أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الثلاثاء، مايو 03، 2016

مخطوطة جديدة تؤرخ المسرح العراقي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

أربع  مسرحيات جديدة تؤرخ بداية المسرح العراقي تجاوز عمرهـا القرن بخمسة وعشرين عامـاً، فبعـد المسرحيات الخمس الأول التي اعتبرها المؤرخون بداية المسرح العراقي، يطل علينا الدكتور علي محمد هادي الربيعي  في كتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافيـة هـذا العام" مسرحيات نعوم فتح الله سحار، المفقودة - دراسة ونصوص"  باكتشاف جديد، نتيجة بحث في مكتبات العـراق وأديرته وكنائسه، بمخطوطة وجدها في كنيسة مريم  العذراء في بغداد، والتي زارها في العام 2009 وتعرف على راعيها الأب الدكتور بطرس حداد، الذي أهداه مخطوطة محفوظة لديه تضم خمس مسرحيات، لم تنشر أربع منها  لنشرها والتعريف بها. فكانت خمس مسرحيات يعود تأريخها للعام 1890 وهي: "إياك ومعاشرة الأشرار"، " لطيف وخوشابا" وهذه طبعت في مطبعة الدومنيكان في الموصل في العام ،1893 وهي مترجمة عـن نـص مسرحي فرنسي كـما يقـول مؤلفـها. 
" الفتيان الأسيران"، " الرأس الأسود"، " الدراهم الحمراء" . 
صاحب المسرحيات الخمس هو نعوم فتح الله سحار، الذي بحث الربيعي عن سيرته فلـم يجد غير ما موجـود فـي كتاب " تاريـخ الموصـل" للأب سليمـان الصائـغ المطبـوع سنة 1928. 
لم يذكر سحار وهو شاعر أيضا، مصادر مسرحياته الأربع الأخرى  وأماكن أحداثها، ما عدا مسرحية "اياك ومعاشرة الأشرار"  التي دارت أحداثها في لبنان. 
تقلبت لغة المسرحيات بين الفصحى والعامية أو الخلط بينهما. الكتاب وثيقة مهمة لكل دارسي المسرح العراقي، وهي فرصة مهمة لشمول هذه المسرحيات بالتحليل الأدبي والقراءة النقدية ومستويات الخطاب الفني، للانطلاق منها نحو فهم بدايات المسرح العراقي واتجاهاته.

تابع القراءة→

0 التعليقات:

شكسبير في ضوء النقد الثقافي:مسرحية -العاصفة- - نموذجا / هشام بن الهاشمي*

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

إن دراسة الأدب المسرحي باعتباره جانبا إستيتيقيا وفنيا فحسب، قد أفضى إلى تهميش وجهة النظر الإمبريالية الكامنة خلف إضفاء طابع العالمية على النموذج المسرحي الغربي، وتعني الإمبريالية ¬كما يوظفها "إدوارد سعيد" «الممارسة والنظرية ووجهات النظر التي يملكها مركز حواضري مسيطر، يحكم بقعة من الأرض قصية: أما الاستعمار الذي هو دائما من عقابيل الإمبريالية، فهو زرع مستوطنات في بقاع من الأرض قصية»(1).
وإذا كان يفترض في الأعمال المسرحية أن تكون زاخرة بالقيم الإنسانية الجليلة، وحافلة بمبادئ الحرية والعدالة، فإنها على النقيض تماما قد تضمنت جوانب قبيحة ومرعبة تجسدت في دعم رغبة المجتمع الغربي في التوسع الإمبريالي، إذ مثلت معادلة قوامها أفضلية الذات الغربية تفكيرا وفنا، ودونية الآخر ثقافة وعرقا، لتصوغ بذلك صورة للآخر وفق رؤية خاصة توافق المنظور الغربي المتمركز على ذاته ثقافيا وفنيا، وهي صورة "الخامل ذهنيا"، و"الوحشي"، و"الدوني"، و"المتخلف فنيا". وفي إضفاء طابع العالمية وسمة الكونية على النموذج المسرحي الغربي، وذيوع مقولات وشيوع وجهات نظر من قبيل "إن شكسبير كاتب درامي لكل الأزمنة والعصور"، لمتضمن لرغبة غربية في التوسع الإمبريالي الفني على حساب تقاليد فرجوية لشعوب أخرى اعتبرت من المنظور الغربي خاملة وخاضعة وعالما مسيطرا عليه «عالم صامت بإرادة منه أو دونما إرادة، ثمة اشتمالية، ثمة احتوائية، ثمة حكم مباشر، ثمة إرغام وقسر، لكن ليس ثمة إقرار إلا في النادر بأن الشعوب المستعمرة ينبغي أن يسمع منها وأن يعرف ما لديها من أفكار»(2).
ولا غرابة إن تجاوزت التجربة الإمبريالية البواعث الاقتصادية والدوافع السياسية لتطال الحياة الفنية/ المسرحية الغربية ذلك «أن إغفال بسط الإمبريالية لذاتها عبر الدين والعلم والفن والأدب سيكون قراءة خاطئة للثقافة ولرنينها الإمبراطوري»(3).
إن الكشف عن الرنين الإمبراطوري في الأعمال المسرحية الغربية بوصفه نسقا ثقافيا مضمرا قبيحا ومرعبا، يفترض ضرورة تجاوز الاهتمام المفرط بالجانب الإستيتيقي الذي حفل به النقد المسرحي ولزمن طويل، وتوجيه العناية البالغة بالإشكاليات الأيديولوجية والأنساق الفكرية الكامنة خلف الخطاب المسرحي.
ولاشك أن رحلة فكرية ¬تلك هي طبيعتها¬ تتطلب الحفر في تضاريس التاريخ المسرحي الغربي وقراءته قراءة تأويلية خاصة وبوعي نقدي متفجر ولا مهادن، يتقاطع فيه الفني بالأدبي والسياسي والتاريخي والاجتماعي عبر الربط بين الإمبريالية باعتبارها وجهات نظر وتمثيلا خاطئا للآخر، والأعمال المسرحية كشكل ثقافي وصوت فكري بارز في المجتمع الغربي، إذ بإمكان هذا الترابط أن يثري قراءة النصوص المسرحية ويغنيها ويغير زاوية النظر إليها.
وقد جسدت مسرحية "العاصفة" لـ"وليام شكسبير"، ارتباطا وتلازما بين الظاهرة الإمبريالية والظاهرة المسرحية، إذ لم يكن شكسبير بمعزل عن السياق الثقافي الغربي العام الممجد للحضارة الأوربية والمشيء للساكن الأصلي للبلاد المستعمرة كما بلورته تقارير المستكشفين والرحالة الأوربيين.
يرتبط النص الشكسبيري ¬من هذا المنظور¬ بواقع تاريخي/ سياسي شكل خلفيته، ولعل إغفال هذا الواقع من شأنه أن يجعل استقبالنا للنص ناقصا، سيما وأنه «لم يعد ممكنا ومقبولا بتر الأدب عن التاريخ، فالاستقلال الذاتي المزعوم للأعمال الفنية، يقتضي نوعا من الفصل يفرض محدودية مضجرة تأبى الأعمال الأدبية نفسها أن تقوم بفرضها»(4). إنه مفهوم "التأويلية الدنيوية"، الذي شكل حجر الزاوية في المشروع النقدي ذي البعد الثقافي لـ"إدوارد سعيد"، ويقصد به علاقة النصوص بشروطها المكانية والزمانية، وتطورها في شبكة العلاقات الاجتماعية والتاريخية والسياسية المعقدة.
وبذلك فإن إستراتيجيتنا في تحليل مسرحية "العاصفة"، سيكون هدفها الأساس تبيان ما كان مغيبا وناقصا في القراءات السابقة. إنها ليست مجرد قصة أمير له قدرات خارقة فقد إمارته ثم استعادها، بل إنها مسرحية سفر، واستكشاف، وانتشاء بالمغامرة في العالم المستعمر، وتحتل شخصية "بروسبيرو" البؤرة فيها، فهو «دوق ميلانو وأمير ذو سلطان»(5)، انهمك في دراسته، حيث ثمن كتبه أكثر مما ثمن مملكته، فكان أن أقدم أخوه ملك نابولي بالاستيلاء عليها وطرده، فوجد "بروسبيرو" نفسه رفقة ابنته "ميراندا" في «زورق لم يبق منه سوى هيكل متفسخ، لا حبال ولا أشرعة، ولا قلوع، ولا سواري، حتى الجردان كانت بالغريزة قد هجرته»(6).
هكذا ترك "بروسبير"، عالمه المتمدن، وشد الرحال مكرها إلى عالم آخر، عالم الجزيرة الغريب، وقد شكل ذلك منعطفا بارزا في مسيرة حياته، فلم يعد يحمل من عالمه الأول سوى قيمه ومثله لتغدو وظيفته الأساس تحويل العالم الغريب إلى وطن خاص به بعد بنائه وفق القيم التي يؤمن بها والمبادئ التي يحملها عن النموذج الغربي الذي غادره.
ولأن غرس القيم، وبناء النماذج يحتاج إلى موضوع، فقد ظهرت في نسيج النص الدرامي شخصيتا "آريال" وهو "روح من هواء"، و"كاليبان" وهو "عبد وحشي ممسوخ"، إنه الساكن الأصلي للجزيرة الذي اغتصبت أرضه، فأضحى عبدا بعد أن كان سيدا، يقول في غضب مخاطبا "بروسبيرو" المغتصب:
هذه الجزيرة لي، ورثتها عن سايكوراكس والدتي،
وأنت أخذتها مني، عندما جئتنا أول مرة
مسدتني ودللتني كنت تعطيني
ماء فيه توت، وتعلمني كيف
أسمي النور الأكبر، والنور الأصغر ... (7)
لقد فقد "كاليبان"/ الساكن الأصلي أرضه، المغتصبة من قبل "بروسبيرو"/الإنسان المستعمر، وغذت العلاقة بينهما علاقة تبعية وتلقين للقيم والنظم الثقافية الغربية (النور)، لنكون بذلك أمام ثقافتين: ثقافة حداثية تعني التمدن وتتسم بالكلية وتختزن مبادئ لابد من استلهامها، وثقافة دونية صغرى يمثلها "كاليبان"/ المستعمر، ليصبح من حق الثقافة الكلية المتمدنة التي يمثلها "برسبيرو" «التدخل في تلك الثقافات الصغرى ... باسم العمل من أجدل خير تلك الثقافات وليس باسم العمل من أجل خير ما هي»(Cool.
يمثل "كاليبان" الساكن الأصلي للجزيرة، الذي تحول إلى خادم وعبد، لكن عندما يصرخ بالحقيقة التالية «الحرية يا هو! الحرية يا هو! الحرية يا هو !» (9)، فهل ثمة إمكانية لتوحد جمهور شكسبير وتعاطفه معه؟.
الجواب، بالنفي، فليس في استغلال السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيين ما يشين، ما دام هؤلاء ليسوا سوى متوحشين وعبيد، فـ"كاليبان" ¬في منطق النص الشكسبيري¬ لا حقوق له، فهو من منظور "بروسبيرو" عبد، وفي رؤية "ميراندا" نذل قبيح.
وليست تلك هي الصفات الوحيدة التي اتسم بها "كاليبان"، بل ثمة رزمة من الصفات المشيئة له من قبيل: غبي نطفة شيطان سلحفاة نذل كذاب مخلوق الظلام جاهل خسيس قذر شهواني وحشي دنيء عرقيا بذيء لا يجدي فيه لطف ...
إنها الرؤية الإمبريالية التي ترسخت في الفكر الغربي ووشمت وعيه، والقائمة على ثنائية ضدية أساسها: الطرف الغربي/ "بيرسبيرو" صاحب رسالة التمدن والتحديث، ومصدر كل الحقائق الثقافية في هذا العالم، والطرف المستعمَر/ "كاليبان"، البدائي التوحش ورجل الكهف والغابة الذي يقتضي وصاية ثقافية غريبة ليلج عالم التمدن ودنيا الحضارة.
على هذا الأساس، تقدم مسرحية "العاصفة" علاقات مثيرة ومستفزة، تحتل فيها شخصية "كاليبان" المركز، فهو عبد، ومتوحش وبدائي ... و"برسبيرو" سيد وحكيم وذو سطوة، وهو أيضا نقيض "ميراندا"؛ فهو قبيح وشرير، وهي جميلة وبريئة، و"فرديناند" وسيم ونبيل، تجري في عروقه دماء النبلاء وأخلاقهم، و«ما من شر يستطيع السكن في هيكل كهذا»(10)، و"كالبيان" عبد مقيت و«لا يقبـل أن يطبـع فيه خيـر، لأنه مطبوع على كل شر»(11)، فهو حيواني وشهواني ولذلك حاول اغتصاب "ميراندا"، ليبقى الفارق بين "كاليبان" وباقي الشخصيات الأخرى ثابتا، فهم بالبداهة نبلاء عكس "كاليبان" الأدنى والمنحط.
لقد اختزل "كاليبان"/ المستعمَر، ثقافيا وفنيا واجتماعيا وعرقيا، وهي الصورة الشائعة في المدونات الاستشراقية والسرديات الاستعمارية. إنها النظرة الاستعلائية الغربية التي شيَّأت اللاأوربي وسلعته ونظرت إليه بوصفه مجرد "شيء" و"دوني" و"ذات لا ثقافية"، وبذلك فقد احتل الإنسان المستعمَر مكانة ثانوية، مكانة شكلت مفارقة ضدية جوهرية بالنسبة للأوربي، إذ تبرز تفوقه وغطرسته، وسوغت سيطرته على شعوب ينبغي أن تخضع، ليغدو الاستعمار، في الفكر والوعي الغربيين، واجبا محتما لحكم شعوب أدنى مرتبة وأقل تقدما. إن الجزيرة في مسرحية "العاصفة"، ليست فردوسا أرضيا مكتشفا، بل إفصاح عن الرغبة الغربية في السيطرة والهيمنة على عالم جديد، تبذل فيه جهود لإضفاء طابع الإنسانية على المتوحشين لكن دون جدوى، وهي الحقيقة التي أعرب عنها "بروسبيرو" بلسانه في خضم حديثه عن "كاليبان" المتوحش:
بروسبيرو: شيطان وولد شيطان وفي طبيعته لن يستقر أي تطبع وجهودي التي أنفقتها عليه إنسانية راحت سدى كلها.
وكلما كبر سنا ازداد جسمه قبحا، وذهنه نخرا وسوسا ...(12)
والحال أن "شكسبير"، مشارك في سياسة التوسع الإمبريالي والنزوع الإمبراطوري، من خلال سوء تمثيله للآخر/ غير الغربي، إذ يمكن معاينة مسرحية العاصفة بوصفها مفعمة بحساسية استعمارية، وتقوم بأداء حركة إمبريالية.
لاشك أن هذه القراءة الجديدة المستندة على مشروع نقدي ذي بعد ثقافي، تضيف بعدا جديدا. إنها مسرحية تنطوي على عنصرية الغرب الكامنة والملثمة، إذ توحي بوجود ثنائية ضدية حيث الشمال والجنوب، والسيد والعبد، والثقافة واللاثقافة، ليكون النسق الثقافي المضمر فيها: تعزيز إقرار المجتمع للتوسع الإمبريالي. نسق أغفل في النقد المسرحي لاعتماده المفرط على المنهج الوصفي السطحي واهتمامه المبالغ فيه بالجماليات والفنيات في وقت أضحى فيه من الضروري إدراج المسرح ضمن الأنساق الثقافية الكبرى وتحطيم هالة نصوص اكتسبت طابع القدسية.
وفي الأخير نؤكد أننا لا نروم إدانة "شكسبير"، ولا قذف الأدب المسرحي من خلال الربط بين التجربة المسرحية وانتشار الإمبريالية، وإنما تحديد الكيفية التي حدثت بها العملية الإمبريالية بشكل يتجاوز البواعث السياسية والاقتصادية لتمس الحياة الثقافية/ الفنية للغرب، إذ يمكن للنصوص الدرامية «أن تكون أعمالا عظيمة من إبداع الخيال، وأن تضم في الوقت نفسه وجهات نظر سياسية ظاهرة البشاعة والقبح، وجهات نظر تسلخ الإنسانية عن غير الأوربيين، وتبرز شعوبا وأصقاعا بأسرها خاضعة ودونية جاعلة إياها مقتضبة حكم الأوربيين»(13).

