أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الثلاثاء، أبريل 05، 2016

لغة الجسد في عروض مسرح الشباب في العراق..(الواقع والتوصيات)/ أ. م. د. أحمد محمد عبد الأمير

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, أبريل 05, 2016  | لا يوجد تعليقات


يكتسب الشاب وعيه بذاته من خلال اكتشافه لدواخله الدفينة كما أنه يدخل في علاقات مع العالم الخارجي، من خلالها تنشأ الحاجة لأن يبدل العالم أو ذاته أو طريقة التعامل معه، وتتخذ هذه الحاجة أنماطاً أدائية مختلفة كانت اللغة الجسدية (الإيمائية) أولى لبنات تشكلها في عمل فني حركي يعبر عنه .
يثير مصطلح (مسرح الشباب) مفاهيم وخصائص عدة منها: أنه يختص بفئة عمرية محددة تهتم بطرح أهم قضاياهم واهتماماتهم الثورية والتغيير والتطوير في الأداء الحركي، وكذلك عدم التبعية للأساليب والتجارب السابقة لهم ولا سيما التي تتسم بالأسلوب الأدائي الرتيب والجامد. الشباب فئة عمرية تميزت بالطاقة والحيوية البدنية، والحسية، والوجدانية، تساهم هذه العناصر في تحديد أهم خصائص تجاربهم الفنية ومنها: الاعتماد على الإيماءة الجسدية (لغة الجسد) في التعبير عن تلك الطاقة والحيوية البدنية، والإيقاع الحركي المرن، والتجريب الأدائي الحر، وبالمقابل ضعف الاعتماد على الكلمة المنطوقة وانحصار قيمتها معهم، على الرغم من أن كلاهما (الصوت ولغة الجسد) ينبعان من نفس المنبع وهو البدن. مرد ذلك إلى ضعف التواصل الشفاهي لديهم وعدم اكتمال خبرتهم اللغوية (أو عدم اكتمال نضوج القدرة الذهنية) بمقابل نمو الإمكانات البدنية وجاهزيتها الأدائية .. فيكون التوجه نحو فنون الحركة والتمثيل الصامت (البانتومايم، المايم الجسدي، والمايم الموضوعي، والمايم الذاتي، مايم خيال الظل..)، وفنون الرقص (الباليه، الرقص الدرامي، الرقص الحر، البريك دانس، والهب هوب..)، وفنون الحركة (الجمناستك، الجمباز، الأكروبات ..) سائد في نشاطاتهم الفنية منذ زمن طويل واتسمت بسماتهم، إذ عرف الكثير من مؤسسي ورواد تلك الأنماط والأنواع كانوا من فئة الشباب. مع العلم أن الأمم المتحدة قد حددت المرحلة العمرية للشباب ما بين (14 – 29 سنة) .
تعد لغة الجسد (الإيماءة) جزءاً من نشاطنا وسلوكنا الاجتماعي – وفقاً لرؤية (ميرلو بونتي) – ويرى (فرويد)” عندما تصمت الشفاه تتكلم الأصابع”، بل تتعدى أحياناً ذلك النشاط، عبر محاولتها إعادة صياغة الوجود وفق رؤيا أدائية فنية خاصة تتجاوز عادية الإنشاء والبث. وهذا ما يفسر استمرار وديمومة ذلك الفن العتيق، إلى جانب الاهتمام والشغف به، والعيش وسط الصمت ليأخذ حيزاً يتجاوز كل النشاطات اللغوية. فضلا عن أنها أبرز نشاط بدني مستثمر في عروض الشباب، فالأوضاع التي تتخذها الإيماءة في عروض مسرح الشباب ناتجة عن خضوعها لمنظومة نفسية وبيولوجية ودلالية متكاملة من ناحية (الشكل والمضمون)، أي احتوائها الجانب المعرفي والجمالي معاً والذي يبعدها بكل الأحوال عن صورة الواقع بدرجة ما، فهي محملة بدلالات مقصودة الإنشاء وخاضعة لفكر هادف يسعى لتحقيق غرض دلالي معين، وتحقيق غرض ما نبيل، وبذلك تبتعد لغة الجسد (الإيماءة) – في عروض الشباب – عن كونها سلوكاً عادياً أو نشاطاً إنسانياً تواصلياً فحسب .
الرقص ثاني أهم نشاط بدني بارز في فعاليات الشباب الرياضية والفنية والجمالية وهو علامة دالة إلى النشاط البدني والطاقة الجسدية والحس العالي بالإيقاع الحركي، فضلا عن ذلك أن أغلب المؤسسين لهذا النمط من الأداء الفني هم من عمر الشباب والفتوة أمثال الراقصتان (ازادورا دنكان، وسانت دينيس) الأمريكيتان مؤسستا الرقص الدرامي الحديث كانتا في عمر الفتوة، كذلك الحال مع الأنماط الأدائية الأخرى المعتمدة على توظيف الجسد ولغته (البانتومايم، والمايم، والجمباز والسيرك ..). عموماً، يعد الرقص أقدم الفنون وأعرقها، إذ يخاطب الآخرين بلغة الحركة للتفاعل مع المجموع والتعبير عن مظاهر الحياة. وعلى نحو يكون فيه المؤدي والمشاهد مشتركان معاً في إنتاج المعنى ضمن إطار الحدث ذاته، أو الطقس الروحي الذي يحيطهما من هنا أكتسب الرقص المعبر خصوصيته وهويته الثقافية التي تجسد صورة هذا المجتمع أو ذاك من خلال تقديمها على هيأة فعل معبر(1).
يعرف صاحب المقال الرقص الدرامي: بأنه : نمطاً مسرحيا يركن إلى انسجام التشكيل الحركي تماشياً والإيقاع الموسيقي ليرسم صورة جمالية في وعي المتلقي، يلبي ويعتمد في الوقت ذاته عن حاجات نفسية ويخدم أغراضاً فلسفية وجمالية وشعورية، ليقدمها في عملاً أدائي تعبيري واحد .
وبهذا المعنى يصبح العرض الدرامي الراقص تجسيداً أو خلقاً للواقع بفعاليته وديمومته ذاتها التي تحدث بشكل ملموس، لذا فقد تمتع بخصوصية شعورية الحياة نفسها، بمعنى أنه مسرحة للواقع، يقدم المعنى أو ينتجه في وعي المشاهد من خلال قيمة فكرته الفلسفية الأساس، والتي تنقل حالة شعورية وفكراً ذهنياً على نحو ما مع ملاحظة قابلية حركاته للتحول، الأمر الذي يجعل منه وبكل الأحوال قابلاً للفهم وفقاً للسياق الذي يرد فيه(2).                                                      على وفق ذلك، يعمل الرقص الدرامي على تفعيل الوعي وتعميق قراءته للواقع من خلال تقديمه بصورة جمالية، ذلك أن الأنشطة الاعتيادية تبدو ذات طابع غرائبي حينما تقدم في إطار فني يدفعنا بالنتيجة إلى إعادة اكتشاف ماهيتها من خلال تشكلها الظاهراتي. كما أن للرقص الدرامي وظيفة الإضاءة الرمزية للحقائق الإنسانية التي لا يمكن التعبير عنها لغوياً، وذلك من خلال المزاوجة بين الوظيفة التعبيرية والحركة الدالة (3). لذا يمكن القول بأن فن الرقص الدرامي ومن خلال حركاته المعبرة كدلالات وعلامات يساعد على احتواء تاريخ الإنسانية، من خلال إدراكه (تشخيصه) وإعادة إنتاجه (تجسيده) شعورياً كما يظهر لتجليات الوعي والوجدان، إذ يرتبط فيه التجسيد الخارجي بالتعبير الجسدي عن المشهد الطبيعي، أي أن خصائص الحركة الأدائية المعبرة تصبح بهذا المعنى متخطية لنمطية الأسلوب أو المنهج، أو حتى مجرد التعبير عن شيء معين، بل تصبح طاقة معبرة عن فلسفة كاملة يتلازم فيها التمظهر الخارجي مع المضمون.
الرقص هو لغة الجسد المؤداة بإيماءات وتحريض وتفعيل مع الروح، ولهذا فهو يشكل علاقة تواصلية مع الآخر المحيط به، والموجه خطابه قصدياً إليه، كما أنه وفي الآن ذاته محاولة للاستمرار في الواقع والتفاعل معه والتحاور جدلياً مع قضاياه الوجودية. والرقص بمعناه الواسع هو انتفاضة جسدية قد تكون أو تبدو غامضة أحياناً. لكنها تبقى بكل الأحوال انتفاضة يقيمها ويحكيها الجسد، إنه غوصاً في أعماق الذات ليساهم في إغناء كينونتها الإنسانية، إنه تعميق وتوسيع حدودها وثراء معناها: كما ويمكن القول بأن الرقص الدرامي (كوجيتو) ديكارتية، يؤكد عنفوان الإنسان من الداخل ما دام هناك تقويم متواصل لهذا الداخل وهكذا (أنا أرقص إذن أنا موجود)، فالرقص توازن الروح مع الجسد وتوازن الجسد مع الواقع، وتوازن الروح مع الروح من خلال الجسد، وتعبيرا عن طاقة الشباب وهويتهم الفنية .
شهدت عروض الشبابية الإيمائية الصامتة في العراق طفرة مهمة في العقد الأخير من القرن العشرين (2000م – 2014م) على المستوى التمثيلي (التمثيل الصامت بأنواعه المتعددة: البانتومايم، والمايم)، والأداء الراقص (الدرامي والحر والتعبيري) برزت فيها عدة فرق ومجاميع وورش مهمة قدمت تجارب جمالية مهمة وأنواع وأنماط أدائية مختلفة ما بين الحديثة والمعاصرة، معتمدين على انفتاح حركة التنقل والسفر والمشاركات الخارجية والتواصل الالكتروني المتمثل بالتلفاز وشبكة الانترنيت، فتحت تلك الوسائط المجال واسعا للمعرفة والاطلاع والاحتكاك، إلا أنها عانت من تلكؤ وقفزات جمالية وأدائية متباينة (وبالخصوص فنون الرقص) دلت على وجود إشكالية في الجانب المعرفي ناتج ذلك عن ابتعاد أغلب المؤسسات التعليمية والفنية عن تدريبها وتدريسها ضمن منهاج دراسي، وعدم وجود بني تحتية ومدربين خاصين، ولد ذلك قصورا معرفيا واضحا، فضلا عن ذلك لا بد من الإشارة أن الرقص فن وافد وليس جزءا من البنية الثقافية المحلية وتطور ومر بعيدا عنا قرن كامل على حداثته ومعاصرته، فلا يمكن التنبؤ أن يكتب له الديمومة والاستمرار في العراق .
** نتائج البحث في التعبير الجسدي في عروض الشباب تشير إلى النقاط التالية:
عروض تميزت بدرجة ما بالطاقة والحيوية البدنية، والحسية، والوجدانية، ساهمت في تحديد أهم خصائص تجاربهم الفنية، وأن الاعتماد على الإيماءة الجسدية (لغة الجسد) عبر عن تلك الطاقة والحيوية البدنية .
ضعف الاعتماد على الكلمة المنطوقة وانحصار قيمتها، على الرغم من أن كلاهما (الصوت ولغة الجسد) ينبعان من نفس المنبع .
تنوع لغة التعبير الحركي ما بين فنون التمثيل الصامت (البانتومايم، المايم الجسدي، والمايم الموضوعي، والمايم الذاتي..)، وفنون الرقص ( الرقص الدرامي، البريك دانس، والهب هوب..) .
أمكن لها أن تقدم مدلولات متعددة ومتغيرة ومتحولة وفقاً لجدل وجودي مستمر في محاولة لوضع حلول فلسفية لقضايا النزاع (الكونية، الإنسانية) القائمة بين: (الأنا، وإمكانياتها)، (الحلم، الواقع)، (الفرد، المجتمع)، (المجتمع، السلطة) ..
