أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الخميس، يونيو 16، 2016

دور مسرح الشباب في تأسيس المسرح العماني / د. شبر الموسوي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, يونيو 16, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

تتناول هذه الورقة، دور فرقة مسرح الشباب في تأسيس الحركة المسرحية ونشأتها في عمان ، وذلك من خلال أربعة محاور ؛ المحور الأول مسرح الشباب وبدايات الحركة المسرحية ،حيث تطرقت في هذا المحور للصعوبات التي واجهتها الفرقة في عميلة بداية التأسيس، ويدور المحور الثاني حول المراحل التي مر بها تطور فرقة مسرح الشباب، وقد قسمت هذه المراحل إلى ثلاث مراحل ، وهي مرحلة النشأة والتأسيس ، ثم مرحلة التبلور والتشكيل المسرحي العماني ، وثالثا مرحلة الاحتراف المسرحي والانطلاقة الفعلية. وقدمت في المحور الثالث تحليل إحصائي ونوعي للمسرحيات التي قدمتها فرقة مسرح الشباب ، وفي المحور الرابع تناولت ابرز التأثيرات الفنية والثقافية التي أفرزتها تجربة مسرح الشباب طيلة مسيرة هذه الفرقة ، والعناصر الفنية التي ساهمت في بلورتها الفرقة في مسيرتها المسرحية ، وقد أنهيت الورقة ببعض الاقتراحات التي أتصور أنها سوف تساهم في تعزيز عمل فرقة مسرح الشباب .
المحور الأول :مسرح الشباب وبدايات الحركة المسرحية في عمان :
لقد بدأت فرقة مسرح الشباب في مرحلة التكوين الأولى عام 1980 على يد مجموعة من الممثلين الشباب الذين كانت لديهم هواية التمثيل وكانوا يمارسونه من خلال الأندية ، حيث كانوا يقومون بتمثيل بعض الاسكتشات البسيطة خلال حفلات العيد الوطني والمناسبات الوطنية الأخرى،وبعض المسرحيات الأخرى ذات الصبغة الكوميدية والاجتماعية، ولكن هذه المحاولات لم تكن كافية لتشكيل ملامح مسرح عماني جاد . وقد بدأت الخطوات الحقيقية لإنشاء فرقة مسرح الشباب ،عندما تلاقت رغبة هؤلاء الشباب مع رغبة وزارة الإعلام والشباب آنذاك في تنمية النشاط المسرحي ، حيث قامت الوزارة بتبني هؤلاء الشباب ، وتكوين أول فرقة مسرحية عمانية للشباب ، كما قامت باستقدام مخرجا عربيا من جمهورية مصر العربية وهو مصطفى حشيش ، فالتف حوله هؤلاء الفنانون “وتعاضدوا معا لتشكيل أول فرقة مسرحية عمانية من الهواة في العاصمة مسقط وهي فرقة ذات صبغة رسمية بحكم تبعيتها لوزارة رسمية “(1) ، وقد استقدمت الوزارة فيما بعد أيضا كاتبا مسرحيا وهو منصور مكاوي .
ويبدو أن تأسيس الفرقة بهذا الشكل كان مناسبا للطرفين ، فلقد كانت الوزارة المعينة في تلك الفترة بتنمية أنشطة الشباب الثقافية والفنية تضع في تصورها ، تشكيل وإقامة إطار فني لاستيعاب جهود الشباب الفنية ، وكان الممثلون الهواة يعانون من حالة جمود النشاط المسرحي في تلك الفترة ، وكانوا يبحثون عن مكان مناسب يمارسون من خلاله هواياتهم بعيدا عن الأندية ، ويحقق لهم الحد الأدنى من الشروط الفنية والمعنوية والمادية لتقديم مسرح عماني جاد ،ولذلك استطاع كل من الطرفين (الوزارة والممثلين) تحقيق رغبته من خلال تأسيس هذه الفرقة . ولا بد من الإشارة هنا أن تبني الوزارة لجهود هؤلاء الشباب قد أعطى الفرقة في بداية تأسيسها دفعة قوية ومناسبة ، للبدء في نشاط الفرقة بكل قوة وحماس ، حيث أن الراعي لهذه الفرقة كانت مؤسسة رسمية لها قوة مادية ومعنوية في التخطيط والتنفيذ ، ولذلك فإن هذا الدعم ربما لن تحظى به الفرقة لو تأسست على مستوى شعبي أو من خلال النوادي ذاتها التي تعاني من أزمات مادية وفنية ، ولهذا “كان الحماس هو الصفة الغالبة على معظم مؤسسي الفرقة من الشباب ، وبالحماس والمخرج العربي استطاعت الفرقة أن تجتاز كل العقبات في بداية تكونيها وأن تقدم أول عمل لها وهي مسرحية شكسبير الشهيرة (تاجر البندقية )”(1) .
ولقد كان تأسيس الفرقة نقطة تحول في مسيرة الحركة المسرحية في عمان وخطوة مناسبة لانبعاث حركة المسرح العماني وتفجير طاقات الممثلين الفنية والمبدعة ، ولكن الفرقة في تلك الفترة كانت تفتقر للكثير من الأسس الفنية التي يتطلبها تقديم مسرحية متكاملة، فبالإضافة إلى عدم وجود مؤلف متخصص وعدم وجود نصوص مسرحية محلية تصلح للتمثيل ، كانت هناك عدة عوائق وصعوبات تواجه عمل الفرقة .
ومن الصعوبات التي واجهها مسرح الشباب ، في بداية مسيرته :
1- عدم وجود مؤلف مسرحي :-
واجهت فرقة الشباب في بداية الحركة المسرحية لمسرح الشباب قلة النصوص المسرحية التي تناسب المجتمع العماني في تلك الفترة وقد لجأ بعض كتاب مسرح الشباب في هذه الفترة إلى تعريب المسرحيات العالمية وتعمين المسرحيات العربية فشاهدنا مثلا مسرحية تاجر البندقية لشكسبير ومسرحية عيال النوخذة المأخوذة عن مسرحية لنعمان عاشور ( عيلة الدغروي)، وكذلك مسرحيات أخرى لموليير وتوفيق الحكيم وغيرهم من رموز المسرح في العالم، وقد ظهرت الحاجة إلى المسرحية المؤلفة محليا، وكانت الدعوة إليها ملحة لشعور المهتمين بالمسرح أن المسرحية المعدة عن أصول أجنبية ربما تفقد تأثيرها ، كما تمت الاستعانة بعدد من الخبرات العربية في بداية تأسيس المسرح من كتاب النصوص وذلك لدعم مسيرة المسرح مثل منصور مكاوي وعبد الغفار مكاوي .
قلة الممثلين وخاصة من العنصر النسائي وكانت هذه إحدى الصعوبات التي واجهت فرقة مسرح الشباب ،” أما المشكلة الثانية ، فكانت في العنصر النسائي والتي تم التغلب عليها بانضمام ثلاث عضوات إلى قائمة مؤسسي مسرح الشباب ” ،”وفي العديد من الأعمال المسرحية التي قدمها مسرح الشباب كانت تبرز أمامه مشكلة العنصر النسائي ولم تواصل العمل المسرحي من مسرح الشباب سوى فنانة واحدة هي التي تربعت على عرش الإذاعة والتليفزيون … أما الأخريات فكن يعملن بمسرحية أو اثنتين ثم يختفين لظروف أغلبها اجتماعية الصبغة “(1) .
3- عدم وجود الكوادر الفنية المؤهلة للقيام بمثل هذا العمل الفني ، أو أن الممثلين الأساسيين كانت تنقصهم الخبرة الكافية للتمثيل في مسرحيات كبيرة ومميزة لأن أغلب الممثلين كانوا من الهواة “أما الصعوبة التي كانت تمثل أكبر الصعوبات جمعيا والتي استغرقت معالجتها ستة أشهر – هي فترة إعداد المسرحية لتعرض في العيد الوطني العاشر في 18 نوفمبر 1980م- فكانت في كوادر الممثلين أنفسهم .. فأغلب الممثلين كانوا في بداية تجاربهم الأولى على المسرح وكانت خبراتهم في العمل المسرحي قليلة وغير كافية لتقديم عمل عالمي مثل تاجر البندقية) لذلك كان لزاما على المخرج ، أن يقوم بدورة تدريبية تأهيلية للأعضاء على مبادئ التمثيل الأولية ، ومن ثم يقوم بإخراج العمل، وهذا بالفعل ما تم واستغرق ستة أشهر من التدريبات الشاقة ” (2)
4-عدم وجود صالات عرض أو مسارح معدة أو صالحة للعرض ، فلم تكن هناك صالات عرض معدة لتقديم مثل هذه الأعمال المسرحية ، “والصعوبة الأخرى كانت في إيجاد قاعة للتدريب وقد تم التغلب عليها بمعاونة الوزارة إذ تمت الاستعانة بصالة أحد الأندية للتدريب عليها .. وتم استئجار مسرح فندق الانتركونتنتال للعرض ” (3).
وهنا ينبغي التأكيد على أن حركة المسرح في عمان لم تكن فقط حديثة العهد في التجربة فقط، ولكن حتى ممثليها وكتابها حديثو السن ،وهم يمثلون في أغلبيتهم فنانين التزموا بهذا الشكل الفني الحديث، ولذا فهي تجربة حديثة ، وبالنظر إلى حداثة هذه التجربة المسرحية العمانية، نعاين كذلك حداثة كتابها وممثليها بكل ما تحمله لفظة (حداثة) من معنى ، وخاصة في بدايات فرقة مسرح الشباب الأولى، فلقد كان أغلب الفنانين الذين قاموا بإنشاء الفرقة ما يزالون في مرحلة الشباب الزمني والفني. وهذا الوضع المزدوج للحداثة في التجربة المسرحية العمانية لم يكن عاملا عائقا في تطور حركة المسرح في البداية ، بقدر ما كان عاملا مساعدا لفائدة تطور وتبلور الحركة المسرحية ، وقد تحول إلى عنصر مفيد من حيث التمسك بالأصول والتقاليد المسرحية والفنية والمثابرة على خلق حركة مسرحية جيدة وجيل مسرحي واع ، كما ساعد على وضع ضوابط مسرحية محددة ومتزنة ساهمت في بناء الحركة المسرحية في عمان في ضوء واقع التجربة المسرحية البسيطة والإمكانيات الفنية المبتدئة التي امتاز بها أعضاء الفرقة، وهذه الضوابط المسرحية لم تكن معينة بتلك الفترة فقط ، وإنما استمرت طيلة مسيرة حركة المسرح في عمان فيما بعد. “وهكذا نرى أن مسرح الشباب خلال مسيرته منذ أن تأسس عام 1980م وحتى اليوم لم يكن غزير العطاء بقدر ما كان متبصر العطاء ومتنوع التجربة … ربما كان وما زال يبحث لنفسه عن هوية فنية وربما كان وما زال يبحث عن نقطة بداية إلا أنه في كل الأحوال حقق محاولات مسرحية، اتسم كثير منها بالنجاح والفائدة على الأعضاء”(1) .
وعلى الرغم من حداثة هذه التجربة وتفاوت مستويات فنانيها إلا أنها أفرزت في السنوات القليلة الماضية العديد من المسرحيات الناجحة ، كما أن الأعمال المسرحية في تصاعد مستمر، حيث بلغ مجموع الأعمال المسرحية أكثر من خمسين عملا مسرحيا منذ بداية الثمانينيات .
المحور الثاني : المراحل التي مر بها تطور مسرح الشباب :
ويمكن تقسيم مراحل مسيرة فرقة مسرح الشباب إلى ثلاث مراحل رئيسية وهي :
أولا : مرحلة النشأة والتأسيس :
وهي مرحلة التأسيس وقد تميزت هذه المرحلة بعدة ملامح وهي :
موسمية الحدث المسرحي ، فلقد ظل مسرح الشباب يقدم عملا سنويا واحدا في مناسبة العيد الوطني ، ومع ما تمثله هذه الظاهرة من سلبية تم تفاديها لاحقا ، إلا أنها أرست تقاليد العمل المسرحي في عمان ، كما أنها جعلت من هذا العمل المسرحي ، مركز اهتمام وسائل الإعلام ، التي كانت تسلط الضوء على تلك المسرحيات وتهتم بها، وتثير في الوقت نفسه العديد من مظاهر النقاش بين المهتمين والمتابعين كونها العمل الثقافي الأبرز في تلك الفترة الزمنية ، وقد صب ذلك في مصلحة العمل المسرحي وأدى إلى تسليط الأضواء عليه وترقب المهتمين لهذا العمل ، والاهتمام الكلي به .
ويبدو أن هذه الظاهرة كانت موجودة في أغلب التجارب المسرحية الخليجية أيضا ، في بداية حركة المسرح ، فيقول عبد العزيز السريع في ورقة عن معوقات الحركة المسرحية في الخليج ” نعم لقد تسارع التقدم وتطور المسرح كثيرا في هذا الاتجاه ، فبينما كان المسرح في الكويت في أوائل الستينيات يقدم عملا مسرحيا واحدا في العام أو أثنين على أكثر تقدير .. فقد قدم هذا المسرح في عام 1988 تسعا وعشرين عملا مسرحيا”(1) .
