرة، يبصر دورسون)
يشار (يقترب رويدا) هذا دروسون..!
(يتناول البندقية خفيةً يمشي على أصابع قدميه يتربص بالقرب منه، يعزف بشفتيه في أذني دورسون نشيداً مدرسياً قديماً)..
(دورسون يتمتم وهو نائم بالنشيد)
(يعزف يشار اللحن بشكل أقوى، يرتفع مع اشتداد اللحن صوت دورسون بالنشيد).
دورسون – (كمن يحلم) أي أناشيد كنا ننشد كان صداها يرن قرب قصر الحاج.. كانت النساء والفتيات يهرعن للنوافذ لسماعنا.. (تتسع عيناه) يشار! (يعود لذكرياته) لم يكن يقبلوني في المدرسة كانوا يقولون عني ابله، وكان الصبية يستهزؤن بي (مخاطباً يشار) كنت تأخذني معك في زيارتك للريف.
يشار – (مصدقاً ما يقوله بإيماءة من رأسه، مواصلاً العزف في الوقت نفسه)
دورسون – (بحسرة) آنذاك كانوا يقولون عنك الولد الصغير.. هل تذكر كيف طاردك الحاج ايوب مرة بعصاه؟
يشار – (ضاحكاً) كان يقول، أنه يجمع الشياطين في المحلة (ينهض، ويفتح ذراعيه ليحتضنه) تعال ياطفولتي، تعالي يا أيامي الزاهية.
دورسون – (يحضن يشار بتأثر بالغ) أه.. يشار صاحب العينين السوداوين (يرخي ذراعيه فيما بعد، خجلاً).
يشار – (يعانقه) دورسون، صديقي!
دورسون – (تقدح عيناه بالشر، يبتعد عنه ) لكنك اصبحت سيداً.. أما أنا..فمجرد بستاني..!
(فجأة يبحث عن بندقيته) أين بندقيتي؟
يشار – هل خرجت للصيد؟
دورسون – (يستمر بالبحث) إنها كل ما أملك.. بدونها أنا مقيد اليدين.. والغربان ستحتل الحقل.
(يلتفت وينظر نحو يشار فجأة) لقد ضاعت البندقية..
يشار – يا دورسون (يتجه نحو المكان الذي أخفى فيه البندقية) لقد أخفيتها.. لمجرد المزاح فقط. (يأتي بها ويعطيها له).
دورسون – (يخطف البندقية ويلقي بنفسه خلف المرتفع موجها الفوهة نحو يشار) أسف يا صديقي، يجب علي أن أقتلك!
يشار – (مستغرباً) تقتلني أنا لماذا ؟
دورسون – ومن أين لي أن أعرف لكن يجب أن أقتلك..هكذا امرني الاغا!
يشار – دورسون!
دورسون – قل ما تريد.
يشار – أجاد أنت (برقة) أه دورسون تعود إلى أعمالك الصبيانية من جديد؟ هل تعود بعد هذا العمر إلى لعبة الشرطي والسارق؟
دورسون – (بغلظة) أن داخلي يحترق، ولكن ليس ثمة من حل.. هذا ما يجب أن يحدث..هكذا امرني الاغا!
يشار –حسناً.. السبب..لماذا تريد ان تقتلني؟
دوورسون – (على وشك البكاء) هل عليّ أن أبقى على ما أنا عليه..؟ أصبح كلب القرية.. أن لا استطيع الجلوس في المقهى أن لا يكون لي حقل وحصان أن لا اتزوج؟ (خجلاً) لو قتلتك.. عفواً..سترتفع مكاني وقيمتي في القرية.. هذا ماقاله الاغا!
يشار – فهمت دورسون تفعل كل ذلك هذا من أجل الحصول على شيء.. ياللأسف..
دورسون– سأعتبرك مجرد غراب يتهاوى..
يشار–.. حسنا يا صديقي العزيز،.لكن اعلم أن عذاب القاتل هو أكثر من عذاب ضحيته. حينما ستذهب إلى اي المقهى، سيهتف بك هاتف ((لماذا قتلت يشار؟)) وحين ستكون مع زوجتك وأنت ترتشف الحساء بشهية سيقول لك نفس الهاتف ((قتلت الغربان، لأنها تسرق الحبوب ن لكن يشار لم يكن غرابا..؟ ألن تقع الملعقة من يدك أمام هذا الهاتف؟ هل ستستطيع أن تمر من امام شجرة العليق الحمراء هذه؟.. هل تستطيع أن تشق آنذاك.. البطيخة الحمراء إلى نصفين.. قل لي؟