الهوامش:

* - أستاذ بنيابة سيدي قاسم، باحث بوحدة الدراماتورجيا والنقد المسرحي (القنيطرة).
1 – إدوارد سعيد "الثقافة والإمبريالية" ترجمة كمال أبو ديب، دار بيروت، ط3، 2003، ص: 80.
2 – المرجع نفسه، ص: 118.
3 - المرجع نفسه، ص: 185.
4 - المرجع نفسه، ص: 142.
5 – وليام شكسبير "العاصفة" ترجمة إبراهيم جبر، وزارة الإعلام، الكويت، 1989، ص: 130.
6 – المصدر نفسه، ص: 134.
7 – المصدر نفسه، ص: 144.
8 – صلاح رزق "علامات في النقد" العدد (13)، الجزء 51 "إشكالية المنهج في النقد الثقافي"، ص: 85.
9 - شكسبير "العاصفة" مصدر سابق، ص: 130.
10 - المصدر نفسه، ص: 151.
11 - المصدر نفسه، ص: 145.
12 - المصدر نفسه، ص: 213.
13 - إدوارد سعيد "الثقافة والإمبريالية"، مرجع سابق، ص: 8


تابع القراءة→

0 التعليقات:

الحكاية روح الدراما - كيته ريلكه - فايلر/ ترجمة: قيس الزبيدي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

اعتبر بريشت الدرامية أرسطية، حينما يتم بوسطاتها إحداث "التماهي" في العروض المسرحية "بغض النظر عن استعمال قواعد أرسطو لهذا الغرض أو عدم استعمالها. وعلى هذا يمكن حسب تعريف بريشت اعتبار كل الأصول الدرامية - باستثناء دراميته– ارسطوية، لأن "التماهي" يحدث بوساطة كل وسائل الفن المركبة، حتى إذا حدث في أوقات مختلفة وبأساليب مختلفة ولأغراض متباينة. وإنه لمن الصحيح حقاً أن يتم بحث "التماهي" و"التغريب" وفقاً لبناء الأعمال المسرحية: غير أن "التماهي" و"التغريب" وحدهما لا ينتجان هذا البناء مع ذلك.
ثمة عنصر جوهري آخر في كل درامية مجتمع الطبقات هو مفهوم القدر الذي ينتمي إلى العناصر المركبة للدراما وإن اختلفت طريقته – ونسمي هنا مفهوم القدر عند أرسطو ومثله عند شكسبير كقواعد لنوعين من الأصول الدرامية المختلفة فعند الإغريق عينت (المويرا) "ربة القدر" سير الحكاية بشكل قسري مثلما فعلت المعاناة الحتمية عند شخصيات شكسبير العظيمة، أما عند بريشت فيختلف الأمر لأنه لا يحدد "القدر" الوافد إلى الناس من قبل قوى خارجية أو بوساطة فعل الشخصيات نفسها وعبر مجريات الأحداث، إنما يحددها قوانين المجتمع الاقتصادية – الاجتماعية الواقعية. 
لم يدخل بريشت بالدرجة الأولى في التناقض مع القواعد التي وضعها أرسطو في "فن الشعر" - وهي مدهشة لزمنه مثلما هي اليوم – إنما مع وظيفة المسرح في فترة الرأسمالية المتأخرة. وان ما يرتبط بالغرض النهائي للمأساة الارسطوية هو من جهة "التماهي" في العرض المسرحي، ومن جهة أخرى مفهوم القدر الذي يحدد الحدث. كما أن "التماهي"، وفق وجهة نظر بريشت، يحول دون نقد المجتمع المعروض – أن هذين المفهومين مصاغان من قبل أرسطو ولو أنهما اليوم يستعملان وفق صيغة معدلة، لكنهما ما يزالان فاعلان  لأن المأساة بهذا تثير " الشفقة والخوف (…) ويؤدي التطهير الخاص فيها He Catharsis إلى مثل هذه الانفعالات". 
كما أن التفاوت واضح بين هدف الأصول الدرامية الارسطوية وبين تلك الخاصة ببريشت، إذ إن الأخير يريد أن يضع المتفرج من خلال مجرى كل الحكاية في مجال السيطرة على الواقع المصور. وواضح كذلك، أنه لا يمكن بلوغ الهدف ذي الأساليب المختلفة بمعزل عن سياق الحكاية. ومن أجل إظهار وظيفة "التماهي" العميقة والمحددة للمعرفة، يجب بحث ارتباط هذه الوظيفة بسياق الحكاية، التي تنتظم مواقفها المنفردة بطريقة تقود إلى الغرض النهائي الأرسطي. وفي حال بلوغه، يحدد نتيجة العمل.
يمكن تطوير التفاوت في آراء بريشت وأرسطو من خلال التطابق (عندهما) في الجوهري. كتب أرسطو: "روح المأساة هي الحكاية" وكتب بريشت: "أن الحكاية عند أرسطو ونحن هنا نفكر مثله – هي روح الدراما".(...)
لم بعاصر أرسطو، الذي عاش من 384 إلى 322 قبل الميلاد، كتابَ المأساة، الذين  يمكن لنا وفق أعمالهم فحص مضمون قواعده: فقد ولد أرسطو بعد أشيلوس بمائة وأربعين سنة وبعد موت يوربيدس بثلاثين سنة. وتضم في تاريخ اليونان المائتان سنة – من ولادة أشيلوس إلى موت أرسطو تطوراً اجتماعياً تاريخياً عظيماً. وان انعكاس (هذا التطور) في أعمال كتّاب المأساة، الذين يقيمهم أرسطو، أدى إلى تكوين أساطير تنتمي إلى بيئات أساطير مختلفة من أجيال السادة القدامى، وكان هذا (التكوين) يختلف بعضه عن بعض إلى حد كبير، سواء على الصعيد الفلسفي التاريخي أو على صعيد الوسائل الفنية.
ويبدأ طومسون دراسته ذات الدلالة الخبيرة (اشيلوس وأثينا) بجملة: "أن المأساة اليونانية كانت واحدة من الوظائف الخاصة للديمقراطية الأثينية. وكانت ترتبط في شكلها وفي مضمونها، في صيرورتها وفي انهيارها بتطور العضوية الاجتماعية، التي انتمت إليها".
والآن فإن من بين أكثر من /300/ مأساة كتبها اشيلوس وسوفوكل ويوربيديس وأعمال لا تحصى لمؤلفين آخرين فقدت، لكنها كانت جميعها معروفة من أرسطو ومنها استنتج قواعده، وصلنا فقط /32/ مسرحية. ولا تتوفر في أي من الدراما المعروفة لدينا كل المعالم المثالية المطلوبة من أرسطو، وهذا لم يكن ممكناً، بسبب ارتباطها بعلاقات اجتماعية متباينة، أثرت بدورها في مضمون وبناء هذه الأعمال وميزت بينها.
ويعقب بريشت على هذه الدرامية: "إذا ما أحيط المرء علماً بمادة الفنون السردية والعرضية، فانه يكشف كيف أن المواضيع العظيمة كالحرب والمال والبترول وسكك الحديد والبرلمان وأجور العمل والأرض هي نادرة نسبياً، وغالباً ما تقتصر على خلفية زخرفيه أو تكون باعثاً للتأملات".(...) ولا تجد حقيقة الاستلاب (تقلصات النفس، وانحراف الحياة الداخلية) بتأثير من الحرب والمال والبترول وما إلى ذلك، لا تجد أي عرض لها في مثل هذه الأعمال، كما تستمر فيها العلاقات الإنسانية الغيبية.
وتفقد ردود فعل الأبطال تأثيرها الاجتماعي لأنها تتطابق والمغزى الاجتماعي بشكل واه. ولا تحتل الأحداث الشكل الأرسطي، إما انعكاساتها في حياة الأفراد الداخلية، كما يعكس سياق الحكاية تلك المواقف الخاصة بالحياة الداخلية للبطل. والنماذج هي غالباً يائسة ووحيدة، ويرتبط أفق نظر المتفرج بأفقها. ويقدم سترندبرغ مسرحية "الآنسة "جولي" قائلاً: "كون المأساة التي كتبتها تترك تأثيراً حزيناً على الكثيرين، فهذا ذنب هؤلاء أنفسهم". ويعتبر مضمون المسرحية، الذي تقيم فيه بنت النبيل علاقة مع خادم"مشكلة صعود أو طلوع اجتماعي". فالعالم هنا لا يعرف التقدم إلا بالنسبة للأفراد، ولا يكون بوسع ناس هذه الدرامية تغيير المجتمع ونجدهم عند أبسن يخافون العالم، حتى ولو بدا هذا العالم بصورة ماض يتسلل إلى الحاضر أو حتى ولو حلم فرد في حياة أفضل في أحسن الأحوال، كما عند تشيخوف فان تنظيم مواقف الحكاية يحجب مع هذا أية استنتاجات اجتماعية.
ويوضح الممثل في مسرحية بريشت "ابتياع النحاس": "بودي أن أنبه، إلى أن كل العجلات ستتعطل، إذا ما أرادت يد البروليتاريا ذلك"، لكنه يتابع "غير أنه في هذه اللحظة يسير ملايين العمال بدون عمل. أما العجلات فتتعطل، رغم أن هذه اليد القوية لا تريد ذلك أبداً".   