وقد انتقد أكثر من متابع هذه الظاهرة وهي تقديم عمل مسرحي واحد في السنة ، يقول الأستاذ حفيظ الغساني “لكن ومع كل هذا فإن ظاهرة سلبية لا بد من الإشارة إليها وهي قضية الموسمية .. بمعنى ارتباط الإنتاج المسرحي بالمناسبات ليس من ناحية الجوهر والموضوع بل من ناحية الزمن ، فلا نشاهد المسرح إلا مرة واحدة كل عام بمناسبة احتفالات العيد الوطني .. ويقول المحرر الفني لمجلة نزوى في موضوع عن الحركة المسرحية في عمان ” وبعد ذلك ظهر واضحا أن مسرح الشباب يحاول الحفاظ على استمراريته بتقديمه عملا واحدا سنويا وهو الذي يعكس أيضا بطء العملية المسرحية وضعف حركتها بما لا يتناسب مع الكم الكبير الذي قدم خلال السنوات الأولى من عقد السبعينيات ، وحقيقة فإن فرقة مسرح الشباب وبما تتمتع به من دعم رسمي هي الفرقة الوحيدة التي حافظت على استمراريتها في تقديم العروض والاستمرار الفني ، كما أنها ومنذ عام 1986 م قد خرجت من إطار العمل السنوي الموسمي، واتجهت إلى التنويع وإلى تقديم أكثر من عمل موسمي فقدمت في الأعوام 86 ،87، 98 ، 2001 ثلاثة عروض في العام الواحد ،وفي العامين 90 ،94 قدمت أربعة عروض مما يشير إلى إزياد عدد العروض المسرحية في السنة، وخروجها عن دائرة العرض الموسمي . وأنا أتصور أن حجم وعدد العروض التي كانت تقدمها فرقة مسرح الشباب كانت تتم أو تسير حسب ظروف الوضع الفني للفرقة وحسب الإمكانيات الموجودة لدى الفرقة وحسب العرض والطلب ، فإذا ما توفرت الإمكانيات المادية والنصوص والممثلين والكادر الفني والتشجيع من قبل المسئولين فإن العروض تتوالى وخصوصا قرب مناسبة العيد الوطني أو اقتراب موعد المهرجانات الخليجية والعربية فإنه يتم المسارعة بتقديم وزيادة العروض المسرحية ، وإذا لم تكن تلك المناسبات موجودة فإن العروض المسرحية تكون حسب توفر العناصر الفنية والمادية السابقة ، ويتم الاكتفاء بتقديم عمل أو عملين سنويا حتى تكون الفرقة قد قامت بما هو مطلوب منها على الأقل محليا .
وهنا أود الإشارة إلى أنه حتى عندما تم تأسيس الفرق المسرحية الأهلية فأنها لم تستطع الخروج من دائرة العروض الموسمية السنوية ، والمناسباتية وخاصة في فترة العيد الوطني أو فترة المسابقات الرسمية التي تقيمها وزارة التراث والثقافة ، أو بلدية مسقط خلال مهرجان مسقط ، فأن أكثر هذه الفرق تكتفي بعمل واحد في السنة وبمناسبة العيد الوطني أو الاشتراك في المسابقات والمهرجانات المحلية ، وحتى فترة تقديم هذه العروض لم تتغير وظلت تراوح نفسها بين العرض الافتتاحي ، ثم ثلاثة أيام للجمهور فقط . ولهذا ينبغي توجيه كلمة حق وهي أن العروض المسرحية السنوية التي كانت تقدمها فرقة مسرح الشباب ورغم الظروف التي كانت تواجه الفرقة ومحاولة الاستمرار في تقديم هذه العروض بما يتناسب مع إمكانيات الفرق تستحق الشكر والثناء ، لأنها استطاعت أن تبدأ وأن تتواصل رغم المعوقات الكبيرة التي كانت تحيط بالفرقة في بدايات تأسيسها.
2- أن أغلب النصوص المسرحية كانت إما معربة من المسرحيات العالمية أو معمنة من المسرحيات العربية ،وذلك لعدم وجود نصوص مسرحية عمانية ، وكانت قلة النصوص المسرحية التي تناسب المجتمع العماني في تلك الفترة تمثل مشكلة كبيرة:”في بداية تشكيل خشبة المسرح في عمان .. كان لجوء مسرح الشباب إلى المسرحيات العالمية والعربية فشاهدنا مثلا مسرحية تاجر البندقية لشكسبير ومسرحية عيال النوخذة المأخوذة عن مسرحية لنعمان عاشور ( عيلة الدغروي) ، وكذلك موليير وتوفيق الحكيم وغيرهم من رموز المسرح في العالم”(1) ، ويرى د. سيد صادق أن بعض المؤلفين العمانيين كانوا يستسهلون في البداية عملية الإعداد ، ولا يحاولون تأليف مسرحيات محلية ، فيقول “بدأت الكتابة المسرحية العمانية معتمدة على الإعداد عن روائع المسرح العربي والأوربي، ذلك لأن بعض المؤلفين كانوا يستسهلون في البداية عملية الإعداد، ولا يحاولون تأليف مسرحيات محلية تعبر عن وجدان الشعب العماني واهتماماته ، لذا ظهرت الحاجة إلى المسرحية المؤلفة محليا ، وكانت الدعوة إليها ملحة لشعور المهتمين بالمسرح أن المسرحية المعدة عن أصول أجنبية تفقد تأثيرها بعد تعمينها وأن ما يصلح لمجتمع ما قد لا يناسب الذوق العماني “(2) ، وأنا حقيقة أرى إن إعداد مسرحيات عالمية وعربية لكتاب مثل توفيق الحكيم وشكسبير وموليير في بداية حركة مسرح الشباب قد جاء كنوع من التحدي للذات ، ويبدو أن اختيار مثل هذه الأعمال للتمثيل في بداية عمل فرقة مسرح الشباب جاء كنوع من التحدي الحقيقي لأعضاء الفرقة ، ومحاولة إثبات قدرة الممثلين والمخرج (الكادر الفني ككل) على تقديم عمل فني ذو إمكانيات فنية عالية ، والنجاح في تنفيذه ،وهو ما قد حصل ، فلقد نجح الكادر الفني في تقديم عمل فني حاز على مباركة وتشجيع الجميع .
3-عدم وجود وعي مسرحي وجمهور ملائم لمثل هذه العروض المسرحية ، وخاصة في بداية العروض المسرحية التي قدمتها فرقة مسرح الشباب ، التي كانت تعتمد على نصوص ومسرحيات عالمية ، وكان المشاهدين يتوقعون أعمالا مسرحية بسيطة أو كوميدية في بداية الأمر ، لكن عرض مثل تلك المسرحيات العالية في مضمونها ، ساعد بلا شك في توجيه المشاهدين ، والرقي بأذواقهم إلى المستوى المناسب .
4- من ملامح هذه المرحلة أيضا السعي إلى تبني بعض القضايا الاجتماعية ومسرحة الأحداث التاريخية العمانية ، وذلك في سعي من قبل المؤلفين للارتباط مع واقع المجتمع ، الذي كان يمر بفترة تحول اجتماعي ، وكان يرغب في ملامسة بعض قضاياه والبحث عن حلول لها من خلال الرؤية الفنية التي كان يطرحها كتاب المسرح في تلك الفترة .
ثانيا مرحلة التبلور والتشكيل المسرحي العماني:
لقد بدئت هذه المرحلة منذ عام 1987 وذلك عندما قام مسرح الشباب بتقديم ثلاث مسرحيات عمانية الكتابة والإخراج والتمثيل ، وهو ما يعد نقلة نوعية ومتطورة في تجربة مسرح الشباب ،فلقد كتب محمد بن سعيد الشنفري أول مسرحية عمانية ( مسرحية الفأر ) وتبعه عبد الكريم جواد بمسرحتين هما ( السفينة لا تزال واقفة ، ومسرحية مخبز الأمانة ) ،”وباستثناء المسرحيات التي ألفها منصور مكاوي الذي استقدمه مسرح الشباب العماني ، فإن الميلاد الحقيقي للمسرحية العمانية المؤلفة محليا ، قد بدأ عام 1987 ، عندما كتب محمد بن سعيد الشنفري مسرحية الفأر ، وعبد الكريم جواد مسرحية السفينة لا تزال واقفة “(1)
كما سجل مسرح الشباب أول مشاركة خارجية ، وذلك عندما شاركت الفرقة بمسرحية “السفينة لا تزال واقفة” في المسابقة الثانية لمسارح الشباب لدول مجلس التعاون –دولة الإمارات العربية المتحدة بالشارقة .
ويرى عبد الكريم جواد أن عام 1987 كان يمثل انطلاقة كبرى لمسرح الشباب ، فيقول: ” وهكذا كانت سنة 1987 انطلاقة كبرى لمسرح الشباب ،إذ شارك لأول مرة في المسابقة المسرحية الثانية لشباب مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عقدت في الشارقة في سبتمبر 1987م ، بمسرحية “السفينة ما تزال واقفة ” من تأليف وإخراج (كاتب البحث) ، وكان أول عمل مسرحي تشارك به السلطنة في الخارج ، كما تم عرضه في العاصمة وبعض مناطق السلطنة .. وكان عملا تغلب عليه صبغة العمل المسرحي الناقد ، وقد حظى العمل باهتمام من قبل فناني المسرح الخليجي ، وقد حصلت إحدى ممثلات العمل على جائزة أحسن ممثلة ، بينما حصل مهندس الديكور على جائزة أفضل مهندس ديكور”(2) .
وقد تبلورت خلال هذه الفترة من تجربة مسرح الشباب عدة أمور وعناصر منها :
ظهور كتاب نصوص ومخرجين عمانيين ، فلقد لاحظنا ظهور عدة أسماء عمانية في كتابة النصوص المسرحية ، وفي إخراجها أيضا ، وقد ظهرت في هذه المرحلة أول مسرحية عمانية ، وهي مسرحية الفار.
ظهور عدد من الممثلين الذين تبنوا التمثيل كمهنة وليس كهواية وذلك من خلال الدراسة الجامعية ،مما أدى إلى اتساع دائرة الممثلين لتشمل أسماء ممثلين وممثلات جدد على الساحة المسرحية .
ظهور عدة أعمال مسرحية في السنة ، ومحاولة التنويع في الأعمال المسرحية ، فلم تعد تقتصر الأعمال المسرحية على القضايا الاجتماعية ، والأعمال المسرحية للكبار،ولكن الفرقة قدمت عدد من الأعمال المسرحية للأطفال .
برزت في هذه الفترة أيضا ظاهرة الجمع بين التأليف والإخراج ، حيث قام أكثر من فنان عماني بالجمع بين الإخراج والتأليف المسرحي ، وكانت هذه الظاهرة ذات حدين؛ فهي من جهة ساهمت في تغطية النقص الحاد في كتاب ومؤلفي المسرحيات، لكنها أدت من جهة أخرى إلى تراجع عملية التخصص والاحتراف في الكتابة والإخراج المسرحي ، كما أدى بروز هذه الظاهرة إلى تحكم المؤلف/المخرج في عناصر العمل الفني وتمرير المؤلف لأفكاره التي يعتنقها من خلال التأليف ، وكذلك من خلال الإخراج المسرحي ، مما أدى إلى طغيان رؤية المؤلف على العملية الإخراجية . وقد تكرس هذا الأمر في الأعمال المسرحية اللاحقة لفرقة مسرح الشباب وأصبحت هذه الظاهرة من سمات الفرقة الفنية والمسرحية .
برز في هذه المرحلة مشاركات الفرقة الخارجية في مهرجانات دول الخليج، كما حصلت الفرقة على بعض الجوائز وشهادات التقدير للمسرحيات المشاركة في تلك المهرجانات ، منها للممثلين أو للنصوص المسرحية . وهذا في حد ذاته يشير إلى نجاح الأعمال المسرحية ليس على الصعيد المحلي وإنما على الصعيد العربي ، وتقدير هذه المسرحيات من قبل النقاد والمسرحيين الخليجيين والعرب .
ثالثا : مرحلة الاحتراف المسرحي والانطلاقة الفعلية :
ومن ملامح هذه المرحلة :
1- انتشار الفن المسرحي كنوع من الفنون المرافقة لعميلة التنمية الثقافية وليس فقط كفن موسمي وترفيهي ، وذلك من خلال تنوع الأعمال المسرحية وكثرتها ، حيث أصبح المسرح يقدم أكثر من عمل واحد في السنة ، وقد ظهرت عدة فرق فنية أهلية ، كما أدى انتشار مسارح الشباب في بقية مناطق السلطنة إلى ظهور نوع من المنافسة الفنية والعملية لفرقة مسرح الشباب، وقد أدى ذلك إلى محاولة كل فرقة مسرحية إلى تقديم أعمال ذات مستويات فنية عالية .
زيادة فعالية نشاط الفرقة المسرحي على الساحة الثقافية ، حيث قامت الفرقة بتقديم عدد من عروضها خارج منطقة مسقط .
أصبحت المشاركات في المهرجانات والملتقيات المسرحية الخليجية والعربية أكثر تطورا ، وحنكة ، فبالإضافة إلى المشاركة المتواصلة في مهرجان مسرح الشباب لدول مجلس التعاون ، بدأت الفرقة في المشاركة في عروض المسرح التجريبي في القاهرة . كما بدأت الفرقة في حصد عدد من الجوائز في مشاركتها الخارجية ، فلقد حصدت مسرحية “الشروط ” التي شاركت في مهرجان مسرح الشباب لدول مجلس التعاون بدولة قطر سبع جوائز ( التأليف، الديكور، الامتياز في الديكور ، الامتياز في الإضاءة ، أفضل ممثل ، أفضل ممثلة ، أفضل ممثلة دور ثاني ) ، وهذه الجوائز بلا شك تتدلل على المكانة التي وصلت إليها فرقة مسرح الشباب .
أصبحت الفرقة أكثر خبرة في تقديم العروض المسرحية من الناحية الفنية، وحاولت الخروج من نمط الصيغ التقليدية إلى الأشكال الأخرى نحو المسرح التجريبي ، والفنتازيا وتوظيف التراث الشعبي ، كما أصبحت الفرقة تقدم عروضها على أسس فكرية وفنية محددة تلقى القبول والترحيب من قبل الجمهور العماني والخليجي .
المحور الثالث :تحليل إحصائي ونوعي للمسرحيات التي قدمها مسرح الشباب :
للتعمق في المسرحيات التي قدمها مسرح الشباب وتحليل مضمون هذه المسرحيات ، قمنا بعمل الإحصائية الآتية :

