أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الأربعاء، يوليو 20، 2016

تجربة المسرح الخاص في سوريا أعمال تحاور الواقع وتنتقده

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأربعاء, يوليو 20, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

إذا كان المسرح السوري قد تأسس وانتشر بفضل المبادرات الفردية والفرق الخاصة, فإن ولادة الفرق الرسمية يُعتبر تاريخا مفصليا لفرز التجارب المسرحية في إطار قطاعين اثنين: العام والخاص تبعاً لجهة التمويل, وذلك لتمييز العروض التي أُنتجت من قبل الجهات الحكومية عن سواها من العروض. وعليه فإن مصطلح «مسرح القطاع الخاص» المعتمد في هذا التحقيق سوف يشمل فقط التجارب والفرق المسرحية والتجمعات الفنية التي أنتجت عروضا مسرحية بتمويل خاص, سواء أكان التمويل ذاتيا أم بدعم جهات غير حكومية أم حتى جهات أجنبية كالمراكز الثقافية المعتمدة في دمشق, في الفترة الزمنية الممتدة ما بين مطلع الستينيات وحتى يومنا هذا, مع التنويه إلى أن التحقيق يستثني العروض المموّلة من قبل الجهات الأجنبية, ويقتصر على التجارب المسرحية الخاصة التي شهدتها العاصمة دمشق فقط. 
المسح الذي أجريته اعتمد مصدرين أساسييّن: أرشيف المسرح في الفترة المبكّرة, والسّبر الميداني بدءا من منتصف التسعينيات, وتشير الأرقام إلى أنه إضافة إلى فرقة الأخوين قنوع «دبابيس» التي قامت في أوائل الخمسينيات, ولا تزال فاعلة حتى اليوم, فقد شهدت دمشق في الفترة الزمنية المحددة أعلاه, تأسيس حوالى عشرين فرقة مسرحية خاصة, لم يُكتب لمعظمها الاستمرار, إلى جانب عدد من المسرحيات المتفرقة التي أُنتجت بتمويل خاص. 
المسرح الكلاسيكي 
كانت البداية مع فرقة «ندوة الفكر والفن» التي تأسست بمبادرة المخرج رفيق الصبان العام 1961, وقدّمت في العام نفسه أول عروضها وأهمها «أنتيغونا» عن نص سوفوكليس, تمثيل: منى واصف, أرليت عنجوري, سمر عطار, عائشة أرناؤوط, ملك سكر, هاني الروماني, أسامة الروماني, يوسف حنا ومروان حداد, وقد قام بتصميم الديكورات الفنان لؤي كيالي, والتأليف الموسيقي صلحي الوادي, وحتى تاريخ انفضاض الفرقة العام 1963 قدّمت عملين كلاسيكييّن آخرين: «تاجر البندقية» لشكسبير و«طرطوف» لموليير. ولتقويم هذه التجربة أعيد إلى الأذهان ما جاء في كتاب د.رياض عصمت «ضوء المتابعة» عن مؤسس الفرقة ومخرجها, فقد ذكر: «أن الصبان كان من المخرجين الذين تتلمذوا على جان فيلار, ومن أنصار أسلوب ستانسلافسكي, ومن المؤسسين للنهضة المسرحية والفنية منذ أواخر الخمسينيات, وعلى الرغم أنه المخرج الكلاسيكي الأول في سوريا, فهو أحد رواد التجارب الجديدة في الشكل المسرحي خصوصا في أعقاب هزيمة حزيران “يونيو”, فهو أول من ألغى الملقّن الذي كان شائعا في الفرق التجارية, وأول من ألغى الستارة في المسرح, فأعطى طابع الحداثة للعرض المسرحي, كما أنه من أوائل من دعوا الى فكرة وحدة الديكور من أول العرض إلى آخره, أو الاكتفاء بتغييره تغييرات بسيطة وجزئية بمساعدة اكسسوار خفيف وإضاءة شاعرية متبدلة وموحية وذات بعد درامي». “1” 
فرقة المسرح 
بمبادرة من الكاتب سعد الله ونوس والمخرج علاء الدين كوكش والفنانين: يوسف حنا, هاني وأسامة الروماني, فايزة الشاويش ولينا باتع تأسست «فرقة المسرح» العام 1966, واستمرت لغاية العام 1972 وقدّمت خلال تلك الفترة ثلاثة أعمال تندرج في إطار المسرح السياسي, هي: مسرحية «بائع الدبس» عُرضت في المهرجان الأول للفنون المسرحية العام 1969, و«الفيل يا ملك الزمان» قُدّمت في المهرجان الرابع للفنون المسرحية العام 1972, غير أن أجمل العروض التي قدّمتها الفرقة على الإطلاق كانت «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» وفيها قامت بتعرية الأنظمة العربية بعد النكسة وطرح قضايا المتضررين من الهزيمة. وقد قُدّمت المسرحية في بيروت أولاً لمدة خمسة عشر يوما العام 1970 بسبب منع عرضها في سوريا, ثم أعيد تقديمها في دمشق بعد أن أُسقط المنع في المهرجان الثالث للفنون المسرحية العام 1971, واستمر عرضها لمدة خمسة أسابيع, وهو رقم قياسي بالنسبة الى العروض آنذاك. 