دورسون – اختطفت حبيبتي مني..
يشار – من أنقذك من الغرق في البحيرة؟
دورسون _ ها.. يا هذا.. أنظر كنت قد نسيت ذلك (يقترب منه) أنت ولد طيب. لنجد حلاً.. فلا يزال هناك عام على حلول المساء (متوسلاً) هيا يا يشار!.
يشار – لنجد حلا.
دورسون – أنت شخص دارس، أرني شطارتك، فعقلي لا يعمل في أمور كهذه.
يشار – سأعمل كل ما بوسعي (يفكر) دورسون هل بيننا ثأر.
دورسون – (متسائلا) هل هناك ثأر فيما بيننا؟
يشار – ليس ثمة ثأر بيننا على الاطلاق.
دورسون – صدقت ليس بيننا من ثأر.. قاتل لله الثأر.(يسحب دورسون بنطاله وهو يفكر متبرماً)
يشار – ما أجمل الطقس..
دورسون – وهل هذا وقت الحديث عن الطقس؟ (يتثاءب دون إرادة) أجل ما اجمل الاستلقاء تحت شجرة الدلب في هذه الساعة.. (يتذكر ييلان اوغلو).
لكن هذا لا يناسبنا، بل يناسب السادة..ويناسب ييلان اوغلو.
يشار – جيد ولكن.. أن ما قلته بلا مبرر. أنظر لو نشبت حرب فأن كل شيء يبدو معقولاً. أنا ألقي بقلمي وأنت بمحراثك ونذهب للجبهة.. ستكون آنذاك أسباب عديدة للقتل، نضغط على الزناد ونطلق النار على العدو..
دورسون – ولماذا تفكر بذلك؟
يشار – هل هناك أمر صادر لكي لا نفكر بهذا الخصوص؟.
دوروسون – يتملص– كلا..
يشار – حسن ماذا نفعل. ليس بيننا حقد دفين في الماضي. (فجأة) دعني إذن أهينك، وأبصق في وجهك..ليكون لك مبرر لقتلي.
دورسون – لماذا ترغم نفسك على ذلك؟.
يشار – من أجل تبرير مقنع لما ستقوم به.. (متخيلاً) لكنني احلم بفتح مكتب نفسي لخدمة القرية.
دورسون –رئيس البلدية، شنق نفسه لأنه لم يستطع أن يحقق ما يريد.
يشار – لندع ذلك الان.
دورسون – (فترة، فجأة يصرخ بفرح وكأنه وجد مبرر قتل يشار) لقد تذكرت في فترة ما أعتدى أبوك على أبي. أمي تحدثني عن هذه الحادثة دائماً.. حتى وصل بهما الأمر إلى المحكمة.. ما الذي تقوله في هذا..؟.
يشار – (يهز رأسه) كلا، لقد سمعت بذلك من خالي لقد قام الاقطاعي ييلان اوغلو بذلك ثم إتهم به والدي.
دورسون – ييلان اوغلو لا يعتدي بالضرب، بل يصفي الذي أمامه.
يشار – لقد حكم على أبي بالبراءة.
دورسون _ اللعنة.. قالت لي امي بأن بناية الحكومة قد احترقت، والتهم الحريق كل الأوراق فيها..
يشار – أجل قرأت في الصحف عن الحريق. وقد قام بالحريق أحد المنفذين.
دورسون – أصحيح ما تقوله؟
يشار – وهو من حزب ييلان اوغلو.
دورسون – أه لو كان ذلك الرجل أمامي بدلاً منك..
يشار – بدلاً من ييلان اوغلو؟
دورسون – (بخوف) لا تكن طفلاً.. من يستطيع على تشهير سلاحه في وجه ييلان اوغلو؟هل تعتقد ان الرصاص سيصيبه بأذى؟ (يبدو منشغلاً بالموضوع)ان من يصرع ييلان اوغلو ستعم شهرته سبع دول. وستؤلف عنه الاغاني.
يشار – (متأثراً) لا أحب مثل هذه الاغنيات الحادة كالسكين والمريرة كالعلقم.. هل تستطيع الاستماع إلى أغنية ( صرعوا يشار في طريق المحطة) لو قمت بقتلي؟
دورسون – (متأثراً) يا هذا سيمتلئ قلبي ألماً.. (صرعوا رجب في طريق الجسر..) أغنية مريرة تتحدث عن حبيبة هذا البائس.. ولا أستطيع سماعها.