المترجم في سطور :
قيس الزبيدي: مخرج ومصوّر وباحث سينمائي مقيم بين برلين. تخرّج من معهد السينما في بابلسبورغ (ألمانيا الديموقراطية) عام 1969 حيث درس التصوير والمونتاج. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن"، و"فلسطين سجل شعب"، و"شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب"، و"وطن الأسلاك الشائكة". وقدّم روائياً "الزيارة" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و"اليازرلي" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض،  ولم يعرض كاملاً إلا عام 2010. له العديد من المؤلفات النقدية والبحثية منها: "فلسطين في السينما"، و"المرئي والمسموع في السينما"، و"مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم"، و"مونوغرافيات في الثقافة السينمائية".

---------------------------------------
المصدر : مجلة أوكسجين 
تابع القراءة→

0 التعليقات:

حول المسرح التجريبي - برتولت بريشت / ترجمة: قيس الزبيدي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

في عالم "دينامي" سريع كعالمنا تستنفذ فيه بسرعة تلك الجاذبية، المتعلقة بالتسلية. ويجب أن يقابل خمود الجمهور المتزايد بمؤثرات جديدة على الدوام. ولكي يشتت الجمهور المشتت يتعين على المسرح أولاً أن يحمله على التركيز. عليه أن يجذبه من المحيط الصاخب إلى دائرة نفوذه. فالمسرح يتعامل مع متفرج متعب ومنهك من أيام عمل معقلنة ومستفز من احتكاكات اجتماعية متعددة الأنواع. وهو هارب من عالمه الصغير الخاص،  ويجلس هنا مثل هارب، وهو هارب حقاً، لكنه أيضاً زبون. إنه يستطيع أن يهرب إلى هنا أو إلى مكان آخر، كما أن منافسة المسرح مع المسرح ومنافسة المسرح مع السينما تفرض دائماً اجتهادات جديدة. وإذا ما تأملنا التجارب التي قام بها أنطوان وبرام وستانسلافسكي وغوردون كريغ وراينهاردت وييسنر وماير هولد وفاختا نغوف وبيسكاتور، نجدهم قاموا بإغناء إمكانات تعبير المسرح بشكل مدهش تماماً. كما نمت قدرة المسرح على الإمتاع بالضرورة. وخلق فن الفرقة مثلاً جسم مسرح مرن وشديد الحساسية بشكل بالغ. وأصبح من الممكن تصوير البيئة الاجتماعية بأدق تفاصيلها. كما استعار فاختانغوف ومايرهولد من المسرح الآسيوي أشكالاً راقصة معينة وابتكرا كوريوغرافية تامة للدراما. وأنجز مايرهولد بنائية جذرية، بينما استعمل راينهاردت مسرح ما يدعى بالأماكن الأصلية للمشاهد: قدم "كل إنسان" و"فاوست" في أماكن عامة. وقدمت مسارح الهواء الطلق "حلم ليلة صيف" في وسط الغابة. أما في الاتحاد السوفييتي فقد جرت محاولة إعادة اقتحام قصر الشتاء مع استعمال البارجة الحربية "أورورا". وأزيلت الحواجز بين المسرح والجمهور. وفي عرض "دانتون" لراينهاردت في بيت التمثيل الكبير جلس الممثلون في صالة المتفرجين، أما أوخلوبكوف في فقد أجلس الجمهور على المسرح  موسكو، واستخدم راينهاردت طريق زهور المسرح الصيني وخرج إلى ساحة السيرك، ليمثل مباشرة وسط الناس. وبلغ إخراج مشاهد الجماهير عند ستانسلافسكي وراينهاردت وييسنر حد الكمال، على أن الأخير كسب للمسرح بعداً ثالثاً ببنائه المدرج. وتم اختراع المسرح الدوار والأفق المقبب، كما اكتشف الضوء. وسمح البروجكتور بإنارة عظيمة. كما سمحت مفاتيح الضوء الكهربائية بإبراز سحري لأجواء رامبرانتية. ويستطيع المرء أن يطلق اسم "رامبراندت" على بعض المؤثرات الضوئية المعينة، مثلما يطلق اسم "تريندلنبورغ" على عملية قلب معينة في تاريخ الطب. وظهرت طريقة عرض جديدة تستند على تجربة "شفتان : مرايا عاكسة تجمع عناصر مختلفة في تركيب واحد" إضافة إلى طريقة جديدة في إخراج المؤثرات. وفي فن التمثيل أزيلت الحواجز بين الكباريه والمسرح وبين الاستعراض الموسيقي والمسرح. وأجريت تجارب استعملت فيها الأقنعة والأحذية العالية والتمثيل الإيمائي. وعنيت تجارب أكثر بالبرنامج الكلاسيكي. وأعيد تفصيل شكسبير واستعماله. واستغل المرء صفحات كثيرة من الكلاسيكيين لدرجة لم يعودوا فيها هم يحتفظون بشيء من أعمالهم.  تم التعرف على هاملت بالسموكنك وعلى يوليوس قيصر بالبذلة، وقد ربحت السموكنك والبذلة واكتسبتا وقاراً على الأقل. وكما ترون فإن التجارب متفاوتة القيمة جداً، وأن أكثرها إثارة للاهتمام هو ليس دائماً أكثرها قيمة، كما أن أقلها قيمة هو ليس بدون قيمة تماماً. ففيما يتعلق الأمر مثلاً بهاملت بالسموكنك فهو ليس أكثر تدنيساً لشكسبير من هاملت التقليدي بجوارب الحرير، حيث يبقى المرء هنا في إطار مسرحية الملابس. 

إنني أقترب الآن من مرحلة المسرح التجريبي، التي وصلت فيها كل الجهود المذكورة حتى الآن إلى أعلى مستوى لها ووصلت بهذا إلى أزمتها. وظهرت في هذه المرحلة كل مظاهر العملية الكبيرة، سلباً وإيجاباً. وبشكل كبير: القيمة التعليمية وانهيار الذوق الفني. 
أما المحاولة الجذرية في إعطاء السمة التعليمية للمسرح فقد قام بها بيسكاتور. وأنا شخصياً ساهمت في جميع تجاربه، التي ليس فيها أية تجربة لم يكن هدفها رفع القيمة التعليمية للمسرح. وكانت المسألة تنحصر مباشرة في السيطرة على مركبات مواضيع معاصرة وكبيرة على المسرح مثل الصراع من أجل البترول والحرب والثورة والعدالة والتعصب العنصري وما إلى ذلك. وترتب على ذلك ضرورة إعادة بناء المسرح كلية، وأنه من غير الممكن هنا، أن نحصر كل الاعتبارات والتجديدات التي استخدمها سوية تقريباً مع كل الإنجازات التقنية الجديدة، من أجل حمل المواضيع المعاصرة الكبيرة إلى المسرح. وربما تعرفون بعضاً منها، مثل استخدام الفيلم، الذي صنع من المنظر الثابت مشاركاً جديداً شبيهاً بالجوقة الإغريقية، ومثل الناقل الآلي، الذي جعل أرض المسرح متحركة. بحيث جرت عليها حوادث ملحمية مثل مسيرة الجندي الشجاع شفيك في الحرب. ولم تستخدم هذه الابتكارات من قبل المسرح العالمي حتى الآن، وأصبحت كهربة المسرح اليوم منسية تقريباً، وصدأت كل الآلية المبتكرة ونما عليها العشب. 

غير أننا نود الآن أن نقصر حديثنا على تطور أزمة المسرح في ميدان علم الجمال. في البداية سببت التجارب البيسكاتورية فوضى شاملة على المسرح. وإذا ما حولت المسرح إلى قاعة آلات، فإنها حولت قاعة الجمهور إلى قاعة اجتماعات. وبالنسبة إلى بيسكاتور كان المسرح برلماناً، والجمهور هيئة تشريعية. وقد عرضت أمام هذا البرلمان بوضوح المسائل العامة الكبيرة التي هي بحاجة إلى قرار. وبدلاً من خطبة النائب حول ظروف اجتماعية لا يمكن تفاديها ظهرت نسخة فنية لهذه الظروف. وطمع المسرح بدفع البرلمان، الجمهور، استناداً إلى الصور المسرحية والإحصائيات والشعارات، إلى اتخاذ قرارات سياسية. ولم يستغن مسرح بيسكاتورعن التصفيق، لكنه طمع أكثر من ذلك بالنقاش. ولم يهدف فقط إلى تقديم معايشة  لمشاهده، إنما، إضافة إلى ذلك، دفعه إلى اتخاذ قرار عملي بالتدخل في الحياة بنشاط. ومن أجل الوصول إلى ذلك، كانت بالنسبة له  كل الوسائل مشروعة. 
وحينما قدم القيصر الألماني احتجاجه بوساطة خمسة محامين لأن بيسكاتور أراد تجسيد شخصيته على المسرح، اكتفى بيسكاتور بتوجيه سؤاله إلى القيصر عن مدى استعداده للظهور شخصياً على مسرحه وعرض عليه  ما يشبه عقد عمل.
وفجرت التجارب البيسكاتورية كل التقاليد تقريباً، وغيرت من طريقة الخلق عند الدراميين، ومن طريقة التمثيل عند الممثلين، كما غيرت من عمل مصمم الديكور. وتوخت هذه التجارب،  بشكل عام، وظيفة اجتماعية جديدة للمسرح تماماً. 

وإذا ما نظرنا إلى المسرح في عصرنا فسنجد أن عنصري بناء الدراما والمسرح، أي الإمتاع والتعليم، يقعان باستمرار في مشكلة حادة. وينشأ اليوم تناقض في هذا المجال. وقادت الطبيعة بجهودها في "علمنة الفن"، والتي جعلت له تأثيراً اجتماعياً، إلى الإضرار بقوى فنية جوهرية، خصوصاً بالخيال وبالدافع الفطري للتمثيل وعلى الأخص بما هو شعري حقا. كما أضرت العناصر التعليمية بشكل واضح بالعناصر الفنية. 


