أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

السبت، يونيو 04، 2016

الحركة على خشبة المسرح / د. عبد الرحمن التميمي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, يونيو 04, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

1-1. الحركة وتطورها عبر العصور المسرحية:

من المسلّمات أن تكون الحركة بمعناها العام قد امتلكت حضوراً شاخصاً عبر العصور المسرحية، لارتباطها ارتباطاً وثيقاً بفن الرقص ذي الإيقاعات المنتظمة المأخوذة من الطبيعة نفسها “لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (1).

أن الرقص المشفوع بالحركات هو من أقدم الوسائل التي استخدمها الإنسان البدائي للتعبير عن جميع انفعالاته وغالباً ما كانت تلك الحركات تسير بانتظام وإيقاع رتيب. غير ان الرقص ليس هو الوسيلة السباقة للحركة، بل (الحاجة) هي ما دفعت الإنسان للبحث عن وسائل متعددة للحصول على مبتغاه ومراده.

أن أولى مظاهر الاستقرار والتحرك على سطح الأرض قد تمثلت بأبوينا (أدم وحواء) (ع)، ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (2).

وبهذا انتقلت أولى المظاهر الحركية على سطح الأرض من السماء إذ كانت حركات تختص بها الملائكة وهي حركات سماوية لا تجد العناء في الحصول على مبتغاها فخطوطها واضحة وأهدافها مرسومة سلفاً. وهنا يتضح مبدأ الثواب والعقاب. “فالثواب هو منح الأجر والتحذير من الخطأ، والعقاب كان جواباً على الوقوع في المحذور، وهذا العقاب قد غير المكان (البيئة) فتغيرت معها الحركة فضلاً عن الندم على الخطأ قد غير شكل الحركة ودوافعها وفق مرجعيات العقاب والندم”(3).

إن الحركة هي تعبير فاعل عن دواخل النفس البشرية المرتبطة بـ(الباعث) الذي يولّد (الدافع) ثم (الفعل). وكان لها ارتباط وثيق ولاسيما بالظواهر المسرحية التي كانت قد ازدهرت في بلاد اليونان في القرنين (السادس والخامس ق.م.)، من خلال الطقوس الدينية التي كانت بمثابة محاكاة للآلهة حتى تطورت وازدهرت أبان ازدهار الإمبراطورية الإغريقية التي أخذت فتوحاتها تتسع بشكل كبير وكان لابد لتلك الفتوحات من أن تُمجّدْ في طقوسها عن طريق المحاكاة وتُعبر من خلالها وبها عن مدى ارتباطها الوثيق بتلك الإنجازات إذ كانت لمحاكاة الأشياء وتقليدها عن طريق الرقص والحركات والإيقاعات دور مهم في تبلور مظاهر التمثيل البدائي، وهو عبارة عن محاكاة لعمليات مثل القنص والصيد التي كان يجسدها مستلهماً إياها من مظاهر الطبيعة و”كان يرقص معبراً برقصه عن انتصاره في المعركة، مبيناً لنا كيف تلصص حتى رأى عدوه، ثم كيف أصطدم به وحاربه يداً بيد، وكيف كان يتفاداه، ثم كيف قتله وفصل رأسه عن جسمه، كان رقصه ذلك شديد القرب من المسرحية الصحيحة”(4). وكان هذا الرقص والحركات تسعى لخلق فضاءات كفضاءات الموسيقى “وإذا كان الفضاء هو تلك السموات التي تسبح فيها الحركة، فالحركة هي تلك السماوات التي تسبح فيها الموسيقى. وإن جميع الأشياء إنما تصدر عن الحركة”(5).

وبتطور تلك المظاهر والطقوس واقترابها من الصور الدرامية المسرحية، تطورت الدراما وبدأت تظهر أولى صورها على يد (ثيسبس الايكاري)(*) عام (535ق.م.) في الاحتفالات التي كانت تقام تمجيداً لـ(ديونيسيوس)، إذ أنجبت تلك الأعياد شعراءاً تميزوا بالدراما الطقسية أمثال (أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس) الذين طوروا وغيروا معنى المظاهر الدرامية في العصر الإغريقي بإضافات عديدة أهمها (الكورس- الجوقة) والممثل الأول الذي قدمه (ثيسبس)، والممثل الثاني، على يد (اسخيلوس)، والممثل الثالث على يد (سوفوكليس)، بينما (يوربيدس) قد غيّر الموضوعات الإلهية الفوقية الى إنسانية مقرباً إياها من نفوس البشر إذ أن جميع تلك التحولات التي حصلت في بنية العرض الإغريقي فيما يخص موضوعاته وزيادة عدد شخوصه قد أثر تأثيراً واضحاً في تلك المظاهر الطقسية بشكل عام والحركة وتعدد دوافعها وتنوع صراعاتها بشكل خاص نتيجة لتعدد الشخوص وتوسع دائرة عجلة العلاقات، إذ كانت الحركة لها مهمات أساسية تضطلع بها في بلاد اليونان، لأن التمثيل لديهم “يتألف من فخامة آسرة في الإشارة والحركة” (6) ، والحركة واحدة من بين أهم الوسائل التي استخدمها إنسان ذلك العصر في احتفالاته الطقوسية وكانت تعبر احياناً عن غريزته المجردة المشفوعة بالصور المركبة عن طريق الحركات الإيمائية وهي النزعة التي كانت سائدة من خلال الوسائل التعبيرية لرواية ما حدث من أمور.

وبسقوط الإمبراطورية الإغريقية على يد الرومان، أخذت تلك المظاهر الطقسية تتغير وفق مفاهيم جديدة وأُطر غيرت خريطة الحياة بشكل عام والمفاهيم المسرحية بشكل خاص، إذ تعامل أقطاب المسرح الروماني مع العرض المسرحي “من خلال النص ذو المضامين المختلفة عن مضامين المسرحيات الإغريقية مما اثر في شكل العرض وأساليب الطرح والمعالجة التي كانت الحركة جزءاً مهما فيها”(7). فتشابهت الموضوعات في (الكوميديا الوسيطة والحديثة)(*) وكذلك شخوصها النمطيين، وهذا ما جعلها تقع في فخ التكرار والكلائش الجاهزة وكان من بين أهم العناصر التي شملها هذا التكرار هو عنصر الحركة. وبما أن الشخصيات كانت تتكرر على الدوام في جميع العروض فكان لابد أن يسود هذا التشابه في المواضيع على خلاف ما جرى مع المأساة اليونانية أو حتى ملهاتها (8).

لكن المأساة الرومانية على الرغم من انها لم تصب بذات الداء لكن حضورها كان أقل حظوة نسبة الى الملهاة اليونانية. إذ ان (سنيكا) (*)كان “لا يراعي بدقة المألوف الإغريقي الذي أعاد (هوراتيوس) صياغته كقاعدة تقضي بعدم إراقة الدماء أو ارتكاب سائر أعمال العنف أمام المشاهدين” (9). مما دفعهم لاستخدام حركات عنيفة حادة تتناسب مع أهداف ودوافع الشخصيات التي كانوا يقدمونها على الرغم من ان الممثل بشكل خاص والمسرح الروماني بشكل عام كانا يخضعان للعرض المسرحي اكثر من خضوعهما للنص الأدبي بعد ان الممثل هو كتلة من المشاعر ينقل الموضوع عبر أدائه وبواسطة الحركات والإيماءات والإشارات. وهو بذلك يستطيع ان يرتقي بالنص الأدبي ويبرزه عن طريق استخدام طاقاته الإبداعية في الأداء.

ان الحركة ما هي إلا ترجمة للأفكار والدوافع الخاضعة لمتغيرات يستطيع الممثل تبريرها طيلة مدة العرض المسرحي لأن “الجسد البشري في كل حركاته، وسكناته، واستقامته، وانحناءته… يصبح لغة صامتة في التمثيل الصامت فالجسد هو وسيطه الأوحد في إيصال موضوعته التمثيلية للجمهور من دون  استخدام الحوار ويمكن ان يوظف الرقص والحركات الإيقاعية التي تخدم مسعاه، وهذا ما يسمى بـ((البانتومايم))”(10).

ومن هنا بدأت تتوضح نقطة الخلاف بين المسرح الإغريقي والمسرح الروماني، إذ يُعد جسد الممثل بالنسبة الى الأول وسيطاً روحياً بين ما يبتغيه وينشده، وبين الآلهة التي يتضرع اليها من اجل الحصول على ما يريد. أما الجسد بالنسبة للثاني فكان وسيطاً مادياً بين الجسد نفسه وبين تلك الأفعال سواء كانت كوميدية هازلة تقدم حركات تخدش الحياء أو مأساوية تتميز بالفضاضة والخشونة وإراقة الدماء.

وبعد سقوط روما في بداية القرن الخامس ق.م. بدأت الأشكال المسرحية تأخذ منحاً مغايراً غير التي كانت عليه لتدخل عصراً وسيطاً هو عصر الكنيسة الذي أهتم باستقطاب المسرح لأجل توظيفه في خدمة قضاياه الدينية، التي تحولت فيما بعد الى ممارسات دينية أطلق عليها (الدراما الطقسية)، وفي ظل وجود الكنيسة التي سيطرت سيطرة تامة على المسرح وتدخلت حتى في أدق تفاصيله، إذ “كانت تعطي ملاحظات في صميم الحركة وتفرض ان يكون رسمها مسبقاً وأن يخطط لها بوجودها، وبالطريقة التي تناسب الكنيسة لكون العروض الدرامية الطقسية قد انحصر تقديمها في مكان محدد هو المذبح” (11).

أما في عصر النهضة وفي أواسط القرن السابع عشر حتى نهايته “كان على كتاب المسرح الجدد ان يكتبوا لطريقة جديدة في الإخراج في مسرح جديد، وأهم من هذا كله، أنه كان عليهم أن يكتبوا لطراز جديد من الجمهور” (12). وعلى الرغم من محاولات الكُتاب والمخرجون، إلا أن المسرح لم يتطور بشكل ملحوظ، غير ان المسارح في ذلك العصر قد “توسعت قدراتها الاستيعابية للجمهور على الرغم من سوء إيصال الصوت اليهم وهذا مردّه الضوضاء والأصوات المنبعثة من المتفرجين التي كانت تختلط بأصوات الممثلين على الخشبة مما اضطرهم لاستخدام إشارات وإيماءات وحركات مبالغ فيها كي يتابعها المتلقي ويصل مغزاها اليه بشكل واضح ودقيق” (13).

وفي بداية القرن الثامن عشر وبظهور منهج (دِلسارت) (*) الذي عد ان “قوانين التعبير المسرحي خاضعة للاكتشاف وقابلة للصياغة بدقة كما نفعل مع الحساب والقياسات فقد عمل على تحليل العواطف والانفعالات والأفكار والتعبير عنها خارجياً بطريقة علمية محسوبة، بمعنى ان الممثل يستطيع وفق قوانين معينة ان يتحكم باتصاله مع الجمهور”(4) وكل هذا قد تم تطبيقه وفق آلية صارمة يسير على نهجها الممثل وفق ما مرسوم له، وقد شملت هذه الآليات جميع أدوات التعبير، وبظهور وتطور عروض الأوبرا التي أخذت مساحة مهمة بعد افتتاح

مسرح (فاغنر) (*)في (بايروث) عام (1876)، أصبحت الدراما تبحث عن فكرة العمل الفني الموحد إذ “تمتزج جميع عناصر الإنتاج في كل مُرَكَبْ واحد وقد سماها النقاد (الفن المركب) إذ كان حظ الحركة في الدراما الموسيقية مرتبطاً بفعل تصوير الأحداث عن طريق المزج بين عناصر الدراما الموسيقية وعناصر الدراما الاعتيادية” (14).

وبمجيء عصر (التنوير) (**) الذي أعلن الثورة على (الكلاسيكية) من قبل (الرومانتيكية) ليضيف اتجاهاً مسرحياً جديداً ينادي بـ(الدراما البرجوازية) وآخر هو (الميلودراما)، قد أثرت في جميع المعطيات المسرحية بشكل خاص، لذا أصبح من البديهي ان يراجع الممثل والمخرج وبقية عناصر الإنتاج حساباتهم الفنية والفكرية والجمالية وفق تلك المتغيرات، إذ بدأت عملية الإخراج تتغير بشكل أوسع وفق نظرة جديدة تلاءم تلك المعطيات بِعَد ان الحركة جزء لا يتجزأ من عمل الممثل وفق ما يرتأيه المخرج، لذا كان من البديهي ان تصاب هي الأخرى بذات التغيير، وكان هذا شأن الحركة وما مرت به منذ الكلاسيكية القديمة مروراُ بالكلاسيكية الجديدة حتى ظهور الرمانتيكية وهي آخذة بالتقلب بين معطيات بيئتها وحاجاتها وأفكارها منطلقة من دوافعها ونياتها المسبقة وفق منظور فكري وفني وجمالي.

إن عصر الحركة الفلسفية والأدبية في غرب أوربا هو “أول من فجروا التجديد في حركة الممثل” (15) إذ أولوا الفن خصوصية ذاتية وفق نظرتهم الفلسفية التي بنيت على أساس الشك والتشكيك في القيم التقليدية ومعتقداتها، وكان ميلهم واضحاً نحو الفردية المطلقة بإبرازهم فكرة التقدم البشري العام.

ومن خلال ما تقدم يمكن ان نخلص الى ان هناك تعزيز وسعي لبناء الحركة وتطوير آليتها لتأخذ دورها في تجديد وإضافة قيم جمالية وفنية وفكرية للعرض المسرحي الذي كان يحتاج الى استقرار، كما يحتاج المشتغلون فيه، وهذا الاستقرار لا يتم إلا عن طريق قائد يوزع بينهم المهمات ويناقشهم فيها، ويتخذ القرارات الحاسمة حيالها.

وبظهور (جورج الثاني- دوق ساكس مايننغن) (*) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تكون عملية الإخراج قد بدأت تتوضح لتكون في موقعها الحاسم في تلك الشبكة المعقدة التي يرتبط بعضها بالبعض الآخر، إذ قدمت فرقة (المايننغن) الذي كان يديرها (جورج الثاني) أولى عروضها عام(1880)، وكانت تسير على خطى (فاغنر) مؤكدين على ضرورة “الاهتمام بتفاصيل التمثيل والأداء وعدم الاكتفاء بالخطابية، فضلاً عن الاهتمام بالمجاميع وحركاتها وتأثيراتها، وعد ان كل فرد في المجموعة له تعبير ووضع على رأس كل مجموعة قائد كما تحاشى التوازن المتشابه (التماثل)” (16).