لها القدرة على خرق مفهومي الزمان والمكان وذلك عبر تنقلها الدلالي المرن ورصدها لمتغيرات العصر ومستجداته من قضايا وطروحات وأزمات إنسانية وقابليتها في الانتقال أو التنقل بين أشكال الواقع المفترض، وما ينبغي له أن يكون، وما هو كائن بالفعل .
استحدثت أشكال أدائية معبرة تعتمد مبدأ التجريب في توحيد واستكمال جمالية الشكل ودلالية المضمون عبر الجمع ما بين أنماط أدائية عدة مختلفة أو إدخال أجناس فنية لا مسرحية كالسينما والتقنية الرقمية على المسرح .
حاولت أن تكشف البعد الثقافي للمجتمع وتصور أزمة الذات الفردية إزاء المجموع على المستوى الاقتصادي والديني والنفسي والفكري، كما حاولت أن توسع من الأفق المعرفي للمشاهد بكل القضايا المهمة التي تخص الإنسان ابتداءً من الواقع وحدوده وانتهاءً بالحلم غير المتحقق .
تجارب كُثفت واُختزلت عبر إيماءات معينة لتعبر عن محنة إنسانية لا تملك أحياناً (في العرض) اسماً أو حتى هوية  بعيداً عن الشرح والتفصيل ومعبر عن الملامح الداخلية للشخصية.
التركيز على نمط التمثيل الإيمائي الصامت دون الأنماط الأخرى على اعتباره قريبا من الثقافة الإنسانية ويمتلك المقبولية الاجتماعية على خلاف فنون الرقص .
شبكة الانترنيت كان لها الدور الكبير في التواصل التقني لمسرح الشباب وتطوير إمكاناته الأدائية مع فنون الحركة الحديثة والعمل على اختصار المسافات الثقافية والمكانية ما بين الداخل والخارج، والبعض لجأ إلى استنساخ بعض مشاهده .
ضعف المرونة وقلة الحيوية والخفة الحركية للمؤدي الشاب، مرد ذلك إلى غياب البرنامج التدريبي البدني الخاص بالممثل الصامت أو الراقص. إذ يعتمد في الغالب على فتوة الممثل وحيوية جسده .
الخلط غير المنهجي ما بين الأنماط الأدائية المختلفة في التجربة المسرحية أوقعها في ضبابية التصميم وغموض الشكل الأدائي ودلالاته، دل على قصور معرفي في الأنواع والمناهج الأدائية المختلفة وقلة خبرة في التصميم الحركي . يعود ذلك إلى الأسباب التالية:
ـ عدم وجود مدارس متخصصة في التدريب الحركي لفنون التمثيل الصامت والرقص الدرامي داخل المؤسسات الأكاديمية والفنية التي تفك الاشتباك المعرفي والأدائي ما بين فنون الأداء الحركي .
ـ عدم الاهتمام باللياقة البدنية للمؤدي الشاب وغياب البرنامج التخصصي بالممثل الإيمائي الصامت والراقص الدرامي .
ـ قلة تواجد الفرق والورش المتخصصة في التمثيل الصامت والرقص الدرامي وينحصر ذلك في: (فرقة مردوخ)، و(فرقة أكيتو للرقص الدرامي)، (فرقة الديوانية للتمثيل الصامت/ لمنعم سعيد)، (ورشة دمى للتمثيل الصامت وخيال الظل /في بابل د. أحمد محمد)، و(فرقة مستحيل/ لأنس عبد الصمد) والتجمعات الشبابية في البصرة، فضلا عن قلة الدعم المادي والإعلامي .
ـ النظرة الدونية نحو فنون الرقص في الثقافة الاجتماعية المحلية أعاقت استمرار فنون الرقص وفرقه والمجموعات في العراق كنشاط فني وجمالي .
ـ قلة الاختلاط الخارجي المشارك في المهرجانات المسرحية وندرة المشاركة في مهرجانات الرقص والتمثيل الصامت .
ـ عمل الرقص الدرامي على إثارة الدهشة لدى المتلقي العراقي، وتعمل على جذب الانتباه عبر تزامن حركية الأداء ووحدة التعبير ليغدو حدثاً ينشط في ترك بصماته كأثرٍ جمالي في وعي مشاهده .
ـ عمل الرقص الدرامي للتجارب المحلية إلى ترجمة إشكاليات الحياة وتقلباتها إلى صور حركية جمالية معبرة في مجال أوسع مما في اللغة اللفظية والتي جعلت من هذه الترجمة مجرد ترديد لمجرياتها، وفرضت بالمقابل أساليباً أدائية تقليدية استنفذت معناها، إلى حد قد تفقد معه سحرها وجاذبيتها. لكثرة تداولها واستخدامها المتكرر. وهو ما حدى براقصي ومصممي الرقص الدرامي (الكوريوكراف) الحديث إلى البحث عن أشكال أدائية ذات قوة مؤثرة تخلق واقع جمالي جديد أكثر من مجرد افتراضه .
ـ تتميز لغة الجسد، بقدرتها على تقديم الهوية المحلية والإقليمية أيضاً، كما أن بمقدورها التعبير عن المكان والزمان وعن المحتوى النصي للعرض، والأهم من ذلك هو في قدرته على التفاعل مع مكونات خشبة المسرح .
لا مستقبل على المدى البعيد للرقص الدرامي في العراق على اعتباره بعيدا عن البنية الثقافية المحلية على خلاف بقية الأنواع الأدائية المعتمدة على التمثيل الإيمائي الصامت الذي يمكن التنبؤ باستمراره وتطوره على المدى البعيد .
** يوصي صاحب المقال بما يلي :
العمل على إقامة ورش متخصصة في التعبير الحركة (التمثيل الصامت، الرقص الدرامي) يقدمها فنانون متخصصون يتم ابتعاثهم من محافظات مختلفة تستمر لعدة أيام يكون مرافقا للمهرجانات المسرحية .
إعادة الاعتبار والاهتمام بدروس اللياقة البدنية في منهاج المؤسسات الأكاديمية والفنية والفرق الجماهيرية مع ضرورة وجود برنامج تدريبي خاص ومدرب متخصص .
ضرورة وجود قاعات خاصة بالتدريب على عروض المسرح الحركي التي تحتوي على أرضية مطاطية صالحة للتدريب، إذ تفتقر معظم المؤسسات إلى تلك القاعات، التي لا تتطلب مبلغا ماديا باهضا .
تبادل الخبرات ما بين المؤسسات الأكاديمية من خلال إبتعاث أساتذة لهم خبرة بالتعبير الحركي والتدريب البدني كون تلك المؤسسات الرافد التربوي الأساس لمسرح الشباب .
يُوصي صاحب المقال بإعادة تدريس مادة التمثيل الصامت لطلبة الأقسام المسرحية نظراً لما له من دور كبير في إثراء مخيلة الطالب وجعلها مولدة للتنوع الأدائي أكثر من السابق.
تدريس مادة فن الرقص الدرامي لطلبة الدراسات الأولية، نظراً لما هذا الفن من قدرة على تنمية جمالية الجسد وتحرير الأفكار وتنشيط قوى الذهن والمخيلة .
يوصي صاحب المقال ببرنامج تدريبي بدني للممثل الإيمائي، فلغة الجسد يعتمد بالدرجة الأولى على الحركة أو الفعل .كما ويعاني أكثر الممثلين من الحالة الذهنية في أثناء التمرين، وأن الحالة الذهنية الطبيعية للممثل وما يصاحبها دائما من حرية كاملة في حركة الجسم هو ناتج الاسترخاء التام للعضلات. وللحالة الذهنية والتركيز دورا مهما في الإدراك الحسي في التمثيل الصامت، التي تتطلب تركيزا ذهنيا عاليا وتحفزا للطاقة البدنية واسترخاء تاما للعضلات تعينه على الوثوب الحركي والتشخيص والتجسيد الحركي لكل العناصر البنائية للعرض الصامت، فما معروف في التمثيل الصامت هو القدرة الإيمائية الناتجة عن الذهن الواثب والجسد المتمكن من أداء الحركات بسرعة ودقة عاليتين، فالحركة والتدريب الرياضي والنشاط ضروريان للممثل الإيمائي، إذ يرى الممثل الإيمائي الفرنسي (اتيان ديكرو): إن ممثل المسرح الصامت يجد راحته في عدم الراحة. فيحتاج الممثل الإيمائي الصامت إلى التمارين الرياضة قبل البدء بالتمارين المسرحية، وهي :
الركض (5 – 15 دقيقة) يوميا أو ثلاثة أيام في الأسبوع في حالة عدم وجود تمرين مسرحي، تساعد على: تنشط العضلات، والدورة الدموية، وتفعل عمل الدماغ، ومرونة المفاصل.. مما يمنح الممثل لياقة بدنية جيدة وتحسن المزاج العام .
تمارين (الهاثا يوغا ): قبل البدء بالتمارين، لمدة (5 – 10 دقائق) وهي تمارين يومية، أو ثلاثة أيام في الأسبوع ، مع استخدام الموسيقى المناسبة أو بدونها شريطة العزلة والهدوء التام، باستخدام تمارين التركيز وتحفيز الطاقة المعروفة في مرحلة (الهاثا يوغا) الملائمة للممثل المسرحي مما يساعده على التركيز بشكل صحيح وتنشيط الطاقة الذهنية والبدنية بشكل واضح .
الاهتمام بالعضلات وجعلها نشطة وقوية تساعد الممثل في القيام بالحركات القوية كما تمنح للممثل قواما جميلا، فالمتلقي يرغب في رؤية جسد جميل (مثالي) مما يسقط عليه مفهوم الجسدنه (المطروح من قبل علماء النفس) أي تبادل الأدوار الجسدية ذهنيا، مما يحقق المتعة الذهنية والبصرية. يقول الفرنسي (جاك ليكوك): جئت الى المايم من خلال الرياضة .
تمارين المرونة والخفة للجسد الكامل تبدأ من الرأس إلى الأطراف السفلى، تساعد الممثل ليمتلك جسما مرنا وتبعده من التشنجات والتمزق العضلي .
تمارين الأكروبات الضرورية لاكتشاف قدرات الجسد والجرأة الذاتية في أداء الحركات الصعبة، وتشكيل الوضعيات الجسدية الضرورية في التعبير الحركي المعاصر القائم على الحركة السريعة والتشكيل البنائي الأجساد المؤدية شأنه شأن كل فنون الحركة، إذ عرف الممثل (شارلي شابلن، واتيان ديكرو، ومارسيل مارسو، توماشفسكي) من ممارسة التمارين الأكروباتيكية . يرى المخرج البولندي (توماشفسكي): فنان المايم المثالي لاعب رياضي حساس .
تمارين الإيقاع (الرقص): لأجل الوصول إلى حالة المرونة والانسجام الدقيق بين التعبير المرن ومضمون الدراما عليه أن يتعلم الرقص المصاحب للموسيقى إذ تمنح جسد الممثل قدرا عاليا من السيطرة والخفة والسرعة الأدائية ولا بد من التنويع في نماذج الموسيقى والإيقاعات، من مثل تمارين (ارو بسك)، إذ تدرب (مارسيل مارسو) على الرقص وطبقه في أعماله، كذلك منهاج فرقة المخرج البولندي (توماشفسكي) .
تمارين الاحماء ضرورية لتهيئة الجسد وقل إجراء التمارين المباشرة للعمل الإيمائي الصامت ( 10 – 15 دقيقة ) وكما مبين في الأشكال .
Ahmeed_pantomime@yahoo.com
fin.ahmed.mohammed@uobabylon.edu.iq
د. احمد محمد عبد الأمير / باحث أكاديمي مخرج ومؤلف مسرحي مؤسس (ورشة دمى للتمثيل الصامت وخيال الظل)/ جامعة بابل كلية الفنون الجميلة