هكذا كانت الأزمة: تجارب نصف قرن من الزمن قامت في كل البلاد المتحضرة تقريباً، سادت في المسرح معالجة مواد عديدة ومشاكل واسعة جديدة تماماً، وجعلت منه عاملاً مرتبطا بمعنى اجتماعي كبير. لكنها بالمقابل قادت المسرح إلى وضع، أصبح فيه أي توسيع أكبر في دائرة التجارب المعرفية والاجتماعية (السياسية) يهدم من التجربة الفنية. ومن الجهة الثانية تحققت التجربة الفنية دائماً بشكل أقل، بدون توسيع أكبر في عنصر المعرفة.  تم بناء جهاز تقني وأسلوب عرض استطاعا أن ينتجا أوهاماً بدل التجارب ودخاناً بدل التلال وتضليلاً بدل التنوير. 
ماذا تنفع منصة مبنية جداً، إذا لم تكن  بناءة اجتماعياً. وماذا تنفع تجهيزات الإضاءة الجميلة، إذا كانت تنير عروض العالم بشكل طفولي ومعوّج، وماذا ينفع فن تمثيل إيحائي، إذا كان يخدم فقط في تحويل (س) من الناس إلى (ص)؟ وماذا يفعل صندوق السحر بكامله، إذا لم يكن يقدم سوى بديل مفتعل للتجارب الحقيقية؟ ولماذا يسلط هذا الضوء الدائم على مشاكل، تبقى دائماً بدون حل؟ ولماذا دغدغة الأعصاب هذه إضافة إلى دغدغة العقل؟ هنا لم يعد بوسع المرء أن يتحمل.
 (...)
إن إنسان اليوم يعرف القليل عن القوانين الموضوعية التي تتحكم في حياته. وهو يستجيب كجوهر اجتماعي عاطفياً في الغالب، لكن ردة الفعل العاطفية هذه غامضة وغير واضحة وغير مؤثرة، كما أن مصادر عواطفه وانفعالاته قذرة وملوثة مثل مصادر معارفه. إن إنسان اليوم، الذي يعيش في عالم متغير بسرعة ويتغير هو نفسه بسرعة، لا يملك صورة صحيحة عن هذا العالم يستطيع على أساس منها أن يحقق أمله في النجاح. بل يمكن تسمية صورته بأنها غير عملية، أي أن تصوراته عن الحياة المشتركة للناس معوجة وغير دقيقة ومتناقضة وهذا يعني أن الصورة التي أمامه عن العالم والناس لا تمكنه من السيطرة على هذا العالم.  وهو لا يعرف الأشياء التي يخضع لها ولا يعرف مقبض الماكينة الاجتماعية الضروري الذي ينتج عنه التأثير المطلوب. إن معرفة طبيعة الأشياء الكبير التي أصبحت عميقة وموسعة بإبداع كبير، دون معرفة طبيعة الإنسان ومعرفة المجتمع الإنساني بكليته لا يمكنها تحويل السيطرة على الطبيعة إلى مصدر سعادة للإنسانية. إنما هي على العكس ، تصبح  مصدرا للشقاء. وأصبحت الاختراعات والاكتشافات العظيمة تشكل تهديداً مخيفاً دائماً للبشرية، بحيث يتم اليوم تقريباً استقبال كل اختراع جديد فقط بصيحة انتصار، تتحول إلى صيحة خوف. 
عشت قبل الحرب حادثة تاريخية حقيقية أمام جهاز الراديو: تم إجراء مقابلة مع معهد العالم الفيزيائي نيلس بور في كوبنهاغن حول اكتشاف جذري في مجال انفلاق الذرة. وأعلن الفيزيائيون عن اكتشاف مصدر طاقة جديد هائل. وحينما سأل المذيع عن إمكانية الاستفادة العملية من هذا الاكتشاف جاءه الجواب: "كلا، ليس بعد". وفي صوت يعبر عن الارتياح قال المذيع: "الحمد لله! فأنا أعتقد حقاً أن الإنسانية ليست  ناضجة إطلاقا للتحكم بمثل هكذا مصدر للطاقة !".  وكان واضحاً أن فكر المذيع انصرف فوراً إلى صناعة الحرب. ولا يذهب عالم الفيزياء البرت اينشتاين أبعد من ذلك، لكنه يذهب على أية حال إلى ما فيه الكفاية، حيث يكتب في جمل قليلة، هي بمثابة رسالة إلى الأجيال القادمة: "أن عصرنا غني بالعقول المخترعة، التي تستطيع اختراعاتها أن تسهل من حياتنا بشكل ملحوظ. نحن نعبر البحار بوساطة الطاقة الآلية ونستخدم الطاقة الآلية أيضاً في تحرير الناس من العمل العضلي المجهد. تعلمنا الطيران، ونحن قادرون على نشر الرسائل والأخبار الجديدة عبر الأمواج الكهربائية في كل أنحاء العالم. ومع هذا فالإنتاج وتوزيع البضائع لم ينظم أبداً، مما يجعل الإنسان يعيش في خوف من استبعاده عن الدورة الاقتصادية. إضافة إلى ذلك فإن الناس، الذين يعيشون في بلاد مختلفة يقتل بعضهم البعض في فترات زمنية متفاوتة، لدرجة أن كل إنسان يفكر في المستقبل عليه أن يعيش في هلع. وينتج كل هذا من واقع كون ذكاء وطبيعة الجماهير هي أوطأ بما لا يقارن من ذكاء وطبيعة القلة، التي تنتج قيم المجتمع". 
(...)
وعلينا الآن أن نتمعن في مبدأ هذا التماهي (اندماج, تقمص).
إن التماهي هو دعامة علم الجمال السائد. وفي (فن الشعر) الرائع لأرسطو يتم وصف طريقة تحقيق الكاتارسيس، أي التطهير الروحي للمتفرج، بوساطة المحاكاة (Mimesis). فالممثل يحاكي البطل (أوديب أو بروميثيوس). وهو يفعل ذلك بدرجة من الإيحاء والقدرة على التحول، مما يجعل المتفرج يحاكيه بهذا ويضع نفسه في حوزة تجارب البطل. ويشير هيغل، الذي وضع كما اعتقد، آخر علم جمال عظيم، إلى قدرة الإنسان على الإحساس بنفس المشاعر وهو يجابه الواقع المتخيل مثلما يفعل وهو يجابه الواقع نفسه. وأحب أن أشير إلى سلسة من التجارب سعت بوساطة وسائل المسرح إلى إيجاد صورة عالم نافعة قادت إلى مسألة محيرة، طرحت فيها ضرورة التخلي كثيراً أو قليلاً عن التماهي من أجل هذا الهدف. ماذا نكسب من ذلك؟  نكسب من ذلك أن المتفرج لن يعود يرى الناس على المسرح غير متغيرين، ولا يمكن التأثير عليهم، ومستسلمين عاجزين أمام قدرهم، إنما يرى: هذا الإنسان على هذه الشاكلة لأن هذه الظروف على هذه الشاكلة. وإن هذه الظروف على هذه الشاكلة لأن الإنسان على هذه الشاكلة. وإن الإنسان ليس فقط قابلاً للتصور، كما هو، إنما بشكل آخر أيضاً، مثلما يقدر أن يكون، كذلك يمكن للظروف أن تكون قابلة للتصور بشكل مختلف عما هي عليه. نكسب من ذلك، أن المتفرج يظفر بموقف جديد في المسرح. إنه يساوي الآن بين موقفه إزاء صور عالم الناس على المسرح وبين ذات الموقف الذي يتخذه كإنسان هذا القرن تجاه الطبيعة. إنه يستقبل في المسرح أيضاً كالمغيّر العظيم، الذي بوسعه التدخل في عمليات الطبيعة وفي العمليات الاجتماعية، والذي لا يقبل بالعالم كما هو فقط، إنما يسيّره. فالمسرح لا يحاول بعد اليوم أن يسكره، ويزوده بالأوهام، وينسيه عالمه، ويذعنه لقدره. أن المسرح الآن  يضع  في متناول يديه. 
 (...)
هل يعتبر أسلوب العرض الجديد الآن  بمثابة أسلوب جديد ، وهل
هو تقنية شاملة وجاهزة، وهل هو خاتمة كل التجارب الجواب: كلا. إنه طريق واحد. سرنا فيه. وعلى التجارب أن تستمر. وستبقى المشكلة قائمة بالنسبة لكل الفن وهي عملاقة. والحل الذي اخترناه هنا، هو ربما حل من الحلول الممكنة للمشكلة، التي تبين: كيف يمكن للمسرح أن يكون ممتعاً وتعليمياً في ذات الوقت؟  كيف يمكن انتشاله من تجارة المخدرات الروحية وتحويله من مكان للأوهام إلى مكان للتجارب؟  كيف يمكن لإنسان عصرنا غير الحر والجاهل، المتعطش للحرية وللمعرفة، المعذب والمستغل، البطل والمبتكر، المتغير والمغير للعالم، كيف يمكن لإنسان هذا العصر المخيف والعظيم أن ينال مسرحه، الذي يعينه في السيطرة على نفسه وعلى العالم؟ 

المترجم في سطور :
قيس الزبيدي: مخرج ومصوّر وباحث سينمائي مقيم بين برلين. تخرّج من معهد السينما في بابلسبورغ (ألمانيا الديموقراطية) عام 1969 حيث درس التصوير والمونتاج. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن"، و"فلسطين سجل شعب"، و"شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب"، و"وطن الأسلاك الشائكة". وقدّم روائياً "الزيارة" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و"اليازرلي" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض،  ولم يعرض كاملاً إلا عام 2010. له العديد من المؤلفات النقدية والبحثية منها: "فلسطين في السينما"، و"المرئي والمسموع في السينما"، و"مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم"، و"مونوغرافيات في الثقافة السينمائية".


------------------------------------------------

المصدر : موقع اوكسجين 
تابع القراءة→

0 التعليقات:

عرض مسرحية "أرض لاتنبت الزهور" ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

شهد يوم  الأحد العرض المسرحي "أرض لاتنبت الزهور"، برئاسة الفنان مجدي صبحي، ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته 14 تحت شعار" المسرح العربي حفاظا على الهوية ودفاعا عن الغد"، وذلك علي خشبة المسرح الكوميدي، بحضور مؤسس ومدير المهرجان الدكتور عمرو دواره، والامين العام للمهرجان عصام عبد الله، ولجنة التحكيم ولجنة التحكيم بالمهرجان برئاسة الفنانة نادية رشاد، وعضوية العراق المخرج راسم منصور، والفنان الليبي فتحي كحلول، والمغربي عبدالرحمن زيدان، والأردني ماهر قماش.

وتدور احداث العرض المسرحي حول السلام والحب والحرب ألقى الضوء على صراع طويل الأمد بين مملكتين وبحار من الدم وتوريث الثأر والقتل والحقد بين الشعوب والحكام ومن المستحيل أن تأتي لحظة وتتحول نهر الدم إلى الزهور الذى يرويها الحب".

عرض "ﻻ تنبت الزهور"، تاليف محمود دياب روؤيه واخراج ابراهيم احمد بطولة نانسى نبيل،صابر عادل، اسلام على، فادى ايمن،نادين خالد، نغم محمد، اميره فوزى،ايه شعبان،سلمى صلاح،احمد علاء رئيس الفريق اميره فوزى ديكور احمد فتحى دراما حركيه نادين خالد، اضاءه،محمود طنطتاوى،اعداد موسيقى اسلام على مخرج مساعد رنا ناصر مخرجان منفذان نانسى نبيل،اسلام على مصحح لغوى مصطفى سعيد اكسسورات وملابس ومكياج لبنى المنسى.

------------------------------------------------
المصدر : الفجر الفني 
تابع القراءة→

0 التعليقات:

عبد الستار ناصر مسرحياً / اياد نصار

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

كتب القاص والروائي العراقي عبد الستار ناصر في إحدى قصصه القصيرة بعنوان دبابيس وأمراض: "على خشبة المسرح كان إمبراطوراً متوّجاً على نصف الكرة الأرضية يصغي إليه ملايين البشر وتخاف من سطوته وقسوته الشعوب. لكنه عندما عاد إلي بيته الفقير كانت زوجته تصرخ به وتسأل عن سبب تأخره كل ليلة؟ فأجابها بصوت منكسر خائف ذليل: لكنك تعرفين يا زوجتي أن الإمبراطور لا يموت إلا بعد الساعة العاشرة ليلاً!" وربما قليلون من يعرفون أن "إمبراطور" القصة العراقية لا يظهر بقناعه المسرحي الا للقلة الذين يعرفون مدى عشقه للمسرح أو لمن قرأ كتابه الذي أصدره عام 2007 بعنوان "مسرحيات عراقية: قراءات في المسرح العراقي المعاصر". وقليلون من يعرفون أنه نفسه قد ألف عدداً من المسرحيات ضمّن منها ثلاثاً في الفصل الخامس الاخير من الكتاب.

منذ أن أصدر مجموعته الاولى في بغداد بعنوان "الرغبة في وقت متأخر" عام 1968، فقد إستمر إبداع عبد الستار ناصر القصصي والروائي والنقدي والسيري منذ ذلك الحين ولم يتوقف حتى بلغ لغاية الان خمسين كتاباً تُرجم العديد منها وخاصة مجموعاته القصصية الى عدة لغات. لقد عرف عنه غزارة الانتاج الذي بلغ معدلاً يصل الى نشر كتاب كل عام رغم أنه أنتج في بعض السنوات ثلاثة كتب. وساهم حضوره السردي والنقدي في المؤتمرات والندوات وكتاباته المنشورة في الصحف والمجلات بتعزيز مكانته الادبية في الساحة الثقافية. لقد عُرف عبدالستار ناصر كأحد أهم الاصوت العراقية وخاصة في القصة في الربع الاخير من القرن العشرين. بل إن مساهماته في الادب العراقي المنفي خلال العشرية الاولى من القرن الواحد والعشرين التي شهدت خروجه من العراق عام 1999 وإنتقاله للاقامة في عمان والتي بلغت سبعة عشر مؤلفاً ما بين مجموعة قصصية ورواية وسيرة ذاتية ونقد لا تقل أهمية عن أعماله الاولى.