أما (أندريه أنطوان) (**)فقد أعطى دوراً جديداً للمخرج المسرحي ودعا الى خلق صورة ايقونية مستقاة من الطبيعة المطابقة للحياة. فهو في منهجه كان يعد عملية الإخراج “بمثابة الوصف التحليلي في الرواية القصصية… ومصدر للتعليق على الحوار وإنارة جوانبه” (17). وبهذا تكون العروض المسرحية قد تعاملت مع الحركة وفق منظورها الفكري والفني والجمالي الخاص بها حتى أوائل القرن التاسع عشر، ومع تطور الوسائل الميكانيكية والكهربائية أخذت العملية الإخراجية ومهمة المخرج تتبلور. وبظهور شخصيات مسرحية من أمثال (أندريه أنطوان وقسطنطين ستانسلافسكي وأدولف آبيا وغوردن كريك) أصبحت الضرورة حتمية لأن يأخذ المخرج دوراً أكبر باكتشاف الاتجاهات الجديدة ليس على مستوى الحركة فحسب بل على مستوى العناصر الإنتاجية الأخرى.

ونتيجة لما تقدم تبدو أن الحركة قد استقت ديناميكيتها من الجسد كمادة حية مرتبطة بغرائزها إذ أن “الجسد يمتلك غريزة الحياة، والحركة صورة هذه الغريزة، وقد تطورت مع رموزها عبر العصور واتسمت بأهم سماتها وخصائصها محددة بالباعث والفعل الذي يعمل كمركز للجاذبية وتنسيقه بين الجسم والروح وإذا ما دخل الجسم في مضمار الفن وبالذات فن العرض من الرقص الجماعي (الباليه)، الأوبرا، والمسرح الدرامي، والبانتومايم… الخ، فأنه يستطيع التعبير عن الجمال الصحيح، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا من خلال الجسم البشري وتناسقه” (18) وهذا يعني ان الغريزة هي مركز انطلاق الفكرة، والجسد هو الذي يترجم هذه الفكرة ليكون وعاءً مناسباً ينسجم مع جميع الحركات والإيماءات المتوالدة منه، إذ كانت الحركة تحمل طابعاً غريزياً عاماً تعبر به ومن خلاله عن وظيفتها الرسمية التي تحمل اهدافاً مسبقة وهي صفة عامة اتسمت بها على مر العصور المسرحية.

1-2. الحركة على المسرح

تعد الحركة على المسرح من الوسائل التعبيرية التي يوظفها المخرج لترجمة أفكاره وأهدافه وإيصالها بأفضل الطرق، مستعيناً بتحليله لتلك الحركات وفق أنواعها وأشكالها بأبعادها وتراكيبها التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحدث من جهة، وبالأبعاد الثلاثة للشخصية (الطبيعية و الاجتماعية و النفسية) من جهة أخرى، لتصوير معطيات فكرية وفنية وجمالية تكون الأساس في مد الجسور بين العرض والمتلقي. إذ تتوافق الحركة مع أغراضها التي تحركت باتجاهها، سواء أكان هذا التحرك عمداً أم تلقائياً، فالهدف من الحركة يرتبط بمعطيات الشخصية المرسومة بما يتلائم ومرجعياتها داخل العرض إذ “ليس هناك من يكشف عن دخيلة بوضوح وحتمية اكثر من الحركة والإيماءة فمن الممكن للمرء إذا أراد، ان يختفي أو يرائي خلف الكلمات أو اللوحات أو التمثيل أو غيرها من أنواع التعبير الإنساني، ولكن في اللحظة التي يتحرك فيها ينكشف المرء وتبدو حقيقته خبيثة كانت أم نبيلة” (19). فالحركة هي حاملة المشاعر والمعاني إذ لا يمكن ان نتجاهلها بأي شكل من الأشكال، وهي صورة حقيقية سواء تواجدت مع الفعل أو مع رد الفعل، وهي فلسفة متكاملة تناقش موضوعاً متكاملاً وناتج هذا النقاش هو العرض المسرحي بتوليداته وصراعاته، فأية فلسفة تنبثق من الحركة سوف تحدد فلسفة العرض وبغض النظر عن اتجاهات ومذهبيات أو أساليب ومناهج تلك الفلسفة، وهمية كانت أم طبيعية، رمزية أو تعبيرية، لأن المسرح بطبيعته يحتاج الى تحليل كمي كبير للشفرات المتولدة منه، وأننا قد لا نحتاج الى جميع الحركات أو لهذا الكم الهائل بل نحتاج للوصول الى أنموذج حقيقي أو نماذج حركية تعبر عن تعددية الفعل وردوده لإيصال تلك الأفكار بأساليب متعددة.

إن الحركة على المسرح في تغير دائم ولا يمكن بطبيعة الحال حصرها وفق المفاهيم الطبيعية ونقلها نقلاً ايقونياً، أي بمعنى ان تكون ذات وظيفة رسمية محددة أو أحادية الجانب، إذ تعاملت بعض الاتجاهات الإخراجية مع الحركة على أساس انها مدلولات طبيعية وبهدف تقريبها من الواقع لتفادي السقوط في فخ المبالغة التي تبعدها عن المألوف فتصبح عندئذ حركات غير مألوفة. ويمكن استخدام هذا الأخير قصدياً في المسرحيات اللا معقولة،مع مراعاة الانتباه لأن لا تفقد معناها لتصبح حركات عشوائية، لأن الحركات إذا فقدت معناها ومشاعرها ستؤدي بالمتلقي الى التشتت والتخبط وتقطع ذلك الخيط الشفاف الذي يربطه بالعرض و”بالرغم من وجود حركات مطلقة كثيرة في الواقع فأن هناك حركات تقود العلاقات المتبادلة بين الشخصيات نحو هدف من الأهداف” (20) لأن جميع الأفكار النابعة من المسرحية يؤمَنُ وصولها عن طريق الإيماءة والحركة، حتى وأن كان الحوار سمة بارزة فيه، لأن مسرحيات الأفكار لا يمكن لها ان تمد جسور الفهم والتلقي إلا عن طريق الحركة والإيماءة فاستخدامهما كوسيلتين صادقتين للفكرة وإيصال معانيها المطلوبة. ويمكن استغلال الواقع كمنطلق إذ “ما ينطبق على الكون يمكن ان ينطبق على المسرح أي أن التغييرات التي تحصل في الكون لا تتأثر بتغييرات في جوهر الذرات بل في حركتها وتغير ترتيبها بالنسبة لبعضها، فالشخصيات في المسرح لا تتوضح من خلال التغييرات والتحولات، إنما تتوضح من خلال حركة الشخصيات وتغيير ترتيبها على المسرح بالنسبة لبعضها البعض” (21).

1-3. أنواع(*) الحركة

إن اصطلاح (النوع) هو مصدر يحدد الأصناف لكل الأشياء، والمقصود بأنواع الحركة، هي أصناف الحركات، وبما أن الحركة تتبدل وتتغير وفقاً لتغيرات البيئة ومصادر استنباطها، لذا أصبح من البديهي ان يكون هناك تنوع في الحركة. إذ ان جميع المتغيرات التي ساهمت في تكوين تلك الأنواع لها علاقة مباشرة بـ(الدوافع)، التي صنفها علماء النفس بالدوافع الشعورية واللا شعورية للشخصية، فالأولى تكمن في دخيلة النفس البشرية حيث تتضح خطوطها بشكل مباشر وغير مباشر عن طريق الوضوح، أما الثانية فأنها تكمن في العقل الباطن المستتر والتي يشوب خطوطها الشك والريبة من خلال مرجعياتها العتيقة، دون ان يدركها الشخص بشكل واضح ومباشر. وتحدد الحركات بالأنواع الآتية “الحركة الاضطرارية والحركة الانعكاسية والحركة التقنية” (22).

 1. الحركة الاضطرارية: وهي تلك الحركة التي يرسمها المؤلف كجزء لا يتجزأ من الفكرة أو الهدف أو الحدث، كما يحدث في مشهد سقوط المنديل في مسرحية (عطيل) لـ(شكسبير)، ومن جانب آخر لا يكون المخرج ملزماً بكل ما يضعه المؤلف بين أقواس، إذ ان بعض المخرجين يشطبون الأقواس منذ القراءة الأولى للنص، ليضعوا بدلها أقواساً جديدة ترتبط ببنية نص المخرج حتى تستقر بشكلها النهائي في نص العرض.

 2. الحركة الانعكاسية: وهي ترجمة فعلية تتصل اتصالاً مباشراً بعامل الشعور، وقد يتعمد المخرج في إخفاء مشاعر صادقة لشخصية البطل أمام البطلة، غير ان الحركة تكشف هذا الإخفاء، والعكس يحدث حينما يخص البطل مشاعره السلبية أمام البطلة أو العكس. فأن حركتهما تكشف كل خفي. مثل حالة نفور (هاملت) من والدته عندما اكتشف سر خيانتها لأبيه مع عمه. وعلم النفس الحديث قد قام على ثلاثة أنماط من ردود الفعل بالنسبة لتلك المثيرات التي لها علاقة مباشرة بالحركة الانعكاسية وهي:

أ. “ردود فعل باتجاه هذه المثيرات التي تتمثل باللحظات الحاسمة لمكبث اتجاه الساحرات وترجمة ردود أفعاله الى حقيقة بعد ان كانت وهماً في مخيلة الليدي مكبث في مسرحية (مكبث) لشكسبير.

ب. ردود فعل ضدها. التي تتمثل بلحظات الحسم التي أقدم فيها أوديب على قتل أمه جوكاستا في مسرحية (أوديب ملكاً) لسوفوكلس.

ج. ردود فعل بعيداً عنها. التي تتمثل في لحظات الشك الأولى لعطيل بزوجته دزدمونة والتي حاول من خلال صراع مرير ان يكذب الخبر” (23).

إن النمط الأول من ردود الفعل ما هو إلا دافع نحو الأشياء التي تثيرنا فنقترب منها للاستحواذ عليها. وهي أيضاً دافع نحو الأشياء التي لا نكتمل بدونها.

أما النمط الثاني فهي الحركة سريعاً باتجاه ذلك المثير، الهدف منها أما ان يكون هدفاً يسحقه وأما ان يكون الهدف مسحه من الذاكرة أي تجاوزه بطريقة ما.

أما النمط الثالث من ردود الفعل فهو ما ينصب في تلك المحاولات الجادة للابتعاد عن ذلك المثير وكبح جماح تلك الغزيرة.

 3. الحركة التقنية: وهي منطقة مفرغة تماماً للمخرج يفعل بها ما يشاء وفق ضروراته الإخراجية، فقد تتعلق هذه الحركة بإيصال فكرة ما، أو لإعطاء جمال ما، أو ليشير بها لدلالة ما، وقد تكون لضرورات فنية وكذلك يستطيع المخرج ان يزاوج بين تلك الحركات مستمداً تبريراته من خلال تحليله وتفسيره للنص وكذلك من خلال مشاعره اتجاه الشخوص وأهدافهم.

1-4. أشكال الحركة وفق الدوافع:

إن تطور الجدل الدائر بين علماء النفس حول موضوع (الدوافع) هو ما جعلهم يبتكرون طرائق وأساليب وعلى جميع المستويات، علمية كانت أم إنسانية، أو طبية نفسية، غيرت في سبل تحليل الشخصية مما أثر تأثيراً واضحاً في المسرح بشكل خاص وعموم مفاصل الحياة بشكل عام. وقد أثار (ماكدوغل) (*)جدلاً حول موضوع الدوافع التي أشار اليها على “أنها قوى موروثة عقلانية تجبر السلوك على اتجاه معين وهي تشكل بصورة جوهرية كل شيء يفعله الناس ويشعرون به أو يفكرون فيه” (24). إذ أكد من خلال أبحاثه توصله الى آلية عمل خاصة بالدوافع التي تخطو خطوات متأنية نحو إيجاد تفسير لكل حالة من الحالات الداخلية التي تظهر واضحة على السطح الخارجي نتيجة للرد على فعل ما. إذ تعمل هذه الحالات على استفزاز وتحفيز السلوك نحو الهدف المراد تنشيطه.

أما (فرويد) (*)، صاحب مدرسة التحليل النفسي فيعتبر من بين أهم المؤثرين في حقل المسرح، فقد تناول الشخوص والموضوعات وحللها وفق منظور نفساني، كما أنه قد أكد على أن قوى الشخصية تحتوي على ثلاثة أقسام هي: (الهو والأنا والأنا الأعلى) إضافة الى تأكيده موضوع الشعور واللاشعور عند الشخصية، كما ان هناك آخرين لم يكونوا أقل شأناً من (فرويد) في تأثيرهم على المسرح من أمثال (كارل يونغ) (**) و (الفريد أدلر) (***) وقد تناولا الشخصية من منظار آخر.

وهناك علماء آخرون قد تناولوا نفس المواضيع باجتهادات مغايرة وكلها كانت تصب في مجرى تناولهم للشخصية ، ومن هذا المنطلق استفاد أقطاب المسرح من تلك التحليلات مؤلفين ومخرجين وتقنيين معتمدين على ان الفعل المسرحي يمتاز بالحركة سواء أكانت هذه الحركة انتقالية، ينتقل بها الجسم من مكان الى آخر أو موضعية وأطلق عليها اصطلاح (الإيماءة).

قد يحتاج الممثل أحياناً للثبات أو السكون، غير ان هذا الثبات أو السكون حتى وان كانا موضعيان يحتاجان الى إيماءة أو إشارة أو حركة تدل على معناها لأن الأفعال بطبيعتها تحتاج اتصالاً مباشراً أو غير مباشر بين الشخوص الذين يكونون في قلب الحدث. ويشمل هذا جميع المسرحيات ذات الشخصية الواحدة (المونودراما) فلابد ان تكون لهذه الشخصية عدة علاقات ذات بنية محددة تشمل علاقته مع ذاته أو مع من حوله أو مع المتلقي. وفي كل تلك الحالات تكون الحركة هي الخط الفاصل لتوضيح تلك المعاني.

إن الحركة على خشبة المسرح لا تتوقف بمعناها المادي والمعنوي لأن “حركة الممثل تبقى مستمرة خلال العرض ما دامت هناك قوة دافعة، ونعني بها الفعل الذي يبقي الممثل في حالة معايشة أو تمثيل في الأثر، فلا يمكن للمثل أن يعود الى ما كان عليه قبل بدء التمثيل، والقوة الدافعة هنا تتناسب مع الرغبة والفعل، مع مكانة الشخصية وأفعالها وحضورها” (25). وهذا ينطبق تماماً على ما يسمى بـ(مسرح المايم)، إذ اعتمادها على الحركة بشكل واسع.

تشكلت بنية الحركة عبر العصور المسرحية وتحددت ملامحها وفق المؤثرات التي أثرت في بنية البيئة سواء كانت طبيعية أو اجتماعية أو نفسية، أو ما تخللها ويتخللها من تغيرات اقتصادية أو سياسية فضلاً عن التأثيرات الميثيولوجية، ومجمل تلك المؤثرات أنتجت اشكالاً حركية ذات محمولات دلالية وظفت في عملية الإخراج المسرحي وتمحورت في الأشكال الآتية:

1/ الحركة المستقيمة.