** المصادر:
([1]) كرومي، عوني وآخرون: تقنيات تكوين الممثل المسرحي، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2002، ص 162 .
(2) كرومي، عوني وآخرون: المصدر نفسه، ص 163 .
(3) كاي، نك: ما بعد الحداثة والفنون الأدائية، ت: نهاد صليحة، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص 122 و 131 .

تابع القراءة→

0 التعليقات:

عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, أبريل 05, 2016  | لا يوجد تعليقات


ان الحديث عن المسرح والتداوليات هو حديث لا يخلو من تعقيد، وحين نتناوله فإننا نطرح بذلك موضوعا شائكا ومترامي الأطراف، ومرد ذلك إلى لبس يفرض نفسه انطلاقا من الموضوع ذاته. فمازال من الصعب تحديد موقع التداوليات باعتبارها مبحثا لسانيا في حقلها الأصلي أي اللسانيات، أحرى أن يتم ضبط مستويات العلاقة التي تربطها بالمسرح. وفي مقدمة الاعتبارات التي تفرض هذا اللباس أن التداوليات درس جديد وغزير إلا انه لا يملك حدودا واضحة، وتتيه هذه الحدود ويغيب وضوحها بين حقول معرفية مختلفة من حيث كون التداوليات تقع في تقاطع الأبحاث الفلسفية واللسانية. ومما يعمق هذا اللبس أنه يصعب الحديث عن تداولية واحدة بل تداوليات، فنجد سعيد علوش في ترجمته لكتاب الباحثة “فرانسواز أرمينكو F.ARMENGAUD” لا يستغرب وهو يكتب مقدمة الترجمة أن يصادف العديد من التداوليات:
– تداولية البلاغيين الجدد
– تداولية السيكو ـ سوسيولوجيين
– تداولية اللسانيين
– تداولية المناطقة و الفلاسفة
   بل يمكن التنبؤ بتداولية للأدباء(2)، والتداولية اللسانية نفسها نجدها موزعة بين مجموعة من الطروحات : فهذه “فرانسواز أرمينكو” تميز بين العديد من الطروحات والبرامج في مقدمتها مشروع “شارل وليام موريس” القائم على تداوليةٍ في سيميائية ثلاثية، وبرنامج “ستالناكر” الرامي إلى تداولية شكلية، وبرنامج “هاستون” الذي يجعل التداولية ثلاث درجات: درجة أولى تتضمن دراسة الرموز الإشارية مع محاولات كل من”روسل” و”بارهيل” و”كوشي”، درجة ثانية تتضمن دراسة المعنى الحرفي والمعنى التواصلي حيث وجهتا نظر “سورل” و “ديكرو”، ثم درجة ثالثة تتضمن نظرية أفعال اللغة مع “أوستن”.
إلى جانب تمييزات “أرمينكو” نجد “كاترين كاربرا أورشيوني C.K.ORECCIONI” التي تميز من جهتها بين ثلاث تداوليات: تداولية التلفظ Pragmatique énonciative، وتداولية التخاطب Pragmatique illocutoire، وتداولية التحاور Pragmatique conversationnelle.
   وعلى الرغم مما يكتنف التداولية من التباسات وتعدد وانفتاح في الحدود الضابطة يبقى موضوعها الأساسي هو الإجابة على مجموعة من القضايا في مقدمتها الأسئلة: من يتكلم؟ وإلى من يتكلم؟ ماذا نقول بالضبط حين نتكلم؟ ما هو مصدر التشويش والإيضاح؟ كيف نتكلم بشيء ونريد شيئا آخر؟(3). وتفضي هذه الأسئلة إلى وضع العديد من المبادئ موضع تساؤل وهي:
ـ أسبقية النظام والبنية على الاستعمال.
ـ أسبقية القدرة على الانجاز.
ـ أسبقية اللغة على الكلام (4).
 هذه التساؤلات حول الأسبقيات تفضي بدورها إلى ضبط المفاهيم الأكثر أهمية في التداولية التي تتدخل لدراسة علاقة العلامات بمستعمليها، وهي مفهوم الفعل والسياق والانجاز.
   إن التداولية مبحث صعب الضبط في ذاته أحرى ضبط مستويات علاقته بالمسرح، فالتداولية المسرحية بدورها تطرح إشكالات خاصة يوجزها حسن يوسفي(5) في ثلاثة إشكالات أساسية هي: الإشكال الإبستمولوجي، والإشكال النظري، والإشكال الإجرائي.
يتحدد الإشكال الإبستمولوجي في السؤال: أي الحقلين يشكل نموذجا بالنسبة للآخر التداولية أم المسرح؟، فالتداوليات أرادت أن تكون وسيلة لتحليل الخطاب المسرحي على سبيل النمذجة، فوجدت نفسها تفكر في العديد من القضايا اللغوية عبر التلفظ المسرحي، يقول “دومينيك مانكونو D.MAINGUENEAU”: “… نصل إلى خلاصة مهمة: أردنا أن نستعمل التداولية لأجل تحليل التلفظ المسرحي، فلاحظنا أن التداولية تفكر في اللغة من خلال هذا التلفظ المسرحي« (6).
   أما الإشكال النظري فيُطرح من خلال صعوبة اختيار النموذج التداولي الملائم لتحليل الخطاب المسرحي، بمعنى: أي تداولية من هذه التداوليات تتوفر على الكفاية ـ وهي كفاية نسبية على كل حال ـ في مقاربة الخطاب المسرحي؟
   أما إجرائيا، فالإشكال يأتي من طبيعة الخطاب المسرحي ذاته القائم على ثنائية نص ـ عرض، بينما المقاربة التداولية تمس أساسا الجانب النصي، ويستعصي عليها العرض، فتختزله بدوره في نص. يقول “باتريس بافيس P.PAVIS”: “تتجه التداولية اللسانية نحو أخذ النص الدرامي وحده بعين الاعتبار مقلصة العرض إلى نص. من السهولة في الواقع نقل الدراسات التداولية للبرهنة في الخطاب العادي إلى مستوى النص الدرامي، و تبقى النتائج المستخلصة جد صحيحة بالنسبة لهذا النص الخصوصي وليس بالنسبة للعرض ككل، لهذا تُقصى الوضعية المشهدية Scénique مع العلم أن الاستعمال المحسوس للتلفظ المشهدي هو العنصر الذي يحدد المعنى التداولي للنص المعروض. يستحسن، إذن، اختيار الروابط المنطقية، تحت أي شكل كانت، التي استعملت من لدن الممثل الواحد والخشبة لمعرفة ماذا غيرت في الروابط المنطقية للنص(7).
   ورغم هذه الصعوبات/ الإشكالات التي تواجه التداولية المسرحية، فإن ذلك لم يمنع من وجود محاولات دؤوبة تُنبئ عن حضور التداولية في الخطاب المسرحي، إما بتسطير هذا الحضور وتأكيده باعتباره مكونا جوهريا، أو تشير إليه بشكل عرضي. ويأتي في مقدمة هذه المحاولات مشروع “آن أوبير سفيلد A.UBERSFELD” في كتاب “قراءة المسرحLire le théâtre ” (سنة 1977)، حيث حضرت التداولية عَرَضا، ثم سرعان ما تأتي طبعة ثانية للكتاب (سنة 1982) تحمل حضورا صريحا للتداولية عبر إفراد فصل خاص بها تحت عنوان: “نحو تداولية للحوار المسرحي Pour une pragmatique du dialogue théâtral”، وبعدها محاولات أخرى لكل من “كاترين كاربرا أورشيوني C.K.ORECCIONI” سنة 1984 في دراسة بعنوان من “أجل مقاربة تداولية للحوار المسرحي”، وفي السنة نفسها تظهر دراسة “أندريه جان بوتي A.J.PETIT” تحت عنوان المحادثة في المسرح La conversation au théâtre. ثم تعود “أوبيرسفيلد” مرة أخرى بدراسة بعنوان “بيداغوجية الفعل المسرحي Pédagogie du fait théâtral” سنة (1987)، حيث تحضر التداولية ضمن مشروع قراءة الخطاب المسرحي الذي تقترحه، وبعدها تأتي دراسة “مانكونوMAINGUENEAU” التي هي عبارة عن فصل أخير من كتابه “تداولية للخطاب الأدبي Pragmatique pour le discours littéraire” (سنة 1990) بعنوان “ازدواجية الحوار المسرحي Duplicité du dialogue théâtral”.
   تتوحد هذه المحاولات جميعها في استحضارها للتداولي Le Pragmatique ضمن المسرحي Le théâtral بنسب متفاوتة في الاجتهاد وأشكال الاستحضار، وقد آثرت في هذه الورقة أن أقف عند مشروع “آن أوبير سفيلد” من خلال نموذجين، الأول كتاب “قراءة المسرح Lire le théâtre”(Cool، حيث استحضار التداولي باعتباره مكوناً لا بد من أخذه بعين الاعتبار ضمن خصوصية الخطاب المسرحي، والثاني “بيداغوجية الفعل المسرحيfait théâtral Pédagogie”(9) باعتباره اقتراحا للقراءة لا يخلو من إعطاء أهمية للبعد التداولي في مقاربة الخطاب المسرحي.
بالنسبة لـ “قراءة المسرح”، فمنذ طبعته الأولى سنة 1977، و منذ فصله الأول علاقة نص ـ عرض ، نجد حضورا للبعد التداولي أثناء حديث “أوبير سفيلد” عن خصوصية النص المسرحي، من أن هذا الأخير يتكون من جزأين متمايزين لكنهما متداخلان، هما: الحوار Dialogue، والإرشادات Didascalies، وتمايز هذين الجزئين يجيب على السؤال: من يتكلم؟ بما هو تمييز لِسْنِي يتعلق بذات التلفظ، و للإرشادات على الخصوص دور تداولي هام من حيث كونها تجيب على سؤالي الـ “من: والـ “أين”، ومن حيث كونها تشير إلى سياق التواصل، فهي تضعنا بصدد تداوليةٍ حين تؤطر الشروط المصاحية لاستعمال الكلام. إضافة إلى هذا، فالإرشادات تشكل مفاتيح العرض ومن ثمة فهي أرضية ـ تتحقق بنسب متفاوتة من رؤية إخراجية إلى أخرى ـ تشكل السياق الخاص للعرض، وتؤسس عالما ممكنا يشكل بدوره شروط التلفظ في العرض التي توجد في النص بالقوة ويفجرها الإخراج بالفعل.
   من ناحية أخرى، فإن السؤال الذي يطرحه التمييز اللسني بين الحوار والإرشادات: من يتكلم؟ يجعلنا أمام تمييز بين صوتين، صوت المؤلف باعتباره الذات المتكلمة التي تمارس الخطاب بشكل مباشر من خلال الإرشادات، وعبر قناة وسيطة من خلال الحوار، ثم صوت الشخصية باعتباره الذات المتلفظة التي يخصها المؤلف بحيز من الكلام و جزء من الخطاب. أمام وجود هذين الصوتين/ الذاتين في الخطاب المسرحي في شقه النصي، نجدنا بصدد التمييز الذي أقامه “ديكروDUCROT ” بين الذات المتكلمة التي لا تمارس خطابها مباشرة بالضرورة، والذات المتلفظة التي تنقل الكلام دون إنتاجية، أي تكتفي بتلفظه، (وإلا تحولت إلى ذات متكلمة).
   يأتي هذا البعد التداولي في الفصل الأول من كتاب “قراءة المسرح” استحضارا تفسيريا وليس مقصودا لذاته، مادامت الغاية الأولى من هذا الفصل هي الوقوف عند الخصائص المميزة لمكونات الخطاب المسرحي ( نص/ عرض)، والسمات الداخلية التي تحدد كل مكون، والبعد التداولي فرض نفسه أثناء الحديث عن خاصية النص المسرحي التي تميزه عن باقي الأنماط النصية ذات الاستعمال اللغوي. لكن ورود البعد التداولي لذاته يأتي صريحا في الطبعة الثانية لكتاب “قراءة المسرح” (1982) حين أفردت “أوبير سفيلد” فصلا خاصا بالتداولية المسرحية تحت عنوان: “نحو تداولية للحوار المسرحي”.
   نجد في هذا الفصل تبنيا واضحا لنظرية أفعال اللغة Acte de langage لدى “أوستن” هذا التبني الذي كان مرجعا/ خلفية في صياغة تصور للبعد التداولي في المسرح، و هي صياغة يمكن تلمس عناصرها على امتداد الفصل كالتالي :
ضرورة ضبط حالة التلقظ situation d`énonciation لفهم الملفوظ، “إن كل ملفوظ من الملفوظات التي تدلي بها شخصية من شخوص المسرح لا يمكن أن يكون ملفوظا خارج حالة تلفظه”(10)، وحالة التلفظ ( وضعية/ ظرف) لا يمكن أن تضبط ألا بمعرفة المرسل والمستقبل والزمان والمكان، أي معرفة المتخاطبين، والسياق. وضبط وضعية التلفظ في الخطاب المسرحي مشروطة بمراعاة إحدى خصوصيات تلفظه القائمة على تراكب Superposition وضعية التلفظ المشهدي Scénique مع وضعية التلفظ التخيلي Fictif.
توفر الاتفاق الضمني على مجموعة من التقديرات ،Présuppositionsوهذا الاتفاق الضمني ضروري لكي يشتغل التبادل الكلامي بين المتخاطبين، فكل ملفوظ لا يعمل داخل إجراء تبادل القول إلا متى اتفق المتخاطبان ضمنيا بصدد مجموعة من التقديرات(11)، فحين يقول أحد المتخطبين “إلى المساء”، فهذا يفترض اتفاقا ضمنيا بينهما أن المساء لم يحل بعد.
كل ملفوظ يشكل جزءا من المعنى الذي يريد التعبير عنه “فالملفوظ لا يعبر عن شيء ما فقط وإنما يقوم بأمر ما، ودون أن نقلب لفظة ما في كل أوجهها من حيث المعنى، فإننا نقول إن هذا الفعل جزء لا يتجزأ من معناه” (12).
ضبط العلاقات المتبادلة بين الشخوص، الشيء الذي يسهل عملية فهم وتأويل ملفوظ كل شخصية، وإجراء هذه العملية مرهون بتوقيع ميثاق بين المتكلم والمخاطب يخضع لقواعد حوار/ محادثة منطقية و سوسيو ـ ثقافية قد يمكن الاتفاق بصددها.
   بعد صياغة تصور للبعد التداولي القائم على العناصر المذكورة، تعمل أوبير سفيلد على إبراز خصوصية أفعال الكلام في المسرح انطلاقا ـ أولا ـ من تحديد الأفعال المصاحبة للتلفظ بكل جملة، وهي بالفعل التعبيري Locutoireحيث الجمع بين العناصر الصوتية والنحوية والدلالية لإنتاج دلالة معينة، ويتضمن هذا الفعل في المسرح إجراءين، أولهما إلقاء الكلام و ثانيهما إنتاج معنى لهذا الكلام، ثم الفعل التخاطبي Illocutoire الذي يتميز بالصعوبة مادام الفعل اللغوي مموها و ليس حقيقيا، ثم الفعل التأثيري Perlocutoire القائم على تأسيس ميثاق بين الأنا والآخر/ المتكلم والمخاطب، يتضمن تأثيرا ينتج عنه نوع من العلائقية الاتفاقية مع الآخر، ويتمثل في المسرح على مستوى إحداث أثر فعلي واقعي على المتفرج الذي يوازيه تأثير مصطنع على الشخصية التي تتقاسم الدور مع الممثل.
   ورغم تبني نظرية أفعال اللغة من لدن أوبير سفيلد إلا أنها تأخذ عليها إهمالها قسما من وظائف اللغة، خاصة الوظيفة الشعرية والتركيز على قصدية الباث، ومع ذلك، وكيفما كان الحذر المطلوب لا تفضل أوبير سفيلد في هذا المجال “سوى نظريات أفعال اللغة التي قد تقدم كشوفا حاسمة لتحليل الخطاب المسرحي” (13)، وفي هذا الصدد تقدم نموذجا تطبيقيا من خلال محاولتها تحليل جزء من مسرحية Phèdre بالاعتماد على نظرية الأفعال اللغوية ومراعاة تراكب وضعيتين تلفظيتين، مشهدية وتخيلية.
   ولتحاور وضعية الانغلاق على الذات في المقاربة التداولية، “تحاول أوبير سفيلد فتح آفاق جديدة تتجلى في تحليل الايديولوجي والشعري في علاقتهما بالأفعال التي يحققها كل ملفوظ في إطار وضعية تلفظية معينة” (14).
   وتنتهي أوبير سفيلد في نهاية هذا الفصل من “قراءة المسرح” الى توضيح الفائدة من التحليل التداولي للمسرح والمتمثل في “الكشف عن كيف أن القسم الأساسي من النص المسرحي هو صورة القول الفاعلة والحية في كل أبعادها، بما في ذلك البعد الشعري المتحكم بشكل دينامي في العلائق البشرية، والذي ينطلق من مجموع ما يحكى وما يفعل دراميا”(15).
   يتجلى المستوى الآخر في استحضار البعد التداولي عند أوبير سفيلد من خلال مقالتها “بيداغوجية الفعل المسرحي” المتضمنة في كتاب جماعي بعنوان:”المسرح: صيغ المقاربة ـ Théâtre: modes d’approche”، وهيمقالة، كما يبدو من عنوانها، تنحو منحى بيداغوجيا في اقتراح مشروع لقراءة الخطاب المسرحي يراعي خصوصية هذا الخطاب، يُقَدَّم بلغة إجرائية عملية تتجاوز القراءات الفضفاضة، وذلك عبر تحديد خطوات التحليل، ويحضر البعد التداولي، بطبيعة الحال، باعنباره مكونا أساسيا في عملية التحليل، خاصة في الشق المتعلق بتحليل النص الذي يتضمن ستة إجراءات. وتبدو أولى تجليات البعد التداولي من خلال الإجراء الثاني المتعلق بتحديد شروط التلفظ حيث ترى أوبيرسفيلد أنها شروط تخييلية تتعلق بفضاء وزمان الخطاب الدرامي في الخيال لا على الخشبة، وشروط التلفظ هاته تتحدد عبر مجموعة من المكونات، في مقدمتها الإرشادات باعتبارها الطبقة النصية الوحيدة حيث المتلفظ هو المؤلف الذي ينتج السياق (من خلال الفضاء بكل مكوناته)، ثم تأتي ـ بعد الإرشادات ـ التوضيحات التي تؤطر الحوار باعتبارها إرشادات داخلية.
   يبرز التجلي الثاني في خضم الإجراء التحليلي الخامس المتعلق بالشخصية، خاصة الشق المتعلق بكلام الشخصيات. إلا أن التجلي الأوضح للتداولية هو حضورها المكثف في الإجراء التحليلي السادس المتعلق بالخطاب المسرحي حيث الوقوف عند الشخصية وتلفظها، من حيث أن كل ملفوظ موضوع على لسان شخصية مسرحية لا معنى له خارج شروط تلفظه، وحيث الوقوف عند المسكوت عنه لضبط ضمنيات الخطاب والوضعية الاستدلالية للشخصية، ثم ـ أخيرا ـ حيث الوقوف عند “أفعال اللغة والحوار”..وههنا يُقَنَّن خطاب الشخصية المسرحية بوضعية تلفظها وركام الافتراضات الضمنية..وههنا ـ أيضا ـ تقف أوبيرسفيلد عند الحوار المؤسس على القوى القائمة بين المتكلمين (أي ضبط عملية التخاطب). وضمن المحور نفسه ـ “أفعال اللغة والحوار” ـ تذكر أوبيرسفيلد أن كل ملفوظ لا يمكن تحليله إلا من خلال ثلاثة مكونات: الفعل التعبيري (أي مجموع علامات الملفوظ نفسه)، والفعل التخاطبي (أي قوة الملفوظ نفسه) ثم الفعل التأثيري (أي التوقع الذي ينتج لدى المتلقي/ الحوار).
   هذه إذن محاولة لتلمس حضور التداولي داخل المسرحي لدى أوبيرسفيلد من خلال نموذج لتحديد الخطاب المسرحي (قراءة المسرح)، ونموذج قرائي لمشروع تحليله ومقاربته (بيداغوجية الفعل المسرحي). وذلك كله عبارة عن نموذج لعلاقة المسرح بالتداوليات من خلال “آن أوبيرسفيلد” التي كانت سباقة إلى طرح هذا البعد في الخطاب المسرحي قبل محاولات كل من “ج. بوتي” و”مانكونو”. بل إن الجزء الثالث من مشروعها القرائي المتكامل “قراءة المسرح” هو عبارة عن “عمل تداولي بالأساس عنونته بـ»الحوار المسرحي: قراءة المسرح3« وهو ينصب على أشكال التداول المسرحي”(16).