في العام 1968 أسس الفنان محمود جبر فرقته التي ضمّت حوالى عشرين ممثلا وممثلة, منهم: يوسف شويري, ناجي وهيثم جبر, محمد العقاد, نجوى صدقي, هيفاء واصف وهالة شوكت, وقدّمت الفرقة عروضها الاجتماعية الانتقادية باللهجة الشامية وبأسلوب كوميدي, ومنها «سراديب الضايعين», «حطّ بالخرج» و«جمعية الرفق بالإنسان», وقد أخرج الفنان طلحت حمدي الكثير من عروض هذه الفرقة . “2” 
مسرح الشوك 
في العام 1969 أسس الفنان عمر حجو «مسرح الشوك» وقدّم ثلاث مسرحيات من تأليفه تنتمي إلى المسرح السياسي الكوميدي, عُرضت خلال دورات مهرجان دمشق المسرحي وهي: «مرايا» و«جيرك» من إخراج دريد لحام و«براويظ» من إخراج أسعد فضة, وقد شارك في أداء العروض الثلاث بالإضافة إلى الأسماء المذكورة أعلاه كل من: منى واصف, رويدة الجراح, لينا باتع, ياسين بقوش, مظهر الحكيم, ملك سكر وثراء دبسي “3”. وفي تقويم نتاج هذه الفرقة كتب رياض عصمت: «كانت تجربة «مسرح الشوك» التي بدأها الفنان عمر حجو وصقلها الفنان دريد لحام تجربة سورية خالصة في المسرح السياسي الانتقادي, وأصول هذا المسرح تنحدر من «الشانسونيه» أو مسرح «الكباريه السياسي» مع خلوه من الغناء والرقص, و«مسرح الشوك» عبارة عن مشاهد متفرقة ساخرة حول مظاهر الأخطاء التطبيقية في الحكم والتلاعب على القانون وزيف سلوك الطبقة البرجوازية. كما يوجه «مسرح الشوك» سهام انتقاده إلى مسؤولي السلطة والمخابرات, وبهذا شق الشوك طريقه في وقت كان الصراع من أجل الحرية على أشده, وكان نجاح «مسرح الشوك» الجماهيري والنقدي كبيرا كظاهرة مسرحية سورية فيها خفة دم وجرأة سياسية وتجديد, وقد نال سمعة عربية طيبة من خلال عرضي «مرايا» و«جيرك» لكن «مسرح الشوك» ما لبث أن اتجه نحو انتقاد الشعب أكثر من السلطة, وأخذ يعتني بالتزويق الشكلي على يد مجموعة مختلفة من الممثلين, ثم وُلدت عنه عشرات العروض المقلّدة لفنانين تجاريين جعلوا من الابتذال وسيلة للربح, وشوّهوا الأسلوب الكوميدي الشعبي السياسي لبدايات الشوك العظيمة, ولم يكن هناك سوى استثناء وحيد جيد هو عرض «لا تسامحونا» الذي اشترك بإحيائه عدد من أعضاء «فرقة المسرح» المتبعثرة وأخرجه علاء الدين كوكش وفيصل الياسري». “4” 
أسرة تشرين 
بلقاء الأديب الكبير محمد الماغوط والفنان القدير دريد اللحام وعدد من خيرة الممثلين السوريين منهم: الراحل نهاد قلعي, عصام عبه جي, تحسين خير بك, ياسر العظمة وصباح الجزائري, تأسست في العام 1973 فرقة «أسرة تشرين» وقدّمت أول عروضها بعنوان «ضيعة تشرين» العام 1974 من إخراج دريد لحام, ثم قدّمت مسرحية «غربة» العام 1976, ومسرحية «كاسك يا وطن» التي افتتحت عروضها في مهرجان قرطاج المسرحي العام 1979, وتميزت العروض الثلاثة بكونها كوميديا اجتماعية انتقادية معاصرة, باللهجة العامية عالجت موضوعات حساسة كالاغتراب والهجرة والاستغلال على خلفية سياسية ذات توجهات وطنية, وقد لاقت هذه العروض إقبالاً جماهيريا منقطع النظير وشهرة واسعة على المستويين المحلي والعربي لم تلقه أي عروض أخرى في تاريخ الحركة المسرحية السورية, لكن بانفصال الماغوط واللحام انتهى نشاط الفرقة بمسرحية «شقائق النعمان» العام 1980. 