2/ الحركة الدائرية.

3/ الحركة الموضعية.

4/ الحركة المنحنية.

5/ الحركات المتعرجة (26).



1. الحركة المستقيمة:

تسعى الحركة المستقيمة لتحقيق أهدافها المرسومة، على أساس ما سبقها من حدث وصراع إذ لا يمكن استخدامها في أي موقف كان بل “يحتفظ بهذا النوع من الحركة للمواقف الهامة” (27). كما ان توظيفها على خشبة المسرح من قبل المخرج لا يكاد يخلو من خطورة فهي تسعى بالممثل لأن يقطع المساحة الكاملة على الخشبة من أسفل اليمين الى أسفل اليسار أو من أسفل المسرح الى أعلى المسرح، أو العكس، وتكاد تكون قليلة جداً لشذوذها عن القاعدة لأن الممثل من وجهة نظر المخرج كائن منظور يجب ان تصل جميع حركاته وسكناته بشكل واضح ودقيق الى المتلقي وخاصة في المسرحيات الكلاسيكية والواقعية والطبيعية، إذ تصبح الحاجة لهذه الحركات “عندما تكون الدوافع قوية ومبسطة”(4). إضافة الى انها قد تكون “مباشرة وقد تكون ثقيلة أو خفيفة وقد تكون سريعة أو بطيئة وتعبر الحركة المستقيمة عن الحزم والمباشرة والاستقامة والصدق وعن الضغط والصرامة ودوافعها قوية وبسيطة” (28). ومثال ذلك مشاهد الذروة في العروض المسرحية ومشاهد المواجهة بين الشخوص كما هو الحال في مواجهة (كريون)  (لآنتيغونا)  في مسرحية (انتيغونا) لـ(سوفوكليس) والعكس صحيح. إضافة الى لحظة مواجهة (ترسياس)  لـ(اوديب) في مسرحية (أوديب ملكاً) لـ(سوفوكليس) والعكس صحيح.

 2. الحركة الدائرية:

تتباين الحركات الدائرية وفق ضرورات الميزانسين الذي يخطط له المخرج مدعوماً بتشكيل حركي يصور اشتباك العلاقات من خلال الصراع الكامن في شخوص العرض أو لضخ حركات ذات محمول دلالي يعبر عن دوافع الشخصية ضمن فضاءات متداخلة. وهذا ما نراه واضحاً في أغلب مسرحيات بريخت، مثال ذلك، المشهد الذي يدور بين (غاليلو) و(أندريا) في مسرحية (غاليلو غاليليه) أو في مسرحيات اللامعقول.

 3. الحركة الموضعية:

تُعدّ الحركة الموضعية واحدة من بين أهم الحركات التي يستخدمها المخرج بشكل خاص للتعبير عن معنى ما دون اللجوء الى الحوار، أي عملية محاكاة الفعل لتقديمه في صورة ممتلئة بالانسجام  حينما تظهر على الخشبة، و”هي الحجر الوحيد في فسيفساء التمثيل اللالفظي الذي يقدمه الممثل للجمهور” (29).

إذ أن “حركات الممثلين تطلعنا كثيراً أو قليلاً على المسرحية التي تمثل حسب طبيعة هذه المسرحية، تطلعنا تقريباً على كل شيء إن كان الأمر متعلق بفن الإيماء” (30). إذ يطلق على هذه الحركة اصطلاح (الإيماءة) وهي “حركة موضعية لها دلالات ومعاني متحركة، فحركة صغيرة بالأصابع قد تؤدي معنى معين يغني عن الكلام وحركة صغيرة من الرأس والكتف قد يكون لها دورها في توضيح الكثير من المقاصد والتعبير عن المشاعر” (31). فعملية تشكل الحركة ترتبط دلالياً بعملية تشكيل حركة الشخصية من خلال الاقتصاد في استخدام تلك الإيماءات وعدم الإكثار منها لألى تؤدي الى تشويه صورة الفعل، وغالباً ما تكثر هذه الإيماءات في عروض (المايم)، فضلاً عن ان العروض التي تحتوي الحوار هي أيضاً تزخر بكم كبير من الإيماءات ذات الدلالات التعبيرية المرتبطة بالحركة الموضعية المتموضعة داخل العرض المسرحي.

 4. الحركات المنحنية:

وهي ناتجة عن ردود أفعال الشخصيات بعضها اتجاه البعض الآخر إذ “يعتاد الناس على السير في خط منحني إلا إذا كانت هناك دوافع قوية تدفعهم للسير في خط مستقيم. وغالباً ما يسير الشخص في خط منحني إذا ارتبط بعلاقات متعددة كحركات (هملت) قبل ان يصمم على الانتقام لأبيه فأنها حركات منحنية”(32). لأن شكل الحركة المنحنية مبني على أساس التناقض الوارد بين الشخصية وبين حالتها النفسية، وهذه الحركات ليست مقننة وفق مفهوم الثبات والحركة، بل انها تأتي متوافقة مع دوران عجلة العلاقات وانصهارها على طول زمن العرض المسرحي، إذ ان بناءيتها تعتمد على أساس الاختلافات والتناقضات، على عكس ما يرِد في المسرحيات الواقعية التي يكون فيها الحوار والحركة في توافق مستمر، لكن حينما يكون هناك خلل ما في الشخصية أو تعاني من صراع داخلي أو خارجي فتظهر تلك التناقضات في الحال. إذ تكون الحركة المنحنية “غير مباشرة وقد تكون ثقيلة أو ضعيفة وقد تكون سريعة أو بطيئة وتعبّر الحركة المنحنية عن الخداع والالتواء والمخاتلة وعدم المباشرة وعدم الوضوح ودوافعها قوية وغير بسيطة” (33). ومثال ذلك جميع حركات (ياغو) في مسرحية (عطيل) لـ(شكسبير) وشخصية (أدموند) في (الملك لير) و(ريتشارد الثالث) في مسرحية (ريتشارد الثالث) لـ(شكسبير) و(شايلوك) في (تاجر البندقية).

 5. الحركات المتعرجة:

تُعبرّ الحركات المتعرجة عن صدمة ما، أو تخبط ما، أو السير بشكل غير سوي، لهدف ما، فـ”أما ان تجذب العلاقات الشخص نحو الشيء أو تبعده عنه فإذا اجتمعت العلاقتان معاً في وقت واحد فأن الشخص يدور حول الشيء وهو لا يدري أيقدم أم يحجم” (34). إذ ان استخدام الحركات المتعرجة لها خصوصياتها النابعة من الشخصية وتنتظم في جماليات دلالاتها التي يوظفها المخرج حسب ضرورات العرض. لأن الحركة المتعرجة “غير مباشرة وقد تكون ضعيفة أو ثقيلة. وقد تكون سريعة أو بطيئة وتُعبرّ الحركة المتعرجة عن عدم المباشرة وعن التردد وعن الغموض وعدم الصراحة والمراوغة ودوافعها قوية ومعقدة” (35). ومثال ذلك عندما يقدم هاملت على عملية الانتقام لأبيه.

1-5. أبعـاد الحركـة

تأخذ المساحة الجمالية بين الشخصية وحركاتها من جهة والحدث العام من جهة أخرى، مساحة واسعة في رؤية المخرج المسرحي، فهو يخطط لها بعد سلسلة من البناءات تخطيطاً دقيقاً وحسب اشتراطاتها العامة والخاصة التي تحتوي في بناءها على أفعال قد تكون رئيسة أو ثانوية، إذ أن “الاتجاه والسرعة والطاقة والسيطرة” (36) تدخل في نطاق الأبعاد الحركية، وبما أن الحركة تتشكل وفق متغيرات تحكمها فرضية العرض المسرحي، لذا كان من البديهي ان تتنوع في أبعادها ومهامها وأن يكون لكل بُعد خصائص ذات ارتباط بأنساق الحركة وهي كالآتي:

1. الاتجاه:

غالباً ما يكون المخرج المسرحي هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن جميع اتجاهات الحركة ودوافعها، إذ يؤكد المنظر المسرحي (الكسندر دين) في موضوع الاتجاه الحركي على أهمية المنصة (الخشبة) وتقسيماتها وفق اتجاهات اليمين واليسار والوسط وأعلى وأسفل، إذ يعطي تحليلاً كاملاُ لأهمية هذه الاتجاهات وكيفية رسم الحركة باتجاهها. معتمداً على عنصري القوة والضعف مبرراً ذلك على ان هنالك دائماً مناطق ضعيفة ومناطق قوية. فالاتجاه اما ان يكون “نحو الدافع (شخص أو مادة) أو بعيداً عنها أو الاستمرار في تثبيت الوقوف وباستثناء الوقوف في الموضع فإن جميع الانتقالات مهما اختلفت فهي محصورة في الاتجاه نحو أو بعيداً عن الدافع” (37). وهذه العمليات يتم السيطرة عليها من خلال تحديد وتنظيم “الأفعال واتجاهاتها الحركية لأن الاتجاه لصيق الحركة ولكل حركة اتجاه تأخذه حين يقوم بها الشخص ويمكن قياسه بالتقدم الشامل للحركة وعدد التغيرات في التقدم فهناك اتجاه نحو شيء أو شخص وهناك اتجاه عن شيء أو شخص” (38).

 2. السرعة:

إن لسرعة الحركة أبعاداً تتشكل صورها وفق المنظور العام للعرض المسرحي، فالحركة وسرعتها والمساحة التي تقطعها تشكل مثلثاً مهماً ترتبط أضلاعه الواحدة بالأخرى بحلقات منتظمة يكمل أحدها الآخر فقد “تكون الحركة سريعة ولكنها لا تأخذ مساحة كبيرة ولكل معدل من سرعة الحركة قيمة معينة وكل معدل في السرعة يعبر عن مشاعر معينة. فالحركة السريعة تعبر عن العواطف المتأججة والمشاعر النامية في حين أن الحركة البطيئة تعبر عن الهدوء والتريث، والحركة السريعة أقوى من الحركة البطيئة في أغلب الأحيان” (39).

ان من بين أهم ما يتفرد به المخرج المسرحي، هو الشعور بالإيقاع، ومعدل السرعة، في الحركة وإلقاء الحوار، وهذا الشعور يجب ان يسنده قدرة على خلق الانسجام بين الإيقاع ومعدل السرعة، اللذين بدورهما يخضعان لمزاج الشخصية التي تمر بحالات متغيرة ذات تأثير على المتلقي لخلق تواتر متواصل نحو الهدف المرسوم داخل العرض المسرحي. مما يعني أن السرعة لصيقة الإنسان فلكل “حركة يقوم بها الإنسان سرعة معينة ويمكن قياسها بالزمن الذي تقطعه وبسرعة الحركة ودوافعها وأهدافها” (40). إذ ان معرفتنا بمعدل السرعة لا يأتي إلا من خلال معرفتنا بالمنطوق من الحوار أو بالمطلوب من السلوك (سلوك الشخصية وأهدافها). أن معدل السرعة هو الذي يعطينا إيقاع الحركة ولهذا أن معدل السرعة رهين بالإيقاع، إذ يحتاج الى “أن يتميز المخرج بشعور وإحساس بالإيقاع وبمعدل سرعته في الحركة والصوت ليضمن بذلك انسيابية الحركة والحوار بما يتجانس ومحتوى النص ومن ثم لإنجاح العمل الذي سيؤدي بلا شك لإيصال أفكار المؤلف وأساليب المخرج بالمستوى الفني المطلوب” (41). مما يعطي بعداً واضحاً للحركة ودلالاتها وفق رؤية المتلقي المتعددة.

 3. الطاقة:

من الطبيعي ان تكون هناك طاقة تغذي أي جسد، كي يقوم بالواجبات المناطة به، إذ ان “هناك طاقة كامنة وطاقة مستعارة. وتتوقف قيمة الطاقة على المحرك الذي يحركها أو الدافع الذي يحفزها وتقاس الطاقة بالقوة الضرورية لتنفيذ عمل ما أو حركة ما، وتقاس الطاقة المستنفذة بالقوة المحررة عند تنفيذ الحركة” (42). كما ان الطاقة تعني الجهد المصروف أي أن “لكل حركة جهد معين يبذله صاحبها ويقصد به الطاقة المصروفة أثناء الحركة، إنها القوة التي تديم الحركة واستمراريتها ويمكن قياس الجهد بالقوة الضرورية لتنفيذ الحركة والتي تشمل الشد والاسترخاء المستمرين من بداية الحركة وحتى انتهائها” (43). إذ ان الممثل يستثمر طاقاته بشكل مبرمج ليوزعها على طول خط سير عرض المسرحية بشكل منظم مستعيناً بمبدأ الاقتصاد في الحركة من خلال معرفة متكاملة بطبيعته الفسلجية إذ “أن الحضور الذي يعبر عنه الممثل رويداً رويداً هو في كل مرة الصورة النهائية للتطور وليس نهايته. وفي نفس الوقت ان كل مرور الى الشكل هو حضور. إن الحضور هو نفس التطور للطاقة أي الجسد الحي.. ذلك الجزء المرتبط بالحياة بالمعنى المحدد” (44).

 4. السيطرة:

تتحرك الأجسام الحية بدافعين، أما شعوري أو لا شعوري إذ يحتاجان لضبط، ولا يمكن لهذا الضبط ان يحصل إلا بوجود ما يسيطر عليه بحيث يوجهه الى أهدافه بمنظومة تستطيع ان تحدد بعد الحركة من خلال اتجاهها وسرعتها وطاقتها و”يمكن للسيطرة ان توحّد بين العناصر الصوتية والحركية، وتتأثر… بالدافع والمحرك وبالعناصر البصرية. وتتأثر.. كذلك بضبط الأعصاب أو عدم ضبطها وتتأثر أيضاً بالتفكير والتصميم” (45). كما أن السيطرة تعني التحكم إذ يقصد به “مقدار سيطرة الشخص المتحرك على حركته ويتحرك الشخص عندما يكون هناك دافع غلاب للحركة. عندها تكون سيطرته غير طوعية، أما عندما يكون هناك مجرد رغبة. عندها تكون السيطرة طوعية. والتحكم معناه تنظيم الحركة” (46). مع الحفاظ على جماليتها وفق مبدأ النسبة والتناسب التي نستطيع ان نحصل عليها من خلال عدة صفات جمالية “الأولى تمثل الوزن والثانية تمثل الإيقاع أما الصفة الثالثة من صفات الجمال في الحركة فهي الرشاقة وهي الحركة التي توهمنا بأنها خالية من كل جهد عضلي. فترى الأعضاء تتحرك حرة طليقة كأنما يحركها النسيم” (47). كما انها تمتلك صفات أخرى نابعة من الجمال نفسه دون ممارسة أي فعل قسري اتجاهها إذ ان للحركة “قيمة فنية ومزاجية كما تمتلك عدة صفات جمالية مثل القوة والانسجام والإيقاع والوزن” (48).