يشار – لي حبيبة أسمها زهرة.
دورسون – (متمالكاً نفسه) هل تعتقد أن ابنة الأرملة سترثيك بالأغاني؟ كلا يا أخي، لا تقلق من هذه الناحية.
يشار – لماذا؟
دورسون – إسمع كلامي.
يشار – ها.. زهرة أنها فتاة متحررة.. تتجول تغني.. أجل أنها لم تخلق للعباءة والعيش داخل قفص..
دورسون – لتكن خطيئتها في رقبة من يطلق عنها الاشاعات..
يشار – (يبدو مهتماً بموضوع زهرة) لم أفهم؟
دورسون – يقولون أنها على علاقة مع رجب بائع الجوارب.
يشار – إشاعة. حينما تذهب زهرة إلى دكانه، يعتقدون أن هناك شيئاً ما بينهما..
دورسون – ما الذي تقوله عن ييلان اوغلو؟
يشار – (غير مكترث) هل أدخل نفسه في هذا الموضوع أيضاً؟
دورسون – أنه أغا يتدخل في كل شيء.. ما الذي نستطيعه نحن؟
يشار – زهرة وييلان اوغلو (يبتسم محاولاً طرد الافكار السيئة) أن زهرة مثل زهرة عباد الشمس.. تلك الزهرة الصفراء التي تتلفت صوب ضوء الشمس دائما (بكراهية) ما الذي تفعله بهذا الرجل الاسود كالظلام؟
دورسون – أن زوجته تعلم بكل شيء
يشار – قلت زوجته، زوجة ييلان اوغلو..
دورسون – أجل زوجته.. تقول، أن زهرة ستتزوج من الاغا، وسوف أزوجها له بنفسي.. إنها تعلم ذلك وتفعله فهي خنزيرة.. شريرة.
يشار – (وكأنه يخاطب نفسه) مرعب مخيف حتى مجرد الحديث عنه. إمراة تزوج زوجها.. ياإلهي ما افظع ذلك.
دورسون (يوجه البندقية له) هل تأكدت من كلامي الآن؟
يشار – (مفكرا) لا يمكن أن يحدث هذا.. ثمة ضمير.. ثمة قانون..
دورسون – (لم يفهم) قلت محال..
يشار –(لم يسمع.. مفكراُ) ناولها لي..
دورسون – (يعطيه البندقية فرحاً) هه أيها الشجاع يبدو إنك ستقوم بالمهمة بنفسك.
يشار – في هذه البندقية موت.. ورصاص.
دورسون – اجل كلها في هذه البندقية.
يشار – (يوجه البندقية صوب دورسون)
دورسون – (بهلع) اتصوب البندقية نحوي؟
يشار –ما الذي يفرق بيننا ؟
دورسون – (يرتعش) لا شيء..
يشار – الخيانة، العداوة، الدم ام الموت؟
دورسون – (متوسلا) لقد وصلت إلى ما تبتغيه.. هل تود أن تحقق المزيد من الشهرة بقتلي؟.
يشار – (مستمرا) اليد الممتدة إلى بستانك. وإلى بيت الآخرين.. تمتد الان نحو زهرة أليس كذلك؟
دورسون – لست أنا والله.. بل ييلان اوغلو..
يشار – البندقية.. أصل الكراهية.. (يلقي بها جانباً) لا تحملها يا دورسون.. إهتم بالصداقة.. بالحب (يعانق دورسون، ويقبله) أوه هذه الرائحة أنها رائحة الأرض والعرق والصداقة.
دورسون – (ينظر بأتجاه البندقية) لا تصغ إلى أهالي القرية. أن أبنة الأرملة في انتظارك لقد ابتاعت أوقية من اللحم لاستقبالك..
يشار – أعرف (ينظر صوب القرية) القرية التي تنتظر شعاعا من الضوء في انتظاري (يحل بأنفعال حقيبته) عليّ أن أذهب.. سأنتظرك في حفلة الزفاف، زفافنا! (يمشي بحبور).
دورسون – (يتناول البندقية) وما الذي سأقوله للأغا (يضع الفوهة على ظهر يشار)
يشار – (يرجع وهو موشك على الخروج) مع السلامة.. ما هذا يا دورسون؟ ييلان اوغلو من جديد..