نلاحظ على الإحصائية السابقة عدة أمور :-
تبادل الأدوار بين المخرجين وكتاب النصوص وحتى التمثيل ، فالمخرج في المسرحية الأولى ربما يكون ممثل في المسرحية اللاحقة أو كاتب نص ، ونلاحظ وجود عدد كبير من المسرحيات التي قائم بكتابتها وإخراجها وتمثيلها نفس الفنان .
مضمون المسرحيات التي قدمها مسرح الشباب كانت تحمل مضامين مختلفة منها ؛
ما هو اجتماعي ومنها ما هو تاريخي ومنها مسرحيات عالمية وأخرى تعالج قضايا تاريخية وإنسانية ولكن من الواضح أن هناك تقارب بين ما يثار من قضايا اجتماعية في واقع المجتمع العماني ، وبين ما يعرض من مسرحيات على مسرح الشباب .
قدم مسرح الشباب في مسيرته التي استمرت منذ عام 1980 ثمانية وأربعين عملا مسرحيا شارك في كتابة النصوص ثمانية كتاب عرب وثلاثة كتاب خليجيين وعشرة كتاب عمانيين ،وكاتبين عالميين هما وليم شكسبير وموليير ، وشارك في إخراج الأعمال المسرحية مخرجا عربيا واحدا وعشرة مخرجين عمانيين مما يدلل على اتساع دائرة المشاركة العمانية في التأليف والإخراج المسرحي .وإن فرقة مسرح الشباب قد بدأ في السنوات الأخيرة في الاعتماد على مخرجين وكتاب نصوص عمانيين ، كما نلاحظ التنويع في مضمون هذه النصوص واختلاف جنسيات كتابها.
مع اتساع دائرة المخرجين والمؤلفين العمانيين إلا أن عدد المسرحيات التي تقدم سنويا ظل يراوح مكانه بين العملين المسرحين في السنة والأربعة إعمال على أكثر تقدير ولم يتجاوز هذا الرقم مكانه على الرغم من تطور إمكانيات المسرح وكثرة المؤلفين والمخرجين والممثلين العمانيين . ولكن يبدو أن ليس العبرة في الكثرة ولكن العبرة تبقى في حجم ونوعية النشاط الذي تقوم به الفرقة وكادرها الفني ، ففي بدايات الفرقة كان عدد الفنانين قليلا ولكن حجم النشاط والعطاء كان أكبر وذلك ما تدل عليه الإحصائية السابقة .
وفي الجدول التالي نقارن عدد المسرحيات مقارنة مع أسماء المؤلفين والمخرجين
1- نلاحظ من خلال الإحصائية السابقة أن هناك بعض الأسماء التي كان لها نصيب الأسد في الإخراج والتأليف ومن هذه الأسماء عبد الكريم جواد حيث بلغت المسرحيات التي ألفها 15 مسرحية ما نسبته 31% من المسرحيات التي قدمها مسرح الشباب، وأخرج تسع مسرحيات ونسبتها 19%، وبلغت المسرحيات التي أخرجها سالم بن محمد الشنفري سبع مسرحيات ونسبتها 15%، وعدد المسرحيات التي ألفها احمد بن عبد الغفور البلوشي سبع مسرحيات ونسبتها 15% ، وتوزعت المسرحيات الباقية على عدد من المؤلفين والمخرجين الذين تكررت أسمائهم بعضهم في الإخراج والتأليف .
2- تكرار الأسماء التي جاءت من الصف الثاني من المؤلفين والمخرجين أيضا كانت لهم مساهمات متكررة في أكثر من عمل مسرحي ولكن قاعدة المخرجين والمؤلفين كانت أخذة في الاتساع .
3- أن المخرجين والمؤلفين من الجيل الثاني كانت له مساهمات في أكثر من مجال في التأليف والإخراج والتمثيل أيضا ، تماما كما كان دور الجيل الأول من المخرجين والمؤلفين العمانيين . ولكن التخصص في العملية الفنية بدأ أكثر وضوحا ، من حيث التخصص في مجال واحد (التأليف أو الإخراج) دون الجمع بينهما في عمل مسرحي واحد.
المحور الرابع : التأثيرات الفنية والثقافية التي أفرزتها تجربة مسرح الشباب :
لقد استطاعت فرقة مسرح الشباب تحقيق العديد من المكاسب والإنجازات طيلة مسيرتها الفنية ، كما أن هناك العديد من التأثيرات الفنية والثقافية التي أفرزتها تجربة مسرح الشباب ليس فقط على الساحة الفنية والثقافية الداخلية ولكن الخليجية ومن هذه التأثيرات والنتائج :
لقد أدى إنشاء فرقة مسرح الشباب إلى تأسيس وخلق حركة مسرحية جادة ونشطة وأدى إلى تأسيس حركة مسرحية نشيطة ومتميزة ، وما هذا النشاط المسرحي الحالي، إلا ثمرة من ثمار ونتيجة ايجابية من ثمرات تلك اللبنات الأولى التي وضعها وأسسها مسرح الشباب ، فلقد بدأ واضحا أن الهدف الرئيسي من تأسيس فرقة مسرح الشباب هو خلق حركة مسرحية فاعلة ، ويبدو أن المخططين الأوائل الذين وضعوا اللبنات الأولى لمسرح الشباب كانوا يدركون الهدف الأساسي من إنشاء هذه الفرقة المسرحية ، وكانوا يدركون أيضا مدى الصعوبات التي كانت تواجههم ، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يمتلكون العزيمة والتصميم على إنجاح هذا المشروع على المدى البعيد وكانوا متأكدين من القدرة على النجاح ومواصلة تلك المسيرة على الرغم من قلة الإمكانيات وضاءلت النصوص المسرحية في تلك الفترة .
وحقيقة فإن حركة المسرح في عمان تدين بالفضل لعدد من الفنانين المسرحيين العمانيين والعرب الذين وضعوا اللبنات الأولى لمسرح الشباب وبجهدهم نشأ وترعرع هذا الفن المسرحي ، وهم ؛ أثنين من المسرحيين العرب هما المخرج مصطفى حشيش والكاتب المسرحي منصور مكاوي، وأثنين من الشباب العمانيين اللذان عشقا الفن المسرحي المخرج محمد بن سعيد الشنفري وعبد الكريم جواد اللذان وضعا اللبنات الأولى للحركة المسرحية في عمان وبذلا كل جهد ممكن لتطوير هذا الفن المسرحي في عمان ، وكان بمعييتهما عدد من الممثلين الذين أسهموا بجهد وافر في تثبيت ركائز هذا الفن المسرحي في عمان ، وقد أثروا مسيرة الفرقة منذ بدايتها ، ولم يبخلوا عليها بأي جهد ، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر الفنانين : صالح زعل وفخرية بنت خميس ، والمرحوم جمعة الخصيبي، وسعود الدرمكي ومحمد بن نور ، معصومة الذهب ومحسن البلوشي وعبد الرزاق المحرمي وعبد الغفور أحمد .
2- من النتاج الإيجابي لمسرح الشباب هو رفد حركة الدراما العمانية في التليفزيون والإذاعة بعدد كبير من العناصر الشابة والمؤهلة والمدربة تدريبا فنيا وقادرة على التعامل مع الكاميرا والميكرفون ، فمن المعروف أن الممثل الذي يتعامل مع الجمهور على المسرح يكون أقل رهبة في التعامل مع الكاميرا .
ومما يلاحظ على الساحة الفنية أن أكثر الممثلين العمانيين كانت انطلاقتهم الأولى من خلال فرقة مسرح الشباب ، لقد دلت سجلات الفرقة على العدد الكبير الذين قدمهم مسرح الشباب من كتاب النصوص والمخرجين والممثلين للحركة الفنية في عمان والذين توالوا على التمثيل والإخراج قد بلغ العشرات . وهذا يشير إلى أن مسرح الشباب لم يكن فقط فرقة مسرحية تقدم العروض المسرحيية ، وإنما كانت مدرسة يتخرج منها الفنانون من ممثلين ومخرجين وكتاب نصوص وفنين .
أدت مشاركات فرقة مسرح الشباب في الأنشطة الخارجية ، إلى خلق نوع من التنافس الفني والمسرحي بين فرق مسرح الشباب الخليجية ، فلقد بدأت المشاركات من عام 1987 وذلك في مهرجان مسرح الشباب لدول مجلس التعاون ، ثم استمرت بعد ذلك ، بل انطلقت لكي تشارك في المهرجانات العربية ، وقد حصدت هذه المشاركات عدد من الجوائز وهذا يدلل على قدرة مسرح الشباب ليس فقط على المشاركة ولكن أيضا على الفوز بمراكز متقدمة . وقد أدت هذه المشاركات إلى تقدم العمل المسرحي في عمان، والى خلق نوع من التنافس بين فرقة مسرح الشباب وبين فرق المسرح الخليجية الأخرى ، في محاولة جادة لخلق حركة مسرحية خليجية . وهذا يعني إن مسرح الشباب قد ساهم بدون شك في خلق حركة مسرحية خليجية جادة ونشطة فيها الكثير من سمات المسرح الجاد والمتميز .
ساهم مسرح الشباب في مناقشة العديد من القضايا الاجتماعية والإنسانية والسياسية ، فلم يكن دوره دورا ترفيها فقط ، ولكنه كان له دور طليعي في خدمة قضايا المجتمع، وإن اتسمت بعض تناوله بالسطحية وعدم التعمق في القضايا المطروحة، وأحيانا بالمباشرة في الطرح ، ولكن القضايا التي أثيرت على المسرح كانت كفيلة بأن تدق ناقوس الخطر ، ومن هذه القضايا قضية الاعتماد على الوافدين ، وقضية غلاء المهور .”في عام 1987 قدم الفنان محمد الشنفري مسرحية الفار تأليفا وإخراجا ، وهي مسرحية يمكن إدراجها تحت ظل المسرح الاجتماعي ، إذ تتعرض لظاهرة الزواج الغير متكافئ والجشع والرغبة في التملك “(1)، ومن هذا المنطلق فلقد ناقش كتاب المسرح العماني الكثير من المشاكل الاجتماعية التي تؤرق فئات كثيرة من المجتمع وعلى رأسها المغالاة الشديدة في استقدام العمالة الماهرة والرخيصة الوافدة من دول شرق آسيا التي يعاني أغلبها من البطالة والكساد الاقتصادي . وتطرق مؤلفو المسرح العماني كذلك إلى قضايا أخرى كثيرة منها مشكلة الطلاق وأهم أسبابه الزواج غير المتكافئ ، وكذلك حرمان الفتاة من التعليم بحجة التعجيل بزواجها في سن مبكرة .
ولكن توجه مسرح الشباب لتنبي القضايا الاجتماعية وسم المسرح بنوع من الشكل الواقعي أو ما يسمى بالواقعية الاجتماعية ، مما أدى إلى بعده عن الأشكال المسرحية الأخرى نحو الكوميدية ، وقد أدى ذلك طغيان التوجه الواقعي ، حيث لا نرى الكثير من المسرحيات الكوميدية ، كما أن غلبة الشكل الاجتماعي الواقعي أدى إلى صبغة مسرح الشباب بالصبغة الواقعية وتأثره بالفكر الاجتماعي والسياسي السائد ، فأخذ يتبنى القضايا الاجتماعية التي تطرح البعد السياسي السائد في عمان ، ويتأثر به ، فعندما تثار قضية العاملة الأجنبية وتوطين الوظائف ، يسارع مؤلفو المسرحيات إلى طرح هذه القضايا ، وعندما تثار قضايا أخرى يتبنى المسرح تلك القضايا، وكأن المسرح أصبح يعبر عن رأي وفكر وسياسة الدولة لا فكر ورؤية المؤلفين أنفسهم أو الرأي العام الذي ربما كان يود أن يرى قضايا إنسانية أو عالمية ، كما أن الرؤية الرومانسية والعاطفية ومعالجة قضايا الشباب لم يكن لها وجود على خارطة المسرح .
5- حاولت فرقة مسرح الشباب تقديم بعض الأعمال المسرحية التاريخية ، أو ما يسمى بمسرحة التاريخ ، وقد ارتبط تقديم مثل هذه الأعمال بالمناسبات الوطنية وهي العيد الوطني ،حيث كانت تقوم الفرقة بتقديم نشاطها السنوي ، وقد لاحظنا أن الفرقة دأبت على تقديم بعض الأعمال التاريخية ذات الصبغة الوطنية في هذه المناسبة ، ولكن تلك الأعمال كانت تتطلب جهودا مضنية في سبيل تأليفها وإخراجها ،فمن حيث التأليف كان من المفترض أن يكون المؤلف على دراية واسعة بمجريات الأحداث التاريخية ، وأن يكون لديه قدرة على معالجة الحوادث التاريخية معالجة فنية ومسرحية ، كما أن الإخراج المسرحي ينبغي أن يكون في مستوى الحدث التاريخي ، بالإضافة إلى الديكورات والاكسسورات والملابس ، وكل ذلك كان يكلف الفرقة الكثير من الجهد والمال ، ولذلك فإن الفرقة قد توقفت عن تقديم هذا النوع من الأعمال المسرحية التاريخية منذ عام 1993، وكانت آخر مسرحية قدمت في هذا المجال هي مسرحية “رحلة السفينة سلطانة” . وقد ظلت هذه المسرحيات تتصف بالتناول المباشر للأحداث التاريخية، وبنقل الأحداث التاريخية كما هي دون معالجة فينة أو رؤية معاصرة للأحداث .
حاول مسرح الشباب التنويع في تقديم مسرحيات مختلفة ، وذلك من خلال تنويع عروضه المسرحية فهو لم يقتصر أعماله المسرحية على فئة سنية معينة إن كان للكبار أو للشباب أو للأطفال، وإنما حاول التنويع وتقديم مسرحيات للأطفال أيضا ، مثل مسرحيتي “القناع ، ونعم أقوياء” ،وقد ساهم هذا في خلق وعي مسرحي لدى الأطفال إن كان من خلال الحضور لمشاهدة الأعمال المسرحية أو المشاركة في تمثيل هذه الأعمال المسرحية وقد أدى ذلك إلى بروز الكثير من المواهب لدى الأطفال ،وقد قامت فرقة مسرح الشباب بتنمية هذه المواهب وزرع بذور الفن فيها ، حتى عندما تكبر تكون واعية لفن المسرح وتشارك في تنفيذ أعمال مسرحية ، أي أن مسرح الشباب قام بأداء دورا مزدوجا في تنمية الواهب وصقلها وفي إيجاد قاعدة مسرحية من الأطفال الذين يعول عليهم في تبني دراسة الفنون المسرحية مستقبلا . والارتباط بفن المستقبل فيما بعد من خلال الدراسة والموهبة .
حاول مسرح الشباب خلق وعي مسرحي عام من خلال عروضه المختلفة، فالجمهور الذي كان يحضر المسرحيات ، كان يتفهم دور المسرح ، وكان يناقش حول مختلف القضايا التي تطرحها المسرحيات ، كما أن النقاشات التي كانت تدور على صفحات الصحف والمجلات كانت تساهم في بلورة الرأي العام حول ما يعرضه مسرح الشباب ، وأذكر أنني كتبت أول مقالة حول فرقة مسرح الشباب في الصحافة العمانية عام 1985 ، وفي ذلك الوقت المبكر كان مسرح الشباب يمثل لنا نحن المثقفين نوع من القيمة الفنية في عروضه المسرحية وقد كتبت في تلك المقالة مطالبا مسرح الشباب بدور أكبر في الساحة الفنية والثقافية ، ” يظل هناك أمل جديد في خلق حركة مسرحية جادة في المستقبل بعد تكوين هذه الفرقة والتي اعتقد بأنها ستكون نواة مثمرة إذا وجهت التوجيه الصحيح ووجدت العناية المباشرة”(1) ، وقد استمر الاهتمام بفرقة مسرح الشباب في معظم الكتابات التي تناولت الحركة المسرحية في عمان ، يقول محمد علي البلوشي ، في مقالة نشرت في مارس 1996 في جريدة الوطن بعنوان إشارات حول المسرح في عمان ،”لقد أخذ الاهتمام بالجانب المسرحي يتزايد وتوج هذا الاهتمام بإنشاء مسرح الشباب ليكون الفوهة التي تنطلق منها الطاقات الإبداعية ، وها نحن نشهد ذلك ولا تختلف أهداف المسرح العماني فن أهداف أقرانه في العالم في نشر التوعية وتحقيق الفضيلة التي تسمو بالنفس الإنسانية ، ولا شك أن هناك عدة معوقات قد تقف في تطور المسرح العماني وارتقائه “(2).
كما شكلت مسرحيات الفرقة مادة إعلامية ، حيث دأب محرري الصحف الثقافية على إبراز أخبار الفرقة والمسرحيات التي تقدمها سنويا ، وكانت عروض الفرقة تحوز على كثير من الاهتمام الإعلامي ، فلقد كانت المسرحيات التي تقدمها فرقة مسرح الشباب مركز اهتمام وسائل الإعلام والمثقفين ، . وحتى الممثلون الجدد الذين بدأوا بالتمثيل في الفرقة ؛ كانوا يشكلون مادة إعلامية خصبة لهذه الملاحق الثقافية ، فكانت اللقاءات الصحفية معهم تملأ الصفحات الثقافية والفنية.
حاول مسرح الشباب في بعض عروضه الفنية الخروج عن الصيغة التقليدية لمفهوم المسرح التقليدي وذلك بتجريب صيغ وأشكال فنية جديدة نحو التجريب وتوظيف التراث الشعبي ، والفنتازيا ، وتوظيف الشخصيات الأسطورية ، والبعد عن الحبكة الدرامية المعروفة والتي تنتهي بنهايات محددة ، ويعد تجريب هذه العناصر الفنية كشكل من أشكال الخروج على البناء التقليدي للمسرح، ومحاولة تقديم وبناء شكل مسرحي مغاير وجديد .وهذا في حد ذاته يعد نقلة نوعية للمسرح ومحاولة للإلحاق بالتجارب المسرحية العالمية الجديدة.
من التأثيرات الإيجابية لمسرح الشباب أنه ساهم في رفع مستوى الأعمال المسرحية في السلطنة ، لأن الفرق المسرحية الأهلية ، حاولت في بداية تأسيسها منافسة فرقة مسرح الشباب ومجاراتها في تقديم النصوص المسرحية القوية ، ومحاولة إثبات الذات أمام فرقة مسرحية لها تاريخ طويل وتجربة متميزة ، وعلى الرغم من أن أكثر ممثلي هذه الفرق هم من خريجي فرقة مسرح الشباب ، إلا أنهم كانوا يحاولون تقديم مسرحيات ذات مضامين مختلفة ، وقد أدت هذه المنافسة إلى تقدم العمل المسرحي في عمان، والى خلق نوع من التنافس بين فرقة مسرح الشباب وبين فرق المسرح الأهلية الأخرى ، في محاولة جادة لخلق حركة مسرحية عمانية .
9- من التأثيرات الجيدة للمسرح الشباب هو خلق حالة نقدية مسرحية في الصحافة العمانية ، فلقد أدت عروض فرقة مسرح الشباب إلى ظهور نوع من النقد المسرحي المرتبط بعرض هذه المسرحيات ، وهي حالة نقدية مؤقتة تبرز في أوقات عرض المسرحيات وتستمر طلية فترة العرض ، ولكنها تختفي فيما بعد، وهذه الحالة لا تصل إلى مستوى الحركة النقدية في مفهومها الواسع ، كما أنها أحيانا لا ترتقي إلى مستوى العمل المسرحي . حيث تكون أكثر هذه الكتابات النقدية مجرد ملاحظات حول العمل المسرحي أو دور الممثلين وإن كان أدائهم المسرحي جيد أو لا ، وأحيانا يتم التطرق إلى مضمون المسرحية والقضايا التي أثيرت فيها ،ويقوم بهذا النقد نوعين من المهتمين إما الصحافيين أنفسهم الذين يشتغلون في الصحفية ذاتها ، أو بعض المهتمين والمتابعين للأعمال المسرحية وفي كلا الحالتين فإن النقد يكون قاصرا عن تفهم العمل المسرحي ولا يستوعب كل عناصره الفنية والموضوعية وغير متعمق في ركائز وأساسيات العمل المسرحي . ومنذ بدايات فرقة مسرح الشباب وهي تستأثر بمعظم النقاشات الثقافية والفنية على الساحة الثقافية والإعلامية، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، عندما عرضت مسرحية الفأر -وكانت أول مسرحية عمانية تعرض على الساحة المحلية – أثارت العديد من النقاشات على صفحات الصحف المحلية ، فقدم مجدي العفيفي رؤية فنية بعنوان “مسرحية الفأر مالها وما عليها!” في الملحق الثقافي لجريدة الوطن عدد 24 ديسمبر 1987، وكتب أحمد السليماني مقالة بعنوان “رأي حول مسرحية الفأر” وقد نشرت في الملحق الثقافي لجريدة عمان عدد 7 يناير 1988، وتحدث المخرج والمؤلف محمد بن سعيد الشنفري في لقاء خاص مع جريدة عمان في عدد 14 يناير 1988 حول تجربته المسرحية الأولى ودافع عن وجهة نظره ورؤيته الفنية . كما استمرت النقاشات الفنية وإبداء الملاحظات من قبل الجمهور والمهتمين حيال كل عمل مسرحي كان يعرض من قبل فرقة مسرح الشباب .
وقد تنامت هذه الكتابات حول مسرحيات الفرقة في الفترة الأخيرة ، فلا يكاد تقدم الفرقة أي عمل مسرحي ، إلا ويثير العديد من النقاشات التي تصل إلى مستوى الحالة النقدية التي تعيشها الساحة الفنية نتيجة لما تعرضه الفرقة من مسرحيات اجتماعية وإنسانية(1) .
وهنا أود أن أتقدم بمجموعة من الاقتراحات التي أتمنى أن تساهم في تعزيز عمل فرقة مسرح الشباب ، وهي كالأتي :
المطالبة باستمرار عمل مسرح الشباب ، مع بذل كل الجهود الممكنة في دعم عمل الفرقة ، وتقديم كافة التسهيلات والتشجيع المادي والمعنوي والشخصي لهذه الفرقة والوصول بها إلى المستوى الذي كان يطمح بالوصول إليه المؤسسون الأوائل الذين وضعوا اللبنات الأولى لنشأة هذه الفرقة المسرحية ، والذين بذلوا جهودا مضنية ودؤبة في تأسيس الفرقة ومحاولة مواصلة مسيرتها رغم الصعوبات التي اعترضت طريقهم .
تأسيس مركز لتدريب العناصر الجديدة في الفرقة التي سوف تنظم إليها في المستقبل، ليس في مجال التمثيل فقط ولكن في مجال الإضاءة والصوت والتأليف والإخراج المسرحي ، على أن يكون هذا المركز تابع لإدارة فرقة مسرح الشباب ، ويمكن لهذا المركز أن ينظم دورات وورش عمل لأعضاء فرق مسارح الشباب في المناطق، والفرق الأهلية الأخرى ، ويمكن الاستفادة في هذا المجال من الخبرات العملية والعلمية التي يمتلكها أعضاء مسرح الشباب .
تأسيس قسم خاص لتوثيق المسرحيات التي قدمها مسرح الشباب خلال مسيرته الفنية، على أن يضم هذا القسم كل المعلومات التي تخص الفرقة وأشرطة الفيديو ، والتسجيلات الصوتية للفرقة ، والنصوص المسرحية التي قدمتها الفرقة ، والجوائز وشهادات التقدير التي حصلت عليها الفرقة ،وغيرها من المعلومات التي تهم الباحثين بحيث يكون الوصول إليها ممكنا وبسهولة .
العمل على نشر كتاب يحتوي على كل المعلومات التي تخص مسيرة وتاريخ الفرقة ومعلومات كاملة عن المسرحيات التي قدمتها الفرقة تشمل أسماء المؤلفين والمخرجين والممثلين ، ويضم مجمل المعلومات الفنية والمقالات الصحفية والدراسات الفنية التي نشرت .
إقامة معرض دائم يضم صور من المسرحيات التي قدمتها الفرقة وجانب من الديكورات والملابس والاكسسورات التي استخدمت في تلك المسرحيات ، بالإضافة إلى تقديم شرح مفصل للمسرحيات التي قدمتها الفرقة وأسماء الممثلين والمخرجين والمؤلفين وغيرها من المعلومات التي تهتم المهتمين والمتابعين لحركة مسرح الشباب، وذلك لربط الأجيال الحالية بالماضي والتذكير بما قدمه مسرح الشباب في الماضي
إقامة حفل تكريم لأعضاء الفرقة السابقين وذلك كنوع من التقدير لجهودهم الماضية في إبراز ودعم فرقة مسرح الشباب .
وأخيرا لقد أثبت مسرح الشباب من خلال عروضه المتميزة والجادة أن للمسرح رسالة رفيعة وقيمة وذات مستوى عال تخاطب العقل والفكر والأحاسيس بأسلوب راق وحضاري، وأن هدف المسرح الأول هو إثارة وإيصال القضايا الاجتماعية والثقافية لأكبر عدد من المتلقين ومحاولة تسليط الضوء على هذه القضايا وإبرازها من خلال النص المسرحي المكتوب بلغة هادئة وهادفة ، ولقد كان مؤلفي مسرحيات الشباب والممثلين وهم يقومون بتجسيد هذه القضايا من خلال مسرحياتهم يدركون تفاوت ثقافة المتلقين وتنوع مشاربهم ومستوياتهم العلمية والثقافية ، لذلك حاولوا تقديم المسرحيات بشكل متوازن وذلك من خلال إيجاد لغة سهلة وبسيطة وغير معقدة ،وتقديم مسرحيات هادفة تقوم على الارتقاء بفكر المتلقي والعمل على تقديم فن مسرحي هادف .