1-6. التركيب الحركي

يُعدّ التركيب الحركي واحداً من العناصر الأساسية التي تدخل في تشكيل نوع الحركة التقنية، إذ يمكن عدهما جزءاً مهماً يكتشفه المخرج المسرحي معتمداً على مرجعيات متعددة بدءاً من نص المؤلف ومروراً بنص المخرج، ثم صورة العرض النهائية، ولغرض حصول المخرج على تركيب حركي جيد لابد من توافر عدة عوامل تساعده على إيجاده وهي “ميل الأجسام نحو أيجاد حالة حركية، وميل الأجسام نحو جذب أجسام أخرى اليها، وميل الفراغ الى جذب الأجسام لملئه” (49). إذ يدخل العامل الأول في ميل الأجسام نحو تركيب حالة حركية تساعدها في التعبير عن دوافعها لأن هذا الميل هو حالة تعبير عن الدوافع سواء أكانت شعورية أو لا شعورية.

أما العامل الثاني، فهو تعبير عن ما هو مرسوم سلفاً من أهداف تسعى لتحقيقها هذه الأجسام باتجاه أجسام أخرى وفق منظور أهدافها وتطلعاتها. أما العامل الثالث فهو الفراغ الذي لا يمتلئ إلا من خلال بحثه عن أجسام يمتلئ بها ليعطي معنى لوجوده إذ لا يكون فراغاً لأجل الفراغ ويساعد على تكوين الصورة المسرحية، إذ يمثل التكوين “بناء أو شكل أو تصميم المجموعة. ومع ذلك هو ليس يعني الصورة. فالتكوين قادر على التعبير عن شعور وكنه وحالة الموضوع المزاجية من خلال اللون والخط والكتلة والشكل. إنه لا يروي الحكاية، إنه التكنيك وليس التصور” (50). وقد تستخدم تلك العوامل سالفة الذكر مجتمعة أو منفصلة لخلق تركيب حركي جيد ذو معاني واضحة ودقيقة فـ”أحياناً لا يخبر التركيب عن قصة إنما له قيمة صورية جيدة، وأحياناً ليس له قيمة صورية جيدة، إنما يخبر عن قصة، إن أفضل من هذين التركيبين هو ذلك الذي يجمع بين الاثنين، إن صورة التركيب يجب ان لا تكون جميلة فقط وإنما يجب ان يكون لها معنى أيضاً” (51). وهذا ما يحدد  قيم الحركات إذ “يمكن تقييم جميع الحركات على انها قوية أو ضعيفة، لكن.. لا تعني الجيد والرديء وانما هي مجرد تقييم للحركة” (52). مما يعني ان أهمية الحركة لا زالت قائمة كعنصر فعال يخدم ويديم فعل المسرحية ويدفعها الى الأمام كما أنه يطورها، وهي حلقة الوصل التي تصل بأفكار المسرحية وأهدافها وخطوطها الجمالية الى المتلقي عن طريق الممثل الذي لابد أن تفرد له مساحة كافية “لكي يخلق إطاره الحركي الخاص طبقاً لما تمليه عليه دوافعه الذاتية” (53). إذ تبقى تلك الدوافع الذاتية بيد المخرج يوظّفها بالطريقة التي يراها مناسبة وتخدم الهدف.

1-7. الإيماءة والشغل المسرحي

إن الإيماءة هي شكل آخر من أشكال الحركة وهي جزء لا يتجزأ منها، وتعبير دقيق لما يريد أن يقدمه المخرج من خلال حركات موضعية تعبر عن أفكاره وطروحاته، إذ تأتي أهمية هذه الحركة من قدرتها العالية على بناء وترصين العلاقات والصراع بين الشخصيات فضلاً عن انها تعطي قيمة فكرية وجمالية وتقنية للصور المتوالية في العرض المسرحي، والشغل المسرحي قد يصاحبه الحوار وقد يكون بلا حوار، إذ يؤشر المخرج جميع الإيماءات والشغل المسرحي ذات الدلالات المتعددة ويدخلها حيز التنفيذ بواسطة الممثل من خلال مجمل البناء المترابط بعناصر المشهد، للوصول الى صورة واضحة للأفعال المراد تصويرها على الخشبة، وكل ما يتم تقديمه من إيماءات وشغل مسرحي لابد ان يكون مرتبط بمرجعيات معرفية أو اعتقادية وغالباً ما تكون منظمة وفق حركات تقنية من قبل المخرج ومرتبطة بالفعل الإرادي أو اللا إرادي إذ “تجسد الإيماءة الفاعل الدرامي وعالمه وتؤكد على هويته من خلال جسد حقيقي وفضاء حقيقي” (54). يوجهه المخرج وفق أساليبه المتعددة في ابتكار “سلسلة من الحركات التمثيلية التي لها دلالاتها، إذ أن هناك فارق بين الحركة التمثيلية في الجماعة، والحركة التي يقوم بها الممثل وهو منفرد… إذ… لا يوجد تمثيل بالمرة خير من عمل الحركات التمثيلية الصغيرة” (55). وفق مبدأ الاقتصاد في الحركة والإيماءة والشغل المسرحي. فالإيماءة هي “إحدى الحيل التي يمكن ان تعطي لبناء المسرحية النامية أثر التماسك وتتمحور في نوعين واحدة تصدر عن المؤلف وأخرى تصدر عن الممثل وفق رؤية المخرج” (56). فالأولى غالباً ما نجدها بين أقواس يضعها المؤلف بصفتها إرشادات مسرحية، إذ يعمد بعض المخرجين لرفع بعضها، أما الآخرين فيحذفون كل تلك الأقواس وفق مقتضيات الرؤية الإخراجية فـ”الإيماءة أو التعبير اللا لفظي… هي الطريقة التي تنقل بها الشخصية قصدها وعاطفتها” (57). وعندما تتحرر الإيماءة ستكّون صورة مكثفة ضمن سياق الصور الأخرى التي تتوالى أثناء العرض والمرتبطة بشخوصها منذ البداية وحتى النهاية، على ان لا تقع في فخ التطبيق الآلي، لأنها ستفقد ديناميكيتها وارتباطها الوثيق بالفعل الذي بدوره سيتأثر هو أيضاً ويكون مشوهاً إذ “يمكن استخدام الإيماءة بأية طريقة يشعر المخرج بملاءمتها مع الإنتاج ومنها المسرحيات التي من نوع (البرليسيك)(*) وفي الكوميديا الشخصية وخلال المقاطع الحوارية والمشاهد القصيرة يمكن استخدام الإيماءة لأغراض خاصة” (58). وفق تحولاتها من الخطاب الحواري الى الخطاب البصري إذ غالباً ما يدعو المخرجون لاستخدام الحذف بإضافة إيماءات وشغل مسرحي تجسد الكلام المحذوف “وفي هذه الحالة قد تصبح جميع تقسيمات وإشارات الكاتب بلا ضرورة عملية، إذ يكون المهم هو الكشف عن نوايا الكاتب ومقاصده الخفية أي عن النص الضمني، الكامن خلف الكلمات الظاهرة” (59). ونرى هذا جلياً في بعض الأساليب والاتجاهات الإخراجية الحديثة والمعاصرة التي تحاول ان تؤسس لها خصوصيات، إذ تعتبر أن النص الأدبي هو بمثابة خط الشروع أو منطلق أو حجة لتأسيس نص مجاور يتحرك باتجاهات صورية تؤسس مغزاً فنياً وفكرياً وجمالياً لما يتحرك على الخشبة، وكل هذا لا يمكن له ان يتحقق إلا اذا كانت الحركة قد أخذت مكانها الحقيقي كتجسيد للمعاني بمصاحبة الإيماءة والشغل المسرحي اللذين لا يتجزءان عن الحركة ويقدمان الفعل في صوره المتعددة، فالشكل المسرحي هو “نشاط يستخدم لإنجاز (فعل). أو تأكيده، أو تكثيفه، الأسلوب الذي يلعب به المرء بالأشياء في البيئة… وينمو من الارتباط بالأشياء والعلاقة مع الزملاء الممثلين” (60) وحتى لو توفرت كل المهارات لا يمكن ان يخطط للشغل المسرحي مسبقاً، لانه حتماً سيظهر عند التمارين (البروفات)، وعندما لا يستطيع الممثل إيجاد شغل مسرحي، عندها يتدخل المخرج ليحفزه ويساعده، وهناك عدة طرق للحصول على الشغل المسرحي فـ”احياناً تأتي من الممثل فتلهم المخرج. أو بإيجاد نوع خاص من التمارين المستمرة والتي تعطي كماً من الاكتشافات، إضافة الى ان الشغل الذي يقدمه الممثل يكون مثار بحث المخرج ليختار ما يلائم المشهد والممثل، ويبقى الشغل المسرحي ليس مجرد حركة عشوائية تبقي على الممثلين مشغولين. فتخطيط الحركة، لابد ان يكون مشوقاً وغير مقحم وأن يبدو تلقائياً” (61).



.............................

** الهواميش:

  (1) القرآن الكريم، سورة ياسين، الآية40.

 (2)  القرآن الكريم، سورة البقرة، الآيات35-38.

 (3) ينظر: وجدي (محمد فريد)، المصحف المفسر، سورة التوبة، ج10، ط6، القاهرة: (مطبعة محمد علي صبيح

      وأولاده بالأزهر) ، 1953، ص ص250-251.

 (4)  تشيني (شيلدون)، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، مصدر سابق، ص13.

 (5) كريك (إدوارد كوردن)، في الفن المسرحي، ط2، تر: دريني خشبة، القاهرة: (المطبعة النموذجية)، 1960، ص68.

 (*) ثيسبس الايكاري: ولد في (ايكاريا) وهي إحدى المدن الاتيكية في أوائل القرن السادس ق.م. وذاع صيته عندما

      اعترفت الحكومة الاتيكية بالتمثيل عام(534ق.م.) وهو أول من أوجد الممثل في المسرح الديني اليوناني وهو أول

      شاعر صاغ أساطير الآلهة بشكل حكايات تمثيلية تعتمد على الحوار والأداء ليقدمها هذا الممثل محاكياً الإله

     (ديونيسيوس) نفسه. للمزيد ينظر: الزبيدي (علي)، محاضرات في تاريخ الأدب المسرحي- المأساة اليونانية، ج1،

     بغداد: (مطابع وزارة التربية والتعليم)، 1971، ص12.

 (6) تشيني (شيلدون)، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، مصدر سابق، ص ص4-5.

 (7) هوايتنغ (فرانك. م)، المدخل الى الفنون المسرحية، تر: كامل يوسف وآخرون، القاهرة: (دار المعرفة

       للنشر)، 1970، ص39.

 (*) (الكوميديا الوسيطة والحديثة)، وهي مسرحيات كوميدية كانت تقدم في موضوعات وشخصيات متشابهة

      فهي تحتوي شخصية تاجر الرقيق الجشع والعبد الماكر والأب الفاضل والابن المستهتر والغانية والجندي

      المأفون والمتطفل النهم وغير ذلك، للمزيد ينظر: بلاوتوس (تيتوس ماكيوس) ، من الأدب التمثيلي

      اللاتيني: نص مسرحية كنز البخيل- التوأمان، تر: أحمد عبد الرحيم أبو زيد، بغداد: (مطبعة المعارف) ،

     1969، ص12.

 (8) ينظر: تشيني (شيلدون)، تاريخ المسرح في ثلاثة الاف سنة، المصدر السابق، ص ص110-114.

 (*) سنيكا: هو (لوكيوس انّايوس) ولد في قرطبة بجنوب أسبانيا فيما بين (4 ق.م.) و (1م) لأسرة ميسورة

     تنتمي لطبقة الفرسان (رجال الأعمال) الرومانية، وتحتل أعمال سنيكا النثرية مكاناً مرموقاً في كتب

     التاريخ الفلسفي لأنها تُعد المصدر الرئيس للفكر الرواقي. توفي عام (65م) منتحراً وبإرغام من رجال

     نيرون الذي اتهمه بتدبير مؤامرة لقتله. للمزيد ينظر: سنيكا، نص مسرحية هرقل فوق جبل أويتا، تر: احمد عثمان،

     سلسلة من المسرح العالمي، العدد138، (وزارة الإعلام)، الكويت: (مطابع الوزارة) ، 1981، ص95.

 (9) سنيكا (لوكيوس انايوس)، المصدر نفسه، ص103.

(10)  يوسف (عقيل مهدي)، نظرات في فن التمثيل، (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة)، بغداد: (دار الكتب للطباعة والنشر)، 1988، ص25.

(11) ينظر: هوايتنغ (فرانك. م)، المدخل إلى الفنون المسرحية، مصدر سابق، ص ص42-43.

(12)  ميليت (فرد. ب)، وجيرالد أيدس بينتلي، فن المسرحية، تر: صدقي حطاب، بيروت: (مؤسسة فرانكلين للطباعة

        والنشر)، 1966، ص138.

(13) هوايتنغ (فرانك. م)، المدخل إلى الفنون المسرحية، مصدر سابق، ص ص42-43.

 (*) دِلسارت: فرانسوا دِلسارت (1811-1871)، قسم التجربة الإنسانية إلى ثلاثة أقسام، 1.تجربة فيزيقية جسدية،

     2.تجربة عقلية فكرية، 3.تجربة عاطفية وروحية، وأكد أن هذه الجوانب الثلاث لها اتصال وثيق بالفعل الدرامي

      وبالعاطفة وبالفكرة، مقتبس عن عبد الحميد (سامي)، إكتشافات مسرحية، محاضرات ألقيت على طلبة الماجستير،

      كلية الفنون الجميلة، قسم المسرح، 11/11/2000.

(14) عبد الحميد (سامي)، المصدر نفسه.

(*)  فاغنر: (ريتشارد فاغنر)، (1813-1883) شاعر ومؤلف مسرحي وقائد فرقة موسيقية وكاتب مقالات، ولد في

      لايبزغ، ومن افكاره التي تؤثر بها الرمزيون رفضه للواقعية واقتناعه بأن الفن أسطورة ومحاولة جمع بين الأدب

      والموسيقى والتأكيد على رسالة الفن الروحية ووحدة الفنون ومسكها من قبل شخص واحد، للمزيد ينظر:

      برناردشو (جورج)، مولع بفاغنر، تر: ثروة عكاشة، القاهرة: (دار المعارف بمصر)، 1965، ص15

(15) عبد الحميد (سامي)، اكتشافات مسرحية، مصدر سابق، في 11/11/2000.

(**) التنوير: عبارة تطلق على عصر الحركة الفلسفية والأدبية في غرب أوربا (1690-1770م) تقريباً، وكانت تسميته

       تنصب في الأصل على الحركة الفلسفية التي قادها (لسنج) و (مندلسون) في سبيل التربية والثقافة والتحرر من

       جمود التقاليد الذهنية والانصراف عن العلوم ومنطقها، للمزيد ينظر: وهبة (مجدي)، معجم مصطلحات الأدب،

      بيروت: (مكتبة لبنان)، 1974، ص130.