دورسون – (خجلاً يوجه البندقية نحو السماء) انها فقط من أجل الغربان.. ثم سأطلقها في الفضاء..
يشار – أطلقها لتعلن عن صداقتنا أضغط على شرف صداقتنا.
(يضغط دورسون عل الزناد يمتليء المسرح بعد لحظات بوريقات بيضاء كالتي تلقى في الحفلات وكأنه ندف ثلج يسقط على المسرح. ينظران باستغراب إلى السماء).
دورسون – أنها أزهار ورقية (يبسط كفه تحتها)
يشار – انها أزهار (ينظر نحو السماء) جواب من السماء.. أزهار السعادة من تلك الشجرة الضخمة (بطيش) لم تكن تقصد قتلي..
دورسون – (مستغرباً) وضعت فيها الرصاص..
يشار – (بانتصار وهو يذهب) تحولت إلى ورق.. أوراق صغيرة أحضر وكأننا في حفلة زفاف.
دورسون – (يفك البندقية ثم يعيد تركيبها) لقد دخل فيها الشيطان..انها إرادة الهك
(معتقداً ان يشار لا يزال موجوداً) أجل الله لا يريدني أن أقتلك..
الأغا – (يدخل مسرعاً كالبرق) يا كلب الجزار.. يا قواد لقد هرب منك!
(يقفز دورسون من الخوف خلف المرتفع)
الاغا – يا أبن الحرام.. هل تختفي الان أين كنت قبل الان هل أخطته؟
دورسون – (شاعراً بالذنب) لم اتمكن من اصابته..
الاغا – (يقف بكامل مهابته في منتصف الطريق امام دورسون) هل أعجبك ما فعلت ؟..
دورسون – (مشيرا الى البندقية أنها لا تطلق..
الاغا – كيف لا تطلق يا حيوان ؟
دورسون – الرصاص لم ينطلق.. الرصاصة تحولت إلى فتات من ورق.. استغربت انا ايضاً لذلك.
الاغا – أيها المجنون.. ما الذي تعنيه ؟
دورسون – لم اصدق ما حصل.
الاغا – لا يمكن ذلك..
دورسون – يا سيدي.. أقسم على ذلك.. تحول الرصاص إلى ندف ورقية.. كندف الثلج.. لأصاب بالعمى أن كنت أكذب..
الاغا – أخرس أيها الكلب المجنون!
دورسون – أقسم أنها الحقيقة (يوجه بغباء البندقية نحو الاغا) سأجرب مرة أخرى أن كنت لا تصدق..انظر!
الاغا – هل ستطلق النار عليّ يا حيوان؟
دورسون – لا تخف. لن يحدث شيء.. أنه ليس برصاصً بل ورق.. (يضغط على الزناد..تنطلق الرصاصة)..
الاغا – (يخطو خطوة وهو يصرخ) اه يا كلب (ويسقط تحت المرتفع صريعا)
دورسون – (غير مصدق ينتظر..) لا تمزح معي يا سيدي.. هذه البندقية لا تقتل (ينهض متردداً يقترب من جثة ييلان اوغلو) يا إلهي.. لقد اخترقه الرصاص! (يشعر بالخوف) والله لا ذنب لي (يخاطب الجثة) أغا.. أغا ياسيدي الوحيد.. هيا أنهض حباً بالله (ينظر بخوف يميناً ويسارا) أنه ميت.. ييلان اوغلو العظيم يمووت (يحاول الهرب) خرجنا لصيد الحجل أنظر ما حل بنا.. دورسون البستاني يصرع ييلان اوغلو؟ (فجاءة يشعر بالغرور والكبرياء) ولماذا لا أصرعه ألست رجلاً أليس من حقي أن أتمتع بالشهرة والمجد؟ ايه يا دورسون، لقد صرعت ييلان اوغلو...... (ينحني فوق الجثة، ويتناول الساعة، وعلبة السكائر ويضعها في جراب الصيد.. يلقي بقبعته المتهرئة ويلبس قبعة الاغا التي تبدو كبيرة على رأسه)... القبعة الواسعة تهبط حتى عينيه يحمل البندقية على كتفه ويمشي نحو الطرف الايسر)
أذا لم يصدقني احد، سأقول اذهبوا صوب المحطة نحو المرتفع هناك سترون جثته..جثة ييلان اوغلو!
(يخرج دورسون مرفوع الهامة).
تابع القراءة→