-----------------------------------------------------------
المصدر :الموقع الرسمي للفرق الدائمة لمجلس التعاون الخليجي 


تابع القراءة→

الأربعاء، يونيو 15، 2016

مسرحية يا رب : المقدس بين سلطتي الدين والعقل / صميم حسب الله

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأربعاء, يونيو 15, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية


تنتمي فكرة المقدس إلى ذلك الصراع الممتد عبر العصور بين الإنسان ومخاوفه التي كان يختار مواجهتها عن طريق تحويلها إلى رسومات على جدران الكهوف في محاولة للسيطرة عليها ، أو عبر إنتاج طقوس دينية يؤكد فيها على خضوعه للغيبي بوصفه مقدساً ، الامر الذي دفع به في مراحل لاحقة إلى إنتاج مقدسه المادي في محاولة منه للإفادة من قدرات ذلك المقدس تحت مسمى (الطوطم) الذي إكتسب هو الآخر بمرور الزمن صفة (التابو/ المحرم)، إذ بدا واضحاً أن الإنسان قد تحول بسببه من مواجهة المخاوف إلى إنتاجها ، ويعود ذلك إلى تنوع اشكال ومضامين (التابو) الذي بات مقدساً ، مما دفع بالإنسان إلى البحث عن معتقدات وطقوس وشعائر تسهم في إضفاء تلك القدسية وتعميقها ، وقد خلص من ذلك كله إلى إنتاج فكرة الأديان التي بدا فيها الإنسان خاضعاً لسلطة الدين الغيبي ، ويعود ذلك إلى أن فكرة الخضوع قد تجذرت في العقل البشري ، وقد أفاد منها على نحو خاص أولئك الذين يعتقدون “أن الله لم يهدِ سواهم” بحسب قول (أبن سينا) .

وقد افرزت هيمنة السلطة الدينية ثقافة مضادة إكتسبت مشروعيتها من المجتمعات الإنسانية نفسها ، الامر الذي دفع بها إلى إنتاج مشروع الحداثة التنويري والثورة على تلك الثوابت الدينية التي تحول المقدس فيها إلى (تابو) لايملك الإنسان القدرة على مواجهته من دون ان يكون خاضعاً لمنظومة معقدة من الطقوس التي أسهمت في تحويل المقدس إلى سلطة ، بات من الضروي إيجاد الحلول العقلية في مواجهتها بدلاً من الركون إلى ماتقدمه السلطة الدينية من مقترحات طقوسية تسهم في تعزيز سلطتها على المجتمع.

ولم يكن فن المسرح بمعزل عن المشروع الفكري الذي انتجته الحداثة ، بل على العكس من ذلك إذ يعد ركيزة أساسية في ترجمة أفكار الحداثة وتحويلها إلى سلوك اجتماعي يؤمن بحرية العقل وقدرته على الجدل .

موقف عقلي

وتأتي مسرحية (يارب ) تأليف (علي عبد النبي الزيدي)، إخراج (مصطفى الركابي)، تمثيل (فلاح إبراهيم ، سهى سالم ، زمن الربيعي) ، والتي عرضت مؤخراً على قاعة المسرح الوطني في بغداد ، في حدود تلك الإشتغالات التي إختار فيها المؤلف التعاطي مع المقدس بوصفه موقفاً عقلياً.

المقدس في النص الدرامي :

تعد مرجعيات المقدس في النص المسرحي العراقي واحدة من الفرضيات الدرامية التي افاد منها عدد من كتاب المسرح في العقد الماضي ، وقد تنوعت تلك الإشتغالات التي إشتمل بعضها على توظيف المقدس الذي إرتبط ببعض الشخوص الدينية كما في شخصية (الامام الحسين عليه السلام) وغيرها ، اما البعض الآخر فقد إختار الركون إلى توظيف المضامين الطقوسية التي لا تكون حاضرة على المستوى المادي ، وقد بدا ذلك واضحاً في نصوص الكاتب (فلاح شاكر ) وتأتي مسرحيته (في أعالي الحب) بوصفها مثالاً واضحاً على توظيف المقدس الذي يتكشف على نحو واضح في شخصية (الجني) بما فيه من مرجعيات في الوعي الجمعي، أو في مسرحيته ( اكتب بإسم ربك) التي يتجسد فيها المقدس على نحو أساس في العلاقة بين الخالق والمخلوق الذي يسعى لطلب الشفاعة .وقد إختار المؤلف(علي عبد النبي الزيدي) التعاطي مع فكرة المقدس التي قد تبدو للوهلة الأولى عاطفية ، بوصفها تعبيراً عن سلوك إجتماعي تركن إليه المجتمعات التي تتعرض للعديد من الإنتهاكات التي يقف الإنسان عاجزاً أمامها، ولا يمتلك القدرة على مواجهتها ، الأمر الذي دفع به إلى طلب الشفاعة والرحمة من المقدس بوصفه سلطة غيبية تمتلك القدرة على تخليصه من اوجاعه المزمنة ، وقد تحولت تلك المظاهر الإجتماعية إلى طقوس جماعية تمارس في الأماكن المقدسة واكتسبت مضامين عاطفية واساليب تعبيرية تعود إلى البيئة الإجتماعية التي تنتمي إليها، وتبدو فرضيات النص متقاربة مع ماذهب إليه (فلاح شاكر) في نصوصه السابقة ، إلا ان المؤلف أختار تهشيم العلاقة بين (الخالق / المخلوق) التي كانت مبنية على طلب الطاعة ، والعمل على تأسيس علاقة جدلية قائمة على مبدأ الإحتجاج على (الله)، وهي فكرة إكتسبت أهميتها عن طريق بناء صراع درامي بين المادي (الأم) وما تحمله من أحزان واوجاع متراكمة تمثلت بفقدها لأولادها من جهة وبوصفها رسولاً مفاوضاً بالنيابة عن امهات البلاد اللواتي فقدن ابنائهن في حروب وقتل وتهجير طائفي وعرقي لا ذنب لهم فيها من جهة اخرى ، الامر الذي دفع بهن إلى إرسال (الأم) الأكثر فجيعة لتكون هي المفاوض ، أما الطرف الآخر والمتمثل بالغيبي (الله) فقد بدا واضحاً ان المؤلف لم يكن قادراً على تجسيد ذلك الصراع على نحو متكافئ ، الأمر الذي دفع به إلى إيجاد بديل موضوعي ينسجم مع فكرة التفويض التي إعتمدها مع (الامهات) ، لذلك إختار أن يكون النبي (موسى) طرف التفاوض الآخر الذي أرسله (الله) لمعرفة أسباب الإحتجاج، وقد إستطاع المؤلف بذلك الخلاص من فكرة غير قابلة للتجسيد إذا ما أراد الركون إلى تجسيد شخصية (الله) ، ويحيلنا ذلك إلى نصوص الكاتب الإغريقي (يوربيدس) الذي أفاد من المقدس المتمثل (بالآلهة اليونانية) وعمل على توظيفها في النص الدرامي ، وذلك عن طريق إدخال الآلهة في المشاهد الافتتاحية حتى يكتسب بذلك شرعية العرض المسرحي ذو الطابع الديني ، وما ان تغادر الآلهة المسرح حتى ينتفي المقدس من النص الدرامي متحولاً إلى معالجة القضايا الاجتماعية ، ويأتي نص (الزيدي) على نحو محايث لما ذهب إليه (يوربيديس) وذلك عن طريق تهشيم فكرة المقدس المتمثل بالنبي (موسى ) الذي بدا عاجزاً أمام (الأم) الأم :من أرسلك ؟

موسى :الله تعالى !

الأم : الله ؟ وتتفاوض معي ؟ ولكنني لم أطلب نبيا .. أريد الله – فقط – أن يسمع طلبات الأمهات ، وأنا مخولةٌ منهن .. هذا كلُّ شيء .

ولم يركن المؤلف إلى فكرة المقدس، بل راح يعمل على تهشيم الفكرة الأساسية التي إتكأ النص الدرامي عليها ، وذلك عن طريق تحويل المقدس إلى سلطة ، إذ بدا واضحاً أن المؤلف إختار المزاوجة بين (المقدس /الله) و (المقدس/ النبي موسى) و (المقدس/ السلطة) التي يتكشف بعضها عن تلك السلطة التي يقع على عاتقها حماية الأفراد والجماعات الذين تفرض السيطرة عليهم ، وقد جاءت تلك السلطة في مواضع أخرى للتعبير عن (السلطة الدينية) الحاكمة للبلاد ، والتي أفادت من قدرتها على توظيف المقدس في الهيمنة على المجتمع ، وبذلك فإن (المقدس/ الله) وإن كان حاضراً بوصفه خالق للسماء والأرض ، إلا أن طلب الإحتجاج لم يكن موجهاً إليه ، بل هو إحتجاج (الام) على (السلطة) وممارساتها التي تستغل (المقدس) في إنتاج الصراعات الدينية والطائفية والتي أسهمت في فجيعة الامهات، وعلى الرغم من بناء النص الذي إحتكم على فكرة جدلية ، إلا ان المؤلف ظل محكوماً لتلك الفكرة على نحو افقي ، من دون العمل على تطوير البنية المشهدية على نحو عامودي ، الامر الذي بدا فيه المؤلف منساقاً وراء اللغة والفكرة التي تكشفت في المشهد الاول عبر مونولوج (الام) ، بمعنى آخر فإن بناء الشخصيات ظل على نحو افقي من دون ان تمتلك قدرة على التحول ، الأمر الذي بدت معه الشخوص نمطية غير قادرة على إنتاج دلالات تسهم في صياغة الصراع الذي ظل على نحو أحادي متمثلاً بالأم العاجزة على تغيير مصيرها أمام النبي الذي ظهر عاجزاً هو الآخر عن تغيير مصيره ، وقد بدا واضحاً ان المؤلف تنبه في المشهد الاخير إلى ذلك وعمل على خلخلة الصراع عبر خلق فرضية المفاضلة بين جنة النبي التي عاش فيها ، وبين البقاء مع الأم التي تصارع السلطة من اجل ان توقف القتل، وقد ركن المؤلف إلى المزاوجة بين الإختيار العقلي والعاطفي ، ذلك أن نصرة المظلوم وتحدي السلطة المهيمنة على المجتمع يرتبط بالقدرة على التفكير العقلي ، كما ان الرضوخ لطلبات (الأم/ الأنثى) والعيش معها يعزز من قدرة الإختيار العاطفي ، إذ إعتمد المؤلف فيه على ثنائية (الذكر/ آدم ، الأنثى/ حواء) الذين خالفا أمر (المقدس/ الله) وطردا من الجنة ونعيمها ، وهي ثنائية وإن تأسست على معصية الخالق، إلا انها تسببت في تكوين البشرية، فضلا عن أن المؤلف عمل على إنتاج لغة درامية أفادت من (التراجيكوميديا) بوصفها إسلوباً للتعبير عن الحالة التي تتعرض الأمهات لها ، وذلك عن طريق توظيف بعض المفردات اللغوية التي بدت حاضرة في المجتمع ، ولاسيما تلك التي يتم تداولها عبر القنوات الفضائية بوصفها مفردات تعبيرية دالة على حالة الإضطراب والفوضى التي تصدرها الطبقة السياسية داخل البرلمان وما يرافقها من إصطلاحات، منها (عدم إكتمال النصاب، جمع التواقيع ،المظاهرات، العصيان المدني ، وغيرها) .