(16) يوسف (عقيل مهدي)، نظرات في فن التمثيل، مصدر سابق، ص44.

(*) جورج الثاني: دوق ساكس مايننغن (1826-1914)، دوق مقاطعة دوقية مايننغن، ألماني الجنسية، أثر في حركة

      المسرح، ووضع بصمته في الاخراج حينما أسس مسرح المخرج وقد تركزت اهتماماته في وحدة الإنتاج. (الباحث).

(17)  عبد الحميد (سامي)، اكتشافات مسرحية، مصدر سابق.

(**) اندريه انطوان: (1858، 1943) فرنسي الجنسية أنشأ عام(1887) المسرح الحر وأعلن فيه انه ليس بحاجة إلى

       كتاب المسرحية الجيدة الصنع وكان هدفه من وراء ذلك وضع حد لعروض تلك المسرحيات التي كانت سائدة آنذاك.

        للمزيد ينظر: أردش (سعد)، المخرج في المسرح المعاصر، مصدر سابق، ص54.

(18) هوايتنغ (فرانك. م)، المدخل إلى الفنون المسرحية، مصدر سابق، ص203.

(19) كرومي (عوني)، الحركة لغة الممثل، مجلة الحياة المسرحية، العدد40، دمشق: (مطابع وزارة الثقافة)، 1994،

       ص16.

(20) سوريل (وولتر)، الأوجه العديدة للرقص، تر: عنايات عزمي، القاهرة: (مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر)،

        1974، ص28.

(21) غالاوي (ماريان)، دور المخرج في المسرح، مصدر سابق، ص183.

(22) كرومي (عوني)، الحركة لغة الممثل، مجلة الحياة المسرحية، مصدر سابق، ص 18.

(*)  أنواع: النوع ومصدره كل صنف من كل شيء وهو أخص من الجنس، ج أنواع. للمزيد: ينظر: البستاني (فؤاد

        أفرام)، منجد الطلاب، ط18، بيروت: (دار المشرق)، 1974، ص851.

(23) فريد (بدري حسون) وسامي عبد الحميد، مبادئ الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص44.

(24) ينظر: غالاوي (ماريان)، دور المخرج في المسرح، مصدر سابق، ص188.

(*) وليم ماكدوغل (1871-1918) عالم سلوك إنكليزي، أطلق على الدوافع مصطلح “الغرائز”. للمزيد ينظر: دافيدوف

      (لندا ل)، مدخل علم النفس، تر: سيد الطواب وآخرون، ط3، القاهرة: (الدار الدولية للنشر والتوزيع)، 1983،

      ص431.

(25) دافيدوف (لندا ل)، مدخل علم النفس، المصدر السابق، ص431.

(*) سيغموند فرويد (1956-1939) عالم وباحث ومحلل نفساني ولد في مورافيا، صاحب مدرسة التحليل النفسي.

      للمزيد ينظر: ربيع (احمد شحاتة)، تاريخ علم النفس ومصادره، القاهرة: (دار الصحوة للنشر والتوزيع)، 1986،

      ص295.

(**) كارل يونغ (1875-1961) عالم نفساني أهتم بدراسة علم الأساطير، الدين، الرموز القديمة، الطقوس، عادات

       الشعوب البدائية، الأحلام، أمراض العاصبين وهلوسة الذهانيين… وخلص إلى نتيجة المثير فيها شخصية الفرد

      نتاجاً ووعاء يحتوي تاريخ أسلافه. للمزيد ينظر:صالح ( قاسم حسين)، الإبداع في الفن ، (وزارة التعليم العالي

      والبحث العلمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة)، بغداد: (مديرية دار الكتب للطباعة والنشر)، 1988، ص18.

(***) الفريد أدلر (1870-1937) عالم نفساني اختلف مع فرويد في تفسير الإبداع على أساس التسامي وتفسير

         الموقف على أساس عقدة الشعور بالنقص، للمزيد ينظر: (أبو طالب) محمد سعيد، علم النفس الفني، (وزارة

         التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة)، بغداد: (مطبعة التعليم العالي)، 1990،

          ص184.

(26) كرومي (عوني)، الحركة لغة الممثل، مصدر سابق، ص ص29-30.

(27) ينظر: نيلمز (هيننغ)، الإخراج المسرحي، تر: أمين سلامة، القاهرة: (مكتبة الانجلو المصرية)، 1961، ص

        ص171-173.

(28) نيلمز (هيننغ)، المصدر نفسه، ص171.

(29)  فريد (بدري حسون) وسامي عبد الحميد، مبادئ الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص45.

(30) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، طرازية الحركة لدى العراقيين القدماء وتشكيل جسد الممثل، بحث منشور، مجلة الأكاديمي، العدد26، مج7، (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة)، بغداد: ( مطبعة الجامعة)، 1999، ص80.

(31) هيلر (روبرت. ل)، رمزية الإيماءة في مسرحيات بريخت، مقتبس من: جبرا (جبرا ابراهيم)، الاسطورة والرمز، مجموعة مقالات نقدية، بيروت: (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 1980، ص81.

(32) برغسون (هنري)، المادة والذاكرة، تر: أسعد عربي درقاوي، دمشق (باريس Puf)، 1967، ص10.

(33) فريد (بدري حسون)، وسامي عبد الحميد، مبادئ الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص46.

(34) فريد (بدري حسون)، وسامي عبد الحميد، مصدر سابق، ص45.

(35) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، طرازية لحركة لدى العراقيين القدماء وتشكيل جسد الممثل، مصدر سابق، ص80.

(36) دين (الكسندر)، أسس الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص29.

(37) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، طرازية الحركة لدى العراقيين القدماء وتشكيل جسد الممثل، مصدر سابق، ص80.

(38) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، المصدر السابق، ص79.

(39)  لويك (جوس)، محاضرات في أسس الإخراج المسرحي، مطبوعة على الآلة الكاتبة، تر: خالد سعيد، محاضرات

        ألقيت على طلبة الدراما في معهد شيكاغو، 1965، ص100.

(40) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، المصدر السابق، ص79.

(41) فريد (بدري حسون)، وسامي عبد الحميد، مبادئ الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص41.

(42) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، طرازية الحركة لدى العراقيين القدماء وتشكيل جسد الممثل، مصدر

       سابق، ص79.

(43) لويك (جوس)، محاضرات في أسس الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص115.

(44) فريد (بدري حسون) وسامي عبد الحميد، مبادئ الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص42.

(45) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، طرازية لحركة لدى العراقيين القدماء وتشكيل جسد الممثل، مصدر

       سابق، ص80.

(46) باربا (أوجينيو)، وآخرون، طاقة الممثل، مقالات في انثروبولوجيا المسرح، تر: سهير الجمل (أكاديمية الفنون،

        مركز اللغات والترجمة)، القاهرة: (مطابع المجلس الأعلى للآثار) ، 1999، ص143.

(47) فريد (بدري حسون)، وسامي عبد الحميد، المصدر السابق، ص42.

(48) حسين (صفاء الدين)، وسامي عبد الحميد، المصدر السابق، ص80.

(49) جْويّو (جان ماري)، مسائل فلسفة الفن المعاصرة، تر: سامي الدروبي، ط2، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة

       والنشر، بيروت: مطابع دار اليقظة، 1965، ص53.

(50) سليمان (حسن)، سايكولوجية الخطوط، المكتبة الثقافية، عدد ممتاز، القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1967، ص97.

(51)  فريد (بدري حسون)، وسامي عبد الحميد، مبادئ الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص42.

(52) دين (الكسندر)، أسس الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص173.

(53)  لويك (جوس)، محاضرات في أسس الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص91.

(54) دين (الكسندر)، أسس الإخراج المسرحي، مصدر سابق، ص276.

(55) هوايتننغ (فرانك. م)، المدخل إلى الفنون المسرحية، مصدر سابق، 1970، ص217.

(56) إيلام (كير)، سيمياء المسرح والدراما، تر: رئيف كرم، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت: (مطبعة المركز الثقافي العربي)، 1992، ص117.

(57) كريك (ادوارد غوردن)، في الفن المسرحي، مصدر سابق، ص57.

(58) هيلر (روبرت. ل)، رمزية الإيماءة في مسرحيات بريخت، مصدر سابق، ص81.

(59) غاتشف (غيورغي)، الوعي والفن، تر: نوفل نيوف، سلسلة عالم المعرفة، العدد146، (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، الكويت: (مطابع السياسة)، 1990، ص55.

(*) (البرليسيك): وهي المسرحية الساخرة (ستيرية) التي تعتمد على موضوع درامي معاصر، للمزيد ينظر: لين (أاوكسنفورد)، تصميم الحركة، مصدر سابق، ص43.

(60)  لين (أاوسكنفورد)، المصدر نفسه، ص43.

(61) سعد (صالح)، الأنا- الآخر، ازدواجية الفن التمثيلي، سلسلة عالم المعرفة، العدد27، (المجلس الوطني للثقافة

        والفنون والآداب)، الكويت: (مطابع السياسة)، 2001، ص25.

(62) سبولين (فيولا)، الارتجال للمسرح، تر: سامي صلاح، (وزارة الثقافة)، القاهرة: (مطابع المجلس الأعلى للآثار)، 1999، ص528.

(63) ينظر: سبولين (فيولا)، المصدر نفسه، ص ص453-454. الباحث الاكاديمي والمخرج المسرحي .. د / عبدالرحمن التميمي

تابع القراءة→

0 التعليقات:

مسرحية " ذئب البوادي " تأليف حازم كمال الدين

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, يونيو 04, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية
لوحة : بهرام حاجو 


مسرحية " ذئب البوادي " تأليف حازم كمال الدين
شخصيات المسرحية
ذئب البوادي: بطل من العصور الغابرة والمعاصرة
الراعي: صديقه، ووسيطه
الجنية: ابنة شيخ الجان
موسيقي: آخر شخصية في امبراطورية الجن
شيخ الجان: والد الجنية.
شيهانة: أنثى الصقر وابنة ذئب البوادي
التنين:
الزمان
تراتب لا منطقي بين العصور الغابرة والمعاصرة.
الفضاء
افترضْ أنك تخرج من بيتك فإذا بك وجها لوجه أمام بادية الشام. لا طرقات مبلطة. لا أعمدة كهرباء. لا جيران. وحين تتحرك لا تقودك الحركة إلا إلى غور الفلاة.
وكلما أوغلت فيها يبدو لك لونها وكأنه يقترب من غروب لازوردي. ثمة بقع تصبح مشروع ملاذ مثل السراب. هنا وهناك تنبت (نقاط؟) في البادية. سراب داكنٌ أم شيء آخر؟ ومثلما يلتمّ الندى على بعضه ترى أن النقاط أخذت هيئة آدمية. حفناتٌ صغيرة من البشر تغذّ السير في ذات الاتجاه الذي تتجه أنت نحوه، وكأن ثمة موعد ما. أنت تتابع تلك المجاميع الصغيرة فتراها تختفي في شيء شبيه بواحة نائية. أنت تغذ السير نحو الواحة المفترضة.
يبزغ طريق وكأنه طريق قروي ولكنه زقاق صحراوي. يكبر الزقاق ليس عبر العرض ولكن عبر الارتفاع. شيئا فشيئا تبزغ من تحت الأرض نبتات سرعان ما تصبح بيارغ ملونة. مشاعل. بخور. إيقاعات طبول. أزقة صغيرة تتشعب. في رأس كل زقاق شخص أو تمثال يقدم لك شاي نعناع أو ماء ورد أو شمعة يشعلها آخر وأنت تجتاز الزقاق إلى زقاق آخر. حيطان الأزقة ليست من الآجر ولا من الإسمنت. إنها عباءات طويلة غامقة الألوان. بعد أن تجتاز كل تلك الأزقة تنفرج أمامك بوابة نحيلة فتدخل فيما يشبه بيت القصب أو بيت الشعر.
ممثلة تجلس مثل وصيفة في عصر عباسي عند الباب، تقدم الشاي بالنعناع. بخور وأصوات موسيقى من بعيد. لا ضوء سوى التمايل المغناج لضوء الشموع. الشاي حار في اليد والجو دافئ عكس ما كان عليه قبل الدخول، أي في الخارج. الصمت يسبغ إحساسا من الغرائبية على المكان الذي بدت أرضه الصحراوية اللامعة شبيهة بسراب يكاد يحضر ولكنه لا يجرؤ. يبدو دخول الناس وكأنهم يتقاطرون مستسلمين لواحة الصمت وعبق البخور وجلال ذلك الجالس في الصدارة من دونما حراك.
1
الشخصيات تبدو وكأنها تماثيل. تماثيل حية! موسيقى وغناء. بعد فترة يتحرر الراعي من هيئة التمثال. طوال المسرحية، ستنطلق الشخصية من هيئة التمثال ثمّ تعود إلى نفس الحالة.
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الأول…. امرأة منتصف الليل.
الرجل الجالس في صدر المجلس:
إي!
كان الوقت غروبا، حين أكملتُ الاستعدادات للبدء بالمهّمة.
في صندوق سيارتي الرانج روفر كدّستُ مؤونة أربعين يوما، وعتادا، ووضعتُ إلى جانبي بندقيتي، ومسدسي، وسيفي الدمشقي!
أخفيتُ تحت المقعد التعاليم السرية التي استلمتها من صديقي الراعي بعد أن ودّعته، وتوغّلتُ في بادية الشام بحماسة كبيرة.
بعد أربعة أيام، عند منتصف الليل، ظهرت أنثى غريبة الجمال، يلتمع في يدها اليمنى خاتم دمشقي يخطف الألباب.
(موسيقى)
المرأة:
السلام عليكم.
(الرجل منعقد اللسان)
من أنت؟
(الرجل ينظر لها منعقد اللسان)
المرأة:
ما اسمك؟
الرجل:
ذئب البوادي!
المرأة:
ذئب البوادي! يا له من اسم!
….
ومن أين أنت يا ذيب؟
(صمت. ينظر ذئب البوادي كالمأخوذ)
أعني قبيلتك.. أين تعيش؟
ذئب البوادي:
في الجرود!
….
وقبيلتك؟
المرأة:
قبيلتي تعيش في حلب.
….
ذئب البوادي:
إلى أين أنت ذاهبة؟
المرأة:
إلى تدمر.
ذئب البوادي:
لوحدك؟!
المرأة:
أبي سيلتحق.
ذئب البوادي:
إلى تدمر…. و.. مشياً على الأقدام؟!
المرأة:
كنت أمتطي دابّة، لكن ساقها انكسر فنفقتْ.
ذئب البوادي:
كنت تمتطين دابّة؟!!
أنا أيضا ذاهب إلى تدمر!
اصعدي!
سآخذك في طريقي.
(نسمع صوت سيارة مغادرة. المرأة لا تتحرك).
انطلقنا إلى تدمر.
بعد ساعات عدّة طلبت مني أن نتوقف قليلا، فعرّجتُ على قرية متروكة.
داخل القرية كان ثمة كهف.
بحذر رحت أستطلع محيط الكهف لكي أتأكد من سلامة المكان.
وعندما انتهيت من الجولة كانت قد دخلت الكهف، وأعدّتْ فراشا، وأشعلت نارا، وخبزت خبزا، وبَسَطتْ وشاحها بالقرب من النار ووضعت عليه عسلا وبيضا!
….
تسحرّتُ واستلقيتُ، فجاءت واستلقتْ بقربي،… لكنّني وضعتُ البندقية بيننا.
بعد فترة قرّرتُ استئناف الطريق، فالوقت يمضي وعليّ أن أواصل مهمتي.
بيد أنها كانت مستغرقة في النوم.
….
قبل بزوغ الفجر استيقظتْ.
ذهبتْ إلى صخرة في عمق الكهف، ونظرتْ ثم نظرتْ ثم نظرتْ ثم نظرتْ، ثمّ أزاحتها وسحبتني إلى ما تحت الأرض.
(موسيقى احتفالية. يتحرك ذئب البوادي حركات عنيفة. المرأة باقية في وضعية التمثال!)
المرأة:
أنا جنيّة أعيش تحت الأرض، وأبي هو شيخ الجان.
ستمكث معي أربعين سنة.
(يتحرك ذئب البوادي بعنف)
إذا رغبت أن تكون لوحدك، قل “بسم الله الرحمن الرحيم!” وسأختفي.
….
ذئب البوادي:
فكّرتُ:
لكي أهرب من تحت الأرض عليّ أن أسرق خاتمها السحري!
وبانتظار الفرصة المواتية يجب أن أواظب على ترديد “بسم الله الرحمن الرحيم!”.
وهكذا:
إذا أردت أن أستحم أو أقضي حاجتي ردّدتُ “بسم الله الرحمن الرحيم!”.
لكنني نسيت ذات يوم أن أقول “بسم الله الرحمن الرحيم” فإذا بها تهجم عليّ.
(تغيير مشهدي)
الجنية:
من الآن فصاعدا ستقاسمني الفراش، وإلا ستموت.
ذئب البوادي:
يا سيدتي!
أنا.
….
أنا سعيد بضيافتك تحت الأرض، بيد أنّي أستميحك العذر، لأنّي لن أقتسم فراشك الناري.
يجب أن أصعد إلى ما فوق الأرض!
المهمة التي على عاتقي لا تقبل التأخير أكثر.
الجنية:
هراء.
….
ذئب البوادي:
وواقعتني!
ثم أخفتني في جرّة.
….
وهكذا مرّت الأيام، ومرت الشهور والدهور حتى أصبحنا نعيش كزوجين ولكن في الخفاء.
ذات يوم طلبت منها أن تطلق سراحي من الجرّة وأن نتزوج في العلن، إلا أنها رفضت وقالت إنّ الجن لا يجوز أن يعرفوا أنها متيمة بغرام أنسي.
لكنني حين كدتُ أنجح ذات يوم في الهروب إلى ما فوق الأرض، أمسكتْ بي وذهبت إلى أبيها شيخ الجان وفعلت عكس ما قالت!
(تغيير مشهدي)
الجنية:
أقدّم لك حبيبي يا أبي.
لقد قرّرتُ الزواج منه!
شيخ الجان:
إلى أي عشيرة من الجن ينتسب هذا؟
الجنية:
إنه.. إنه.. ليس بجني….
شيخ الجان:
ماذا؟
الجنية:
إنه إنسي.
لوحة : بهرام حاجو