0 التعليقات:

منصور العمايرة سيرة ابداعية

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, أغسطس 27, 2012  | لا يوجد تعليقات


منصور عمايرة ، كاتب باحث، روائي ومسرحي أردني، حاصل على ماجستير في النقد الحديث.

نشر أعمالا في الرواية، والمسرح، وأدب الطفل، والدراسات.

أعمال منشورة في الرواية :

1- رواية " رائحة التراب "، عمان 2001م.

2- رواية " الزحف "، عمان، 2003م.

3- رواية الرحلة الأخيرة "، عمان ، 2004م.

4- رواية " الأرض القفار "، عمان، 2005م.

5- رواية "تايكي واهبة الحظ"، عمان 2007م.

6- رواية " سجون من زجاج "، عمان،2009م.

7- أعمال روائية، عمان، 2011م.

أعمال منشورة في المسرح :

1- أعمال مسرحية ج1، عمان، 2000م

2- أعمال مسرحية ج2، عمان،2000م

3- مسرحية هي أرضنا، عمان 2008م

4- مسرحية ميشع ابن الشعب ، عمان ، 2008م

5- مسرحية الرغبات، عمان، 2008م

6- مسرحية الرصيف، عمان ، 2012م

أعمال منشورة في أدب الطفل:

1-  مسرحيات للأطفال، عمان ، 2001م.

2-  قصص للأطفال، عمان ، 2007م.

3- رواية " نصيص " رواية للأطفال، عمان ،2005 م.

4- رواية " البحث عن الرحيق " رواية للأطفال، عمان،2009م.

5- مسرحية الناسك، الشارقة، 2009م.

6- مسرحيتان للأطفال، صاحب الهمة، وأنا وحدي، عمان ، 2010م

أعمال منشورة في الدراسات :

1- جمالية مسرح الطفل ، عمان، 2008م.

2- المسرح الأردني / البدايات ، عمان، 2010م.

3- العلامة المسرحية / العرض المسرح، عمان، 2012م.

4- المسرح الجزائري / المقاومة في المسرح الجزائري، عمان،2012م.


جوائز: جائزة المسرح العربي لمسرح الطفل، الصادرة عن الهيئة العامة للمسرح العربي، في الدورة الأولى 2009م.


شارك في ندوات وملتقيات علمية حول المسرح في الأردن والجزائر والشارقة وعُمان.

بريد إلكتروني : buqasem_21@yahoo.com
تابع القراءة→

0 التعليقات:

السينوغرافيا والإخراج المسرحي وجهان لعملة واحدة

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, أغسطس 27, 2012  | لا يوجد تعليقات