الهوامش والإحالات:
(1)                        فرانسواز أرمينكو: »المقاربة التداولية ت : سعيد علوش ـ المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع ـ الدار البيضاء 1987 ـ ص 11.
(2)                        مقدمة المترجم للكتاب المذكور ـ ص 8.
(3)                        نفسه ـ ص 8.
(4)                        فرانسواز أرمينكو ـ مرجع سابق ـص 9.
(5)                        انظر حسن يوسفي : المسرح و مفارقاته ـ مطبعة سيندي ـ مكناس 1996 ـ ص 113.
(6)                      D.maingueneau : pragmatique pour le discours littéraire-Bordas – Paris 1990-P :157
(7)                        عن حسن يوسفي ـ مرجع سابق ـ ص 114 ـ 115.
(Cool                      Anne UBERSFELD : Lire le théâtre- de Sociales – Paris 1982.
(9)                      Anne UBERSFELD : Pédagogie du fait théâtral- in – Théâtre : modes d’approche (ouvrage collectif ) – ed. labor – Bruxelle 1987.
(10)                  آن أوبيرسفيلد: » نحو تداولية للخطاب المسرحي« ت: سعيد يقطين وبشير قمري ـ » مجلة شؤون أدبية « ( مجلة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات) ـ العدد 12 ـ خاص بالمسرح ـ ربيع 1990 ـ ص 80.
(11)                  ـ (12) نفسه ـ ص 81.
(13)                  نفسه ـ ص 83.
( 14) حسن يوسفي ـ مرجع سابق ـ ص 91 .
(15) آن أوبير سفيلد: » نحو تداولية للخطاب المسرحي«.. مرجع سابق ـ ص 91
     (16) من حوار مع »آن أوبير سفيلد «أجراه حسن يوسفي ـ العلم الثقافي ـ السبت 21 مارس 1998 ـ ص 11

تابع القراءة→

0 التعليقات:

جان جينيه وتدمير الأبويـــة / ا.د. عقيل مهدي يوسف

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, أبريل 05, 2016  | لا يوجد تعليقات

   

لم تشكّل الكتابة عند جان جينيه بعداً مرآوياً للواقع بل استطاع بنصوصه المسرحية ان ( ينفي ) الواقع الاجتماعي الضاغط ، باختلاق قوانين جمالية شكلانية حّرة تتوازى مع توقه الذاتي الى الحرية ضد الاستلاب الواقعي الذي أجبره على الرضوخ في سجونه ، ومؤسسات عقابه ، وعاداته ، وطغيانه التأريخي ، على الآني.
أراد جينيه أن ينفي قوانين الواقع الاجتماعية السائدة في زمن الكولونيالية والرأسمالية ، ويجلب بديلاً عنها قوانين الشكل الفني الوهمية ، والمصطنعة ، والزائفة عن الأيدلوجيات المكرسّة او الشمولية ، حتى إن ظهرت في نصوصه ، عذابات ذاته المضطهدة والمستلبة وهي مفعمة بالكراهية ، والقلق ، والتمرد على طمأنينة زائفة وسط عالم من القسوة والرعب .
أراد أن يكرس لعبته الجمالية باستبدال وهم الواقع بوهم الفن ، أراد أن يدمر البنية الراسخة التي تلمّ شتات الواقع المتشظي ، بوحدة تخيلية ، من نمط أرفع ، وأكثر عاطفية ، ومثالية ، لايوجد فيها كائن أعلى سلطوي ، وآخر أدني تابع .
ان فئات مجتمعه المسرحي ، من زنوج ، وعرب ، وفهود سود أمريكيين ، وجنود حمر ألمان وخدم ، ورهبان ، ومجرمين ، وشاذين ، وجنرالات فرنسيين .... أصبحوا بعد أن أنعشتهم الرؤى الإخراجية لنصوصه ، كائنات خيالية لاتحيا الا في مسرحه الفردي الخاص.
يقول سارتر عن مسرح جان جنيه بأن أفكاره حلقة دائرية متزايدة السرعة باستمرار وإن قالب تفكيره مثل قرص متعدد الألوان ينتج الأبيض ، منطقة زائفة ، كينونة ومظهر ، يجذبه للمسرح ، الزيف ، الخداع ، التصّنع ، والمسرح أبرز أنواع الزيف وأكثرها حذاقة ، وشيطنة ، واصطناع .
إن جينيه يقلب أوضاع ممثليه وشخصياته بلعبة الأقنعة ، أبيض يضع قناع أسود ، وأسود يضع قناع أبيض ، ونسوة ينقلبن على طبائعهن البشرية فيظهرن بمظهر الرجال، ورجال يظهرون بمظهر النساء ، كأنها شخصيات مخترعة لاحقيقة لها خارج نطاق خشبة المسرح .
وحتى جمهوره يصيبه وبـاء جينيه الانشطاري ، فيتحول بدوره الى كائنات مراسيمية تسهم في طقوس وثنية مابعد الحضارات وبتراتيل مابعد المسرح ، والدين.
شخوصه تملصّت من منظورها النفسي والاجتماعي وكينوناتها الطبيعية الحيوية ، اللصيقة بنفعية المصالح والمآرب الأرضية ، لتتحول الى طيف أقنعة تقود الى متاهات من التوهم ، واصطناع الرغبات الغرائزية لتتقابل عبرها اللذة بالمنظومة الأخلاقية ، التي يصّر على التصدي لها ، بروحه العارية ، التي تزداد شبقاً عند التحامها مع الواقعي الساخر والمبتذل ، يدهشه البعد الفضائحي ( لذاته ) التي لاتحب ستائر ، وقواطع الحجب ، بقدر بحثها عن حقيقتها الوجدانية ، العاطفية ليحتمي بشظايا تدميرها  ، من التدميرية الحقيقية التي تزخر الحياة بها ، لاسيما في فرنسا الكولوينالية  وأوربا الخارجة من حروبها الضارية ، والماحقة لكرامة الإنسان ووجوده ، او بما أفرزته من نظم شمولية ، وشبكة عقائدية ، لاصطياد البؤساء من الناس ، واللقطاء ، والمتسولين ، والمتخلفين عن ركب الصناعة في بلدانهم الفقيرة
أراد جينيه في مسرحه ان يصدم جمهوره لمرتين ، مرّة في زيادة حدة الواقع الاجتماعي المتردي الخشن ، وأخرى في تأكيد كثافة فنه الجديد ، بتهديم الشفرات الفنية التقليدية المقننة ، وسعيه الى ابتكار شفرات فنية متعارضة مع المكرس ، سواء باللغة او التقنيات او اكتشاف سنن ( ماوراء المسرح ) meta- theater وهنا، تتعمق ( مسافة جمالية ) من نمط مبتكر تنزع الجمهور بعيداً عن عاداته ، وأعرافه الامتثالية ، والاندماجية مع ثقافة شائخة ، مريضة ، يحق لمثله أن يثور على مردودياتها النفعية ، ويثور على قوالبها الأيدلوجية ، والتجارية ، والتكنلوجية .
جينيه يقف بانحلاله الأخلاقي ، ورغبته العارمة لتدمير ذاته ، وثوابت مجتمعه ، وثقافته البرجوازية ، يقف ضد محاولات تحذير الناس ، وإشاعة النزعة الاستهلاكية بما تروجه الشركات والمصانع الرأسمالية من عبادة ( فيتيشية ) للسلعة ، وما تجرّه من أحادية تنميطية للذات الإنسانية ، ومن كبت ومصادرة تحت وطأة الإعلانات الترويجية الطاغية في رأسمالية السوق . هذا التململ من حالة ( التشيؤ ) او تسليع الكينونة البشرية ، أطرّ تجارب جينيه المسرحية ، وخلق الانطباع عنه ، في انه كافح ضد تجريـد الإنسان من صفاته الإنسانية ، حتى ان كانت صادمة لايطيقها الذوق العام ، المتشكل من كتلة صلدة ، صماء . أراد أن يقوض الحذر العام الخاص بثبات مايسمى بـ ( الهوية ) المتعالية ، في محاولة منه لتقويض هذه الهوية المفترضة الزائفة - أيضا – بنفي الذات في علاقتها بالموضوع وتهشيم المفهومات والتصورات عن عالم ميت ، قديم ، لاشأن له بعوالم فردية متنوعة تريد أن تؤكد كيفيات نظرية جديدة في التعامل مع العالم ، وموضوعاته ، بطرائق ذاتية خاصة بأساليب رؤى مغايرة .
في مسرحية ( الخادمات) تظهر غرفة نوم السيدة ، مؤثثة على طراز لويس الرابع عشر  الخادمة ( كلير ) ترتدي قميصها الداخلي لهجتها مأساوية ، مبالغ فيها تقول الى الخادمة ( سولانج ) :
   هــذه القفازات الأبدية علّقيهـــا فوق البالوعــة .
سولانج : ( تجلس القرفصاء ، تبصق على الحذاء الجلدي اللامع ، لتلميعه
كليـر: انظري الى صورتك في حذائـي ( ...)
  السيدة : ما أشد غبطتي عندما أحمل عنه صليبه ، سأتبعه من مكان الى مكان ، من سجن الى سجن ، ماشية على قدمي اذا لزم الأمر  سأتبعه حتى الى منفى المذنبين .
سولانج : إننا فاتنات مفعمات بالسرور وأحــرار .