(يحدّق بها شيخ الجان بذهول)
لقد منحته عذريتي.
….
شيخ الجان:
كيف تجرأتِ على هذا؟!
هل يعقل أن تمنح جنية عذريتها لابن آدم؟!
ذئب البوادي:
وتحدّيا لأبيها أخرجتْ الخاتم الدمشقي ولبسته في يدها اليسرى!
بعد أن تزوجتني علنا ظلت تحتفظ بي في الجرّة، ولا تخرجني إلا إذا أرادت إشباع غرائزها.
….
هكذا عشتُ أربعين سنة.
الجنية خارج الجرّة، وأنا:
داخلٌ خارجٌ، داخلٌ خارجٌ، داخلٌ خارجٌ، داخلٌ خارجٌ،
(يقتل الجنية!)
حتى ماتت ذات يوم بطريقة غامضة!
استحال جسدها الناري جمرا ثم تكوّم رمادا.
نفخت الرماد بحثا عن الخاتم الدمشقي، فلم أجده!
ولكي أكسب الوقت في البحث عن الخاتم أوصلتُ إلى أبيها رسالة تقول إنها لم تمتْ، وإنما ثمة من اختطفها فوق الأرض، وإني قادرٌ بحكم مهنتي على التعرّف على الخاطفين وتعقّبهم واسترجاعها!
لكن جواب أبيها كان صاعقا.
فجأة رأيتُ عبيده في غرفة النوم.
أمسكوا بي وحشروني في جرّة رماد الموتى، وأحكموا إغلاق السدّادة بالقار.
من بعيد تناهت إلى سمعي استعدادات عسكرية للصعود إلى ما فوق الأرض.
بعد أيام أخبرني حارس أن الحملة العسكرية عادت خالية الوفاض، ثم ظهر شيخ الجن كالحلم آمرا بعض جنوده أن يرموني والجرّة في طبقة الحمم البركانية تحت الأرض!!
….
في قلب بادية الشام، بقيت أتفحّم وسط الحمم.
(موسيقى احتفالية)
2
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الثاني.. الوثن الأنثوي الجميل.
ذئب البوادي:
إي!
بعد أربعين سنة حرّرت نفسي من تحت الأرض، وعدت إلى الجرود.
رحّب بي رجال قريتي، وظهر صديقي الراعي.
(يحدّث الراعي)
هذه إشارة عظيمة يا صديقي!!
بإمكاني إذن العودة للعمل مرة أخرى؟!!
الراعي:
نعم.
وعليّ أن أقودك في المهمّة الأولى، فبعد أربعين عاما تغيّر كل شيء.
ذئب البوادي:
بعد حلول الظلام وصلنا قرية متروكة.
وسط القرية شاهدتُ كهفا.
ترددت.
الراعي:
علينا أن نتسلل بحذر.
ذئب البوادي:
دخلنا الكهف فوجدتُ بندقيتي ومسدسي والعتاد!
ذهب الراعي إلى صخرة وصار يحفر تحتها حتى استخرج ماءً وعرقا.
جلسنا نسكر، ونسكر ونسكر، وكنت أنظر طوال الوقت إليه!
(يحدّث الراعي)
لقد هرمت يا رجل.
الراعي:
بالطبع!
ماذا تتوقع بعد أربعين عاما!
ذئب البوادي:
رحت أنظر إليه وأشرب، أنظر وأشرب، أنظر وأشرب، أنظر وأشرب، ثم انسللتُ إلى مكان سري في أعماق الكهف.
سرقتُ نبتةً ثم:
(يحدّث الراعي)
أنظر يا صاحبي!
هذه هي النبتة التي تعيد الشباب!
تفضل إنها لك!
….
عند منتصف الليل اختفى الراعي بطريقة غامضة.
(صوت سيارة صحراوية تغادر. موسيقى وحركة)
ذهبت إلى مدخل الكهف بحثا عنه فإذا بي أرى وثنا نسائيا معلّقا في الهواء.
تمعّنت بالمرأة الوثن.
لقد كانت أجمل من أيّ كائن على وجه البسيطة.
من وشاحها ينبعث إشعاع غريب.
عندما هفهف الوشاح في الريح انكشف وهج خفي، وعندما انكشفت يدها التمع الخاتم الدمشقي:
(يهتف)
يا للمعجزة! إني أرى الخاتم!
تقدمتُ منها وطلبتُ منها أن تهبط بيد أنها لم تتحرك.
طلبتُ منها الهبوط مرة أخرى غير أنها بقيت معلّقة.
سألتها:
(يحدّث المرأة الوثن)
لماذا لا تهبطين؟
(صمت)
حسنا!
سأجبرك على الهبوط.
(يبدأ طقسا سحريا)
ألا أيتها النجوم احتشدي!
اظهر يا كوكب الزهرة في قلب السماء.
انظر:
حفرت بسيفي الدمشقي نجمة سباعية فوق الأرض ثم كتبتُ داخلها حرف الواو.
انظر:
حفرت خلف الصخرة، واستخرجت سبع حصوات.
- واهي، واها! واهي، واها.
انظر:
وضعت الحصوات السبع على رأس كل زاوية من النجمة.
وقفتُ وسط النجمة وغرزت بندقيتي وسط حرف الواو:
- واهي، واها! واهي، واها. أجيبي أيتها المرأة الوثن.
انظر:
أخرجت مسدّسي وأطلقت تسع رصاصات حولها في الهواء.
(يتوقف الإيقاع)
بعد هنيهة قلت:
(يأمر المرأة الوثن)
اهبطي!
(تسقط الجنية على الأرض بشكل مفاجيء)
الجنية:
السلام عليك يا ذئب البوادي..
كيف حالك؟
هذه مفاجئة أليس كذلك؟!
ذئب البوادي:
من أنت؟!
الجنية:
أنا الجنية الوحيدة في بادية الشام، التي تزوجتك تحت الأرض، واحتفظت بك في الجرّة.
ذئب البوادي:
ماذا تقصدين بهذا الهراء؟!
الجنية:
هذا ليس هراء!
أنا زوجتك يا ذيب!
أنظر للخاتم!
أنا أمتلك سبع أرواح، وكلما أَسلمتُ واحدة أحصل على روح جديدة بهيئة أخرى بعد أربعين سنة!
ذئب البوادي:
حدّقت بها وحدّقت.
كان جمالها أخّاذا وكان الخاتم أقوى من تفكير!
تقدمت منها، فتقدمت بدورها مني وكادت تلامسني.
فتراجعتُ وأمسكتُ ببندقيتي.
(صمت)
أخبرتها بما فعله شيخ الجان، لكنّها لم تعلّق!!
….
بعد صمت بدأتْ تغنّي وراحت تتقدم مني ثانية.
وضعتْ يدها على كتفي، فلامست أناملها عنقي.
….
(موسيقى)
يا إلهي!!!!
إنها الأصابع التي تفوح بعطر السدر والياسمين؛ أصابع الجنيّة الجميلة.
أزحتُ وشاحها فرأيت في يدها العسل والبيض والخاتم الدمشقي.
نظرتُ إليها فنظرتْ إلي،
ونظرت إليها فنظرت إلي،
وجدتُ نفسي داخل الكهف.
(موسيقى أعلى)
كنتُ أحدّق وهي تحدّق.
وأنا أحدّق وهي تحدّق.
وأنا أحدّق وهي تحدّق.
وأنا أحدّق وهي تحدّق.
ذات لحظة سمعت صوتي يوشوش لي:
- انتبه يا ذيب! ستغوص بك تحت الأرض!
- هراء..
- ستختطفك وتمنعك من أداء المهمة!
- هراء!
- ستخبئك تحت الأرض في الجرّة!
- هراء.
وكانت شرعتْ بإزاحة صخرة لكي تهبط بي إلى ما تحت الأرض.
- الجرة يا ذيب!
- هراء..
- انتبه يا ذيب! انتبه.
لوحة : سمير الصفدي 
- هراء..
(يقتل الجنية)
رميتها بعيدا عن الصخرة ورميتُ نفسي على جانب آخر.
حين وقفتُ كانت قد اختفتْ!
في البقعة التي اختفت فيها رأيتُ جمرا سرعان ما استحال رمادا.
نفخت الرماد بحثا عن الخاتم، فلم أجده.
لقد وجدتُ بدلا عنه شارة غريبة:
بيضةٌ عملاقة!
(موسيقى احتفالية)
3
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الثالث…. شيهانة أنثى الصقر
ذئب البوادي:
إي!
(بقليل من اليأس)
منذ أربعين سنة وأنا أخفق في تنفيذ مهمة كلفتني بها إدارة المخابرات العامة:
أن أستنبت الصقور في بادية الشام!!
كل عام يأتيني الراعي ببذور يقول إنها بيوض الصقر فأنثرها، وأنتظر، بيد أن لا شيء ينبت.
بعد أربع سنين أخبرت الراعي بغضب:
(يحدّث الراعي)
إنها بذور وليست بيوض!
الراعي:
هو الذي يدّعي أنها بيوض.
ذئب البوادي:
أربعون سنة وأنا أرمي البذور دون أن تنفلع الأرض، أو أن تنبثق شارةٌ للحياة!!
الراعي:
سيقتلك يا صديقي إذا لم تفلح هذه السنة باستنباته.
(نسمع صوت سيارة صحراوية تغادر)
ذئب البوادي:
واختفى الراعي!
وضعت البذور التي جلبها جانبا، وقررت أن أستخدم أسلوبا آخر.
ذهبت إلى القرية المتروكة.
إلى الكهف.
أخرجت تعويذة سرقتها من عوالم ما تحت الأرض، ورحت أقرأها على البذور الميتة.
قرأتُ بين الأشواك.
بجانب الصخور.
فوق الهضاب.
في الوديان الجافة.
بعد أربعة أسابيع انشقّت الأرض عن بيضة عملاقة، ثم ظهرت بيضة عملاقة أخرى، ثم بيضة عملاقة، ثم بيضة، ثم بيضة، فبيضة!
فرحتُ ألتهم البيض وألتهم وألتهم حتى أصابتني التخمة!
في الكهف نمت خلف صخرة.
عند منتصف الليل فززت من نومي.
نظرتُ إلى صدري فوجدته وقد انفلع، واندلعتْ منه شيهانة، أنثى الصقر!
حدقّت بها وحدّقت:
إنها ابنتي!
هذه ولادة معجزة!
(حركة وموسيقى. تتحرك شيهانة دون أن تتحرك)
ورحت أتمعّن فيها.
كان لها جسد من بأس النمور، ومن قطرات هواء بعيدة المنال!
إذا ما حلّقت فوق الجرود التمعت في السماء واستحالت سمادا أنزلته الريح.
إذا ما حطّتْ بقرية تلألأ الليل وأضحتْ تعويذة لطرد الأرواح الشريرة.
بيد أنها حين استحالتْ سمادا عبأتها في جرّة ودفنتها تحت الأرض، وحين غدتْ تعويذة استخدمتها طقسا للقتل.
(تتوقف الموسيقى)
قالت إنها ستهرب!
قالت إن خلاصها منّي يتم في العثور على زوج يحميها، وخرجت..
وجدت أنيسا وتزوجت منه، وكان زوجها قطّا بريّا.
بعد الزواج بأربع ليال أخفيتُ القطّ في حفرة.
بعد أربعين يوما أرادت الزواج مرة أخرى، وكان زوجها ثعلبا بريّا.
وبعد الزواج اعتقلتُ زوجها في قبر.
وبعد أربعمئة يوم قرّرت مرة أخرى أن تتّحد، وكان زوجها أيّلا.
وحين أنجب لها الأيّل صبيا أخفيت الأب والطفل في جرّة.
بعد أربعة آلاف يوم خرجت أيضا للبحث عن شريك.
وحين التقت الإنسان وأرادتْ الاقتران به، كان قد بلغ السيل الزبى.
أمسكتُ بها وألقيتها إلى البحر حيث التقطتها إحدى الأسماك وابتلعتها!
فاستحال الاثنان إلى أمواج غضب شقّتْ نهر بردى وحطّت في بادية الشام.
(يقتل ابنته)
في تلك الليلة ولدت قرية متروكة في الجرود.
(غناء)
4
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الرابع.… شيخ الجان
ذئب البوادي:
إي،
في تلك الأيام كان مجرى نهر بردى غزيرا، وكانت بيوت دمشق تتسلق الجبل.
أبحرتُ في بردى على متن باخرة في مهمة جديدة:
نقل المعتقلين الوافدين إلى سجن المزّة العسكري.
كنت اصطحبت معي شيهانة.
بردى كان هادئا.
كل أصيل كانت تطير شيهانة حول الباخرة، وبعد أن أستمع لقعقعاتها وأرى إلى التماعها في السماء أرمي لها الطعام:
أفراخ حمام.
في مساء جمعة وصلت جبل
لوحة سمير الصفدي 
قاسيون.
وإذ كنت أغادر الجبل اعترضتني كتلتان ناريتان كبيرتان.
في البدء توهجتا خلف جبل قاسيون، ثم ارتفعتا وتقدمتا ببطء.
أطلقتا سهاما نارية عملاقة صوبي، لكني راوغتها فسقطت السهام في البساتين.
اشتعلت البساتين باللهب.
فانشغلتُ طوال الليل في إخماد الحرائق.
اندلع النهار وكان التعب قد أخذ مني مأخذا فنمت.
في الليلة الثانية، شرعت بتنفيذ المهمة، بيد أن الكتلتين الناريتين توهجتا من جديد.
تجمدتا لساعات في قبّة السماء.
طوال الليل كانت تحدّقان بي بغضب، بتوعّد، ولكنهما عند الفجر غابتا.
في الليلة الثالثة وصلت أسوار السجن، لكن الكتلتين الناريتين هبطتا مرة أخرى.
رمتاني بسهام عملاقة تجنبتها، واندلعتْ الحرائق في البساتين.