التجريب في مسرح الرؤى
السينوغرافيا والإخراج المسرحي وجهان لعملة واحدة

لم تعد السينوغرافيا في مسرحنا المعاصر مجرد ناقل للواقع الحياتي أو حامل لعلامات رمزية للغة النص المسرحي، فضلاً عن ذلك لم تعد مجرد رؤية تشكيلية مؤطرة، أو مؤثر من مؤثرات التقنية، بل كسرت في رؤى أصحابها المتنوعة الاستعارة من الأدب الرمز الأدبي الإنشائي أو الاستعارة الدلالية قيمتها الفكرية والجمالية، بل أضحت السينوغرافيا لغة متفردة لها قوامها الذاتي ومفرداتها الخاصة بها ورؤاها التشكيلية في المسرح المعاصر. إنها ترسم فضاءات مختلف خشبات المسرح وتعيد صياغتها من جديد. عبر هذا المفهوم ينتقل فن السينوغرافيا من منطوق الترجمة والنقل إلى مفهوم الرؤى والابتكار. فلم يعد فن السينوغرافيا مجرد ترجمة أمينة للواقع الحياتي المؤطر أو تفصيلاً لكتل من الديكورات والأثاثات فوق الخشبة، بل أضحى مؤثراً فاعلاً في التجربة المسرحية المعاصرة ورؤاها. إن قراءة النص المسرحي هي قراءة غاية في الحساسية والدقة لرؤية لغة العرض المسرحي فوق الخشبة سواء كانت تقليدية مثل خشبة علبة المسرح الايطالي أم استقراء فضاءات مسرحية جديدة تثور على فراغات خشبة المسرح المنغلقة، وتخرج متحررة إلى الأماكن العارية التي يشكل من فوقها الفنان تجربته المسرحية.
من هذا المنطلق أصبح دور الفنان السينوغرافي البحث عن فضاءات خارجية تتشكل فيها مفردات العرض المسرحي، وتتخلق في نسيجه رؤى جديدة تطرح ذاتها بقوة وتكتشف مفردات هذه الفضاءات وتكويناتها لتتكيف وتتلاءم تكويناتها الدرامية أو النصية وفقاً لتلك الفضاءات. على أن الفنان المسرحي في النصف الثاني من القرن العشرين حاول عن رغبة دفينة منه البحث عن حيوات جديدة لعروضه المسرحية، محاولاً كسر حالة الانغلاق والانسداد التي وقعت فيها الدراما الواقعية بكل موضوعاتها وأفكارها وتشكيلها، وذلك بالبحث والتنقيب عن أشكال وأطر فنية جديدة تتخذ من هذه الفضاءات ذريعة ورهاناً لإعادة تشكيل مادتها الدرامية وفقاً لما تمليه لغة هذه الفضاءات المسرحية لإعادة تشكيلها من جديد وطرحها على جمهور قد شعر بالملل من تكرار ما يشاهده فوق خشبات المسرح، فتعيد هذه الفضاءات طزاجة هذه الأعمال وتدفعها دفعاً إلى أن يُعاد اكتشافها من جديد تماماً كما فعل بيتر بروك وكانتور وشاينا وستانييفسكي وباربا والطيب الصديقي وروجيه عساف وانتصار عبد الفتاح وكاتب هذه السطور وغيرهم من مبدعي الفضاءات المسرحية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين وصولاً إلى بدايات القرن الواحد والعشرين.
الفصل
وفي ظني أن المخرج المعاصر لا يمكن له بهذا المفهوم أن ينفصل عن فهمه الدقيق لسينوغرافيا العرض المسرحي. وأؤكد أن الرؤى الجديدة لدى المخرج المعاصر تتخلق من التفكير العميق في تكوين سينوغرافية هذه العروض المسرحية المعاصرة. بل إن معظم المخرجين المعاصرين اليوم هم سينوغراف لعروضهم المسرحية، وكأن تشكيل العرض المسرحي يبدأ من هذه النقطة ويرتكز على المعرفية العميقة لفنون السينوغرافيا. إننا نكتشف أن أهم الرؤى المسرحية التي تسوغ مسرحنا المعاصر اليوم هي رؤى المخرجين/السينوغراف، ولعل معظم ما ذكرتهم من هؤلاء المخرجين هم في تكوينهم الفني سينوغراف حقيقيون. مما يؤكد أن الفصل بين الرؤية المكانية والزمانية والجمالية للعروض المسرحية ورؤى المخرجين في تفسيراتهم للأعمال المسرحية هو عبث ومجرد لغو. فلم يعد العمل المسرحي مجرد تفسير لنص المؤلف أو نقل لرؤيته، ذلك لأن رؤية مؤلف النص المسرحي هي رؤية واحدة أو كما نقول بلغة النقد قراءة من القراءات، لكنها ليست كل القراءات أو على الأصح لا يتوقف العمل المسرحي عندها، بل إن أهمية الإبداعات الفنية وعلى رأس قائمتها الإبداع المسرحي تنبع من تعدد قراءتها. ويقوم سحرها ونفاذها إلى المتفرج على هذه التعددية، التي يشارك المتفرج بذاته وفكره في تشكيل رؤيته الخاصة عنها.