تميط هذه المقالة اللثام عن الوجه الاخر لعبد الستار ناصر ذلك العاشق الحقيقي للمسرح الذي تجلى في مداومته على حضور المسرحيات العراقية على خشبة المسرح على امتداد عشرين عاما، والناقد المتأمل بعيون تهتم بتفاصيل العمل المسرحي والغوص في أعماقه، مستنداً الى ثقافة مسرحية، تجلت في كتاباته النقدية بحسٍّ فني وتحليليّ عالٍ وجريء. لقد تابع عبد الستار تطور المسرح العراقي المعاصر تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً عن كثب من خلال لقاءاته ومناقشته للاعمال المسرحية مع فرق العمل من الممثلين والمؤلف والمخرج. وقد توج ذلك بخوضه تجربة الكتابة المسرحية حيث كتب ثلاث مسرحيات قصيرة من فصل واحد.

كتب عبد الستار عن المسرحيات التي كان يحضر عرضها مقالات نقدية قصيرة لا تخلو من النقد اللاذع أحياناً مثل مسرحية (بين المالك والمملوك، ضاع التارك والمتروك) لمؤلفها ومخرجها قاسم محمد الذي أمعن في نقدها وتشريحها ليس بدءاً من العنوان الذي لم يستسغه ولا نهاية بالمضمون الذي قال أنه لم يكن جديداً بل مطروقاً كثيراً من قبل المسرح العالمي أو المصري أو مأخوذاً من مسلسلات وأفلام سينمائية، أو مثل مسرحية (الرهن) لمخرجها عبد الامير شمخي التي يقول أن المخرج ذبحها من الوريد الى الوريد بينما هي تتكيء أصلا على قصة رائعة هي "الوجه الاخر" لفؤاد التكرلي. وهنا يؤكد على ضرورة التفريق بين نص جيد ومسرحية رديئة. كما لم تخل مقالاته من نقده القاسي حينما كانت تبدو له بعض الاخطاء أو السقطات في الاخراج المسرحي أو في اضطراب الرؤية لدى المؤلف وخاصة في المسرح التجريبي. كما تنطوي على نقد لبعض المسرحيات التي تسيطر عليها لغة الخطابة أو يؤثر الديكور سلباً على انطباع المشاهد بحيث لا يتيح له الوصول الى المعنى.

يعرض عبد الستار في هذه المقالات نظرته لمضمون تلك المسرحيات وأنواعها والقضايا التي تناولتها ونجاحها التمثيلي والاخراجي وهموم أبطالها كما ينظر إلى تفاصيل المشهد المسرحي ككل مثل لوحات المشاهد والصوت والمؤثرات والديكور والاضاءة ، ويتحدث عن أداء الممثلين وجوانب الابداع أو القصور فيه! لقد شكلت كتاباته هذه ذاكرة تاريخية تحفظ صفحات تكاد تضيع من مسيرة المسرح العراقي منذ نهاية الحرب العراقية الايرانية في أواخر الثمانينات وحتى نهاية التسعينيات مما حدا به الى نشرها في الكتاب الذي صدر في عمان عن دار ورد للنشر والتوزيع عام 2007.

إشتمل الكتاب الذي جاء في 230 صفحة على مقالات غطت إثنتين وثلاثين مسرحية عراقية طوال عشرين عاماً بالاضافة الى مسرحياته الثلاث في آخر الكتاب وهي: (أول حرب جميلة) عام 1993، و(الخمرة لا تسكر الموتى) عام 1999، و(جمهورية العوانس) عام 1993. وقد قسم الكتاب الى خمسة أقسام. تطرق في القسم الاول الى محاولات التجريب المسرحي العراقي في مقاربات المسرح التعبيري والمسرح الايمائي، وفي القسم الثاني تطرق الى عرض ونقد مسرحيات تركت تأثيراً في الذاكرة، وفي القسم الثالث الى نماذج من المسرح الشعبي، وفي القسم الرابع الى مسرحيات بلا جمهور. أما القسم الخامس فقد إشتمل على مسرحياته.

ويلاحظ أن كثيراً من المقالات في الكتاب تتسم بالقصر والايجاز بحيث لا تتوقف كثيراً عند تقديم عرض أو ملخص لأحداث بعض المسرحيات. وقد يكون ذلك مفهوما بالنسبة له أو لمن حضر تلك المسرحيات في تلك الفترة، وخاصة جمهور المسرح العراقي ولكن أعتقد أنه بالنسبة للقارىء العربي الذي يعتمد على الكتاب كمادة أساسية للتعرف على تلك المسرحيات فسوف يفتقد هذا الجانب، حيث إهتمت المقالات بتناول بعض الجوانب الفنية أو الاخراجية مباشرة دون تمهيد، مما يزيد من صعوبة الامر على القارىء الذي لم يشاهد المسرحيات.

يبدو في القسم الاول إهتمام عبد الستار بوضع القارىء في جو المسرحيات كالحزن والجنون. وهكذا يصبح بطل الحرب هو المجنون الذي يحاول أن يبدو عاقلاً، وكل شيء من حوله هو وهم، كما في مسرحية المونودراما (يا طيور). تقدم المسرحية مشاهد مجنونة من العبث البشري في مصير الانسان. وتصبح الحياة في مسرحية (أحزان مهرج السيرك) لعبة لا يبتسم فيها المهرج بل يبقى يموت ويولد في دورة متواصلة لتجسيد الشقاء الانساني الباحث عن الحرية، ويلعب صوت البيانو وحركات الممثل دورا كبيراً في المسرحية التعبيرية الصامتة. وفي (هاملت) لناجي عبد الامير لم يعد البطل هو هاملت الشكسبيري بقدر ما هو رؤية المخرج لشخصية هاملت كما يريد أن يتخيلها هو، فضاعت ملامح البطل الاساسية بين أكوام من الفوضى والصراخ، كما ضاع النص الشكسبيري الاصلي.

في القسم الثاني (مسرحيات في الذاكرة) يتحدث عن عودة بغداد الى التألق المسرحي بعد فترة الحرب العراقية الايرانية الطويلة وبعد حرب الخليج الاولى من خلال المهرجان المسرحي الثالث عام 1992. يتناول عبد الستار عشر مسرحيات مهمة مثل (ترنيمة الكرسي الهزاز) التي أعادت له الثقة بقدرة المسرح العراقي على تجديد نفسه والتألق بفضل تكامل إبداع فريقها. مسرحية تتحدث عن المجد الذي ضاع والحنين للماضي الذي لا يعود بل يخلف اليأس والانتظار والشوق من خلال قصة إمرأتين: واحدة مطربة مشهورة تحلم بمجد سابق، والاخرى تنتظر حبيباً غائباً لن يعود. ويشيد بشكل خاص بمسرحية رأى فيها انبثاقاً جديداً للمسرح العراقي بفضل الابداع والتكامل بين الكاتب والممثل والمخرج وهي مسرحية (نديمكم هذا المساء) للمخرج محسن العزاوي التي استطاعت أن تضحك الناس في زمن البكاء.

أما مسرحية (الباب) لمخرجها قاسم محمد وشاعرها يوسف الصائغ فقد أثرت فيه كثيراً. إنها مسرحية صراع الحياة مع الموت عبر أجساد مسجونة وآمال مخنوقة وجوع ورغبات عندما دخل البطل الى المقبرة على وعد من المدعي العام أن ينقذه بعد يومين ولكن الوعد بقي كذبة كبرى، حتى جاءت إمرأة ودخلت معه في تجربة القبر لتثبت ان إرادة الحياة أقوى من الموت.

يكتب عبد الستار بلغة نقدية تتناول مدى ارتباط النص كما وضعه المؤلف بالعمل المسرحي ليرى مدى نجاح المخرج في التعبير عن رؤية الكاتب ومدى ما يضيف المخرج من عمق للنص. وتدل مقالاته على الاحاطة بجوانب من تاريخ المسرح العالمي ومقولاته التي يستشهد بالكثير منها، كما تمتاز بالجرأة في النقد والطرح كما فعل في أكثر من مسرحية، ألا أننا نلاحظ أنه يعود ليصف بعض المسرحيات التي أشبعها ذماً واستغراباً لفشلها مثل مسرحية (الرهن) بأنها كانت ممتازة!

يعد الكتاب وثيقة نقدية تاريخية عن مسرحيات تلك الفترة التي تأتي على ذكر أغلب أسماء ممثلي وممثلات المسرح العراقي ومخرجيه. فتراه يشيد بأداء صلاح القصب وعوني كرومي ومقداد عبد الرضا وسامي قفطان وسامي عبد الحميد وعزيز خيون وعواطف نعيم وهناء محمد وسعدية الزيدي وعواطف السلمان وفاضل خليل ومحسن العزاوي وجواد الشكرجي وقاسم محمد وناجي عبد الامير وشفيق المهدي ويوسف العاني وخليل شوقي وغيرهم.

لا يمنع عبد الستار عدم رضاه عن أداء بعض الممثلين المنهك أو الخارج عن سياق الحالة المسرحية وجو المشهد أو التقليدية في موضوع المسرحية أو في اختيار العناوين المكرورة مثل مسرحية (الف حلم وحلم) من الاشادة حينما يجد ذلك لزاماً بمجمل العمل والنص وحرص المخرج على متابعة تفاصيل المسرحية أثناء البروفات. يقول في تأصيل منهج نقدي: "لعل أسوأ ما نفعله في نقدنا المسرحي هو أننا نطمر الاحساس بما رأيناه ونحاول أن نقول كلاماً لا علاقة له بالعمل الفني الذي رأيناه". ويرى أن المسرح العراقي يفتقد للنقاد الحقيقيين وأن كل ما يكتب هو مجرد إنطباعات عابرة وقصاقيص أفكار وحتى مقالاته هو يعتبرها نوعا من الانطباعات الشخصية ليعفي نفسه من أداء دور الناقد المسرحي وتبعاته.

وفي المسرح الشعبي تستوقفه أعمال محسن العلي الذي يضيف حساً ولوناً للوحة الشعبية التي يرسمها البسطاء من عامة الناس. يتحدث بلغة استبشارية عن مسرحياته (بيت وخمس بيبان) و(مقامات أبو سمرة) و(أطراف المدينة). يبحث عبد الستار عن معاني المسرحيات في لغتها ومشاهدها وديكورها ضمن الموروث الشعبي. لكنه يتطرق لهذا الجانب بايجاز سريع، حيث نراه مغرماً أكثر بالحديث عن أداء كل ممثل وممثلة، وفي أغلب المقالات هناك دائما حيز للحديث عن أداء الممثلين وخاصة الذين يشعر أنه يكتشفهم لأول مرة بفضل أدائهم المقنع.

أما في الفصل الرابع فهو يتحدث عن خمسة أعمال مسرحية بلا جمهور وذات قيمة فنية عالية. (الربح والحب) تعكس مدى تعب الممثل في ابراز الدور وإعطائه شيئاً من الروح. تتحدث المسرحية عن الاستغلال وتهريب العملة الى خارج القطر وامتهان كرامة المرأة لاجل الربح. (السيف والطبل) مسرحية تاريخية كبرى عن الصراع العربي- الفارسي أيام الاشوريين، ومسرحية (بيت أبو هيلة) عن الاحتلال الانجليزي للعراق والتطورات السياسية انتهاء بحرب الخليج، ولكنها لسوء الحظ لم تحظ بالوقت ولا بالمكان ولا بالجمهور الذي يناسبها لأنها جادة في خضم إنشغال المسرح بتقليد النماذج الرديئة من المسرح المصري.

سأتوقف عند المسرحيات الثلاث التي ألفها عبد الستار ناصر بشيء من التحليل لمعرفة كيف انعكست الافكار النقدية التي طرحها في كتابه على مسرحياته، نصاً بالطبع لكونها لم تمثّل. تفتتح المسرحية الاولى (أول حرب جميلة) بمشهد قصر أرستقراطي باذخ في نهاية حرب في مكان ما، ويضم كل خدم وحراس القصر وسيدته الوحيدة. يوظف عبد الستار في هذه المسرحية موسيقى الناي الحزينة لخلق الاحساس بالحزن والضياع والتشتت.