وإذ ظلّت الكتلتان الناريتان تبحثان عني أعلى جبل قاسيون ووسط الحقول الملتهبة أخرجتُ تعويذة سرقتها من تحت الأرض.
لففتها على سيفي الدمشقي وضربت الكتلتين حتى أطفأتُ واحدة.
وهكذا هدأ كل شيء، وسلّمت المعتقلين.
(صمت)
أخذت استراحة على سفح قاسيون وكانت شيهانة تنام بالقرب مني.
في اليوم الرابع ظهر الراعي:
هاهاه. ثمة تعاليم جديدة!
(يظهر الراعي)
الراعي:
لم آتِ لك بالتعاليم هذه المرة يا صديقي!
ذيب!
جئتُ لأفشي لك بسرّ خطير:
….
شيهانة في خطر.
استمع جيدا.
لقد قرّر أن يأتي لكي ينتزعها منك.
لا تنس يا ذيب:
أنا لم أخبرك بأيّ شيء.
أنا لم أخبرك!
أنا لم أخبرك!
ذئب البوادي:
واختفى الراعي!
عند منتصف الليل، بعد أن استغرقت شيهانة في النوم، هبّت ريح، وانبعثت صرخات، وهوّم عويل في البساتين.
كان ذلك عويل الأشجار.
هبّت رياح مسمومة، فرأيت دموع الأشجار تفيض وتغرق البساتين المحترقة.
في قلب الليل بانت من خلف جبل قاسيون كتلة نارية كالجرم السماوي، وراحتْ تتقدم نحونا:
شمسٌ في قلب الظلام! إنها علامات القيامة!
لم تقترب كتلة النار منّي، بل أرادت أن تختطف شيهانة.
وحين راوغتها ضربت طوقا من اللهب على شيهانة فاحترق بعضٌ من ريش جناحها.
علقتْ رائحة الريش في أنفي.
امتشقتُ سيفي الدمشقي وشطرت الكتلة ألف قطعة.
خمد طوق النار.
التفتُّ إلى شيهانة فإذا بها اختفت.
….
قبل مطلع الفجر ظهرت الجنية الجميلة.
كانت هذه المرة في هيئة حورية للبحر!
ولم أتأكد أنها جنيتي إلا عندما التمع الخاتم الدمشقي في يدها اليسرى!
سحبتني إلى ما تحت الأرض:
(حركة)
الجنية:
انتبه يا ذيب انتبه يا ذيب.
إن الكتلتين الناريتين اللتين ظهرتا كانتا عينا أبي شيخ الجان.
إنه يريد الانتقام منك.
ولن يتوقف عن ذلك حتى يقضي عليك!
سيرسل لك في المرة القادمة غولة تلعق باطن قدميك حتى يستعصي عليك السير، وستسجنك الغولة إلى أمد لا يعلمه سواه.
فانتبه جيدا:
البس حذاء من حديد لكي لا تلعق الغولة قدميك، وعندما تظهر، اهجم على ثديها وارضع منه.
بهذه الطريقة تأمن شرّها أربعين ليلة.
فإذا ما رضعت من ثديها لن تمسّك بسوء حتى تنقضي أربعون ليلة.
انتظر ليلة بزوغ البدر في السماء.
وإذا ما بزغ، فلا تتردد.
تظاهر أنّك تريد الرضاعة من ثديها ثمّ ابترْ حلمتها اليسرى بأسنانك.
ابتر حلمتها بأسنانك.
ابتر حلمتها بأسنانك.
ابتر حلمتها بأسنانك.
(يقتل الجنية. يبحث بجنون عن الخاتم الدمشقي فلا يجده)
ذئب البوادي:
ظهرت الغولة من تحت الأرض، وباءت محاولاتي للإمساك بثديها بالفشل.
(موسيقى)
سحلتني إلى الكهف.
ومن هناك إلى صخرة تخفي مدخلا سرّيا يفضي إلى جرار لا تعدّ ولا تحصى.
جرارٌ تغلقها سدّادات تنفتح وتنغلق من تلقاء ذاتها..
جرجرتني حتى أوصلتني إلى أسوأ الأعماق.
إلى دهاليز مريعة.
هناك وجدتُ غيلانا عملاقة تحكم جموعا من الرعاع!
كانوا فتاتا من البشر!
أشلاء حيّة!
خرقٌ مضى على اختفائها أحقاب، حتى ظنّ الجميع أنّها ميتة.
لم تكن لتلك البقايا البشرية أسماء، ولا وجوه، ولا ملامح، أمّا التعرف على أصحابها فيتّم عبر الكشف عن المؤخرات التي دُمغت بالأرقام.
هناك..
في ذلك الحطام المجهول، دمغتْ الغولة رقما على مؤخرتي.
خيّطتْ لساني على شفتيّ، وانهمكتْ بممارسة التدريبات الخاصة بمناهج التعذيب، مناهجي ذاتها!
كما لو كنتُ وسيلة إيضاح، وكما لو كانتْ معلمة في مدرسة؛ تمارين، تمارين، تمارين:
الملزمة.
الخازوق.
بساط الريح.
الأريكة الدوارة.
طاحونة الهواء.
الصليب!
(حركة واسعة تتوقف فجأة)
أربعون عاما بقيت أتعفن داخل الجرّة حتى حرّرني صديقي الراعي!!
ذات يوم أرسل دورية مخابرات بحثا عنّي في باطن الأرض.
وصلتْ الدورية إليّ، وحملتني إلى الأعلى.
فوق، التقيته.
الراعي:
ذيب!
لم يعد ثمة مكان آمنٌ هنا لك!
اهربْ قبل فوات الأوان.
أنت تعرف أنه يريد حياتك.
لقد أنقذتك هذه المرة لكنني لا أعرفُ فيما لو كنتُ قادرا على مساعدتك في المستقبل.
ذئب البوادي:
وفررتُ إلى حيث أستطيع أن أبدأ حياة جديدة.
بطريقة غامضة التقيتُ ابنتي ووقعت في حبّها.
قررت أن أتزوّجها، لكنها رفضت. وبعد محاولات إقناع فاشلة صرت أسوقها عنوة إلى مخدعي.
وقد أمتعتني لزمن ما، لكنها بدأتْ تتمرد بمرور الأيام.
وفوق ذلك بدأ يسيطر عليها شرود مستمر، وبدأتْ تنتابها رغبات مفاجئة للهبوط إلى ما تحت الأرض.
ذات منتصف ليل، انتفضتْ ونبت على جسدها ريش.
دارت حول نفسها ورقصت،
ودارت ورقصت،
ودارت ورقصت،
ودارت ورقصت،
ثمّ صاحت:
شيهانة:
خذني إلى شيخ الجان.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
شيهانة:
يجب أن تهبط بي إلى ما تحت الأرض.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
شيهانة:
أريد لشيخ الجان أن يصعد إلى ما فوق الأرض في وضح النهار.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
فأقفلت عليها الباب بالمزاليج. لكنّها هربت بطريقة غامضة.
ارتديت حذائي الحديدي وعدت إلى بادية الشام بحثا عنها.
(يقتل شيهانة)
هناك.. بالقرب من القرية المتروكة تدحرجتْ بيضةٌ خارج رحم ابنتي وانفجرتْ، فتناثر جسدها، وماتت.
5
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الخامس.. الأحراش
ذئب البوادي:
إي!
في أول أيام الخريف تلقيت أوامر بقيادة دورية كبرى من رجال الأمن في مهمة، هدفها تحديد مخابئ سريّة في بادية الشام.
لقد أخبرني صديقي الراعي الذي حمل التعاليم كالعادة أن القيادة تريد دفن أسرار مهولة في تلك المخابئ.
(صمت)
إبان مهماتي السابقة في البادية، تراكمتْ لديّ خبرات هائلة في تحديد المخابئ، وكانت القيادة على اطّلاع دائم بتطوّر تلك الخبرات.
في أول أيام الخريف قرّرت بناء سفينة عظيمة في ميناء درعا.
وبعد أن انتهيت من صناعتها أصدرتُ الأوامر بالرحيل.
سحبتُ المرساة وأبحرتُ في الجرود، فوق التلال، في السهول المتروكة.
وقد اعترضني بين ما اعترضني عاصفة هدأت عند حلول الفجر.
أوقفتُ السفينة بالقرب من قرية متروكة، وأعطيتُ رجالي استراحة.
عند الغروب انبثق ضوءٌ في الأفق سرعان ما اقترب.
وعندما حدّقت بها جيدا رأيتُ أنّه صديقي الراعي وقد تنكّر.
أمسك بي وقادني بسريّة إلى أعماق كهف عملاق يتوسّط القرية المتروكة.
توقّف بجانب صخرةٍ في إحدى زوايا الكهف وهمس:
الراعي:
ذيب يا ذيب يا ذيب..
انتبه.
إنّ المكان الذي رسوتَ فوقه، ليس سوى وهم.
إن المكان الذي تراه، وتظنّ أنّه قرية فهو ليس كذلك!
ذئب البوادي:
ما هو إذن؟
الراعي:
إنه طائر الرخ!
ذئب البوادي:
طائر الرخ؟!
الراعي:
استمع يا ذيب!
….
إنه طائر رخ نائم من زمان قديم!
الرياح المتعاقبة غطّته بالتراب والطين، فنبتت فوقه الأشجار.
….
(ذئب البوادي يضحك)
ذيب يا ذيب يا ذيب! اسمع!
إنه كمين منصوب لك.
إذا كنت لا تصدقني أزح الصخرة وانظر!
هيا!
أزحها!
هل ترى عينه النائمة!
(الراعي يزيح الصخرة وينسحب. نسمع صوت سيارة مغادرة. ذئب البوادي ينادي)
ذئب البوادي:
آهي، آها! آهي، آها!!
إلى السفينة، إلى السفينة يا رجال!
آهي، آها! آهي، آها!!
إنه طائر الرخ! سيقتلنا جميعا!
بعد فوات الأوان!
تزلزل كل شيء.
تحرك طائر الرخ تحت القرية فاصطفقت الأشجار ببعض.
انبعث جناحاه الكونيّان من تحت الأرض ورفرف بهما، فانقلعت الأشجار وانثالت الزوابع.
انجرفت الأراضي حتى صارت سيلا من الأحجار جرفتْ في طريقها كل شيء.
رمى طائر الرخ رجالي بأكوام من الأحجار حتى ابتلعهم السيل وغرقوا.
وعندما شارفتُ بدوري على الغرق توقف الطائر.
نظر إليّ طويلا وغادر!!!
عندها ظهرت الجنية للمرة الرابعة.
سحبتني خارج البركان الحجري.
وبعيدا عن هناك توقفت.
نظرتُ إليها.
كانت في هيئة زنوبيا الملكة.
وكان الخاتم الدمشقي يلتمع في يدها اليسرى.
الجنية:
ذيب!
اسمع ما أقول جيدا!
كما سبق وقيل لك، فأنت لم تصل بالصدفة للقرية المتروكة.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
إن العاصفة هي التي قادتك إلى حيث يكمن طائر الرخ!
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
اعلم أنّك لم تصل بالصدفة إلى تلك القرية.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
أنت لم تصل بالصدفة إلى تلك القرية.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
أنت لم تصل بالصدفة.
ذئب البوادي:
كيف عرفت ذلك؟!
(يقتل الجنية. يبحث عن الخاتم فلا يجده)
6
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر السادس.. التنين
ذئب البوادي:
إي!
جاءني الرّاعي بتعاليم جديدة.
في مناطق الرقة وحلب والحسكة يتوجب التصحير.
مهمتي التي يجب أن تنفذ سرا هي خلق الرمال لكي تزحف على المدن.
كنت أعمل ليلا.
شيئا فشيئا بسطتُ رمال الصحراء.
وضعت سرابا هنا، وواحة هنا وهناك.
(نسمع صرخة مفاجئة)
لوحة : هيثم شكور 
الجنية:
ذيب يا ذيب يا ذيب.
إحذر يا ذيب!
سيقضي عليك هذه المرة.
ذئب البوادي:
اللعنة!
إني لأعرف هذه النبرة.
قلت، وتناولت بندقيتي.
(يصرخ)
لقد عرفتُ!!
إنها جنيتي الجميلة الوحيدة في هيئة الآلهة عناة واقفة في فوهة الكهف.
الخاتم الدمشقي في يدها.
الجنية:
احذر يا ذيب!
احذر!
ذئب البوادي:
استدرت، فإذا بظلال التنين الكنعاني تخرج من قمقم.
لقد تحرّر التنين الكنعاني من القمقم!!
(بنشوة)
لقد تحرّر التنين الكنعاني من القمقم.
التنين:
لا ترحب بي يا ذئب البوادي!
لقد خرجتُ من القمقم لأصليك بالحمم.
ذئب البوادي:
أنا لا أستحق ما تصليني به بالحمم.
بالعكس!
التنين:
لقد قتلت الجنية الوحيدة في بادية الشام.
ذئب البوادي:
لقد وقفتْ بوجه مهماتي.
التنين:
لقد اغتصبت ابنتك.
ذئب البوادي:
لم أفعل ذلك.
تلك كانت رغبتها الشخصية.
التنين:
لقد أطفأت عينيّ شيخ الجان.
ذئب البوادي:
لم أكن أعرف ذلك.
لقد رأيت كتلتين من النار فقط!