                                ( ستـــــــــــار )

 قدمت أعمال جينيه في فرنسا ، وكانت القضية الأخلاقية تنظر من زوايا نظر مختلفة ، يساهم في صنعها المخرجون والنقاد ، والجمهور بأصنافه المختلفة.
وكذلك فهمت أعماله بطرق متنوعة في ألمانيا ، وفرنسا ، وأوربا.
وحاول بعض مخرجينا العرب أن يقدموا أعمال جينيه من منظورات مختلفة أيضا.
يقول جينيه :
 ( .. أعتقـد أن العرب لاتهمهم أعمالي في هذه المرحلة . )
ويعقّب ( أنا أعرف العرب عندهم حساسية " أخلاقية ، مفرطة .)
ان بطله الفرنسي أكثر حرية في رفضه ، بعد أن تحرر مما أسماه بالإرهاب العسكري ، والسيطرة الدينية الكنسية ، حتى ان كان رفضه غامضاً ، الأمر الذي يذكر جينيه بأعمال كافكا ، وبطله في رواية ( القضية ) ، الذي كانت حياته معرضة للخطر ، لكنه في الوقت نفسه كان يمثل دوراً غرامياً ، هزلياً مع إمرأة !
استطاع – جينيه – كما يذكر ان يكون أدبياً ، وسط اللصوص ، والبوهيميين في فترة خاصة .
لقد كانوا يتكلمون فرنسية سليمة ، وكانوا يقرأون كتباً جيدة ، ربما هنا نفهم مغزى ردّه على أحد منتقديه ، الذي لم يقتنع باللغة العالية ( للخادمات ) ، وقوله :
  وما أدراك بأنهن لايتحدثــــن هكذا .
يكتب ناقد عن جينيه بأنه كان يتوجه تدريجياً الى ممارسة الشر والجريمة ، وبالولاء نفسه الذي يتوجه فيه القديس الى الفضيلة والطهارة .
  ( ... ) يحوّل الجبن والقتل والخداع الى فضائل لاهوتية ، منطق شهواني لبيدي لنصوصه ويصف الناقد أسلوبه ، في رواية ( سيدتنا ذات ألأزهار ) بانه مستوى عالي من السفسطة والثقافة والفكر ، غنى في المفردات وحذاقة في التركيب والمبالغة في الاستعارات ، والإحساسات الهارمونية في الوزن ..
وشعره المسرحي ، محدّد بعنف مروّع ، وعدوانية شعر يغمر الحاضرين ويشوشهم ويثير خجلهم وسخطهم ..
كما يجد غولدمـان ( الماركسي ) في جينيه ( واقعيــة ) ويجـــد جوفيه ان جينيه ( طبيعي ) ، ويجده ليتزو بأنه ( برختي ) .  وآخر وجد في جينيه ممثلاً لما وراء المسرح بوثائقه النقديـــة المستمرة عن صورة الأنثى الأصلية وهي ( الدعـارة ) من خلال قنـوات ( سادية شعائرية ) خلقها الرجل بخياله ( زبائن ) الماخور !
الهام شعري ، وكبح الذات والسيطرة عليها بروح تدميرية سافـرة .
أعتقد  باتريك أو هيجنيز بان جينيه أول من فتح الأبواب على جمال الشذوذ الجنسي ، وعلى الحزن الكامن فيه .
رغبة جينيه الشاذة ، والمزدوجة ، يوجزها هو بنفسه حين سكن في فندق الهلتون بالمغرب العربي ، بقولـــه : ( .. لأنني كلب قذر ، أحبّ أن أرى هؤلاء الأنيقين يخدمون كلباً قذراً مثلي ! ) .
وهو بالطبع يستبطن مشاعرهم تجاهم ، وقناعتهم الطبقيــة والأخلاقية ، بأنه مجرد كلب قـــذر !
لم تدع قراءته لما يكتبه الغربيون عن ( الأدب العربي ) ان يلّم بحقيقة الإبداع في عالمنا العربي ، لذلك يسارع بالحكم بأنه أدب لايمس القضايا العالمية ، بل حتى أنه قاصر على ملامسة الشعور العربي نفسه .
ولايخفى جينيه سبب منعه من الدخول الى أمريكا ، بسبب شذوذه الجنسي ، ولصوصّيته السابقــة .
ويضيف : ..  أيضاً لا أستطيع دخول ( روسيا ) لأن جدانوف صادر كتبي في عهد ستاليـــن .
ويذكـــر ان كاسترو الزعيم الكوبي ، كان صديقـه
( لكني – كما يقول جينيه- لا أقبـل منه أية دعوة رسمية )
يرى - جينيه  - ان رجال البوليس لم يكونوا إنسانيين قط ، ويوم يصيرون إنسانيين ، فأنهم لم يعودوا رجال أمن .  ومن تجريداته في الحكم على الكتاب ، كان يعتقد بان كامو ينفعل أكثر مما يفكر ، وان فكتور هيجو كاتب ديماجوجي .
يعيد جان جينيه في مسرحياته دائماً ، تفحص مفهوماتنا الأخلاقية – والاجتماعية والعقائدية بوعي شقي لواقع شقي هو الآخر ، ومن خلال لغته المتخيلة يرسم فضاءاً جديداً يجمع فيها تفكك الأسرة الغربية ويلاحق كيفية تصدع قلبها المدني ، ويدرسها لا كما يبحث المحللون عن ( الأرض ) بل يتأملها بذكاء عاطفي – وجداني ، على ضوء معطيات جديدة ، مفارقة ، ومتغيرات حاصلة ، ليعيش في وسائل بشرية ، متطرفة ، نابذة للأخلاق المتداولة ، ولقدريتها المرسومة بشكل قبلي للحياة ، انه يخلق عالمه لحظة بلحظة ، بمثل ما يفعل في الحياة ، تراه فاعلاً في المسرح في الخادمات تبزغ المعجزة لا في انتظار المخلص ، بل انه يمارس ببساطة دور الهيمنة للسيدة الغائبة من قبل الخادمـــات أنفسهن .
انه يمثل عالمه الجمالي ويتكيف معه ويوحده بعد ان كان منفصلاً في عالمين متميزين ، الحياة والفن حيث يزج نفسه ، ويذوب في عوالمها المتخيلة العجائبية ، بمثل ركوبه كوارث الحياة . ثمة تطابق بين شخصية الراغب بتدمير الحياة  بمثل شوقه العارم بتدمير أشكال المسرح ، وتدمير المجتمعات الغربية ، وما كرسته من ثقافات متتالية في تاريخها فهو يعتقد بان شكل المسرح لم يعد مجدياً ... وأشكال الكتابة الموجودة حتى الآن استهلكت بما فيه الكفاية ويؤكد تأييده للصوص العالم كلهم ضد الأمريكان الأغنياء ويضيف :
 ( إننا كلنا سراق ، إنما هناك اللص الشريف ، وهو الذي يسرق الأغنياء ويعطي شيئاً للفقراء ، وهناك اللص الخائن المجرم ، الذي يسرق الفقراء ويتقاسم مع أمثاله ، ماسرقـــه . )
  وفي علاقته مع الديــن ، يرى بان الإنســـان قد يكون وفيّاً بدون دين ، او خائناً ، وله ديـــن .
ولايضمر إلحاده ، فهو يقدسّه ، بمثل مايقدسّ الآخر دينه السماوي . هو يشعر بأنه طفل مهجور ، بلا أم لا أب .
ويقول : ( تسولت لفترة من حياتي ، وكنت أنام في الشوارع وتحت الجسور .)
وكان في حياته البائسة يسرق ، وينام مع الرجال من أجل لقمة العيش !
كان جينيه عازماً على حضور مهرجان المسرح العالمي الأول في العراق ، وحين سأل عن عزمه لحضور المهرجان أجاب :
    ... طبعاً .. هذا اذا لم يعقني المرض أو أي أمر يمنعني من الحضور ،
     لقد وجَهّوا لي دعــوة رسميــة .
يعرف جينيه العربية الدارجة ( المغربية ) ، ويستطيع أن يتهجّى الحروف العربية ، ويكتبها بدون أخطاء كان كما يقول محمد شكري عنه ، إنسانياً جداً مع الشباب السود والسمر ، ويشفق على البائسين . ويتناول كثيراً من الأقراص المخدرة ، فلا يعود يتذكر جيداً مايحدث له، لم يكن صريحاً مثل تنسي ولميامز ، بل كان مغروراً .
ذهب النقاد في تقويمه مذاهب شتى ، حسب منطلقاتهم الفنية والجمالية والأيدلوجية ، اتفقوا على ان مسرحه ضرباً من الأحاجي ، وعواطفه يتداخل فيها الحب بالكراهية ، والحسد في الازدراء .
ويعتمد على المراسم المازوكية والسادية ( كما في الخادمات مثلاً ) وكأن الشر في داخل جينيه هو استعارة فنية من حقائق الدنيا نفسها ، وما رجل المصارف سوى سارق محترم !
وما الراهبـة الا بغـي متساميـــة .
بمثل هذا الرفض الشنيع لأخلاقية الواقع ، يعبّر عن كم هائل من محركات الروح التدميرية ، التي دشنها في سلوكه العام ، على مستوى الشخص الاجتماعي ، وكذلك عبّر عنها في سلوكه الإبداعي ، وهو يكتب نصوصه المسرحية .
عبّر عن تدميريته هذه ، بما يسمّى بـ( التماهي الاسقاطي )  حيث صبّ سوءه وعدوانيته على مجتمع البرجوازيين ، مثل السيدة في مسرحية السود ، وجنّب الخادمات اللواتي يتعاطف معهن من هذه الشرور ، وكأن يقدم ( هوام ) Phantasy   على شكل نصوص حسّية مسرحية ، من قتل واغتصاب وتدمير ، كاستعارة لأشكال إشباع بدائية ، ورغائب جنسية مكبوتة .
روبرت بروستاين يوصف جينيه بأنه سيمائي ، إبداعي ، خصي ، بميوله الراديكالية الميتافيزيقية ، وهو معادل عصري لديانات الغموض والأسرار ، وانه يبرر فشله في مسرحية الخادمات ، بأنه راجع الى تحيّزه اذ يجعل الشخصيات على المسرح تشبيهات حسب لما هو مفروض ان يمثلوه .
لقد أراد جينيه ان يرّد الاعتبار لما هو خسيس !
بان يجعل من الرجس شيئاً أنيقاً ، غنائياً ، شاعرياً ، انه ( هدّام ) ضد المدنية والمجتمع المحترم ، ويبحث عن اللعنة من جنسه البشري ، كأنه يعيد توصيف رامبو لنفسه وهو يكتب ( كانت النكبات ربي . لقد حططت نفسي في الوحل ، وجففت نفسي في هواء الجريمة .)
هل وصل جينيه في مسرحه حقاً الى تقديم صورة فنية ، لإبادة الجنس الأبيض بأسره ، كما يدعي بروستاين ؟ حتى القضاة هم متلازمون مع الحياة .
يقول القاضي في مسرحية ( الشرفة ) : ان وجودي بصفتي قاضياً هو فيض منشق من وجودك بصفتك لص .
هل هذه الروح العدوانية ، تعبرّ عن نفسها بالحروب التي خاضها الغرب الكولونيالي ، بوصفها من أمراض الجسم الرأسمالي نفسه ، ومن إفرازات التدميرية الاحتكارية ضد المستهلكين ، المحاصرين بأشدّ أنواع الاستغلال ، والتهميش والإبادة ؟
يذكر كريستوفر إنيز – بأن قهر الشعوب المستعمرة في مسرحيات جينيه ، لايطرح بغرض ابراز التحرير السياسي ، ان البؤس الذي تعانيه هذه الشعوب يتم إعلاء قيمته باعتباره خطوة ضرورية في طريق السمو والتأله الروحي الذي يعتمد بشكل كبير على قسوة المستعمرين وظلمهم ويضيف إينـز :
   لقد احتلت الرموز الجنائزية مركز الصدارة في مسرح جينيه محل علامات رمزية أخرى مثل القبضات المضمومة والأعلام الحمراء التي عرفها المسرح السياسي .
في قراءة للمسرح المعاصر ، يثبت جان بير رينجير بان مسرح جينيه يعتمـد على ( التمسرح ) ، وعلى تأكيد الإيهام بكل صوره ، ذلك لان جينيه يرفض العالم الواقعي ، ويروم خلق عالم تسوده ( الطقسية ) و ( الموت ) .
وهنا تبرز الحالة التدميرية بربطها للعالم الحسيّ الواقعي ، بعالم الفن ، باختلاط عجيب ، وليس مثل جان جينيه من ارتبطت حياته بانحرافاتها الشنيعة ، بانحرافات فنه المأخوذ بانزياحاته الشاذة ، الخارجة على قوانين الحياة ، ينتقم من الأبوية في الفن ، وهو ما تبينّه رسائله الى مخرج أعماله ، لأنه ان كان لايفهم كثيراً في الإخراج المسرحي ، فانه يفهم نفسه أكثر من أي إنسان آخر.