الفرضيات الإخراجية للمقدس في العرض المسرحي:

رؤية اخراجية

تكتسب الرؤية الإخراجية فاعليتها من لحظة إختيار النص الدرامي ، إذ يتأسس على ذلك الإختيار الكشف عن قدرة المخرج على التعاطي مع الفرضيات التي يكشف عنها النص ، وقد بدا واضحاً ان المخرج إمتلك القدرة على الإختيار والعمل على محاولة تكييف النص بما يتوافق مع المقترح الإخراجي ، فقد تكشف إشتغال المخرج على النص إبتداءاً عن طريق إضافة شخصية (عصا موسى) التي لم تكن متوافرة في نص المؤلف ، الأمر الذي كشف عن تغيير في المفهوم التقليدي للمقدس المتمثل بشخصية (النبي موسى) الذي شكل مع (عصا موسى) ثنائية المقدس، كما هو معلوم في الكتب المقدسة، إذ عمل المخرج على تحويل العصا إلى (إمراة/ انثى) وفي ذلك تأسيس لعلاقة تضادية مع المتن المقدس على مستويات عدة منها ما يتعارض مع النص القرآني المقدس (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى? غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى? – طه 18 ) وفي الآية القرآنية تعبير واضح عن صلابة العصا التي تساعد النبي على القيام بأفعال معلومة (الاتكاء عليها ، هش الغنم) وأخرى غير معلومة (مآرب أخرى) وهو ما يرتبط بقدرتها الغيبية/الإعجازية التي مكنت موسى من شق البحر؛ ويأتي ذلك كله مناقضاً لصفات الأنثى التي ظهرت في العرض ، إلا أن المخرج لم يكن غافلاً عن تلك التناقضات ، بل على العكس بدا مدركاً لماذهب إليه ، ذلك أنه أراد إنتاج فرضياته الخاصة بمعزل عن مرجعيات العصا الدينية ، الأمر الذي جعل من العصا تملك غريزة المرأة التي ترفض أن تتشارك معها أنثى أخرى حتى وإن كانت مفجوعة كما هي (الأم) ، وهي إشارة واضحة للكشف عن سلطة (النبي/ الذكر) الذي أراد الجمع بين (الأنثى / العصا) بما تمتلك من قدرة على إثارة المآرب الأخرى لديه ، وبين (الأنثى / الأم) التي أثارت عاطفته بأوجاعها.فضلا عن ذلك فإن المخرج إختار التعبير عن شخصية (النبي موسى) في المشهد الأول على نحو مغاير لما تمتلكه تلك الشخصية في الذاكرة الجمعية ، إذ ظهر على سرير المرض عاجزاً عن تلبية حاجاته الأساسية ومستعيناً بقدرة (العصا/ الأنثى) على تلبية إحتياجاته ، وفي ذلك علامة دالة على تهشيم المقدس ، وتحويل النبي إلى كائن عاجز عن القيام بمعجزاته التي توافرت في النص الديني ، وقد أسهمت تلك الإلتماعة الإخراجية في الكشف عن فكرة فلسفية محايثة لما ذهب إليه الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) في طروحاته حول (موت الإله) ، والتي بدت حاضرة في عجز النبي وإنتهاء عصر المعجزات. إن إمتلاك المخرج القدرة على إنتاج فرضيات إخراجية لم يجعله قادراً على تحويل الكثير منها إلى رؤية إخراجية فاعلة ، إذ بدا واضحاً أنه لم يكن قادراً على إختيار الفضاء المسرحي المناسب لفرضياته ، بل على العكس إنساق وراء مقترحات المؤلف في التعبير عن (الوادي) الذي لم يتمكن المخرج من تجاوزه على مستوى (الملفوظ النصي) على الرغم من قدرته على تجاوزه في تأسيس فضاء العرض المعاصر، بمعنى آخر فإن فكرة التعبير عن (الوادي المقدس) إرتبطت عند المخرج بضرورة أن يكون الفضاء المسرحي واسعاً من دون ان يدرك أن ذلك لن يكون ملائماً لمقترحات العرض البصرية، لاسيما وأنه عمل على تجريد الفضاء من المفردات الديكورية التي كشف عنها في المشاهد الأولى والتي تمثلت (طاولتين ، سرير المرضى) ، فضلا عن ان توظيفه لتقنيات (الداتاشو) التي جاءت غير منسجمة مع الملفوظ النصي ، وبخاصة التأكيد على لفظة (الوادي المقدس) على العكس مما تم عرضه على شاشة (الداتاشو) والمتمثل بالشباك والامطار الغزيرة خارج المكان ، إذ حولت تلك الصورة المكان الذي إفترض المخرج جدلاً انه وادي من دون ان يدرك ان الصورة غيرت البيئة لتجعل من فضاء المسرح المجرد تعبيراً عن البيت الذي هجرته الحياة ، وهو تعبير دال على بيت (الأم) نفسها، وقد بدا ذلك واضحاً عن طريق تفاعلها مع بعض مفرداته كما في تأكيدها على (شرب الشاي)، وهي إشارة نابهة من المخرج إلا أنه لم يتمكن من الخلاص من بيئة النص المتمثلة بالتأكيد على (الوادي المقدس) في أماكن عدة من العرض.إن الإعتماد على تقنيات (الداتاشو) عن طريق كتابة (الملاحظات) للتعبير عن الاحداث والزمن ومقترحات المفردات الديكورية (الطاولة تبدو أكبر مما هي عليه) لا تنسجم مع بنية العرض المسرحي الذي لا يعتمد الوصف اللفظي ، وإلا كانت الملاحظات التي يسطرها كتاب المسرح في نصوصهم الدرامية قد إكتسبت حضورها في العرض ، إذ بدا واضحاً أن الركون إلى تلك التقنية لم يسهم في تحويل الفرضيات إلى رؤية أخراجية ، كما ان إعتماد المخرج على مشهد سينمائي من فلم (هلأ لوين) للمخرجة اللبنانية (نادين لبكي) لم يمتلك خصوصية في التعبير عن الرؤية الأخراجية ، ذلك أن الفلم هو متن حكائي منجز ، كان على المخرج صناعة مشهده الخاص سواء عن طريق تأسيس مشهد إستهلالي على خشبة المسرح، أو إن أراد المزاوجة بين الصورة في المسرح والسينما فذلك يفرض عليه تصوير مشهده الخاص من دون الركون إلى مشهد سينمائي جاهز حتى وإن كان موفقاً في الإختيار. من جهة اخرى فإن محاولات المخرج في توظيف التقنيات خارج العرض المسرحي والتي تمثلت في المشهد التمثيلي الذي عرض على (الشاشة) في ممرات المسرح الوطني والذي جسّده الفنان (سنان العزاوي)، لم تجد صداها عند المتلقي على الرغم من أن المخرج كان يبتغي من ورائها تحقيق مفهوم التشاركية في العرض المسرحي إلا ان ذلك لم يكن فاعلاً ،كذلك هو الحال مع الأقراص الليزرية (سي دي) والتي تم توزيعها على الجمهور قبل العرض في محاولة منه للتأكيد على الفعل التشاركي خارج العرض المسرحي، إلا ان المشاهد التي تم تصويرها في القرص لم تكن مغايرة لما تم تقديمه على خشبة المسرح سواء على مستوى الاداء التمثيلي أو فرضيات الإخراج ذلك أنها ظلت ملازمة للمتن النصي ، فضلا عن أن الفرضية التي أراد المخرج التصدي لها في هذا المقترح لم تكن موفقة ، إذ كان على المخرج أن يعتمد المشهد الذي جسده ( سنان العزاوي) بوصفه أسلوباً مغايراً للأداء الذي إعتمده في العرض، فضلا عن ان فكرة المشهد نفسه التي إفترض المخرج وقوعها بعد زمن طويل من العرض وليس قبل العرض، الأمر الذي لم يكن المخرج موفقاً في تحقيقه على وفق مبدأ التشاركية في العرض المسرحي، إذ بدت المقترحات التقنية عاجزة عن إنتاج علاقات مع المتلقي يمكن التأسيس عليها في مرحلة مابعد العرض التي كان المخرج يمني النفس في أن تكون فاعلة في وعي المتلقي كما هو العرض إلا أن الأمنيات اختارت الإبحار في سفينة التقنية بأشرعة مكسورة .

الإيقاع المسرحي وجماليات الضبط الأدائي :

يعد فعل المزاوجة بين المنطوق العاطفي الذي توافر في نص المؤلف من جهة ، والمناقشة العقلية الذي تكشف عن طريق علاقة الجدل بين (الام)من جهة و ( المقدس / الله / النبي) من جهة اخرى ، الامر الذي أسهم في الكشف عن الأداء التمثيلي الذي إعتمد المخرج فيه على منظومة الاداء (المحايد/ العقلي) ، وهو منظومة إشتغال إعتمدها المخرج الروسي ( مايرخولد) في الخلاص من طريقة المخرج الروسي (ستانسلافسكي) التقمصية أو العاطفية، بمعنى أن هذه المنظومة الادائية تميل إلى تقديم الشخصيات بمعزل عن تبني ملفوظها النصي، وقد افاد المخرج الألماني (برتولد بريخت) منها في مراحل لاحقة في التأسيس (للمسرح الملحمي) ، كما ان هذه المنظومة تختلف على نحو كلي في الكشف عن الإيقاع المسرحي الذي يتم بناؤه على نحو تصاعدي يراد به إثارة عاطفة المتلقي، إذ ان هذه المنظومة تحتكم على إيقاعها الخاص الذي ينمو على نحو أفقي مستفيداً من قدرة الممثل على تقديم موقفه العقلي والسيطرة على أفعاله العاطفية التي كانت تهيمن على الملفوظ النصي، وقد كشف المخرج عن قدرة في إقناع الممثلين في تبني هذه المنظومة الأدائية، إذ أستطاعت الفنانة( سهى سالم) والتي جسدت شخصية ( الأم) الإنضباط في سلوك أدائي ينسجم مع المنهج التقديمي في التمثيل على الرغم من إنقطاعها عن المسرح إلا انها ظلت حاضرة في التعبير عن الشخصية من دون الرضوخ للملفوظ النصي الذي كان يمكن ان يمنحها تفاعلاً أكبر مع المتلقي (العاطفي) إلا أنها ظلت حريصة على تطبيق الاداء العقلي ، ولم يكن الفنان (فلاح إبراهيم) الذي جسد شخصية النبي ( موسى) بمعزل عن ذلك الضبط الأداء على الرغم من المرجعيات الدينية التي تحكم شخصية النبي (موسى) إلا أن الركون إلى المنظومة العقلية أسهم في التعبير عن الفكرة التي عمل المخرج عليها ، وتجدر الإشارة إلى اننا قمنا بمشاهدة العرض مرتين للكشف عن حقيقة المشهد الكوميدي الذي غادر فيه الممثلان ( فلاح إبراهيم ، وسهى سالم ) منظومة الضبط الادائي ، وقد تبين أن العرض الأول كان يراد به تقديم (فاصل ساخر) هو أشبه بالترويح الشكسبيري، إلا ان الممثلان إنساقا وراء (تصفيق) المتلقي ، الأمر الذي دفع بالممثل (فلاح إبراهيم) إلى تبني ملفوظ يومي (شعبي ) مغاير للملفوظ النصي، فضلا عن خروجه من شخصية النبي (موسى) والعودة إلى شخصية (فلاح إبراهيم) ، وقد نجح في إشراك الممثلة ( سهى سالم ) في ذلك عن طريق الضحك ومغازلة المتفرجين والإشارة إلى أسماء بعضهم، كل هذا لم يكن منسجماً مع منظومة الاداء التمثيلي، الأمر الذي بدا فيه نشازاً عن العرض ، اما في العرض الثاني فإن المشهد الكوميدي إتخذ أسلوباً آخر، إعتمد فيه (فلاح إبراهيم) على (الترويح الشكسبيري) الفعلي الذي لا ينساق فيه الممثل وراء (تصفيق المتلقي) بقدر التزامه وانضباطه في سلوك الشخصية، فضلا عن ان المشهد جاء تعبيراً عن تجريد الانبياء من قداستهم وسلطاتهم .

اداء تمثيلي

وقد جاء أداء الممثلة (زمن الربيعي) منسجماً مع المنظومة الادائية فضلاً عن مزاوجتها في تجسيد شخصية (العصا / الأنثى) إذ انها ظلت حريصة على السلوك الادائي المحايد مع إستثناءات قليلة جاءت لضرورات إخراجية اكثر من ان تكون سلوكاً أدائياً ، كما في مشهد رفضها لسلوك النبي موسى الذي يتعاطى الادوية من دون ان تسمح له بذلك.

المؤثر السمعي وفاعلية الضوء على خشبة المسرح:

لم يكن إشتغال المخرج على توظيف المؤثرات السمعية بعيداً عن الفعل المحايث الذي إعتمده المؤلف في التعاطي مع فكرة المقدس وعلاقتها بالمؤلف (يوربيديس) ، إذ إختار المخرج الإعتماد على نص قرآني ليكون مؤثراً صوتياً يكون بداية للعرض المسرحي ، إلا أن ذلك المؤثر الصوتي لم يمتلك خصوصيته في مضمون العرض ، الأمر الذي دفع بنا للإشارة إلى مقترح (يوربيديس) في ضبط المتلقي ومحاولة التأكيد على أن ما يقدم على خشبة المسرح لا يتعارض مع المقدس ،بل هي محاولة لإنتاج حوار عقلي مع المقدس من دون الركون إلى الأسلوب العاطفي في شكل العلاقة بين الخالق والمخلوق، إلا أن عدم تكرار المؤثر الصوتي جعله بمعزل عن العرض ، من جهة أخرى فإن إختيار موثر صوتي ممتد على طول زمن العرض من دون ان يؤثر على الاداء التمثيلي كانت فكرة موفقة ذلك ان المؤثر الصوتي أسهم على نحو واضح في ضبط الإيقاع المسرحي الذي قد يبدو للوهلة الأولى رتيباً ، إلا ان فعل الاستمرار والتأكيد الصوتي المرافق له جعل منه أيقاعاً خاصاً ومنسجماً مع منظومة الاداء العقلي.وقد بدا واضحاً أن إشتغال الضوء في العرض المسرحي لم يكن في مستوى يرتقي إلى الإنسجام مع منظومة العرض ، إذ ان المخرج لم يعتمد بناء نظام ضوئي ينسجم مع فرضيات العرض ، الامر الذي كشف عن عيوب الفضاء المفتوح امام المتلقي.