وكلما اقترح العمل المسرحي في رأيي قراءات ورؤى متعددة، سمح هذا للمتفرج أكثر فأكثر في تشكيل رؤيته الخاصة أو قراءاته الذاتية.
يقول المخرج/السينوغراف البولندي تادووش كانتور أحد روّاد المسرح المعاصر: كنا نرمى في عملنا المسرحي الوصول إلى شيء آخر تماماً، ليس الوصول إلى فكرة نقل الواقع، بل الوصول إلى الفن الخالص، إلى عرض مختلف يتكون من المواد الواقعية الممتزجة معاً بالمادة الفنية.
لقد استخلصنا منابعنا من الواقع المحيط بنا (...) "وتصدمنا حقيقة فنية هامة يستطرد كانتور أنه في اللحظة التي يتواجد فيها السينوغراف، نكتشف أنه نفسه مخرج في الوقت ذاته، ويقوم بنفسه بتصميم الإطار التشكيلي، ويبدو أن هذا إطار مقتصد "كما يدّعي البعض!".
والاقتصاد الذي يعنيه كانتور هو مصطلح يسخر به من الرأي الذي يرى أن الجمع بين الفنيين ليس معمولاً به لضرورة فنية بقدر ما هو معمول وفقاً لاقتصاد مالي. وهذا مما لا يوافق عليه كانتور فالقضية برمتها هي في الأساس فنية بحتة. في رأيه أن المخرج هو مؤلف العرض المسرحي بأكمله، حتى مؤلف الكلمة يعتبر نصه مفردة من مفردات العرض المسرحي، وليس أهمها. وتكتسب السينوغرافيا بعداً مخالفاً تماماً عن مصطلح "مهندس الديكور" الذي شاع فوق خشبات المسارح العربية ربما حتى الآن. ولقد لخص المخرج المسرحي "تادووش كانتور" في عروضه المسرحية رؤيته السينوغرافية، وأحال ما يمكن أن يطلق عليه بالديكور شيئاً آخر ليغدو مجرد قطع إكسسوار على شكل موائد عدة، وكراسي وسلالم كانت تكفيه، ليتمكن من الناحية التشكيلية تحديد الفضاء المسرحي المطلوب لعرض مسرحي بعينه، ومن ناحية الرؤية الإخراجية كان تكفيه وضعية الممثلين فوق الخشبة وخلق المناخ الفني اللازم والملائم لهم للتعبير.
فالسمة الغالبة إذن من الناحيتين (السينوغرافية والإخراجية) أنه هنا يتأكد تيار الوعي لإبداع عرض مسرحي بأكمله معاً من خلال مبدع واحد هو السينوغراف والمخرج في شخص واحد، ولا يكون إبداع السينوغراف هنا مجرد "إطار تشكيلي" فقط، بل محاولة لتجاوز التطبيق المسرحي المتصل للسينوغراف على حدة والمخرج على حدة ليكون الفنان هنا "وجهين لعملة واحدة!" إن الإبداع السينوغرافي للفنان المعاصر يمكن معاملته باعتباره نوعاً من الاختلاس الفني للميراث الفني التشكيلي بأكمله في مواجهة الأسس الجمالية الفنية الجديدة، التي كانت جوهراً وأساساً في تشكيل المسرح الأوروبي الحديث وتكوينه في أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. عندئذٍ كان كانتور يتحدث عن المصطلح الفني الشائع "ديكور" رافضاً إياه، ويصرّ في تنازله عن ما يُطلق عليه بـ"الديكورات التقليدية" مقترحاً بديلاً عنها هو "السينوغرافيا" الزاخرة بتلك الأشكال التي تعبّر عن بنية الحدث، وصيرورته، وديناميكيته، الساعية لارتفاع معدل تطور الحدث، ونموه، والوصول إلى نقاط ذروته، تلك التي تخلق توتراً درامياً، وتربط الممثل بالحدث الدرامي / المسرحي / التشكيلي، الذي تنبع منه علاقاته الديناميكية بل وجوده وحياته الفنية.
السينوغرافيا وسيط قديم