المصــــادر

1-                       جان بيير رينجير / قراءة المسرح المعاصر
          ترجمة : أ.د. حمادة إبراهيم
          مطابع المجلس الأعلى – القاهرة : 2004 .
2-                       كرستوفر إينز / المسرح الطليعي / القاهرة
          مطابع المجلس الأعلى القاهرة .
3-                       بامبر جاسكوني / الدراما في القرن العشرين .
          ترجمة : محمد فتحي – دار الكتب العربي للنشر والتوزيع .
4-                       محمد شكري / جان جينيـه في طنجــة .
          منشورات الجمل ط2 : 2006 .
5-                       روبرت بروستاين / المسرح الثوري .
          ترجمة : عبد الحليم البشلاوي – القاهرة.
6-                       مسرح العبث / ترجمة د. عبد العزيز حمودة .
         المطبعة الثقافية – القاهرة : 1970 .
7-                       جان جينيه / الخادمــــات.
         ترجمة : سمير احمد ندا
         مطبعة دار التأليف بمصـر .
8-                       يوسف عبد المسيح ثروت / دراسات في المسرح المعاصر .
         مكتبة النهضة ط2 – بغداد : 1985 .

تابع القراءة→

0 التعليقات:

خصوصية الإيقاع في العرض المسرحي / د. سعد محمد راضي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, أبريل 05, 2016  | لا يوجد تعليقات


يشكل الإيقاع حافزاً داخلياً حسياً ,يفرض نفسه وتنوعاته على كل مفاصل العرض المسرحي, بوصفه يتصف بإضافة الحيوية  للعرض المسرحي ، ان الإيقاع الذي يفرضه النص الدرامي,  يشكل إيقاعا خفياً يستتر خلف الكلمات والألفاظ من تلك الجمل التي يصوغها المؤلف ,إذ يحتوي النص على مجموعة من العناصر الدرامية المتمثلة بالشخصية و الحوار، والفكرة ،و يتضمن هذا النص رسماً عاماً لأفعال المسرحية ،وتحديد مساراتها وكينونة شخصياتها ،ونمط الصراعات التي يتمحور عليها نسيج النص" فالإيقاع النصي هو مفتاح لكل حركة أو إيماءة تتشكل على المسرح، وهو الذي يوحد كل العناصر ويخلق وحدة متناغمة)([1]) وعليه فأن المخرج المسرحي ينبغي أن يؤشر مناطق تواجده في النص المسرحي وفاعلية اشتغاله في العرض المسرحي." فإذا لم تكتب الجمل في نطاق الإيقاع الذي يحتويه الموقف أو الشخصيات والمكان وما إلى ذلك فأن مشكلة المخرج في مزج الكل في إيقاع ونسق معين تصبح مشكلة كبيرة"([2])
أن هذا التأسيس يعد نقطة انطلاق حرة للتجربة الإيقاعية التي يستنفرها النص ويفعلها المخرج,"فالمسرح التقليدي كما هو معروف يخلق انسجاماً بين أجزاء العنصر المسرحي الواحد أو العناصر بكليتها, وبهذا فان إيقاع النص  فن أحداث إحساس مستحب للإفادةِ من ِجرْسِ الألفاظ وتناغم العبارات واستعمال الأسجاع وسواها من الوسائل الموسيقية الصائتة"([3]) حين يرى البعض من المختصين بأن الإيقاع المحاكي ينظم على وفق اختيار مفردات يؤدي جرسها ذهنياً إلى استحضار الشيء الذي تمثله,فهذا الإيقاع عبارة عن تقليد مقصود لفعل ثاني مقدم بوصفه انعكاساً له وينقسم هذا الإيقاع إلى قسمين .الأول هو ما تفرضه طبيعة العروض المسرحية عندما يحاكي ممثلُ ,ممثلاً آخرًا أمامه بنفس الصيغة ,والثاني هو ما يحاكي به الممثل المخرج حينما يحاول المخرج تمثيل الدور بالصيغة التي يرغب بها ,كما يفعل ذلك (ارتو وبيتر بروك وششنر) .وهو إيقاع لم تكن له جذور تاريخية مسبقة إنما فرضته صيغة العرض وأسلوب الإخراج في المسرح المعاصر.([4]) وعلى ما يبدو فأن هذا الأمر يرتبط بمحاكاة مفردات الكلام عن طريق تمثلها بصور على وفق جرسها. أما الإيقاعية فأنها النتيجة المتأتية من تناغم الإيقاع, لتشكيل جمل كما هو الحال في الموسيقى .
و يرى( الكسندر دين)  بان إيقاعات العرض المسرحي تتماشى مع إيقاعاتنا الداخلية ولعل الإحساس بهذا الإيقاع التي تشكله متناقضات العرض المسرحي يجعل المتلقي ينجرف نحوه بكل أحاسيسه "وهكذا نجد أن إيقاعاتنا تتماشى مع إيقاعات العرض الجاري فما يتعلق  بالحركة الجسمانية والفعلية, وان الإحساس بالدهشة اللذيذة التي نكتشف بها هذه الحقيقة هي إحدى متع التجربة الإيقاعية"([5])
ذلك أن إيقاعَ العرض يحقق ما أطلق عليه المسافة الجمالية والتي تدفع المتلقي في الصالة أن يحرك أصابعه ويضرب بقدميه الأرض ذلك أن الإيقاع  يحرك فينا الإحساس بالمعنى وصولاً لعملية الفهم والإدراك حينما" يرتبط الإيقاع بالمعنى ارتباطاً حيوياً لان الكلمات التي يسند بها المعنى لا تنفصل من أصولها الصوتية"([6]). ولما كان الإيقاعُ في العرض المسرحي متغلغلاً و متشعبًا في كل مفاصل العرض فأصبح ذا أهمية كبرى في التخصيب والاستنهاض والتنامي والسرعة والتنظيم ولما كان الإيقاع حسياً فمن الصعوبة بمكان تثبيت وحداته وانثيالاته في العرض المسرحي.
 وقد قسم الإيقاع إلى "سمعي وبصري ولمسي وشمي وذوقي"([7]) كما وضعت له صفات مما يمكن أن تطلق عليه الوحدات الإيقاعية كما يشتغل بتنوعاته وفق السرعة الإيقاعية المتغيرة ولهذا فقد كانت للإيقاع وظائف مهمة وأساسية بدءاً من بناء المزاج وتعزيز الحالة النفسية ونقل الانطباع وتغيير نمطية المشهد والبناء الإيقاعي لوحدات الفعل العاملة على مستوى الأداء والتواتر ألمشهدي وبهذا فأن الإيقاع يتنامى في نسيج الصورة البصرية والذي يدفع بالمشهد نحو الذروة عندما يحدده الممثل بأدواته وسرعته الإيقاعية, "فالإيقاع على مساحا ت وحجوم المنظر المسرحي بمستوياته اللونية والمساحية  ومداخله ومستوياته الارتفاعية ومخفضاته في التنوع والإحساس بالمسافة والعمق يرتبط بالشعور الحسي الذي يوفر انسجاماً كلياً بين إحساس المتلقي وما تنجزه الصورة البصرية"([8])
فالمنظر المسرحي يشكل متداخلات إيقاعية بين كل مساحاته وتدرجات اللون وتوافق الإضاءة مع حركة وأداء الممثل على خشبة المسرح و توافقاً طردياً مع البعد السنوغرافي ويرى بوبوف " بأن الإيقاع وتدرجات اللون والإضاءة  يجب أن تكون في توافق وانسجام مع كل ما يجري على الخشبة المسرحية"([9]) هنا تصبح خصائص الصورة البصرية متوافرة على وحدات إيقاعية تفرض ذاتها على كل جزيئات المشهد المسرحي وبالتالي ينعكس هذا التكامل على العرض المسرحي كما أن لخطوط المنظر المسرحي إيقاعا خاصاً بها يتناوب بين الخطوط المنحنية والمستقيمة والمنكسرة والمتعرجة بكونها توحي للمتلقي الإحساس الحركي داخل المنظر الثابت كما هو حال تدرجات الألوان بين الحارة والباردة والتي توثر سايكوفيزيولوجيا على مزاج المتلقي لتحيله إلى منطقة التفسير والتأويل وبذلك يكون المخرج والمصمم  قد حققا معاً إيقاعا يقود الحالة النفسية وصولاً للاستجابة المثلى "فالخطوط الخلابة والألوان والأصوات الجذابة والإيقاعات المثيرة يمكن أن تضفي حيوية على كل فتور نحس به"([10]). ولعل خصائص الضوء وكثافته وانتشاره وتوزيعه يحقق إيقاعا أخر وكما هو مدرك فلا يمكن رؤية الأشياء بمعزل عن الضوء ولذلك يرى (أبيا) بان الضوء والظل متساويان في الأهمية ولعل هذا المبدأ يشكل الأهمية القصوى التي يخلقها الضوء على الخشبة بوصفه لا يتحدد بمجال الرؤيا بل يتسع  ليتمثل بسيمياءيات دلالية مؤشرية ورمزية من شأنها أن تخصص قدراً كبيراً من المعنى يضيف للعرض توليفات لونية وضوئية وكتلية تضاف لما قدمنا له بوصفها خصائص إيقاعية, ويذهب بول كلي إلى أن " الحركة في الطبيعة من الضوء إلى الظلام ليست فوضوية فالطبيعة تخلط الضوء بالظلام  وذلك عبر نظام السريان المستمر والحركة الدائمة بينهما"([11]) غير أن المسرح يستنفر كل قوى الضوء وزوايا سقوطه وتلوين أضواءه وتكويناته الضوئية في تلوين الفراغ بالنور لاسيما ان الرؤيا في المسرح تقتضي أدق التنظيمات للمصابيح والمناظر المسرحية,بحيث تأتي إيقاعيا لإثارة الإحساس بالدهشة والتأمل ويرى كانت "أن انفعال الإحساس هو صوت الموسيقى وانفعال التأمل هو الفنون التشكيلية".([12]) وبهذا يعد الضوء واللون والخطوط والمنظر التشكيلي داخل الصورة البصرية منعكس شرطي جمالي يؤكد وجود الإيقاع وتناغماته على مستوى المشهد المسرحي ويضيف بافلوف "عن علاقة الحواس حين يسمع لإيقاع أولا ثم يتبعه دفع حركي عن طريق الفعل المنعكس"([13]) ولهذا فان للحركة والرقص والإيماءة والإشارة, خصائص إيقاعية منسجمة تتفق مع ما يقابلها عن مؤثرات موسيقية أو مقطوعات إيقاعية متنامية, فتنامي الموسيقى يدفع بالتنامي الحركي نحو الذروة, ويعد الشكل الحركي والاتجاه، والسرعة والتنظيم, نواة تتسارع مع الجهد الموسيقي, كأننا أمام إيقاعية متحركة متنامية داخل القصيدة فضلاً عن أن الوضعية الجمالية هي الأخرى تحتكم للإيقاع العام للشخصية, بوصفها سمة تحدد حركة الشخصية وإيقاعها الداخلي فالإيقاع إذن " حركة متنامية يمتلكها الشكل الوزني حتى تكتسب فئة من نواه وخصائص الفئات الأخرى"([14]) في الحركة المسرحية الجسدية تنتقي حركة وإيماءة وإشارة ما قبلها لتؤسس لما بعدها من خلال ماديتها وطريقة تنظيم وتنسيق وحداتها وكذلك تجربة الممثل الصوتية التي تعبر عن جرس الألفاظ ومنح الكلمة معنى قد يكون تأويلي غير مرئي من خلال المرئي ولذلك نعتبر الموسيقى إحدى المجهودات التي تعبر عن اللازمان واللامكان لكنها تحيل إلى فكرة ويرى (بيتر بروك) "أن الموسيقى تعبر عن المجهول و واللامرئي من خلال طريقة وتنسيق الأصوات حيث تشكل جمالاً يفوق الوصف فالإحداث لا تنقل المرئي لكنها تصوره وتقدم للجمهور تجربة جمالية عما يقع وراء عالمهم المادي"([15]).