يجري الحوار بين شخصيتي المسرحية الاساسيتين وهما المرأة ساكنة القصر في الخمسينات من العمر والرجل الاربعيني الممتزج بالوسامة الغامضة. ويشعر الرجل بحسرة وألم من واقعه وهو يرى فخامة القصر. ولكن تأملاته للقصر ووقوفه قريباً منه تثير حفيظة السيدة وخادمتها. تحاول الخادمة تهديده ليترك المكان ، ولكنه يصر على البقاء. ثم تظهر السيدة وهي تدخن محاولةً إقناعه بذات الشيء. لكنه يبقى صامتا يتأمل في القصر. تحتار السيدة من يكون هذا الغريب الذي ينظر الى بيتها إن كان لصاً أم ماكراً أم تقياً ورعاً. ولكنه يؤكد بكل قوة وثقة إنه بسيط وحكيم. ولكن المرأة تستهجن أن يكون حكيما بملابس رثة. فتقول بلهجة ساخرة إن كان للبيع أم للشراء؟ ولكنه يؤكد أنه انسان طبيعي يكره المواعظ والحكماء. يلاحظ هنا الارتباط بالمكان والنزاع حوله لأنه يشكل قيمة كبيرة لكل منهما. ويلاحظ أسلوب السخرية والمنع من الوصول اليه الذي تقوم به السيدة مما يوحي بارتباط الرجل الروحي بالمكان.

تشعر المرأة بالاستياء لأنها يعاملها بطريقة توحي لها بأنها رخيصة. فهو يؤكد أنه رأى رجالا كثيرين يدخلون ويخرجون من عندها. وفي المقابل يوحي كلامه عن المعاناة أنها لم تعرف أو تعش معاناة كما عاشها واختبرها هو. وفي النهاية تطلب المرأة طرده من المكان لأنه تمادى، بينما هو يؤكد بصوت قوي واثق أن ذلك البيت هو بيت أبيه وجده.

واضح في هذا الحوار فكرة الصراع حول الارض والتمسك بها. فالسيدة في نظره لم تعرف معنى الحرمان ولا تبدد العمر بلا حلم. بل تسخر من أنات الاخرين وهي تنظر اليهم. ويظل الرجل يؤكد أن الارض التي عاش فيها طفولته وصباه له.

يبدو البعد الرمزي السياسي واضحاً في المسرحية في الايحاء باغتصاب فلسطين من قبل اليهود الذين احتلوا القصر الجميل ، والذين جاءوا من مختلف أنحاء الدنيا وأقاموا على الارض المغتصبة دولتهم التي صارت مثل سيدة القصر التي احتلته. يقول الرجل في أحد مقاطع المسرحية في إشارة لتوالي هجرة اليهود الى فلسطين: "رأيت الكثير من الرجال وهم يدخلون". ويؤكد الرجل أنه "يحب الزعتر والزيتون والزعفران" في إشارة للارض الفسطينية ومفردات رموزها. يؤكد بطل المسرحية الذي يرمز الى الشعب الفلسطيني أنه طالب حق: "لا أحب الغزوات .. أنا رجل بسيط " ويقول: "إنه بيتي أنا.. عشت فيه طفولتي وصباي".

وفي حوار يغلب عليه الكلام المؤثر الذي يصل حد البكاء من الحنين يقول الرجل إنه لا يعرف ماذ حل بشجرة الرمان على أيديهم. ويخشى أن يكونوا قد قطعوها في إشارة الى محاولات طمس الهوية الفلسطينية والتهويد والغاء كل ما يجسد علاقة الفلسطيني بأرضه.

تنساق لغة المسرحية أحيانا وراء الخطابة والمباشرة. يقول في هذا المقطع الذي غلبت عليه التقريرية والمعالجة التعبوية "كلا سيدتي في الحرب لا نقتل النساء. إننا نفكر في إعادة الحق الى أهله. إعادة الحق من مغتصبيه. وهذا البيت هو الحق الوحيد الذي أريد. بل وأعطيك الحق في البقاء فيه". في نهاية المسرحية ترمي المرأة المفتاح للرجل لكي يدخل ، ولكنه مندهش لا يصدق وتنتهي المسرحية حينما يضع مفتاح الباب فيه ليكتشف أن المفتاح بدون نتيجة للاشارة الى أن الصراع قائم وأن الحل السلمي مجرد وهم وأن العودة ما تزال غير ممكنة ورهن المستقبل.

في مسرحية (الخمرة لا تسكر الموتى) تبدو الاجواء العراقية الشعبية كالطابوق والشناشيل، ولكن كل شيء في المكان خَرِب مهدّم وممزق. رجال ونساء وأطفال يروحون ويجيئون في ملابس رثة وعلى عكازات خشبية ويبدو عليهم الغضب والخوف ، بينما يقف بينهم جنرال بنياشين وأوسمة وهو يضحك. ومن خلفه تبدو صورة زجاج مهشم وخلفها صورة للجنرال ذاته وهو يضحك وقد بدت أنيابه المفترسة. توحي الحركة والاصوات والانفجارات والحطام بأن حرباً ما تزال دائرة.

(الخمرة لا تسكر الموتى) مسرحية باللغة الشعبية العامية العراقية تنتقد إدعاءات النصر والبطولة والصمود التي لا تقنع أحدا لأن الكل ضحية لم تعد تعنى له النتيجة شيئاً سوى الموت. مسرحية سياسية ناقدة وساخرة وواقعية مباشرة حيث تبدو الاشارة واضحة الى الحرب على العراق في عهد صدام حسين. وقد كتبها عبد الستار عقب خروجه الى الاردن عام 1999. وقد جسد فيها أجواء الديكتاتورية والحرب والمعاناة والحصار والقصف الرهيب الذي عانى منه العراقيون بينما يبدو النظام في نشوة مجدٍ من التسلط.

تظل جميع الشخصيات تنظر بين حين وآخر الى السماء دلالة على الشكوى والمعاناة وغياب أي أمل في انقاذهم من الآخرين فلم يبق سوى انتظار السماء بما يذكرنا بالمسرح العبثي في مسرحية (في انتظار غودو) لبيكيت.

تبدو اللغة الساخرة في المسرحية واضحة ، فحين تسأل احدى النساء رجلاً إن كانوا قد خسروا الحرب أم لا، فيقول لها بسخرية أن النتيجة لم تحسم بعد رغم كل الخراب الذي حل!
هناك دور يقوم به شخص مجنون يرد على الاخرين يحاول نفي الهزيمة! تبدو السخرية والمفارقة واضحة بأن من يدعي النصر والصمود هو المجنون!

تبرز في المسرحية شخصية الحاج محمود الذي فقد أولاده الثلاثة بالحروب ولم يعد لديه أمل بالعيش ولم يعد يصدق كل ما يقوله الاخرون عن التفاؤل والنصر. بل ينتقد صمت الشعب الذي يساق أبناؤه الى الحروب بينما يبقى خانعاً في أجواء من الخوف والبوليسية. ولكن يتحرر الحاج محمود من خوفه وينادي بسقوط الجنرال فيتعبه الاخرون مرددين الشعارات ذاتها ، وهكذا تهتف المدينة بصوت واحد في إشارة الى التفكير بالثورة. ولكن مجموعة من العسكر الذين جاءوا من الخارج يفتحون النار على الجميع فيسقطون جميعهم مضرجين بدمائهم وتسقط صورة الجنرال بينما يُسمع طفل يولد ويأخذ بالصراخ بينما تسدل الستارة.

تفتتح مسرحية (جمهورية العوانس) بمشهد تعبيري جميل يطرح الأمل المنتظر الذي تبحث عنه المرأة العانس وسط ظلام الوحدة ووحشة الحياة. تظهر شمعة وسط ظلام دامس وبجانبها امرأة، يتبعها شمعتان وامرأتان، ثم ثلاث شمعات وثلاث نساء، وهكذا حتى تصبح تسع. ويدل منظر الوجوه على الحيرة والضياع والتيه. تعكس شخصيات النساء العوانس جميع أنماط النساء العوانس فهناك الطبيعية المنطقية، وهناك المرتبكة الخائفة، وهناك الحالمة، والمتسلطة، وصاحبة الصوت الحسن التي تغني وقت الازمات، والمتشائمة والحزينة واللامبالية، والمخطوبة من شهيد. بينما يوجد رجل وسيم أعرج واحد وهو هارب من السجن.

تطرح المسرحية مأساة الحرب وويلاتها التي تبدد النسيج الاجتماعي وتأكل الرجال فلا يبقى غير العوانس المستغرقات بالشكوى وفلسفة القضية. لاتحمل العوانس أسماءً بل أرقاماً تعرف بهن للدلالة على الاغتراب عن المكان وفقدان الاحساس بالذات والضياع وابراز أن المشكلة في جوهرها واحد وان اختلفت الارقام. يشكل قدوم الرجل الاعرج الهارب من السجن فرصة لكل واحدة من النسوة للبوح بمشكلتها. يمثل حضور الرجل إشكالية للنساء بينما يرى هو في ذلك سجناً من نوع آخر:
- من سجن الى سجن، لا فرق بين ما هربت منه وما جئت لأجله، لا فرق كلها سجون.

ولعل العانس رقم (7) تلخص القضية برمتها حين تقول: "دعونا نسأل الشهداء، إنهم يعرفون القضية كلها". تنتاب النساء أحلام يقظة فيتخيلن أن الاعرج قد صار حبيب كل واحدة. ولكن حتى في الاحلام تخطر لهن الخيانة والغدر .

تخرج العوانس من المسرح في إشارة رمزية الى غيابهن عن مسرح الاحداث الى زوايا النسيان، في حين يضاء المسرح ويبقى الرجل وحده الذي يحس أنه لا يستطيع العيش في النور. وفي مشهد رمزي يظهر فراش أبيض يغطي نصف المسرح ويتلوث بالدم وتسقط النساء عليه. ويقول الرجل إنه سيدخل سجنه الاخير وحينها يسمع صوت أطفال يولدون.

تابع القراءة→

0 التعليقات:

مسرح الزنوج في أمريكا / أنيس فهمي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 03, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