---------------------------
المصدر : جريدة الزمان 
تابع القراءة→

في البحث عن نص مسرحي عربي جديد

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأربعاء, يونيو 15, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

خصصت مجلة “الجديد” اللندنية عددها لشهر يونيو الجاري للكتابة المسرحية. ننشر هنا افتتاحية العدد الذي اعتبر هدية للحياة المسرحية العربية. وجاء في كلمة العدد: هذا العدد هو الثاني الخاص الذي تكرسه “الجديد” خلال عام ونصف العام، بكامل صفحاته، لجنس أدبي. هذه المرة للكتابة المسرحية، شارك فيه بنصوصهم 17 كاتبا عربياً. وكانت “الجديد” كرست العام الماضي خامس أعدادها للقصة العربية القصيرة. ومن بين أهداف هذا العدد، كما أشارت “الجديد”، “تقصّي حال الكتابة المسرحية العربية ومآلاتها بعد قرن ونصف القرن من التأليف المسرحي في الثقافة العربية، وتشجيع الكتّاب العرب على الكتابة في جنس أدبي يتيح لأصوات المجتمع الحضور مباشرة في قلب السؤال الأدبي والفني في الثقافة العربية المنهكة من فكرة الصوت الواحد والميول الفردية الطاغية في الأدب، ومن شأنه أن يتيح للقرّاء وأهل المسرح على نحو خاص الاطّلاع على نصوص مسرحية عربية ألّفها كتّاب ومسرحيون من العراق، مصر، سوريا، فلسطين الأردن، السعودية، تونس، المغرب، اليمن. والتعرف على نصوص تغطي انشغالات وهموم وموضوعات وقضايا راهنة اجتماعية وسياسية وجمالية تغلب عليها الرغبة في توليد نص مسرحي عربي معاصر”، وتكشف في الوقت نفسه عن هموم متباينة وأخرى مختلفة داخل مجتمعات الكتابة. أخيرا، نعتقد أن نصوص هذا العدد ستمكن النقاد العرب الأدبيين والسوسيولوجيين من استكشاف فضاءات الجدل والحوار داخل هذه النصوص القادمة من جغرافيات عربية مشتعلة وأخرى تعتمل فيها الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية.

ننجز هذا العدد الخاص عن المسرح لنعيد تعريف الظاهرة المسرحية في المجتمع، فقد وقع في أذهان القراء العرب معنى المسرح مرارا من خلال تأريخ ودراسات ومقدمات وكلمات كثيرة قصدت تقديم المسرح للناس.
وظيفة هذا العدد ببساطة أن يتقصّى حال الكتابة المسرحية بعد قرن ونصف القرن من التأليف المسرحي في الثقافة العربية، وأن يتيح للقراء العرب وأهل المسرح على نحو خاص الاطّلاع على نصوص مسرحية عربية ألّفها كتّاب مسرحيون من العراق، مصر، سوريا، فلسطين، الأردن، السعودية، تونس والمغرب. وهي نصوص تغطي انشغالات وهموم وموضوعات وقضايا راهنة اجتماعية وسياسية وجمالية تغلب عليها الرغبة في توليد نص مسرحي عربي معاصر في لغة عربية فصيحة، وقد استبعدت هيئة التحرير نصوصا كتبت بالعاميات التونسية والمصرية والشامية؛ هي بحق نصوص ممتازة، لكنها لا تدخل في منظور هذا العدد ولا في توجهات “الجديد”، ويمكن في المستقبل تناول مثل تلك النصوص وتسليط الضوء عليها ولكن في إطار بحث وتقصّ يخصّان أدب العاميات العربية.

***
تنتمي النّصوص المسرحية التي يضمّها هذا العدد إلى أنماط مختلفة تتراوح ما بين المسرح الدرامي الحديث، ومسرح اللامعقول ومسرح ما بعد الحداثة، ومسرحيات المونودراما التي تتداخل فيها عناصر السرد والشعر والوثيقة والتشكيل عبر المونولوجات الدرامية للشخصية، وقد استقطبت الأخيرة طيفا واسعا من الكتّاب العرب الذين وجدوا فيها عملا تجريبيا يتيح فرصا معقولة لعدد من المخرجين المسرحيين والفرق الصغيرة، التي طالما أعياها البحث عن مساندين ومموّلين للأعمال المسرحية التي تتطلع إلى إنجازها على خشبات المسارح.


***

جلّ رواد المسرح والمهتمين بظاهرته يعلمون أن العرب عرفوا المسرح منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر مع تجارب مارون نقاش وأبوخليل القباني ويعقوب صنوع وجورج أبيض، وغيرهم، لكن الكتابة المسرحية لم تولد داخل الثقافة العربية وتتحوّل إلى نصوص وآثار ذات ميزات مطبوعة باللغة والهموم والأفكار والتطلعات العربية إلا مع النصف الأول من القرن العشرين، عندما تبلورت الأصوات والتجارب الأدبية الحديثة لجيل أدبي عربي تأثّر بالغرب، كتوفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقبلهم إبراهيم رمزي الذي كتب المسرحيات التاريخية والغنائية.

تعتبر تجربة مارون نقاش ابن صيدا هي الأبكر بين تجارب التأليف المسرحي بالعربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ “أبوالحسن المغفل وهارون الرشيد” و”الحسود السليط”، وغيرها. ويليه تاريخيا أبوخليل القباني الدمشقي الذي كتب “قهوة الدانوب” و”أنس الجليس″ و”نفح الربى” و”عفة المحبين” أو “ولادة” و”عنترة” و”ناكر الجميل” و”الأمير محمود وزهر الرياض” و”الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح”، ويعتبر النقاش مؤسس مسرح الأوبريت في الثقافة العربية. ويعاصره يعقوب صنوع في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد ألف الكثير من المسرحيات التي ضاعت ولم يبق منها حتى منتصف القرن العشر ين إلا “موليير مصر وما يقاسيه”، لكن الباحثين العرب اكتشفوا بعد ذلك عددا من مسرحياته القصيرة ونشروها في ستينات القرن العشرين، وخصوصا الباحث محمد يوسف نجم.

بطبيعة الحال شكلت النصوص الحكائية الكبرى في العربية مرجعا ملهماً للمسرحيين العرب مثل “ألف ليلة وليلة”، “كليلة ودمنة”، “قصص الأنبياء”، “رسالة التوابع والزوابع″ لابن شهيد، “حي بن يقظان” لابن طفيل، كتاب “البخلاء” للجاحظ و”رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري وغيرها.


إعادة تعريف الظاهرة المسرحية في المجتمع
ولا يمكن أن نهمل نصوص خيال الظل في كونها مرجعا مهما للمسرحيين مخرجين وكتابا منذ مطالع القرن التاسع عشر.

على أن نصا جزائريا اطّلعت عليه خلال إحدى رحلاتي إلى الجزائر في نهايات القرن الماضي لا بدّ لنا أن نعدّه أحد أبكر النصوص المسرحية المكتوبة بالعربية، وأعني به “نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق”، والذي كتبه ونشره في الجزائر سنة 1847 كاتب لم يدوّن اسمه على أيّ نص آخر هو أبراهام دنينوس، وكان موظفا في المحكمة الجزائرية. المسرحية تقوم على 22 شخصية بينها 8 أدوار نسائية، وكلها تنتمي إلى البيئة الجزائرية، وتتحدث عن قصة حبّ تدور أحداثها في مدينة متخيّلة، والعصر غير محدّد، وتقوم على حكايتين متوازيتين تستغرقان العرض المسرحي، وهي ذات نهاية سعيدة. وقد سبق لي أن كتبت مقالة استعرضت فيها هذا النص وعرّفت به لدى القراء العرب.

ظل السؤال عن قيمة التجارب المشار إليها وما عاصرها من تجارب قائما في النقاش حول تاريخ المسرح العربي وتاريخ الكتابة المسرحية. وقد اختلفت الآراء في جملة من القضايا المتصلة بتاريخ الظاهرة المسرحية وظواهر الفرجة في المجتمع العربي، ولكنّ الذي يعنينا خصوصا، هنا، مع هذا العدد، ليس السؤال حول تاريخ المسرح أو تاريخ العرض المسرحي، وإنما تقصّي تاريخ الكتابة المسرحية بالعربية، والواضح أنها بدأت من خلال التّماس مع نصوص موليير والمسرحيين الفرنسيين والإيطاليين خصوصا، ثم مسرح شكسبير في مرحلة لاحقة، وتأثرت بالنصوص الأصلية وبالترجمة التي قام بها رواد المسرح للأعمال المكتوبة بالفرنسية والإيطالية، ثمّ الإنكليزية.


***

لن نطيل في الاستعراض لكن يجدر بنا أن نشير إلى أن النصف الثاني من القرن العشرين هو زمن التأليف المسرحي ومعه ظهرت الأعمال التي يعتدّ بها كنصوص ألفرد فرج ومحمود دياب وصلاح عبدالصبور ونجيب سرور وعصام محفوظ ومحمد الماغوط ومعين بسيسو وسعدالله ونوس والعشرات غيرهم من كتاب المسرح الذين معهم فقط بدأنا نتعرف على نصوص مسرحية عربية معاصرة وعلى نضج فكري ووعي بجماليات التأليف المسرحي في العالم. ولعبت نصوص المسرح الشعري دورا مهما في التأسيس للمسرح العربي الحديث، على رغم الشروط الخاصة ذات الطابع النخبوي والأدبي، أساساً، التي حكمت تطلعات هذه النصوص وانعكست على صيغ العرض المسرحي ونوعية جمهوره.

ولكن هل صار لدينا مسرح عربي؟ هل تمكّنت الكتابة المسرحية العربية من التأسيس لمسرح عربي يمكن أن يضاهي بجمالياته وخصوصياته التجارب المسرحية في العالم؟ وهل يمكن الحديث عن نصّ مسرحي عربيّ معاصر يمكن أن يعالج ويعرض في العالم؟ وهل يسمح لنا هذا العدد، أولا وأخيرا، بأن نعثر في النصوص المنشورة هنا على تجارب جديدة تثري الحركة المسرحية العربية برؤى وأفكار ولغات فنية تعكس التموّجات الكبرى للمجتمعات العربية، والتحوّلات الجارية، وبعضها عنيف عنفا مذهلا ويشكّل، بالتالي، تحديّا للنصوص والمخيلات معا، وهو وينتمي بوقائعه إلى أرض التراجيديا الإنسانية؟

سؤال صعب. لكن هذا العدد من «الجديد» وهو الثاني الذي نفرده لظاهرة أدبية بعد عدد القصة القصيرة الذي قدّمناه العام الماضي، إنما هو خطوة أخرى في مغامرة البحث عن النص الجديد وفي رحلة تقصّي الأحوال الراهنة للظواهر والأجناس الأدبية في الثقافة العربية الجديدة.

---------------------------------------------------------
المصدر :  نوري الجراح -العرب-  العدد: 10304، ص11


تابع القراءة→

الثلاثاء، يونيو 14، 2016

رقصة المستوطن في "أرشيف" أركادي زايدس عرض إسرائيلي في علاقة العنف والجسد

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, يونيو 14, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

ضمن مهرجان مسرح نيويورك للفنون الحيّة، افتتح الكريوغرافر أركادي زايدس برنامج العام بعمله التفاعلي "أرشيف". وصل العرض أخيراً إلى ساحل الأطلسي بعد أن أثار الصخب والعنف من القدس وتل أبيب إلى طولوز وباريس.
كان أركادي قد انطلق في تقديم عرضه بدايات العام الماضي رغم محاولات عديدة لمنع ظهوره لأنه "يشيطن جنودنا" ويساهم "بنشر معاداة السامية" حسبما هتف حفنة من المتظاهرين هنا وهناك. في كانون الثاني ٢٠١٥، قدم أركادي ثمانية عروض متتالية لقاعة ممتلئة بالحضور في باريس بعد أيام من أحداث شارلي ابدو.

في هذا العمل، نجد محاولة فنية لاستعراض الواقع عبر الوساطة المريبة للصورة حيث يبني أركادي شريطه المرئي والجسدي بالتنقيب في تسجيلات الفيديو التي يمتلكها "مركز بتسيلم". يهرب الفن الإسرائيلي مرة أخرى إلى "بتسيلم" وكأنه معبد للحقيقة فهنالك يقبع أرشيف طويل صورته كامرات المركز بأيدي “متطوعين” فلسطينيين ضمن مشروع توثيقي أسموه “shooting back”. يذكرنا أركادي في بداية العرض بأنه إسرائيلي وأن الأبطال-الأشرار ممن يظهرون على شاشة عرضه إسرائيليون مثله. يسير العمل دون أن ننسى من جاء بتلك الكامرات ومن يمسك بجهاز التحكم. 

يصحبنا أركادي في رحلة مفصلة عبر مشاهد متعددة ومكررة لعنف المستوطن في نابلس والخليل وغيرها. يمسك بيده جهاز تحكم صغير يقتصر على زر للعب وآخر للتوقف. تغلب الصور الواقع في حضورها. نتفرج على المواجهة المباشرة حين يتداخل الفنان مع المستوطن ويتشابك معه، أو يرتدي جسده وإيماءاته، ليحاول عبثاً أن يلغي النهايات. تركز كل المقاطع على اللحظات الأخيرة قبل وقوع الجريمة عندما يمتلئ الجسد بالعنف إلى نهاية أطرافه. يدخلنا أركادي إلى مختبره المشتعل لنشاهد تصنيعه البطيء لرقصة العرض التي يلتقطها من أجساد المستوطنين الهائجة والعنيدة. 

تركز اختيارات أركادي على أجساد الأطفال والمراهقين من المستوطنين. يشرح لي بعد العرض أنه يرى في هذا العنف الممنهج ما هو أبعد من الأيديولوجيا- بل أنه أسلوب حياة. قضى أركادي مئات الساعات يتتبع ويقلد الأجساد التي تقف خلفه على الشاشة. مقاطع لأطفال يتدربون على رمي الحجارة، أخرى لجنود يتباطأون في قنص أهدافهم، أيد تهش الغنم بعيداً عن المستوطنة. يستخدم الفنان جهاز التحكم لنشاهد بضيق انتفاخ الجسد المستعد للهجوم: نرى الاندفاع، التريث، التماهل، التراجع، الترنح، التأرجح، التردد، التخفي، ثم الطيران لوهلة خاطفة. يستخدم أركادي الإيماءات ليسكتشف الأبعاد الحادة لهذه الأجساد. كيف تتنامى وتتداخل لتخلق تلك الضوضاء الجارحة. يقلدهم تماماً أو يمط حركاتهم إلى سياق متقارب ثم يقف في الضفة الأخرى كأنه مرآة شرسة أو أخرى مظلمة. لا يحاول أبداً أن يحتفظ بالمسافة ذاتها عنهم. 

بعد الانتهاء من تشكيل رقصة المستوطن، يدخل أركادي في مهمة جديدة لاستكشاف المكان ومشهدية الفرد ضمن جماعته. يظهر الفلسطيني ممثلاً بالغنم المطرود والشجر المحروق أو من خلال صوته خلف الكامرا حيث يتمتم لعناته على رب المستوطن. نشاهد حقولاً مشتعلة وشوارع خالية ونوافذ يشغرها جنود. يكثف الراقص لعبة التكرار ليضغط إيماءات العنف في لوحة ختامية تتداخل فيها أصوات المستوطنين وكأنها حالة متفجرة من العواء. نصبح أمام مشهد تفاعلي عن القوى المدمرة لهاته الأجساد بشتى حالاتها.

سألت أركادي عن استخدام الشاشة وأهمية العودة إلى الأرشيف. قد يترك الأرشيف انطباعاً أن الصورة منتهية أو حتى مجردة، لكنه يجد أن تموضع جسده ضمن هذا الأرشيف يخرجه من الصورة إلى العين، أي يبث الروح فيه. “فعل المشاهدة هنا لا يقتصر على جسد المستوطن بل أيضاً على عدسة الفلسطيني باعتبارها استعارة وسائطية للتعامل مع اليومي". وفي ذات السياق يرى أن جهاز التحكم في يده هو "الوسيط المتاح للفنان بين الصورة والحدث". 