أيضا في العام 1973 وحسب الزميل أنور بدر أسس الفنان طلحت حمدي فرقة «المسرح الطليعي» التي استمر نشاطها حتى العام 1980, واهتمت بالموضوعات السياسية, وقدّمت خمس مسرحيات بمعدل واحدة كل عام, عن نصوص الراحل أحمد قبلاوي, ومن تمثيل: نادين, يوسف الشويري, عصام عبه عجي, أحمد عداس, عبد اللطيف فتحي وآخرين, وقد عُرضت المسرحيات الخمس على مسرح اتحاد نقابات العمال بدمشق. “5” 
العام 1974 تأسست فرقة زياد مولوي, وقدمت خمسة عروض هزلية, هي: «أذكى غبي في العالم», «ضيف الحكومة», «دبروا لنا حل», «دكتور الحقني», «عريس الزين يتهنا» وعرضين للأطفال: «الشاطر زياد» و«حكايا عمو زياد». “6” 
في تجربة يتيمة قدّمت فرقة «المختبر المسرحي الحديث» العام 1975 عرض «قصة حديقة الحيوان» عن نص إدوارد البي, إخراج وليد القوتلي, تمثيل: عبد الرحمن أبو القاسم وزيناتي قدسية, ديكور يوسف عبد لكي, والعرض الذي يقوم على شخصيتين فقط, ويعالج همّاً إنسانيا بأسلوب يبتعد عن المنظور الواقعي كحال هذه التجربة, كان يشكّل ظاهرة نادرة في تلك الفترة, وقد قُدّم العرض على مسرح القباني, وشارك في مهرجان المسرح التلفزيوني في بلغاريا, وحاز جائزة هناك. 
المونودراما والمسرح الحركي 
في منتصف الثمانينيات تأسست فرقة «أحوال» بمبادرة من الكاتب ممدوح عدوان والفنان زيناتي قدسية, وتخصصت الفرقة بعروض المونودراما, واستمرت حوالى عشر سنين حتى بعد انفصال عدوان عن الفرقة في مطلع التسعينيات, وفي عام 1987 قام المخرج رياض عصمت والفنانة ندى الحمصي بتأسيس «مركز إيماء دمشق» وقدم المركز عرضين هما «برج الحمام الجديد» للأطفال و«الاختيار». 
في العام 1990 تأسست فرقة «مسرح الحجرة» بجهود المخرج محمد قارصلي والفنانين ندى الحمصي وماهر صليبي, وقدّمت الفرقة ثلاثة أعمال, منها مسرحية «الطابعان على الآلة الكاتبة» عن نص لميري شيزغال, التي عُرضت في سوريا والأردن وتونس, وقام الفريق نفسه العام 1996 بتأسيس «تجمع موزاييك للانتاج الفني» وقدّم أول أعماله المسرحية «لقا» في اليابان, ثم مونودراما «امرأة... نساء» العام 2003 في سوريا وكندا. 
العام 1991 أسس نمر سلمون فرقة «جمهور المسرح الخلاق» وقدّم من خلالها أكثر من عشرة أعمال أغلبها من تأليفه وإخراجه وتمثيله, عُرض بعضها في إسبانيا ولبنان, وفي العام 1996 تأسست فرقة «الرصيف» بمبادرة من الكاتب التونسي حكيم مرزوقي والمخرجة رولا فتال, وقدّمت الفرقة ثلاث مسرحيات, هي على التوالي: «عيشة» و«إسماعيل هاملت» و«ذاكرة الرماد», وفي العام 1999 أسست نورا مراد فرقة «ليش», ويعود لقطاع المسرح الخاص سبق التأسيس للمسرح الراقص في سوريا, ففي عام 2000 انطلقت فرقة «إنانا» بمبادرة الفنان جهاد مفلح, وبعد ذلك بعام تأسست فرقة «رماد» بجهود لاوند هاجو وعزة السواح, والفرق الخمس الأخيرة مازالت قائمة وفاعلة حتى اليوم. 