----------------------------------------------------------
المصادر
([1]) بدري حسون فريد وسامي عبد الحميد.مبادئ الإخراج المسرحي,(بغداد :مطبعة الحرية,1980) ص96
([2])  الكسندر دين. مصدر سابق,ص354
([3]) أبو الحسن سلام.دور الإيقاع في النص المسرحي,ج1 ط2,الإسكندرية ,دار حورس للطباعة ,2005,ص20
([4]) لقاء مع الدكتور عبد المرسل الزيدي في قسم الفنون المسرحية ,الساعة العاشرة صباحا ,بتاريخ 3/5/2010
([5]) الكسندر دين .مصدر سابق ص354
([6])  عبد القادر الرباعي.تشكيل المعنى الشعري.مجلة فصول ,المجلد4 ,العدد 58 , 2005.ص56
([7]) سامي عبد الحميد ، إيقاع العرض المسرحي واستجابة جمهوره, مجلة إسفار ، بغداد: العدد(15)، 1993ص23
([8]) حسين التكمة جي ,مناخات التنامي الإيقاعي في العرض المسرحي,جريدة المستشار,العدد320
([9]) ألكسي بوبوف .التكامل في العرض المسرحي,تر:شريف شاكر,دمشق.وزارة الثقافة والإرشاد القومي.1976,ص128
([10])  Dewitt porker :the principles of  aesthetics,2nd ed(m.y.crofts,1947),p85                                                        
([11]) بول كلي.نظرية التشكيل,مصدر سابق,ص57
([12]) فتح الباب عبد الحليم.البحث في الفن والتربية,  القاهرة,عالم الكتب ,1983,ص89
([13]) أبو الحسن سلام.الممثل وفلسفة المعامل المسرحية,الإسكندرية,دار الوفاء للطباعة,2004 ص91
([14]) كمال أبو ديب.في البنية الإيقاعية للشعر العربي.دار العلم للملايين .بيروت ط2, 1981 ص7
([15]) كولين كونسل.علامات الأداء المسرحي.تر:حسين أمين الرباط, (القاهرة:مركز اللغات والترجمة ..1998 )ص233.
كلية الفنون الجميلة بغداد

تابع القراءة→

0 التعليقات:

الإتجاه المستقبلىFuturism وتأثيره على العروض المسرحية / راندا طه

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, أبريل 05, 2016  | لا يوجد تعليقات

       
                      جياكومو بالا، السرعة والصوت، 1913-1914
في عام 1909 أعلن الإيطالي فيليبو توماسو مارينيتى  Filippo Tommaso Marinetti  تكوين الحركة المستقبلية في الفن والأدب عندما نشر وثيقته التاريخية الشهيرة "إشعار تكوين وإعلان مبادئ الحركة المستقبلية"، وقد صدر بيانهم عام 1909م ، وملخصه : ضرورة الإحساس بروح العصر الذي يفرض اسلوباً عصرياً سريع الايقاع ، وضربوا لذلك مثلا : بفرس يعدو ، فليس من المعقول ـ عندهم ـ ان يرسم على اللوحة باربع سيقان بل بعشرين ساقا ً. وانتقدوا التكعيبيين لخلو لوحاتهم من الحركة.ورغم أن الحركة المستقبلية ترتبط أساساً في أذهان الكثيرين بالفنون التشكيلية إلا أننا نجد أن روادها الأوائل قد اهتموا اهتماماً كبيراً بالدراما المستقبلية حيث قام رائدان أساسيان من رواد المستقبلية في الفن التشكيلى وهما جياكوموبالا Giacomo Balla وإمبرتو بوتشينى بكتابة العديد من النصوص المسرحية التي أصبحت لها الآن قيمة تاريخية كبيرة رغم قيمتها الفنية المحدودة. 
    تتركز أهمية المستقبلية في أنها كانت رائدة المسرح الأوروبي التي شجعت التيار التجريبي، و الثورة على التقاليد المسرحية المتوارثة ، مما أدى إلى نشأة مدارس أخرى تتميز بانفصالها عن الواقعية والموضوعية ، مثل الدادية ، والسريالية ، و البنائية الروسية ، ومسرح العبث . 
   تستقي هذه الحركة حدودها من النظرية النسبية التي كشفت عن البعد الزمني الذي يعبر عن الحركة والطاقة، وتظهر الاستجابة في العمل الفني في تحدب الخطوط وتقوس الأشكال، واستخدام عنصر الضوء مع هذه المقومات المستمدة من الحركة الكونية والتى تجعل كل شيء في الوجود يتحرك ويتغير في صيرورة مستمرة. وتتسم الحركة بحساسية كبيرة، واقتران الحركة مع الضوء يعمل على تحطيم المادة (أي الأشكال) لتكشف عما وراءها في حالة من الإندماج.
  تميزت مسرحيات المستقبليين بتركيزها على العالم الوجداني الخاص للإنسان ، مما اكسب بعض هذه الأعمال صفات الشاعرية و الرمزية ، و اهتم كتّاب هذه المدرسة بتصوير الحالات النفسية، و حالات الجنون خاصة ؛بغرض إحداث نوع من الصدمة عند المشاهد ، وقد نتج عن التركيز الشديد على النفس البشرية باعتبارها المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون مسرحا لأي أحداث حقيقية ، ظهور مسرحيات لا تنتمي إلى أي بيئة موضوعية ، سواء واقعية أو متخيلة مثل مسرحية " الملل " للكاتب " أنجلو رونيوني ".
  قدّم المستقبليون مادة تتحدى العقل و المنطق المعروف قبل وصول السريالية إلى خشبة المسرح في أوروبا بفترة وجيزة ، و اعتمدوا على عنصر مسرحي هام انتفع به أصحاب الاتجاه الداديDadaism هو عنصر استفزاز المتفرج ، و المواجهة المباشرة ، و الإنكار التام لمبادئ الوجود و الأخلاق، أي العدمية.و قد اهتم المستقبليون بالمؤثرات المسرحية مما أدى إلى إدخال عناصر جديدة إلى المسرح مثل:كشافات الإضاءة، ومؤثرات حسية حية أخرى،و حرصوا على تكسير الحائط الرابع الوهمي.

  اثرت المستقبلية على كثير من الحركات الفنية في القرن العشرين مثل آرت ديكوArt Deco وداديةDadaism  والبنائية Constructivism والسيريالية..surrealism وغيرها. وندرت فى وقتنا الحالى  العروض المسرحية المستقبلية ، بعد أن توفي مؤسسها فيليبو توماسو مارينيتي Philippo Tomasso في عام 1944. إلا أنه هناك نوع من الإحياء للحركة المستقبلية، فقد قام عدد من المستقبليون الجدد في عام 1988 م بإنشاء ذات النمط من المسرح في شيكاغو، واستخدموا الاتجاه المستقبلي فى التركيز على السرعة والإيجاز في الكلام لخلق شكل جديد من أشكال المسرح.
-----------------------------------
المصادر 
 اذهب الى الأسفل
تابع القراءة→

0 التعليقات:

التحول الدلالي للنص البريشتي في عروض المسرح العالمي / سعد عزيز عبد الصاحب

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, أبريل 05, 2016  | لا يوجد تعليقات


قد تكون دراما (بريشت) الملحمية الديالكتيكية تعكس في الاساس وضعاً سياسياً معيناً وأنها “مسرحيات آنية”، مسرحيات ثورية دعت الى الفعل السياسي والى الجدل، وحاجج النقاد البرجوازيون مسرحيات (بريشت) في كونها (نصوصا مغلقة) تعكس الواقع ضمن مساحته الزمكانية فقط ولاتهمل ازاحة للقراءة الاولى (الربيشتية) للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفق تحولات هذا الواقع المستمر، ويقف هؤلاء النقاد بالضد من فكرة تجسيد نصوص (بريشت) مسرحياً في موقف معظم المخرجين في ضوء استنساخ التجربة (البريشتية)