وعن حاجة الراقص إلى الصورة يقول أركادي بأن الجسد "لا يحتاج إلى تصميم راقص فالعالم من حوله يقدم كل هذه الحركات التي تتنظر منا أن نزورها ونفكر فيها" لنخلق بذلك "قاموساً حركياً" يسمح بحضور سياقات الواقع. ولكن ماذا عن المسافة المتفاوتة التي تفصله عن الصورة؟ يجيب "أحاول أن أنقد هذا البعد فعملي يقف في صلب العلاقة بين الصورة والعنف التي تحدد هويتي ضمن الحدث المطروح.” 

كان عرض أركادي العمل الوحيد غير العربي ضمن برنامج المهرجان والذي جاءت ثيمته بعنوان "الشرق الأوسط/مستقبل". سألته كيف يأتي حضوره في هذا السياق وعن أي مستقبل يتحدثون في نيويورك. "المستقبل سيحدث على أي حال. لا أظن أننا نحتاج لهذه المناسبة للتحاور فهنالك علاقات صادقة بين فناني الشرق الأوسط. لا أريد التفوه بكلام عاطفي عن وحدة ساذجة تجمعنا لكنني أرى في أعمالنا  مساءلات جادة عن قيم ورغبات سياسية. هذا لا يعني أن التحاور بحد ذاته هو الحل بل هو فرصة مشتركة للتفكير.”

بالتوازي مع عروض المهرجان، نجد أركادي في قاعة أخرى في غرب المدينة حيث شاشة ضخمة تعرض فيديوهات المستوطنين التي اختارها وأخرى لبروفاته في الاستوديو. في مدخل المعرض نشاهد فيديو  للمظاهرات الهزلية التي نظمت ضد العمل. كان "أرشيف" من بين ٢٠ عملا فنيا في إسرائيل هددت بالمنع أو وقف الدعم. تقف مشاركته هذه إلى جانب عمل قصير من صنع إسرائيلي آخر هو دانيل لاندو الذي قام بتصوير معبر قلنديا بزواية ٣٦٠ درجة خلال مروره من وإلى فلسطين. ارتديت نظارات غوغل خاصتهم ودرت حول نفسي أتفرج على نقطة الحاجز عبر جسد لاندو. لحظت حينها وجوهاً فلسطينية تنتظر وتحدق بتململ.

-----------------------------------------------
المصدر : نيويورك- منى كريم  - جريدة تاتوو

تابع القراءة→

الرقـص وتطبيقاته في المسرح

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, يونيو 14, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

يعتبر الرقص من الفنون الإنسانية الأولى للتعبير عن فكرة وعقله ونفسيته قبل أن يخترع الكتابة واللغة وهو اللغة الأولى التي تكلّم بها الإنسان، فقد عبّر بأعضائه وجسده قبل أن ينطق، حيث يأتي الرقص ملازماً للموسيقى أو مقدماً لها، كأن يكون بتصفيق اليدين أو ضرب الأرض بالأقدام لتكوين الإيقاع.
وربما ابتدأ الرقص ليعبّر عن الفرح، إحتفاء بالربيع أو نزول المطر أو وفرة المحصول أو أي شيء جديد مكتشف بالصدفة وهو قديم قدم الحب والجنس وهو جزء لا يتجزأ من الإحتفالات الشعبية، حتى أن الحيوانات والطيور والأسماك، تؤدّي رقصات الإغواء في أوقات التزاوج. وقد حاكى الإنسان البدائي الطير والحيوان في الرقص فالرقص إذا هو لغة الحرية الكبيرة لغة الشمولية البشرية وهو لغة عالمية كالموسيقى تماماً، وهو من اللغات المعترف بها عالمياً وقد اعتبر الرقص عموماً من أقدم الفنون وأعرقها، فهو تعبير عن عادات الشعوب وحياتها اليومية، يُعرف الرقص بـوصفه لغة الجسد وهو تعبير إيمائي يقوم على تشكيل جسماني بشري حركي بجميع أعضاء الجسد الإنساني، ولا سيّما الرقبة والأطراف، تلازمه الموسيقى اليدوية، أو الاّلات، أوالغناء، فيتفاعل معها وتتفاعل معه، و يعبّر الرقص بالحركة عن أحاسيس اللشخصية الإنسانية التي تؤدّي دورها الراقصة، أو الراقص، إزاء الحياة والطبيعة أو المشاعر العاطفية لفرد أو مجموعة، وقد يكون شكلا من أشكال الشعائر الدينية أو الإجتماعية أو السياسية أو يتخذ مظهرو مواقف تعبيرية أو عرضا كاملا لوقائع قصة مقترنة بموسيقى تصويرية من بدايتها حتى نهايتها. 
ويصنّف الرقص إلى عدة أنواع مختلفة أهمها: 
1.الرقص الديني. إبتداء من رقص الشعائر الدينية القديمة كما في مصر والعراق وبلاد الشام تقديم القربان للاّلهة أسطورة إيزيس وأوزيريس، الإحتفالات بعودة تمّوز الخ وانتهاء بالرقص الصوفي كرقص الدراويش.  
2.الرقص الشعبي. لكل شعب في العالم رقصاته القومية المحلية الخاصة بألوانها وحركاتها مثال رقص  الفلامنكو الأسباني والسامبا البرازيلية والرقص الأفريقي.
3.رقص الإثارة، كرقص هز البطن.
4.رقص الباليه.
5.الرقص الكلاسيكي الحديث. 
يعد الرقص من أقدم الوسائل التي كان الإنسان ينفس بها عن انفعالاته بسبب بداية اللغة المنطوقة وقصورها حيث كانت الوسيلة الشائعة في التعبير عن أعمق مشاعره: الحركة الرتيبة الموزونة (الرقص). فبها يتحدث إلى الآلهة ويصلي لها ويشكرها ويثني عليها بلغة حركاته الإيقاعية الراقصة، لأن أولئك المؤدون كانوا قد نادوا إلى الرقص متى ما الكلمات بدت مانعة لهدف المؤدين، و الرقص هو الطريقة المهمة في إظهار الشعوب الهمجية مشاعر المحبة والتقديس نحو الآلهة في الرقص المقدس (الديني)، ومشاعر الحماس والكره نحو القبائل المعادية في صراعاتها التنافسية (التنازعية) في الرقص المعركي (الحربي)، أو طرد الأرواح الشريرة أو مواسم القحط والفيضان في الرقص السحري  الديني، وكان للإنسان دوافعه العديدة التي دعته إلى الرقص، فلقد " رقص ليفرغ شحنة طاقة، ورقص ليجسد بطولته، ورقص ليحتفل بقنص، ورقص لان غريزته الجنسية تطلبت منه المشاركة الجنسية في الحركة، ورقص ليعبر عن حادثة أو فكرة أو شعور، كما رقص لكي يجعل السحر قادرا على السيطرة على قوى الطبيعة الغامضةفي حركات طقسية إيقاعية (رمزية، وتعبيرية)، أسست ما يمكن أن نطلق عليه بالرقص المسرحي (الرقص الدرامي) في شكله البدائي (المبكر) فجميع القبائل البدائية تمارس رقصات حربية، ويهدفون بها غرضين: أن يكسبوا الآلهة إلى صفهم في المعركة القادمة، وإثارة الحماس والشجاعة والإقدام في قلوب المحاربين ونرى مثلا في رقصة من الرقصات الحربية لدى قبائل (الناجا) في الشمال الشرقي من الهند: التي تبدأ بعرض المحاربين مع أسلحتهم، ثم حركات الكر والفر، قاذفين بالحراب كأنهم في حرب حقيقية، ويزحفون على الأرض مع عدتهم الحربية، حتى إذا ما اقتربوا من العدو الوهمي وثبوا عليه وهاجموه. وبعد قتلهم –إيمائيا- لعدوهم، يحملون خصلاً من الحشائش ترمز إلى رؤوس القتلى وفي عودتهم إلى الديار يحملون أكياسا كأنها رؤوس أناس حقيقيين، وإذ وصلوا، تلقتهم النساء واشتركن معهم في الغناء والرقص احتفالا بالنصر وهذا يروي مشهدا إيمائيا راقصا لمعركة وهمية متخيلة تقدم في الطقوس الحربية الاحتفالية عند الأقوام البدائية فترة النزاعات والحروب، يستخدم فيها الحركة والرقص والغناء.
كان الانسان يمارس عدد من الرقصات لغرض السيطرة على مصاعب الحياة، وكان يعدها الوسيلة الصحيحة لتذليل الصعاب  فكانت مجرد حركات لم يفهم مدلولاتها واصبحت فيما بعد لغة متفق عليها تطورت تدريجياً ليستثمرها الاغريق في احتفالاتهم الدينية التي لم تكن اهدافها بعيدة عن اهداف الانسان الاول ففي المسرحية الساتيرية التي كانت مصحوبة بالرقص والغناءكانت الطقوس الدينية التي كانت تقدم للالهة غايتها التقرب منها حتى تستدر عطفها وبركتها، فالرقصات عند اليونان تمتلك عدة آليات ومفاهيم لان الانسان منذ ولد ولدت معه البذرة الاولى للدراما بوصفها فن بدائي.
وفي بلاد الرافدين القديمة، فان الرقص يتمثل فيما عثر عليه في النقوش، حيث اكدت تلك النقوش وجود الرقص كظاهرة ارتبطت بظواهر اخرى تحيط بها في الطقس الذي كان يمارس في الطقوس، اما الرقص عند قدامى المصريين فقد اثبتت الحفريات والاثار وجود رقص شعبي، فيما عرف الفينيقيين من خلال الههم " بعل مركوس " اله الرقص والطرب حيث كان الكهنة يرقصون حول مذبح هذا الاله، اما الهنود فقد اشتهر عندهم الرقص الطقوسي حتى الاله يتصورون انها ترقص. 
وقد عرف قدامى الصينيين الرقص، حيث كانوا شغوفين جداً به، لان الرقص عندهم في الممارسات الدينية يرجع الى الخرافة والاسطورة، وفي اليابان كانت عروض "النو" و "الكابوكي" حافلة بانواع عديدة من الرقص، ويطلق اصطلاحاً على الرقص الشرقي بـ(هز البطن) المعروف بين افراد المجتمع والذي يمارس في الحفلات العامة والخاصة وحتى العائلية لذا فأن الرقص الشرقي لا يقتصر على اداء الانثى له بشكل منفرد حيث تدخل عناصر مزاجية وتنكر في الازياء ولهو بريء وتمثيل ساذج لدور الجنس المعاكس من خلال وضعيات وحركات خاصة من الغنج والمداعبة والغزل ومن خلال حركات الاكتاف والميلان على الاطراف واللعب بالحواجز والترميز في الايادي ووضعيات الجذع، وقد يكون هز البطن ذا معنى في الرقصة التي تؤديها الراقصة، حيث يقول خبراء الرقص ان هذا الفن قادر على التعبير ليس فقط عن الانفعالات والمشاعر وحركات النفس والفكر بل عن دنيا الاحلام والاواقع التي لا تحدها حدود، ومما تجدر الاشارة اليه ان المجتمع الاسلامي خلال ايام الحكم العباسي، قد شهد ازدهاراً للرقص يعكس الحياة المترفة ونوع من اهتمام الارستقراطية والاغنياء المترفين بشكل من الثقافة والحياة الانسية التي يحيط بها الطرب والرقص والغناء، ومع بدايات عصر النهضة في ايطاليا نما فن البالية، وهو على انواع منها، رقص منفرد ورقص ثنائي ورقص جماعي.
ان الرقص الحديث يعتمد على اساليب وانماط مختلفة بعيدة تماماً عن انواع الرقص السابقة فهو يعتمد على حرية حركة الرقص وعدم تقيّد بالاوضاع والاشكال الكلاسيكية بل ان لغته الخاصة في الاداء التي اسسها بعض مشاهير الراقصين المصممين والمبتكرين لهذا الفن منهم:
1.الامريكية سان دنيس روث.
2.الامريكية ايزادورا دانكان.
3.لابان رودولف فون.
4.ماراتا جراهام.
لكن الفرنسي " موريس بيجار "، يُعد من أشهر مُنتجي الرقص الحديث في العالم، ففي عام 1955 فاجأ " بيجار " العالم بتصميه الابداعي لباليه " سمفونية لشخص واحد "، ويقوا عن مجمل نتاجاته الراقصة: " ان التراث الحقيقي هو ان تعيش وتخلق ايقاع عصرك، وليس العصر السابق فلغة الرقص لا تختلف عن اي لغة فنية لذا فهي تتجدد او تموت " وعندما استكمل " بيجار " رؤيته لفن الباليه المعاصر، اسس مركزاً للتعليم باسم " مودرا " اي الحركة، ويقول في هذا الصدد: " راقصي اليوم يجب ان يتمتعوا بالاضافة الى موهبة الرقص بثقافة عالية بحيث تكون هي التي توحد خطواتهم ونظراتهم ومختلف حواسهم في شكل باهر "، ان بيجار، ما كان له ان يحقق ما وصل اليه لولا دراسته الفلسفية وخاصة الفلسفة الهندية التي تعتمد تطويع الجسد للوصول الى الاشراق بحيث تتوازى داخل الانسان لغتان داخلية وكونية.