في القرن التاسع عشر بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة درامية تتمثل في مسرحيات كتبت بوساطة الزنوج ومن أجلهم وحولهم. ويعتبر بعض النقاد أن عروض المغنين المتجولين في أوائل القرن التاسع عشر هي الجذور الحقيقية لمسرح الزنوج أو المسرح الأسود في أمريكا الشمالية. ولكن في البداية كانت هذه العروض يكتبها ويمثلها البيض بوجوه سوداء ويشاهدها أيضا البيض.
وبعد الحرب الأهلية الأمريكية بدأ السود يشتركون في عروض المغنين المتجولين ثم أنتجوا بعد ذلك عروضاً موسيقية سوداء كان الكثير منها يقوم السود بكتابتها وإخراجها وتمثيلها وقد عرضت في عام 1823 أول مسرحية كتبها زنجي أمريكي يدعى جيمس براون بعنوان (الملك شوتاواي), ثم كانت مسرحية (قفزة من أجل الحرية) هي أول مسرحية سوداء نشرت عام 1858. أما أول مسرحية سوداء حققت نجاحاً كبيراً فهي مسرحية (راشيل) عام 1916.
ومع حلول العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بدأ النمو الفعلي للمسرح الأسود بظهور مجموعات تجريبية وفرق مسرحية سوداء في شيكاغو ونيويورك سيتي ومدينة واشنطن. وكانت مسرحية (مظاهر) عام 1925 للكاتب الزنجي جارلاند أندرسون هي أول مسرحية عرضت في برودواي, وهو أكبر حي للمسارح في نيويورك سيتي. وبحلول عام 1940 كان المسرح الأسود قد ثبتت أقدامه في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد الحرب العالمية الثانية نما المسرح الأسود وتقدم كثيرا وأصبح أكثر راديكالية وأكثر قوة وحماسا, وبدأ يعكس مثاليات ثورة زنجية تحاول نشر ثقافة زنجية لها أساطيرها ورموزها الخاصة بعيدا عن ثقافة البيض, وأنشئت مجامع لمحو استخدام القوالب والشعارات العنصرية في المسرح وإدماج كتّاب مسرح الزنوج في التيار الأساسي للدراما الأمريكية. وقد صورت مسرحية (زبيب في الشمس) وغيرها من المسرحيات الناجمة في الخمسينيات من القرن الماضي الصعوبة التي يعانيها الزنوج في تدعيم هويتهم في مجتمع يحتقرهم وينبذهم.
وبحلول عقد الستينيات من القرن العشرين انبثق مسرح أسود جديد أكثر غضبا وأكثر تحدياً من المسارح السابقة, عرضت فيه مسرحيات الزنجي (بَرَكة), ومن بينها مسرحية (الدوق) التي حصلت على جائزة في عام 1964, والتي صورت بصراحة وجرأة استغلال البيض للزنوج. وينسب لهذا الكاتب المسرحي الفضل في إنشاء ( مسرح تراث الفنون السوداء) في هارلم (حي الزنوج في نيويورك سيتي) عام 1965, كما أنه شجع كتّاباً آخرين على خلق حركة فنية سوداء في المسرح الأمريكي.
والآن نصل إلى أوجست ويلسون وهو أكثر الكتّاب المسرحيين قوة وإنتاجا وأهمية في إحداث حركة بعث جديدة في المسرح الأسود في الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن.
أوجست ويلسون
أوجست ويلسون الزنجي الأمريكي كاتب مسرحي وشاعر وكاتب مقالات فاز مرتين بجائزة بوليتزر, وهي أرفع جائزة أدبية أمريكية, وهو من أبرز كتاب المسرح في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولد في عام 1945 في منطقة تدعى (التل) تسكنها أجناس مختلفة في مدينة بتسبورج بولاية بنسيلفانيا. أبوه خباز أبيض من أصل ألماني, وأمه زنجية تعمل عاملة نظافة, وهو الرابع من ستة أطفال, وتربى في شقة من غرفتين خلف مخزن للبقالة. وكان أبوه يعمل في منطقة بعيدة ونادراً ما كان يراه أوجست.
بعد طلاق أمه وزواجها مرة ثانية انتقل مع أسرته إلى ضاحية كل سكانها من البيض حيث عانى كثيراً الاضطهاد العنصري. وفي عام 1961 اتهم ظلماً بسرقة أدبية لمقالة كتبها عن نابليون فطرد من كلية جلادستون. ولما فشل في العثور على عمل يرضيه التحق بالجيش عام 1963, وبعد عام اشترك في شجار حاد كان سبباً في تسريحه من الجيش.
وفي أول أبريل من عام 1965 قرر أوجست أن يصبح كاتباً فاشترى أول آلة للكتابة. وفي أواخر هذا العام انتقل إلى منزل واسع وبدأ في ممارسة سلسلة من الأعمال الحقيرة لكي تساعده في اكتساب قوته.
وفي ذلك العام نفسه اشترك في تأسيس ورشة عمل (بمسرح شعراء سنتر أفينيو) واستمع للمرة الأولى إلى تسجيلات المغنية السوداء (بيسي سميث), التي كان لها تأثير كبير على تصميم أوجست ويلسون على تناول تجربة الزنوج الثقافية والتاريخية في أعماله الأدبية, والتي ظهرت في أولى قصائده الشعرية باسم (بيسي) في صيف عام 1971.
واستمر ويلسون بعد ذلك في صقل مهاراته الأدبية وأصبح عضواً عاملاً في (مجمع الكتّاب الإفريقيين الأمريكيين), وساعد (روب بيني) في تأسيس (فرقة الآفاق السوداء المسرحية).
كتاباته المسرحية
بدأ أوجست ويلسون اتجاهه نحو الكتابة المسرحية في بداية السبعينيات من القرن العشرين. وبعد كتابة عدة مسرحيات لم تلق نجاحاً كبيراً انتقل في عام 1978 إلى سانت بول بولاية مينيسوتا ليكتب مسرحيات للمخرج كلود بيردي ويعمل كاتباً للمادة العلمية لمتحف العلوم.
  وفي العام التالي كتب مسرحية جيتني Jitney وهي من فصلين وتصور حياة السائقين في بتسبورج, وعرضت في عام 1982.  وفي عام 1981 تزوج أوجست ويلسون زوجته الثانية (جودي أوليفر) وهي أخصائية اجتماعية بيضاء تعمل بإدارة التعليم المحلية.
مسرحية (مِقْعَدَة مارايني السوداء)
عرضت هذه المسرحية في برودواي عام 1984 ولاقت ترحيبا كبيرا من النقاد ودفعت ويلسون إلى أضواء الشهرة. كانت ما رايني مغنية جاز أثرت على بيسي سميث التي صممت الكثير من الاستعراضات الكلاسيكية. تدور أحداث المسرحية بمدينة شيكاغو عام 1920, وفيها تظهر ما رايني بطلة الاستعراض مع الموسيقيين الذين يكونون خلفية لها. كانت ما رايني تقول عن موسيقى فرقتها (الشعوب البيضاء لا تفهم موسيقى البلوز. إنهم يسمعونها ولكنهم لا يعرفونها, إنهم لا يعرفون أنها طريقة للكلام في الحياة. إننا لا نغني لكي نشعر بالراحة. إننا نغني لأن الغناء هو طريقة لفهم الحياة).
وبهذه المناسبة نذكر أن البلوز نوع من الغناء المثقل بأحزان السود والأفارقة معا الذين جلبهم البيض بالقوة إلى القارة الأمريكية ليكونوا عبيداً لهم. والبلوز هو أقرب إلى الندب والمراثي الذاتية.
يتناول موضوع المسرحية الاستغلال الاقتصادي للموسيقيين الزنوج بواسطة أصحاب شركات التسجيل البيض, والوسائل التي يتبعونها ليدفعوا الزنوج, ضحايا التمييز العنصري, لتوجيه غضبهم وكراهيتهم إلى بعضهم البعض بدلا من توجيهها إلى مستغليهم وأعدائهم من البيض, كما أن المسرحية تواجه الأضرار التي تنتج من توجيه هذه الكراهية توجيهاً خاطئاً. إن ليفي بطل المسرحية لا يتقبل تخليص ميراثه من المغتصبين, بل يذبح الرسول الأسود الذي يذكره بالأوضاع السيئة والاضطهاد العنصري. إن ليفي يقتل توليدو بدلاً من الرجال البيض الذين اغتصبوا أمه, وأولئك الذين يرفضون موسيقاه الآن.
وبفضل هذه المسرحية تعرّف ويلسون على لويد ريتشاردز, وهو رجل أسود يعمل مديراً فنياً لمركز يوجين أونيل المسرحي, الذي يعمل أثناء الصيف ويقوم باكتشاف وتشجيع الكتّاب المسرحيين الموهوبين.
ومن بين أكوام هائلة من النصوص التي عرضت على ريتشاردز التقط مسرحية (مارايني) التي قال عنها: (لم أكن قد سمعت أبداً عن أوجست ويلسون, ولكن مسرحيته عن الموسيقيين الزنوج في شيكاغو في العشرينيات تحتوي على شخصيات مليئة بالحيوية إلى حد أنه خيِّل إليّ أنني أعرفهم).
وقد مد ريتشاردز يد المساعدة لويلسون ليضع مسرحيته في صورتها النهائية, وعرضها في مسرح (ييل للريبرتوار) الذي يديره. وفي عام 1984 قدمت هذه المسرحية في برودواي مائتين وخمسا وسبعين ليلة ونالت جائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), وقالت عنها جريدة (نيويورك تايمز): (إنها تقرير لاذع عما تفعله العنصرية البيضاء بضحاياها, وهي أيضا مسرحية حسِّية مسلية غنائية مملَّحة).
مسرحية (سياجات) أو (أسوار) FENCES
انضم ويلسون إلى (الكتّاب المسرحيين الجدد) بنيويورك سيتي عام 1983. وقد أراد ويلسون أن يثبت للنقاد أنه يستطيع أن يقتفي أثر الشكل التقليدي للدراما الأوربية الأمريكية بالتركيز على شخصية واحدة أساسية, فأنتج مسرحية (سياجات) التي يدور موضوعها حول صراعات أسرة من الطبقة العاملة لتحصل على الأمان الاقتصادي في الخمسينيات من القرن الماضي.
إن تروى ماكسون, الزنجي جامع القمامة ولاعب كرة البيسبول سابقاً, قلق أشد القلق لأن التفرقة العنصرية لن تسمح لابنه بالانتفاع بمنحة كرة القدم التي حصل عليها ابنه.
ومسرحية (سياجات) تعرض شريحة من الحياة في مبنى يشتمل على عدة شقق تسكنها العائلات الفقيرة بمدينة بتسبورج في أواخر الخمسينيات وحتى عام 1965. إن تروي ماكسون يفخر بأنه حافظ على إعالة أسرته, ولكنه يشعر بالإحباط والتمرد عندما يكافح من أجل تحقيق المساواة في مجتمع لا يؤمن بها. ولذلك, فهو يبني سياجاً حقيقياً حول منزله ويبني سياجات مجازية بينه وبين كل شخص آخر في المسرحية.
إن تروي يصارع فكرة الموت الذي يعتبره شيئاً يمكن التعامل معه, أما رمز البيسبول BASEBALL فيستخدم كتعبير مجازي عن الموت خلال المسرحية كلها. إن الإحباط الذي صادفه في ممارسة لعبة البيسبول في الاتحادات الرياضية للزنوج يؤثر على علاقته بابنه كوري CORY
إن ويلسون يستعرض في هذه المسرحية العلاقة بين الأب والابن كجزء محوري, وهذه العلاقة تتعقد بفعل تصادم المشاعر القوية بالفخر والاستقلالية من الجانبين.
أما علاقة الأب تروى بزوجته (روز) فلا تخلو من مشكلة خطيرة, فإن خيانته لزوجته وعلاقته بامرأة أخرى أنجب منها طفلاً تضطر زوجته لإعالته, يحطم حياته الزوجية تماما.
وفي نهاية المسرحية جميع الشخصيات تستضيفها المؤسسات الخاصة أو الحكومية. فالزوجة تلجأ إلى الكنيسة, وإحدى الشخصيات تقضي بقية حياتها في إصلاحية الأحداث, وأخرى في مستشفى للأمراض العقلية, والابن يلتحق بالمارينز الأمريكية. أما الشخصية الوحيدة التي تظل حرة فهي ابنة تروى التي ترمز إلى الأمل في المستقبل.
وقد عرضت مسرحية (سياجات) بمسرح ييل للريبرتوار عام 1986, وبعد عرضها بمسرح (الشارع رقم 46) بنيويورك سيتي عام 1987 حازت جائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), وجائزة بوليتزر وجوائز أخرى. وبلغ دخلها اثنى عشر مليوناً من الدولارات, واختارت مجلة (شيكاغو تريبيون) أوجست ويلسون (فنان العام), كما حصل أيضا على جائزة (جون جاسنر) لحلقة النقاد الخارجية باعتباره أحسن كاتب مسرحي.
مسرحية (مجيء جو تيرنر وذهابه)
بينما كانت مسرحية (سياجات) تسجل نجاحاً هائلاً في برودواي عام 1988, افتتح عرض مسرحية (مجيء جو تيرنر وذهابه) في مسرح إيثيل باريمور.