وخاصة في عروض أوربا الشرقية وألمانيا الديمقراطية سابقاً وهي – حسب النقاد البرجوازيين – نسخ (فوتوغرافية) من عروض مسرح (البرليز إنسامبل)، ولا يمكن الركون لآراء هؤلاء النقاد بسبب من حيوية وديناميكية النص البريشتي واستشرافه وقراءته للحوادث والمشاكل والعلل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فقد كشف (بريشت) عن قوانين الواقع في ضوء موقفه الماركسي ومن خلال تفكيره الفني، وان كل عصر يوظف في الفن ماهو خاص به، وان الجوهر الموضوعي، والحقيقة الموضوعية للاعمال الفنية، تبقى دون تبديل، والتحول هو تحول شكلي يرتبط بالرؤية الاخراجية التي تشكل عناصرها من سينوغرافيا وأزياء وشخصيات وضوء وقراءة جديدة محايثة للواقع، ولم يتوقف (بريشت) ضمن أنساق العلاقة التأريخية الجامدة وانما اخذ يحرر نصه من رقبة المحددات الزمكانية والايديولوجية، بأجراء تعديلات مستمرة على نصوصه من حذف وأضافة بما يتساوق مع التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فوضع (بريشت) مثلاً امام مسرحية (بنادق الام كارار) التي تأخذ شرعيتها وتأثيرها من التطابق مع موقف أجتماعي وسياسي معين – مهمة محدودة، لأن العلاقة التاريخية الحتمية لاتوضح من المسرحية نفسها، فأسباب كتابة مسرحية (الام كارار) التي تعالج تفاقم التناقضات الطبقية في اسبانيا الى درجة الحرب الاهلية، وكان وقتها من المهم كسب مناضلين من أجل قضية الشعب الاسباني، وحينما قدمت المسرحية في السويد عام 1938، أثيرت مناقشات عديدة حول ما اذا كانت نتيجة القتال في اسبانيا تفند المسرحية، وقد أضاف (بريشت) الى المسرحية فيما بعد أطار حدث جديد – مكون من تمهيد وخاتمة – لكي يضعها في العلاقة التاريخية (1)، وكثيرة هي الاضافات التي وضعها بريشت على نصوصه تدريجياً تساوقاً مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم، وهذا مايجعل نصوصه من النصوص الديناميكية ذات الفاعلية القرائية المستمرة، فمعالجة (بريشت) للتحولات يتأتى من اختياره لموضوع ساخن وجدلي لايتركه (بريشت) وانما يطور من ميكانزماته الداخلية ليدافع عن قيمه الدرامية ولايفقد طاقته التأويلية، فهو يعيد كتابة مسرحية (غاليلو غاليلي) ثلاث مرات لأجل هذا الهدف، ففي أهم فارق بين الكتابة الاولى والثانية هو عملية نكران (غاليلو) لأكتشافه الداحض للنظرية (الكوبرنيكوسية)، ففي الكتابة الاولى كان المشهد الاخير مختلفاً فغاليلي كتب خطاباته في السر، وحين أتى تلميذه لزيارته، يدبر (غاليلو) الأمر بحيث يجعل تلميذه يهرب مخطوطته عبر الحدود، فنكرانه قد أتاح له خلق عمل له أهمية مركزية، أما في الكتابة الكاليفورنية أي (بريشت) عندما كان في منفاه الامريكي، فنرى (غاليلو) يقطع حديثه مع تلميذه المادح لكي يبرهن على ان نكرانه كان جريمة وان كتابه مهما كانت اهميته لايبرر ذلك النكران أبداً (2).
تفسر الكتابة الثانية لـ (غاليلو غاليلي) لعدم نكران (بريشت) لماركسيته داخل منفاه الرأسمالي، وعليه ان يدافع عن طروحاته الاشتراكية (اللينينية) على الرغم من وجوده في منفى يعمل ويتبنى غير هذه الايديولوجية التي يمكن ان تؤدي الى مغادرة أمريكا، لو أنها أعلنت بشكل تصدير وتبشيري واضح.
أما الكتابة الثالثة لـ (غاليلو) فهي تختلف عن الكتابتين الأوليتين في انها تعطي أهمية لـ (نكران) غاليلي لطروحاته العلمية بسبب توظيفها من قبل العالم لتدمير العالم نفسه، وفي هذا اشارة للقنبلة الذرية التي دمرت مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945، وأنهت الحرب العالمية الثانية.
وللمخرجين في العالم أثرهم في أثراء مفهوم التحولات الدلالية للنص البريشتي وفق تأثيرات ظروفهم ومرجعياتهم الايديولوجية والفنية، ففي مسرحية (قديسة المسالخ جان) والتي “قدمت في مدينة (شتوتغارت) واخراج (بني بيوسون)، ركز فيها (بيسون)، ضمن اطار تاريخي، لعرض التطور الدوري للاقتصاد الرأسمالي في زمن ازدهار الرأسمالية، ليعيد (بيسون) انتاج صيرورة الرأسمالية ونتائج تأثيرها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي لألمانيا الستينات، والتدافع السياسي بين الاشتراكية والرأسمالية، مع انجذاب الشارع الالماني للطروحات الرأسمالية، وذلك لطراوة الحياة في ألمانيا الغربية عنها في الشرقية الفقيرة” (3) ، ويحدث التحول الدلالي في العرض أرتباطاً أصيلاً في الرؤية الاخراجية وعدم خضوع النص البريشتي، للقراءة الآنية فقط، وانما هو نص متحول بتحول الزمكان والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففي مسرحية (الأم شجاعة) ومن اخراج (بريشت) عام (1945) “يظهر الأبن (ابن الام) وهو في طريقه الى الاعدام، فقد اراد مصمم الملابس الباس الابن ملابس ممزقة واظهاره حافي القدمين، ولكن بعد عشر سنوات اي عام 1964 في اخراج نفس المسرحية برؤية (لوكفيتس) يظهر نفس الأبن في سترة سوداء رسمية غالية الثمن تشبه لباس جنود (س.س) لقد أثرى الأبن في فترة أرتقائه العسكري، بما يظهر تحولاً دلالياً في مدلول الشخصية والمشهد عموماً والذي أصبح الآن يشير الى تجار الحرب وثرائهم الفاحش” (4). وفي اخراج مسرحيات (بريشت) الاولى في حاضنة ليست اشتراكية تظهر هناك تحولات عديدة في الرؤية الاخراجية ضمن انساق التجربة المحلية وأسلوبها الفكري والجمالي في تلك الحاضنة الجديدة، “ففي نيويورك عام 1936 اخرج (فيكتور وولفن) مسرحية (بنادق الأم كارار) وصمم الديكور (موردخاي غورليك)، وأعطى العرض طابعاً مغايراً، لما كان يفكر به (بريشت) في المسرح الملحمي وآلياته فجعل (وولف) موت الأبن في نهاية المسرحية، وتم أعطاء الطابع الروسي التقليدي للازياء، وتم التسريع من وتيرة الاحداث وصولاً الى نهاية الدراماتيكية في موت الأبن، الذي يقع في منتصف المسرحية في النص البريشتي،” (5). وجرى ذلك التحول بسبب عدم وصول مفاهيم المسرح الملحمي وترجمتها بصورة واضحة للمخرج والممثل الامريكي وانغمارهم في المدرسة الستانسلافسكية الاخراجية والادائية الاندماجية، المتركزة في مدرسة (ستراسبورغ) الفنية وأسلوبها الذي وضع الاحداث بشكل تصاعدي (بداية، وسط، ونهاية) لتركيز التأثير الايهامي لذى المتلقي المتغذي على هذا النمط من العروض التي هي انعكاس لحاضنته الرأسمالية.
وبتأثير مباشر من مبادئ (الواقعية الاشتراكية) في روسيا الـ (ستالينية) في تركيز “مفهوم (الحشد الجماهيري) واعتبار البطل الايجابي في مسرحيات الواقعية الاشتراكية هو (الشعب) بصورته وحضوره المتوحد والهادر بوسائله الشعبية من رقص وأحتفال وطقس”، (6) قام المخرج الشكلاني (الكسندر تايروف) عام 1935 بأخراج مسرحية (بريشت) (أوبرا القروش الثلاثة) “فبين يدي (تايروف) تحولت هزلية بريشت المرة الى (كوميديا حافلة بالرقص)” (7) ، ويرى الباحث ان اهتمام (تايروف) بأخراج النص البريشتي جاء لانفتاحه على الحوار الجدلي للطبقات السفلى (البروليتارية) في مجتمع الاوبرا، ومحاولة النهوض بوعيها لجعله وعياً تقدمياً حيث تحول النص الطبقي الى عرض شكلاني (آيديولوجي) احتفالي صاخب. اما على صعيد الشخصية الملحمية فتكونت مساحة اخراجية متغيرة لازاحة الشكل الدرامي للشخصية (الاصل) في النص البريشتي بما يتساوق مع المتغيرات الاقتصادية، فمثلاً قدمت مسرحية (قديسة المسالخ جان) بعد الحرب العالمية الثانية عام 1964 في المانيا الشرقية وبأخراج (هاري بوكنيتش)، ويذكر العرض بكلمات وديكورات متأثرة وبأن المسرحية لاتزال تحتفظ بكل مغزاها في زمننا هذا، الا ان سوق التبادل، لم تعد هي كما كانت في العام 1929، لكنها لاتزال قائمة دائماً وفي كل مكان، وأقام (بوكنيتش)عدة تحولات في الرؤية الاخراجية للنص البريشتي فيما يخص الشخصية الملحمية حيث قام بتحويل شخصية (موللر) البروليتاري الى شخصية رأسمالية تسهم العرض وتستشرف حال المانيا المتحولة تدريجياً الى النظام الرأسمالي، وهدم (موللر) والشخصيات الأخرى الجدار الكارتوني الفاصل بين مدينة المسالخ والمدينة الرثة (Cool في قراءة تبعد مايقرب عن الستة والعشرين عاماً عما سيحصل في عام 1990 عندما اسقطت الجماهير الالمانية جدار (برلين) الذي يقسّم المانيا الموحدة الى المانيتين، في قراءة مغايرة ومعاصرة للمسرحية البريشتية (قديسة المسالخ جان).
وأخرج مسرحية (الانسان الطيب في ستزوان) المخرج (بني بيسون) “وتأثر (بيسون) بالجو الميتافيزيقي والاخلاقي للمسرحية وخاصة في مشهد دخول الألهة الثلاثة ونزولهم الى الارض، حيث قدم اخراجا يقترب من الواقعية السحرية، وكان مشهد الاستعلال عندما ينزل الالهة الثلاثة الى ستزوان محاولين ايجاد مأوى لهم، فأن البيوت كانت تهرب منهم بحركة سريعة دراماتيكية الا منزل (شرقي) الفقير الذي ظل مائلا وراسخا في الارض” (9).

وحذف (بيسون) العديد من المشاهد في النص (البريشتي) وكثف البنية الملحمية وصاغها بتصرف، مما اثار حفيظة (هلينا فايكل) زوجة (برشت) وكان هذا سبب خصامها المزمن مع (بيسون) اذ ترى (فايكل) ان التلاعب بالنص البريشتي دون معرفة، يسيء كثيرا لقوانين (بريشت) في (التغريب) و (الجست) و(المسافة الجمالية)، واثار العرض اعجاب الجمهور الالماني والعالمي الذي حضره في 17/4/1970 على مسرح الشعب في برلين، (10) وفي تقديم اخر لمسرحية (الانسان الطيب) في آذار عام 1976، قامت فرقة مسرح الشعب بتقديمها في مدينة زيورخ السويسرية على مسرح دار التمثيل وقام بأخراجها (مانفريد فكفيرد) ، وقامت الممثلة (تانه رشتر) بدور الانسان الطيب (شنتي) ووضع الموسيقى الفنان (باول ريساو) الذي وضع الموسيقى لمعظم مسرحيات (بريشت) بعد (كورت فايل) وجاءت المسرحية بشكل مغاير للطابع البرجوازي الذي تعيشه البيئة السويسرية وقدمت تأثير القصة الصينية باسلوبها المؤسلب والفقير على روئية العرض(11).
وفي ثاني تقديم للاعمال البريشتية في روسيا قام المخرج (يوري ليوبيوف) بأخراج المسرحية على مسرح (شتشوكين) في موسكو عام 1963، وكان هذا التقديم نسخة مشوهة لتعاليم (بريشت)، حيث لم ترض تلاميذ (بريشت) او نقاده، اذ احتوى على اندماج عاطفي عال لشخصية (شن تي) والقناع (شوي تا) بحيث لم يفصل العرض بين لحظات الاندماج والتقديم في مشهد التحول الشهير(12).

المصادر

(1) ينظر: كيته ريلكه فايلر، ارسطو وبريشت، في : قيس الزبيدي، مسرح التغيير، بيروت "دار ابن رشد ، 1978" ص 51
(2) رونالد جراي، بريشت، ترجمة: نسيم مجلي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1972 ص 274.
(3) تمارسورينا، ستانسلافسكي وبريشت، ترجمة: ضيف الله مراد ، دمشق (منشورات وزارة الثقافة ،1994 ص 201)
(4) المصدر السابق، ص 198.
(5) فردريك أوين ، برتولد بريشت : حياته ، فنه وعصره ، ترجمة : ابراهيم العريس، بيروت: (دار ابن خلدون ط، 1981 ) ص250
(6) الكسي بوبون، التكامل الفني في العرض المسرحي، ترجمة: شريف شاكر، دمشق (وزارة الثقافة والارشاد، 1976) ص 77
(7) فردريك اوين مصدر سابق ص 248
(Cool ينظر: المصدر السابق ص 207
(9) فردريك اوين المصدر السابق ص 293
(10) ينظر عبد القادر الدليمي، الانسان الطيب يبعث على مسرح المنصور، في جريدة العراق العدد 2936 بتاريخ 28/9/1985.
(11) ينظر: المصدر السابق .
(12) ينظر: المصدر السابق.

تابع القراءة→

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9