شهدت الممارسة المسرحية في العقود الأخيرة تغيرات عميقة نتيجة ظهور وسائل إعلام وتقنيات رقمية جديدة. فأصبحت تتحكم في إنتاج وتلقي العديد من العروض المسرحية المعاصرة سينوغرافيا مستحدثة تتضمن دراماتورجيا بصرية ومؤثرات رقمية سينوغرافية قلّما يمكن إخضاعها للنص الدرامي. تضع هذه الوسائط اللغة المسرحية برمتها موضع تساؤل، كما تستلزم الدفع بالجمهور إلى اختبار المخرج والسينوغراف معاً في صدقية هوية التمثيل بعد استحضار ما ورثناه من سينوغرافيا الفضاءات المسرحية ودخولها دخولاً ضمنياً في أطروحة الوسائط الأخرى، والتي أصبحت "وسيطاً قديماً" بالنسبة لهذه التغيرات الإعلامية الأخيرة وعلاقاتها بالعرض المسرحي المعاصر. وعلى الرغم من أن الاختلافات بين الحضور للعرض المسرحي الحي والنسخ المسجلة (كالمستحدثات المكانية والزمنية، والفروقات بين الأصل والنسخة) هي متداخلة في ما بينها، فإنها تزيح الافتراضات المسبقة حول الحضور الفاعل فوق الخشبة والتمثيل، وتعمل على تغيير إدراك المتلقي. هذا التحول في الإدراك لا يقلل من جودة العرض المسرحي وقيم الفرجة الحية له، وإنما يؤكد كما ترى الباحثة الألمانية إريكا فيشر أن الأداء الحي وأداء الوسائط الجديدة من دراماتورجيا بصرية ومؤثرات رقمية لا يختلفان كثيراً عن بعضهما البعض.
إن تزايد الاهتمام النقدي بهذه الوسائط في المسرح المعاصر اليوم يسعى إلى ايجاد أشكال تتعامل مع "العرض المسرح المعاصر" ومن بينها "أشكال الفرجة المسرحية" لمضاعفتها. فمن المؤكد أن هذه الظاهرة، التي أصبحت خاصية مميزة لبنية التفكير، يتسع دورها عبر عصر "ما بعد الحداثة" لدى الغرب. إذ لم يعد العالم مجرد فضاء شاسع من العناصر المتنقلة/المتحركة، بل فضاء من "الذوات الإنعكاسية" المُستقبلة والحوارية في أبنيتها. وإذا كنا قد لاحظنا دخول بعض التجارب المسرحية العربية في هذه الدائرة التي وصفها هانس ليمان بـ"مسرح ما بعد الدراما"، والتي تتميز عموماً بحوارها المتعمد مع السيميوطيقا المسرحية، فإن ما تقوم عليه هذه التجارب يدفع إلى تأجيل الاكتفاء بالمعنى الحرفي لرسالة العرض المسرحي، ذلك أن علاقات جديدة تنبثق من العلاقة الحرّة الناشئة التي تؤطر علاقة المؤدين والمتفرجين داخل فضاء العرض المسرحي. ألم يحن الوقت إذن للتحقق من هذه الممارسات المسرحية بشكل علمي؟! هذه الممارسات التي أصبحت تغزو مسارحنا العربية؟! في هذا الاتجاه تسعى هذه الورقة إلى تعميق التفكير في تواتر النصوص وفضاءات الوسائط الإعلامية الجديدة، ومختلف العلاقات الوسائطية المتاحة بينها ضمن تفاعل الوسيط المسرحي المتسم بالحيوية والمباشرة داخل السينوغرافيا وفنون إخراج العرض المسرحي وتزواجهما معاً مع تقنيات السينما والتلفزيون، والتقنيات الرقمية بخاصة. سواء في ضوء النقاشات النظرية، أو ضمن مسارات التأمل الذي تخضع له أشكال الأداء والتقبل المسرحيين لهذه النصوص المفعمة بحيوية هذه الوسائط وتقنياتها.
لقد حان الوقت للتأمل والتفكير في تلك الإشكاليات المختلفة التي نراها مؤطرة للنقاش حول مكانة العرض المسرحي على مستوى النص المسرحي والسينوغرافيا والإخراج المسرحي في إطار ثقافة تسيطر عليها وسائل الإعلام والاتصالات الرقمية. لقد أصبحت واقعية العرض المسرحي "واقعية موسعة hyperrealism"، مما يتطلب إعادة صياغة مفاهيم علوم المسرح ووسائل التكنولوجيا، وذلك الاتصال المتزامن مع تطورات هذه الوسائل، وعلاقاتها بجسد ما بعد التمثيل. فإن كل ذلك يؤثر تأثيراً كبيراً في المسرح العربي المعاصر ويشكل أسئلة تطرح حول مرحلة "ما بعد الدراما التقليدية" في مسرحنا العربي المعاصر. وحول جدوى تفكيرنا الثابت والمتقولب غير القابل للحوار والجدل مع الآخر لانغلاقنا داخل ذواتنا وإدراكنا أن ما نعرفه وما نعلمه هو الوحيد المقبول.. وهذا ما قد عرّض مسرحنا العربي وما يزال يعرضه إلى الموت!

المستقبل - لبنان
هناء عبد الفتاح    
تابع القراءة→

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9