كتب أوجست ويلسون هذه المسرحية عام 1984 ويقول عنها إنها أحب أعماله إليه بالرغم من أنها أقل مسرحياته نجاحاً من الناحية التجارية. وهذه المسرحية تحكي قصة أبناء وبنات العبيد السابقين الذين حاولوا أن يؤسسوا عائلات جديدة في عام 1911 شمال الولايات المتحدة الأمريكية, والكارثة الشخصية والثقافية التي نتجت عن ذلك.
تدور أحداث المسرحية في فندق بمدينة بتسبورج, وهي حلقة من سلسلة مسرحيات حول تجربة السود في أمريكا, وقد فازت بجائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك), كما أضافت مكتبة نيويورك العامة اسم ويلسون إلى قائمة (أسود الأدبLIONS Of  LITERATURE.
مسرحية (درس البيانو)
هذه المسرحية هي مسرحية ويلسون الرابعة التي عرضت في برودواي والثانية التي فازت بجائزة بوليتزر, كما فازت بجائزة (حلقة نقاد الدراما بنيويورك) وجوائز أخرى.
كتبت في عام 1986 وعرضت بمركز أونيل المسرحي ومسرح ييل للريبرتوار عام 1987. وبعد جولة طويلة بالمسارح الإقليمية عرضت بمسرح وولتر كير ببرودواي عام 1990. وأثناء تلك الفترة انتقل ويلسون ليقيم بمدينة سياتل.
تدور أحداث المسرحية بمدينة بتسبورج أثناء الانهيار الاقتصادي في الثلاثينيات من القرن العشرين, وتصور صراع عائلة بشأن إرث عائلي مشترك عبارة عن بيانو قديم مزين بصور محفورة ذات أسلوب إفريقي كان قد حفرها على البيانو جد هذه الأسرة الذي كان نجاراً يعمل عبداً في إحدى المزارع.
وهذا البيانو يشكل حلقة الاتصال بحقبة الرق. وفي هذا الصراع نجد امرأة عنيدة مصممة على الاحتفاظ بالبيانو الذين يمثل ميراثاً عزيزاً من جدها يذكرها دائما بماضي العذاب والألم الذي عاناه الإفريقيون السود, في حين أن أخاها يريد أن يبيعه ليشتري بثمنه قطعة أرض في ميسيسيبي كان أفراد العائلة قد عملوا فيها عبيداً أو مزارعين لقاء جزء من المحصول. ويقوم بين الأخ وأخته صراع يصور أهمية الاحتفاظ بتراث الأجداد. ولكن مهما حدث للبيانو فإن كاتب المسرحية يوضح بشكل جلي أن الموسيقــــى في (درس البيانو) ليست للبيع لأنها تنتمي للناس الذين عاشوها.
مسرحية (قطاران يجريان)
انتخب أوجست ويلسون عضواً بالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عام 1991, وكان قد كتب مسرحية (قطاران يجريان) عام 1989 وعرضت بمسرح ييل للريبرتوار عام 1990, وبمسرح وولتر كير ببرودواي عام 1992 واستمر عرضها سبعة عشر شهراً وفازت بجائزة (جمعية نقاد المسرح الأمريكي). هذه المسرحية تعطي مثلاً حياً لمقدرة ويلسون الفائقة على مزج الكوميديا والدراما والشعر في صورة متلألئة لحياة الزنوج.
إن القطارين في عنوان المسرحية يشيران إلى الخدمة الناقصة للسكة الحديدية بين الشمال والجنوب, كما يرمزان أيضاً إلى الموت والحب اللذين يعرضهما المؤلف بصورة متكررة في المسرحية.
تدور الأحداث في مطعم في أحد أحياء بتسبورج الحقيرة أواخر الستينيات من القرن العشرين. تدخل المطعم شخصيات متعددة لطلب الطعام والصداقة في الوقت نفسه. كل الزبائن من الزنوج وأغلبهم لديهم مشكلات. وأحد هؤلاء الرجال يدعى ينج سترلينج متخصص في سرقة البنوك ويحاول التوبة بعد أن قضى مدة عقوبته في السجن. رجل آخر اسمه هولوواي نقّاش متقاعد يحب الفلسفة.
الرجل الثالث اسمه مستر وست حانوتي المنطقة وأغنى زنجي فيها. أما ريزا فهي امرأة شابة شوهت ساقيها لتبعد عنها المعجبين من الرجال. أما أسوأ الجميع فاسمه هامبون وهو رجل فاسد ضخم الجثة, ثقيل الحركة بشكل محزن, وقد غشه رجل أبيض جزار, باع له فخذ خنزير فاسدا. ولا يكف هامبون عن التجوال في أنحاء الحي وهو يصيح: (أريد فخذ خنزيري). ويحوم حول الجميع شبح العمة إستر وهي امرأة يقال إنها تبلغ من العمر 322 عاماً وتملك القدرة على إزالة جميع المصائب والبلايا إذا ذهب أحد لاستشارتها. ومن خلال جميع هذه الشخصيات يبث أوجست ويلسون أفكاره ببصيرة حاذقة ذكية.
يقول الحكيم العجوز هولوواي: (الناس يقتلونني بالحديث عن الزنوج الكسالى. إن الزنوج أكثر الناس حباً للعمل في العالم. عملوا 300 عام من دون أجر ومن دون أن يستريحوا ساعة واحدة لتناول الغداء).
إن الممثل البارع الذي قال هذه الكلمات يرى أنها تؤكد براعة ويلسون المميزة في استخدام الكلمات ويضيف قائلا: (إنه لا يقل جودة عن يوجين أونيل, وهو ينفذ إلى الأعماق النفسية للشخصية مثل أي واحد من عظماء الكتّاب المسرحيين, كما أنه يعرف كيف يستدعي الذكريات العنصرية بتفوق يثير الإعجاب). إن هولوواي أيضاً هو الذي يقول إحدى العبارات التي لا تنسى بعد أن وقع سترلينج وريزا في الحب… وهي رسالة عن الحب والموت تمثل مفتاح المسرحية. هذه العبارة هي: (الموت يبحث عنكما يجب عليكما أن تبحثا عن الحب). إن الهدف من هذه المسرحية هو التركيز على ضرورة المصالحة مع الماضي قبل محاولة التقدم إلى الأمام.
سبع آلات جيتار
تتناول هذه المسرحية المأساة المفجعة لعازف الجيتار فلويد بارتون وتفتتح أحداثها بجنازته, ثم تعود أحداث المسرحية إلى الوراء بطريقة الفلاش باك, أي استرجاع الذكريات, لتقص أحداث الأسبوع الأخير من حياة فلويد. وهذه المسرحية هي أول إنتاج مسرحي ضخم لأوجست ويلسون من دون إخراج لويد ريتشاردز الذي تنحى عن المسرحية بسبب مرضه.
تدور أحداث المسرحية بعد الحرب العالمية الثانية بمدينة بتسبورج حيث يجتمع بعض الأصدقاء بعد جنازة الطالب فلويد بارتون. لقد انتهت حياة فلويد في اللحظة التي كان على وشك أن يمارس فيها مهنته في عالم (قطع الرقاب), وهو عالم صناعة الموسيقى في المدن. ويتحدث أصدقاؤه عن الملائكة ذوي القبعات السوداء الذين ظهروا في مكان المقبرة وحملوا فلويد معهم. وعندئذ تعود الأحداث إلى الوراء بطريقة الفلاش باك لتسترجع ذكريات الأيام الأخيرة في حياة فلويد.
أثناء عودة فلويد إلى منزله بعد تشييع جنازة والدته وجيوبه فارغة يستوقفه رجال البوليس للقبض عليه بتهمة التشرد ويلقونه في ملجأ للفقراء حيث يكتشف فلويد أن شريط التسجيل لأول أغنية له حقق أكثر المبيعات ولكنه لم يقبض شيئاً من النقود. وبعد الإفراج عنه يصله خطاب من الرجل الأبيض مُنتج الشريط يطلب إليه فيه العودة إلى شيكاغو لتسجيل شريط آخر. ويعتقد فلويد أن هذا الاستدعاء يعني أنه سيصبح نجماً, وكل ما عليه أن يفعله إيجاد طريقة لجمع المال الكافي ليعود إلى شيكاغو مع فرقته الموسيقية.
تجمع أفراد الفرقة الموسيقية في فناء المنزل وأخذوا يغنون بانسجام, كل واحد بصوته المميز, وكل واحد يسبح في ملكوته.
إن هيدلي, المصاب بمرض السل, يحلم بأن بودي بولدن منتج شريط التسجيل, سيعود من نيو أورليانز ويعطيه نقوداً لشراء مزرعة, أما ريد فإنه سيعود إلى شيكاغو (إذا استطاع فلويد أن يحفر له طبوله), وكينويل عازف الهارمونيكا مازال يحلم بالشهرة, ولذلك يريد أن يثبت جدارته.
أما نساء المسرحية اللواتي يقاسين في حياتهن فيغنين للحب الذي فشل. إن فيرا, عشيقة فلويد, تستعيده بعد أن تركها من أجل امرأة أخرى. ولويزه مالكة البنسيون تزعم بأنها لا تريد أي أحد أن يطرق بابها. أما روبي, العاهرة وابنة أخت لويزة, فقد هربت من ألاباما بعد أن قتل أحد الرجال رجلاً آخر لأنه ضبطه وهو يمارس الحب معها.
في هذه المسرحية نجد أن عالماً بأكمله قد تجمع في فناء المنزل الذي يصفه أوجست ويلسون بأنه (حلبة صراع, ميدان قتال, مقبرة, وحديقة ينمو فيها شيء… إنها حياة جديدة, النقطة النابضة للثقافة السوداء في عام 1948).
ويضيف ويلسون قائلا: (إن موقف الزنوج كان مشحوناً بالأمل بعد الحرب. كنا نعتقد أننا عندما نحارب ونموت في سبيل بلدنا فلن نعود مواطنين من الدرجة الثانية. ولكن سرعان ما وجدنا أننا ظللنا موصومين باللون والثقافة. إن المشكلة لا تتعلق باللون, بل بالأحرى تتعلق بأفعالنا التي تضع الأفارقة الأمريكيين في وضع متخلف. إن الحقيقة تتلخص في أننا نتصرف بطريقة مختلفة, ونفكر بطريقة مختلفة, ونواجه العالم بطريقة مختلفة. واختلافنا هذا هو الذي يجعلنا ليس لنا نظير. ولذلك, يجب علينا أن نحتضن ثقافتنا وإلا فسنختفي ونضيع).
مسرحية (الملك هيدلي الثاني)
هي آخرمسرحيات أوجست ويلسون, وقد عرضت في برودواي عام 2001, وتقع أحداثها عام 1985 بمدينة بتسبورج.
في مطاردة للأحلام والكوابيس يسكن شخوص المسرحية عالماً مليئاً بالنزاعات العائلية العنيفة بسبب أشياء تافهة, وبالتنبؤات الخرافية والمزاج السوداوي, ومع كل ذلك فهم يظلون متجهين نحو المستقبل. إن جيوبهم مبطنة بالأمل المتجدد وإيمان لا يتزعزع بقدراتهم وبطولاتهم. والمسرحية حافلة بأغاني الرعاع وحثالة الناس وتلعب بالعواطف التراجيدية والكوميدية, كما يغوص أوجست ويلسون في أعماق عهد ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان مستكشفاً نكباته بالنسبة للتمييز العنصري وسيادة العنف والانهيار الحضاري.
وهذه المسرحية, تصور انتصارات ومحاولات مجتمع يواجه مشكلات الأسرة والبطالة والجريمة. بطل المسرحية سجين سابق يصارع ماضيه وحاضره, وكفاحه مع الحياة, بالإضافة إلى علاقاته مع زوجته الثانية, وأمه, وعشيقها السابق, وأصدقائه, وجيرانه مما يحمل في طياته تراجيديا ملحمية. ومع ذلك فإن المسرحية لا تخلو من الدعابة وإثارة الشفقة على هذه الشريحة من دراما الحياة المغموسة بلحظات إنسانية جداً من المزاح الكوميدي. ومع ذلك فإن مسرحية (الملك هيدلي الثاني) تتحدث بفصاحة وصراحة عن إمكانات خلق بدايات جديدة.
مفهوم المسرح عند أوجست ويلسون
منذ أن بدأ أوجست ويلسون حياته المسرحية كانت نظرته إلى المسرح بأنه وسيلة لرفع مستوى ضمير المجتمع كله بالنسبة لحياة زنوج أمريكا في القرن العشرين.
ولذلك, فقد آلى على نفسه أن يكتب سلسلة من عشر مسرحيات تعيد كل واحدة منها كتابة تاريخ عقد من عقود ذلك القرن لكي تصبح حياة الزنوج جزءاً معترفاً به في تاريخ المسرح الأمريكي. إن مسرحياته تعرض تجربة فريدة تجبر جمهور المشاهدين على البحث عن استنتاجاتهم وخلاصات أفكارهم السياسية كامتداد لمواقف حياة شخصيات مسرحياته.
ولما كان ويلسون واسع الخيال وعميق التفكير, فإنه يعتبر ناطقاً مسرحياً بلسان التجربة الإفريقية الأمريكية. وقد ساعده على ذلك أن أعماله المسرحية تتميز بمقدرته الهائلة على إدماج لغة الحياة اليومية مع مادته الشعرية المتدفقة في نسيج متكامل جذاب. ومع أنه لم يعد يعتبر نفسه شاعراً, فإن موهبته الشعرية هي التي أهلته لكي يصبح من أهم كتّاب المسرح في الدراما الأمريكية المعاصرة.

مجلة العربي الكويتية/ العدد 530/ 1 ـ 1 ـ 2003م

تابع القراءة→

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9