التنين:
لقد سرقت نبتة الشباب وأهديتها إلى الراعي.
ذئب البوادي:
وما شأنك بهذا!!
(إلى الجنية)
افعلي شيئا!
الجنية:
إنه التنين الكنعاني!!
أنت تعرف أني أُشلّ إذا ما خرج من القمقم.
لن يعيده إلى القمقم سوى تعويذة الجلجلوتية الكبرى!
ادخل الكهف.
اذهب إلى الصخرة.
اهبط من هناك.
اسرق الجلجلوتية الكبرى واجلبها لي وسأقضي عليه!
اسرق الجلجلوتية الكبرى!
(التنين يهاجم الجنية. حركة ورقص)
ذئب البوادي:
وكما يحدث في المعجزات، وجدت نفسي داخل الكهف.
أزحتُ الصخرة في العمق.
هبطتُ بسرعة البرق.
سرقت تعويذة الجلجلوتية الكبرى وصعدتُ.
سحبتْ الجنية سيفي الدمشقي من يدي وراحت ترسم به أشكالا غريبة في الهواء.
عندها تشتّتتْ رؤوس التنين السبعة فانقضّت الجنية عليه.
بصق التنين ألسنة من اللهب واندلعت الحرب.
انزويتُ خلف الصخرة وأنا أرتّل، ولم تتوقف المعركة حتى أصابت الجنية من التنين مقتلا.
سقط الكائن الكنعاني الأسطوري على قفاه، فضربته الجنية بالسيف الدمشقي!
سمعت صدعاً.
وكأنها أصابت جدارا.
ضربته ثانية فدوّتْ صرخة هائلة.
(صمت)
فتحتُ عينيّ ونظرت فإذا بالتنين مرميّ خارج الكهف كجبل شاهق من الجمر.
طحنتْه الجنية بمطحنة، ووضعت الطحين في القمقم.
بمثل لمح البصر فلقتْ صخرة بالسيف، فاندلعتْ ثغرة ابتلعت التنين المطحون، وبسرعة البرق التأمتْ الصخرة وكأنّ شيئا لم يكن!
(تقترب الجنية من ذئب البوادي)
الجنية:
لقد حرّر التنين الكنعاني من القمقم هذه المرة ليمنعني من الدفاع عنك.
لكن جهوده باءت بالفشل.
سأظل آتيك دائما للدفاع عنك.
ذئب البوادي:
وأرادت أن تسحبني لممارسة الطقوس التي أعرفها جيدا.
لكنني في تلك اللحظة كنتُ مهجوسا بالأسئلة:
أنّى للجنية أن تعرف كل تلك الأحداث؟
لا!
صرخت بها:
هذه المرة، لا.
وسحبت سيفي الدمشقي….
(يقتلها)
فتحلّلت فوق الرمال..
(موسيقى احتفالية)
7
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر السابع…. الراعي!!
ذئب البوادي:
جاءني الراعي بمهمة جديدة قديمة!!
الراعي:
ذيب يا ذيب يا ذيب!
لقد تمّ اكتشاف المخابئ السرية في بادية الشام، وعليك أن تبحث عن حلّ مناسب لنقل تلك الأسرار إلى مخابئ أخرى.
ذئب البوادي:
بمنتهى السرعة حدّدتُ مخابئ جديدة، وذهبتُ لنقل الأسرار من المخابئ القديمة.
وما أن ابتدأتُ حتى انقضّ عليّ ثور سماوي، حملني بين قرنيه، وطار إلى القرية.
أدخلني الكهف ثم أزاح صخرة وهبط بي حيث سجنني داخل جرّة.
400 عام بقيت محشورا في الجرّة لا أرى شيئا سوى الثور السماوي، يأتي لكي يمارس عليّ عمليات التعذيب.
اقتلع أسناني،
اغتصبني،
أدخل القناني في شرجي،
أدخل الأسياخ والخوازيق.
….
في عصرٍ ما تمكنت من رشوة حارس سرق لي إحدى تعاويذ ما تحت الأرض.
رتلّت التعويذة ألف مرة ومرة ثمّ ضربت جدارا في الجرّة.
ضربته، ضربته، ضربته، حتى تصدّع.
ففتحتُ ثغرة وانسللتُ إلى ما فوق الأرض.
قررت أن أختبئ في تلك المدينة.
فهناك لن يرسل أحد أبدا. دخلت المدينة. تمشيت بين الناس في أزقتها، وفي الساحات، وفي الأسواق المسقوفة.
دخلتُ بيتا أسدلتُ ستائره واتخذته سكنا لي.
في اليوم السابع عند منتصف الليل أزحتُ ستارة، فرأيتُ الصحراء تزحف لتلتهم المدينة.
رأيتُ الأحياء والأزقة تغرق رويدا رويدا في لجج الصحراء، ثمّ رأيتُ باب بيتي يغرق، ثمّ تغرق الغرفة، ثم السرير!
وبدأ الزمن يعود إلى الوراء.
ساعات تعدو إثر ساعات، حتى أصبح الوقت ظهرا.
وإذا أرى نفسي بي من جديد وسط بادية الشام.
(صمت)
فكّرتُ:
ماذا أفعل؟
فقلت لنفسي:
فكّر.
….
وفكّرتُ:
ماذا أفعل؟
فقلت لنفسي: فكّر.
….
حدّقت بالشمس ثم سمعت صوتي يقول:
قرّر.
(يمارس طقسا)
انظر:
هرعت إلى القرية المتروكة.
هرعت إلى الكهف.
حفرت تحت صخرة، واستخرجت ما تبقى من تعاويذ.
خرجت إلى العراء وناديت نجوم الظهيرة!
طلبت من كوكب الزهرة أن يحوم.
انظر:
رسمت بسيفي الدمشقي النجمة المضلّعة فوق الأرض، ووضعت فوق كل زاوية تعويذة.
انظر:
قرأت برج السرطان، ثم كتبته على ورق البرديّ ودفنته في حفرة وسط النجمة، وناديت:
واهي، واها! واهي، واها.
يا ربّ الأفلاك وخالق العالم السفلي.
يا خالق العالم السفلي.
أحضر لي الجنية.
(يتوقف الطقس)
انظر:
أشعلتُ بخورا لكي أدعو العاصفة.
بعد هنيهة، انفلع صدري وانبثق منه صديقي الراعي.
….
صديقي الراعي؟!
الراعي:
كيف تجرأت على ممارسة طقوس الاستحضار في وضح النهار؟
ألا تعرف أن هذا من المحرمات؟
ثمّ إنّ الجنية تظهر عند منتصف الليل فقط.
ذئب البوادي:
صديقي الراعي؟
الراعي:
نعم أنا هو!
….
دعنا نستريح قليلا.
(يجلس الراعي ويفرش عباءته)
انظر ماذا حملت لك معي.
ذئب البوادي:
نظرت في عباءته وإذا بي أرى خبزا وعسلا وبيضا.
في تلك اللحظة فقدت صوابي.
(صمت. ثم ينقض على الراعي)
كيف عرفتَ أني أحب العسل والبيض؟!
كيف عرفت أن طقوس الاستحضار ممنوعة في النهار؟
كيف عرفت أن ثمة جنية تظهر.
كيف عرفت أن الجنية تظهر فقط عند منتصف الليل؟؟!
كيف خرجتَ من صدري؟
كيف؟! كيف؟ كيف؟!!!!
وبينما كان الراعي يلفظ أنفاسه الأخيرة لامست أنامله عنقي.
يا إلهي!
إنها أنامل الجنية ذاتها.
الراعي:
لقد طلبتْ مني أن أخبرك بالحقيقة قبل فوات الأوان.
ومع ذلك.. أنا أرى أن الأوان يفوت الآن!
(يقتل ذئب البوادي الراعي. صمت)
8
ذئب البوادي:
إي.
إي.
(حين يدرك أن لا أحد سيعلن المشهد، يقدم المشهد بنفسه)
السفر الثامن…. الكهف
عندما أردت مغادرة القرية المتروكة انفلع صدري مرة أخرى وظهرت منه شيهانة.
قبضتْ عليّ بمخالبها وطارت إلى كهف آخر.
أسقطتني عند المدخل.
ضبابٌ مصحوبٌ بالتراتيل يتصاعد.
أضواء صاعقة تهشّم الضباب.
جرجرتني إلى أعماق الكهف.
هناك رأيتُ قبّة زجاجية مسجّاة فيها الجنية الجميلة!
مومياء يلتمع في يدها اليسرى الخاتم الدمشقي.
خبطتُ زجاج القبّة بقبضة يدي.
استدارت ببطء.
رمشت عيناها.
تحرّكت شفتاها.
بيد أنّني لم أسمع شيئا.
(ذئب البوادي يكاد يجن)
يا ربّ العباد، ما هذا؟
يا ربّ العباد، أريد أن أكون بقربها!
شيهانة:
اخلع رداءك!
…..
خذ هذا الكفن، وتكفن!
سأحفر طريقا يوصلك إليها.
(طقس موت)
ذئب البوادي:
يا إلهي!
أنا بالقرب منك يا جنيتي الجنية!
يا إلهي!
أنتِ ملفوفة بلفائف من قماش الكتان.
(ذئب البوادي يدور حول الجنية. الخاتم الدمشقي متوهّج من خلف لفائف الكتان)
الجنية:
ماذا تفعل هنا؟
…..
لقد انتهت حياتي بسببك.
ذئب البوادي:
ولكنك.. أ..
الجنية:
هذا هو موتي الأخير.
ذئب البوادي:
لكنك قادرة على الانبعاث!
الجنية:
لقد فقدتُ هذه القدرة.
ذئب البوادي:
لماذا؟
الجنية:
لأنّك قتلت الراعي.
ذئب البوادي:
ما معنى هذا…؟!
الجنية:
ألم تفهم معنى العسل والبيض؟
كان الراعي هيئتي الإنسية في النهار.
نحن مرتبطان ببعض، فإذا قُتلت قرينتي الأنسيّة أموت أنا بشكل نهائي.
ذئب البوادي:
لمستُ لفائف الكتان فتعرّفتْ يدي على جسد الراعي داخلها.
….
أخرجتْ الجنية كفّها اليسرى الذاوية من الكتان لتلمسني فسقط من إصبعها الخاتم الدمشقي وتدحرج في الطريق الذي جئتُ منه.
هرعتُ خلف الخاتم، لكنه كان أسرع.
أسرعتُ خلفه فتدحرج خارج الكهف ثم خارج القرية صوب الجرود.
نبتت له أحراش ثم طغا عليه صلصال فتضخّم وتعملق كمثل كرة الثلج.
هكذا رسم الخاتم مسارا حلزونيا راح يتسع ويتسع وكانت أقدامي تسقط داخل المسار.
صارتْ أيامي تعدو خلفي وأنا أعدو خلفه.
كلما اعترضني عائق أزلته عن طريقي:
أهلتُ التراب على ناعورة حماة.
أزحتُ قلعة حلب من الوجود.
وحين دقّت ساعة حمص أمرت الزمن أن يتوقف.
اعترضتني حشودٌ من الديناصورات فجندّتها!
ظهرتْ بوجهي فيالق من المحاربين فجعلتها تابعة لي!
داهمتني وحدات من الدبابات وآلاف السيافين فدجّنتهم.
خلقتُ مدافع وشبكات ألغام، وصرتُ أخطب بهم وأنا أعدو لأقبض على الخاتم.
لم أدرك أن الخاتم الدمشقي كان يحفر أخدودا حلزونيا صوب طبقات الأرض السبع لأني كنت أجري خلفه دون تفكير.
حين وصل الخاتم طبقة الوشاح جرف صخورا بركانية وعلّق بدرا في قشرة الأرض فبدا الخاتم والقمر قمران تحت الأرض.
جندلتُ القمر وأوغلتُ خلف الخاتم. ‏
(إيقاع وحشي يتصاعد)
حين غاص في طبقة صخر البلور نشر الخاتم ضياءه ومن هناك ولد القمر ثانية وتماهى ضوؤه بوهج الخاتم، لكنني ابتلعتُ ضوء القمر.
(يتصاعد الإيقاع)
في الطبقة الثالثة ادلهمّ وهج الخاتم، وعشعش ضوء القمر الباهر فوق المعادن المبلورة، فناديتُ صخور الدياجير لتمتص ضياءه.
(يتصاعد الإيقاع)
في الطبقة الرابعة حشّد الخاتم صخور الوشاح السفلي الكثيفة وصفّها داخل إطار قمر نمير ينبض بضياء أبيض، لكنني كنت أعرف من هو النمير ومن هو الخاتم.
ناديتُ لجج اللهيب فراح القمر يتخبّط في ألسنتها لسنتها المهولة.
استحالت ألسنة اللهيب مرايا.
فرأيتُ فيها صورة شيخ الجان.
رأيته يرمقني بعينين مفقوأتين.
حدّق بي، فحدقت به.
رأيته يخربش المرايا، اللهيب، فخربشتُ المرايا.
اقترب مني، فاقتربت منه.
حدّق بي فلم أعد أر شيئا.
تلمستُ ما حولي فإذا المرايا تعيد تجسيده كالرلييف.
في الطبقة السابعة، في قلب الأرض استحال الخاتم كرة من حديد ونيكل وصار القمر هلالين كالشفتين.
لقد كانتا شفتي شيخ الجان.
حين تحركت الشفتان انطلق الصوت منّي أنا!
هذا هو الذي شهدتُ حدوثه.
أنا ذئب البوادي.. أنا هو شيخ الجان.
(إيقاع وحشي)
عند قلب الأرض نقف وجها لوجه:
أنا وصورتاي وجيوشي من جهة، والخاتم وقلب الأرض من جهة ثانية.
هيا أيتها الجيوش!
إلى المعركة الفاصلة.
(الإيقاع الوحشي المصحوب بالغناء يتصاعد حتى تتحول المسرحية إلى أمسية موسيقية)
---------------------------------------------
المصدر : الجديد - العدد: 17

تابع القراءة→

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9