الرقص في المسرح:
ظلت علاقة التداخل والتلازم بين الرقص والمسرح موجودة بنسب مختلفة عبر تأريخ المسرح، فهناك عاملان لعبا دورهما في تحديد هذه العلاقة هما وجود العنصر اللغوي من جهة ودرجة الالتصاق بالاصول الطقسية من جهة اخرى. حيث تعد اتجاهات المسرح الراقص محصلة للتيارات الطليعية التي سادت في اوروبا واميركا فيما بعد الحرب العالمية الاولى بداية من التغبيرية حتى مسرح العبث، وتتميز بنية العرض الدرامي الراقص المعاصر- بعد تأثره بتلك المستجدات التقنية الحاصلة في مجمل مكوناته: التمرين، الأداء الراقص، التنظيم، الهيكلية، الاختيار-  هو  ذلك التواشج الفريد والغريب بين مختلف عناصره المختلفة  والمنتمية أصلا إلى أجناس فنية متعددة لا تجتمع عادة في فضاء الحداثة الذي مهد لذلك الانفتاح الواسع (ما بعد الحداثة)على الأجناس ويجد فيه نوعا من الفوضى غير المنهجية أو غموض الرؤية المعرفية والجمالية لطرق إنتاج الفن، وبالمقابل احتفظ العمل الفني (الراقص) بوحدته الفنية النمطية وتكامله البنيوي الخاص في فترة الحداثة وان كان ذلك على حساب المضمون المراد كشف أسراره وجوهره وأبعاده المختلفة، وليبقى العرض أسيرا لقيود التجنيس الحداثوية المتداولة ذات الإطار الشكلي المحدد والمكشوف سلفا لدى المتلقي. فبطء الحداثة عن الانفتاح الفني والتقني على الإشكاليات الحياتية ذات القضايا الوجودية الهامة والمتعددة للإنسان المعاصر ومنها بروز مفهومي العولمة والاستهلاك الثقافي، وكذلك بسبب التقيد بالأساليب المنهجية والمدرسية والتنميط، أتاحت الفرصة لجيل جديد من الراقصين والمصممين (الكيروكراف) المعاصرين أن يطرحوا قضايا أكثر أهمية وعمقا بشتى الوسائل الفنية والتقنية المتاحة لهم وبشتى السبل المغايرة لأساليب الحداثة، من غير قيد أو شرط (فني، أو تقني، أو معرفي) لخلق عرض جمالي حر لا يتسيد فيه عنصر واحد مهم، بل المغايرة في بنية العرض التقليدية ومنها أماكن العرض أيضا.
هؤلاء المجددين ثاروا على الثوار الأوائل المؤسسين للرقص الحديث في النصف الأول من القرن العشرين (كريهام، دنكان، دينيس، لابان...) وأسسوا ما يطلق عليه برقصات ما بعد الحداثة، بعد أن استشعروا عجز الحداثة في المواجه والإصلاح، وغرقها في محيط الذاتية واللاشعور، ليصبح النتاج الفني الحداثوي أكثر عزلة اجتماعية وثقافية، لأنه نشاطا للنفس وصدا لها وغير مكترث بالمجموع وقضاياه المتغيرة، لذا كانت الأعمال المنتمية لفنون ما بعد الحداثة ردة فعل رافضة ومستنكره لضعف الحداثة، وقوة فعل ديمقراطية حرة تسمح لكل العناصر الأساسية الفنية، ومن كل الأجناس والأنماط، أن تشترك بشكل فعال في إنشاء الخطاب الفني الشامل كنشاط تجريبي تفاعلي، كما تسمح بحرية كاملة لحركة القراءة والمشاركة والمشاكسة الدينامية مع بنية العرض الغرائبية المفتوحة وباتجاه قراءاتي من الداخل والى الخارج وبالعكس. فالتغيير في العرض لم يكن حاجة طارئة، بل حاجة ملحة في الصور الحيوية للجسد، وفي العاطفة الملتهبة والقسوة النارية، والألم والتوق إلى الحب والضعف، كل ذلك يتم استحضاره على خشبة المسرح. فهم يأملون في تحفيز التأمل الذهني وإثارة اللاشعور الذي يولد التأثير العاطفي لدى المتلقي. 
ومما تجدر الإشارة الى أن الدراما مع البدايات الآولى لظهورها عند الآغريق، قد أتصفت بالحركة والديناميكة المتولدة من مشهدية الآحداث على خشبة المسرح مع اشتغال كامل لمنظومتي العرض البصرية والسمعية. وما يحدثه عملها في تكوين صورتين للمتلقي، 
الآولى تتكون أمامه وتحدثها شخوص العرض عبر أدائها وتجسيدها للنص, والثانيه تكونها آليات 
تلقيه عبر أستيعاب ماهية خطاب النص. وهذه الديناميكية والحركةحالة مكرسة في الفن المسرحي بجميع صوره وصيروراته، كونه فنآ مرئيآ ـ صوريآ ـ لحظويآ ـ تحكمه مرحلة معينة هي مرحلة العرض المسرحي للنص الذي كتبه مؤلف، وأخرجه مخرج وجسدته مجموعة من الممثلين ليقدموا لنا عرضآ مسرحيآ في مرحلة زمنية محدده ومتفق عليها تبدأ من لحظة رفع الستار وتنتهي بأسداله. 
على أن هذه الديناميكية تمثلت في عدة صور بالآعتماد على أهم مفرده في العرض ألا وهي (الممثل). والممثل لا يملك سوى جسده وصوته، ومن ماهية عمل الممثل بمنظومتيه الصوتية والجسدية تنفتح مقاربتنا هذه على فن حداثوي دخل مسرحنا بغية بث روح التجديد فيه والعمل على توظيفه في عروضنا المسرحيه ألا وهو فن(الكيروكراف).
بدءآ هناك ألوان من الفنون التي دخلت المسرح سابقة للكيروكراف ألا وهي (البانتومايم)التمثيل الصامت (pantomime) / والرقص التعبيري (drama dance). فالبانتومايم هو فن التمثيل بلا كلام ـ (هنا ينتهي التعريف) أي أنه، العرض المسرحي الذي يتضمن كل شيء ألا الملفوظ الحواري  فهو يعني أستخدام الموسيقى والصوت والمؤثرات الصوتية وحتى لحظات الصمت تعد ذا قصدية، كذلك أستخدام الآهات. أما الرقص التعبيري ـ فيعني الرقص المعبر عن حالة ما و الذي ترافقه موسيقى تعبيرية بعيدة عن أي حالة تطريب وهو أقرب ما يكون الى فن الباليه. 
ومن المعروف أن المسرح يستخدم هذا الفن في عروضه للتعبير عن حالة ما يتطلبها العرض. وقد جاء فن(الكيروكراف) الذي يعني (الآنطباع الذي تتركه الحركة الراقصة ذات ألانساق التعبيرية و  المتآلفة مع درامية الموسيقى المستخدمة,في ذهن المتلقي. وهذا الآنطباع متولد مما يبصره من صورة مسرحية متشكلة من حركة +/موسيقى=photo) ـ ليحقق وحدة مترابطة ما بين هذه الفنون (البانتومايم ـ الرقص التعبيري) ليطرح لنا حالة جديدة من الحداثة في التقديم المتمسرح وأعتماد (الموسيقى التعبيرية ـ مؤثرات صوتية ـ أصوات مختلفة) كأساس في أشتغالات أنساق العرض المسرحي (الكيروكرافي بالآعتماد على (شاهدة) الجسد أولآ وأخيرآ وتطويعها وتمرحلها من حالتها الآيقونية المألوفة وأسلبتها بالكامل لصالح مفردات النص وتفكيكها بما يتماهى مع معطيات خطابه النهائي. وبرغم وجود بوادر لهذا الفن في السابق، ألا أن الفنان العراقي المغترب (طلعة السماوي) له الريادة والسبق في طرح هذا اللون المسرحي كشكل أكثر حداثة من الآلوان الآخرى يقول الفنان (السماوي) عن هذا الفن (أنه  أوروبي المنشأ والصيروره والتوجه، ألا أني أعمل جاهدآ على توظيفه محليآ بالآفاده من الموروث التأريخي العراقي (القديم والمعاصر). وقدم هذا الفنان عروضآ كيروكرافيه على مسارح بغداد خلال الفتره الماضية كما قام بتأليف فرقه خاصه حملت أسم (مردوخ) مكونة’ من مجموعة من المسرحيين الشباب الساعي نحو الجديد. حيث تخصصت هذه الفرقة بتقديم الرقص الدرامي الحديث والعمل على تكريسه وأشاعته في وسطنا المسرحي، ومن ثم قدمت أول نتاجاتها (نار من السماء) فكانت فرصة لهذا الوسط كي يتعرف عن قرب الى هذا الفن الحديث. وكانت الخطوة الثاني، العمل المسرحي (أسطورة زوو). وفي السياق نفسه، يعمل الفنان (د. أحمد محمد عبد الآمير) مع طلابه (بوصفه تدريسيآ في كلية الفنون الجميله / جامعة بابل) على مزاولة فن الكيروكراف في أعماله التي قدمها على خشبة مسرح الكلية.
وفي تجربة الفنان (طلعت السماوي) نقرأ صورة ذلك الإنسان بأسلوب فني يعبر عن هويته العراقية كنموذج فريد يمثل البشرية جمعاء بمحنتها وصراعها وصبرها وإبداعها وعطائها – النموذج الأسطوري والواقعي  المثالي ويسعى طلعت إلى تقديم شكل فني خاص بالأداء الإيمائي الدرامي الراقص بصورته العربية / الشرقية  أي الرقص الدرامي وفق الهوية العربية العراقية: بثيماته، وإيماءاته، ورقصاته، وإيقاعه، وتشكيله البصري.
ففي  (خطوات إنسان) الذي عرض في بغداد عام (1999) قارب فيه (السماوي) بين شعرية الجسد المونو درامي مع قصيدة السياب. وفي (فضاء الروح) عام (2003) ادخل التجانس بين أنماط الأداء (التمثيلي، والتقديمي، والراقص)، و بين الموضوعات المعاصرة والتاريخية، وفي (بعد الطوفان) عام (2005) زاوج بين التقنيات المعاصرة والمختلفة في تكوين صورة العرض، كالعارضة الفيلمية والظل والضوء فضلا عن استخدام قوانين الجشتالت التي تخص الإدراك الجمالي من مثل (قانون الصغر، والشكل والأرضية ، الكل والأجزاء)، والتجريد في الديكور، والتي مكنته من طرح عدة ثيمات متباينة: تاريخ العراق القديم، والعصر الذهبي للفكر الصوفي، احتلال بغداد، وسجن أبو غريب، لتجعل من الموضوع التاريخي صورة لقراء الحاضر المشحون بالاضطرابات، وكذلك للربط المنطقي بين الأحداث المهمة. فما يسعى إليه طلعت من تجديد لتناول التاريخ، هو لإعادة قراءته ومحاكمته من جديد وفق رؤية معاصرة تختلط فيها الصراعات وتنكشف النتائج المترتبة عنها من هموم وقتل وتشريد واحتلال (عسكرية، وفكرية، وسلطوية)، ضحيتها الإنسان، الثيمة المركزية لأعماله، مستخدما لأجل ذلك كل الوسائل المتاحة والتي وجدت في أساليب ما بعد الحداثة حضنا تتفاعل فيها الأحداث بشكل فعال ومرن ومن غير اعتراض على الاختيار الحر لها التي تجعل من العرض شكلا غرائبيا، ومن جانب آخر مثير لقوى العقل والحس والوجدان لكلى الطرفين.
 
-----------------------------------------
المصدر :  بشار عليوي - جريدة تاتوو
تابع القراءة→

الاثنين، يونيو 13، 2016

المسرح البرازيلي المعاصر / ملك مصطفى

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, يونيو 13, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

 رحلة روميو و جولييت في شوارع مريرة


في الأيام الأخيرة شهدت العاصمة الإسبانية نشاطاً متميزاً قادم من القارة الأمريكية الجنوبية؛ ومن بين ما أتيح لنا رؤيته  و قراءة ما كتب عنه ، عرضين مسرحيين للمسرح البرازيلي الحديث ورغم إنهما تناولا موضوعين مختلفين تماماً في الرؤية أو في التقنيات المتاحة ،فقد كانا ممثلين جيدين لمسرح نفتقد لمثله ،بل إن العالم العربي على قطيعة مع نتاجاته، هذا مع العلم إن هناك وشائح ورؤى متشابهة ما بين المجتمعين وطريقة التفكير أو العمل الذي يخلق عادة بإمكانيات بسيطة تقترن أغلبها بتجارب شبابية وبمستويات عروض تنتمي لما يطلق عليه بمسرح الفرجة أو مسرح الفكرة الفقير.

العرض الأول الذي حمل عنوان “الشارع المرير” فإنه طرح بحلة جديدة عن حياة المسيح، ولعلها خطوة مكملة لطروحات سينمائية سابقة إعتمدت المعالجة الحرة و غير المتكلفة في النظر لإنسان صنع عالمه وإقترن بفكرة اللقاء الرباني. مع الشارع المرير فإننا سننتقل بتفاصيل حياة النبي ،مشاهد حياتية أولية تمر على الخشبة سريعة مفعمة بإضاءة بسيطة  كانت تبتعد قدر الأمكان عن أن تكون مهرجانية باذخة لمنح الشخصية بعدها الإنساني القريب من الأرض البشرية. وهذا التتابع سيطول مع فكرة صلبه التي تتحول إلى نشيد مفعم بالأصوات المتداخلة في رثائه تتخللها العديد من الأغاني الشعبية البرازيلية والموسيقى التراثية والحديثة منها على وجه الخصوص، إذ تبلغ قمتها في البروز وإظهار قسمات حلة العرض وتفاصيله التي ستختم مع بعثه وإلتقائه بشخوص المسرحية في نشيد طويل ومتتابع مع نزول الستار مما يوحي بصلة الرحلة مع رحلة أي إنسان آخر . إن هذا النص هو إعادة لفكرة كتبها المؤلف إدواردو غاريدو مع بداية القرن وكانت بعنوان شهيد كلافاريو، وما حاول عمله المخرج غابرييل بييلا هو تعميق الجانب الرثائي فيه، مركزاً على بعده الدرامي من خلال حشود الأصوات الأوبرالية والغناء الإيحائي المستل من القراءات الكنائسية الزنجية. من هذا كان الجانب السينوغرافي أكثر حيوية من خلال التمازج الكلي لما ذكرنا مع الألوان والأضوية التي كانت توحي بإحدى إحتفاليات أعياد الميلاد حقيقةً. ولكن ما بين الحس الميلودرامي للعرض، كان هناك خيط خفي من التأمل والبِشر وهو ما أوضحه المخرج قائلاً بأن الفكرة كانت في الأساس ليست إحتفالية عزائية بشخص المسيح فحسب، بقدر ما هو تأكيد على السمة البرازيلية الخالصة، ودعماً لإظهار ثقافتها وتراثها الشعبي المتعلق بمسألة الدين ونظرتها للمقدس والشخوص اللاهوتية. لقد كانت مسرحية: الشارع المرير بحق نوع من التأثير السمعبصري الذي عبر عنه النص من خلال الوصول للمتفرج عن طريق الحركة والتمثيل العفوي المباشر وكأنها طريقة كسب لكائن آخر يسير معك في الشارع وتنتقل له عدوى الفرح أو الحزن والمشاركة بواسطة الحث والفرجة الممكنة و التي لا تبني سلماتها التوضيحية من فكرة غامضة فتقع أسيرة المداورة والتلكؤ. لقد حازت المسرحية سواء في البرازيل أو مهرجانات عالمية أخرى على عدة جوائز مثل: ريو دي جانيرو ، شارب لأفضل عرض لعام 1998 وجائزتي موليير و شيل .

أما عرض ” روميو وجولييت” للفرقة ذاتها فإنها تصريح حب وتعلق بأفكار العبقري الإنكليزي شكسبير وهي في آن واحد لفنان شعبي برازيلي يدعى مامبيمبي الذي كان يتخذ من الشارع قاعدة لمسرحه الذي يلقيه بدون تحضير وعلى مسمع الناس دون أي تأثيرات أخرى، الحركة والصوت مع الإيماءة والتدخل والمحاورة مع الناس. ولعل فكرة العرض قد جاءت من كون روميو وجولييت لشكسبير معروفة على نطاق عالمي مما سيتيح لها فرصة النجاح والمشاركة ضمن هذا النمط من المسرح. ولكنه يبقى كذلك عرضاً خالصاً لا علاقة لشكسبير ومسرحيته الذائعة الصيت بالعرض البرازيلي هذا، فقد إعتمد فكرة الهجر والظروف التي تتدخل في عدم إلتقاء الحبيبين ولكن من وجهة نظر شعبية خالصة، أي بمعنى آخر تجريد النص وإحالته إلى نمط فرجة برازيلية شعبية، تتحاور مفاصله مع كل عناصر الشارع البرازيلي من غناء ورقص وطرق تكوينه.

وطالما كانت فكرة النص تعتمد تراجيديا العشق، التحرر والموت الذي سيكون نهاية لقدر الشابين، فإن الفرقة وجدت في الحركة السيركية ومظاهرها الإحتفالية رقعة لتباري الشابين في الدفاع عن أحقية الحب في التواصل والإستمرار. التجديد في النص إنما ينبع تماماً من فكرة فهم فريق العمل للحكاية برمتها على كونها مباراة إظهار لقدرة البشر أي كان على الصمود ومعرفة حقه في التصريح، لذا لم تلتزم أية شخصية بمقياس ثابت لدورها فهي متنقلة ومتغيرة وفقاً للظرف ذاته ولرد فعل المتفرج والشريك معاً. إن الروح المتحررة لنص شكسبير في الوصول لغايته،قد حققت فعلها مصحوبة بدهشة وإنفعال لهذا الزخم من الأفكار والملامسة الواقعية لمعضلة الحب والموت ومعالجتها ببساطة غنية وتجديدية في كل شيء من الإيماءات إلى الملابس ، بل حتى في حركة المتفرج ضمن ساحة شاسعة مفتوحة ومجردة من قيودها هي الأخرى كحال العرض تماماً. إن هذين العرضين لفرقة غالابو المسرحية البرازيلية  التي تراهن على قدرة النص الشعبي و التمثيل الحركي الإيحائي وتعتمد البساطة في التكوين والعمق في الطرح، إنما هما نموذجان دالان على الفهم الكبير لرسالة المسرح وقدرة عالية على المعالجة الواعية والفنية المحترفة .



تابع القراءة→

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9