التجمّعات الفنية 
شهد العام 2001 انطلاقة تجمعين فنيين مهمين, لم يُكتب لهما الاستمرار, التجمع الأول «أداد للإبداع المسرحي» واسمه مأخوذ عن إله المطر والعاصفة لدى السوريين القدامى, قام بإدارة الفنان عابد فهد, وتمويل شركة «صنّاع الجودة العرب» التي أعلنت عن انطلاقته في حفل أُقيم أواخر الشهر الثالث بفندق أمية وبحضور عدد من أعلام الأدب والفن في سوريا, منهم: الأديب وليد إخلاصي, الباحث فراس السواح, والفنانون أسعد فضة وجمال سليمان وسلوم حداد. وجهز تجمع «أداد» صالة راميتا بدمشق “وهي صالة عرض سينمائية تابعة للقطاع الخاص” لاستقبال كل العروض والفرق المسرحية العربية والعالمية التي يمكن أن ينتجها أو يستقدمها, وقد أنتج في العام الأول من قيامه مسرحيتين: الأولى هي مسرحية الافتتاح «من حجر أتيت» عن نص محمود عبد الكريم وإخراج عابد فهد, والثانية هي «أبيض... أسود» عن نص نجم الدين سمان وإخراج سامر المصري. كما استقدم عرض «هواجس الشام» لفرقة «إنانا» ومسرحية الأطفال «سندريلا» لنضال السيجري. وبعد توقف عام أنتج «أداد» مسرحية «عشاء الوداع» عن نص آرثر شنيتزلر, إخراج بسام كوسا, بعدها انفرط عقد هذا التجمع. 
وفي الشهر الرابع من العام نفسه, ومع مسرحية «الرجل المتفجر» انطلق «تجمع سامة الفني» أيضا بمبادرة من المهندس أديب خير صاحب شركة «إيبلا غروب للإعلان» وبإدارة الفنان زهير قنوع. وسامة تعني عروق الذهب والفضة في الحجر الخام, وقد جهز التجمع مسرحا خاصا به في الجناح الروسي من معرض دمشق الدولي القديم يتسع لخمسمائة مشاهد, كما دعا الجمهور في عامه الأول إلى سلسلة من العروض المسرحية والغنائية والموسيقية المميزة, وفي حزيران “يونيو” استقدم التجمع فرقة «تياترو» التونسية التي قدّمت مسرحية «المجنون» عن نص جبران خليل جبران وإخراج توفيق الجبالي. وفي الشهر التاسع قدّمت الفرقة إنتاجها المسرحي الثاني بعنوان «شو هالحكي» عن زكريا تامر وإعداد وإخراج كل من سيف الدين السبيعي ونضال سيجري وجلال شموط, وفي الشهر الأول من العام 2002 قدّم تجمع سامة إنتاجه الثالث والأخير مسرحية «الرهان» عن نص يوليوس هاي وإخراج نائلة الأطرش. 
وكانت آخر الفرق الخاصة التي شهدت ولادتها الساحة المسرحية في دمشق, فرقة «موال» التي أسستها الفنانة مها الصالح في الشهر الثاني من العام 2005 وتمثّل نتاجها الأول بتقديم مسرحية «شجرة الدر». 
تجارب متفرقة 
إضافة إلى قائمة الفرق التي ذكرناها يمكننا أن نشير إلى ظاهرة التجارب المسرحية التي تم إنجازها بتمويل خاص ضمن أطر فرق خاصة انفضت بعد تقديم أول أعمالها, أو من دون إطار, وهي ظاهرة انتشرت منذ منتصف التسعينيات. ففي العام 1996 قدّم المخرج حاتم علي مسرحية «مات ثلاث مرات» عن رواية الكاتب البرازيلي جورج أمادو «كان مكان العوام الذي مات مرتين» إعداد دلع الرحبي. وفي العام 1998 أخرج الفنان جهاد سعد مسرحية «خارج السرب» عن نص الماغوط, كما قدّم الفنان رافي وهبة تجربته الإخراجية الأولى «كاريكاتور» على مسرح معرض دمشق الدولي في إطار تجمع أوركيد الفني العام 2000, وفي شيراتون دمشق قُدّمت مسرحية «سُمح في سوريا» تأليف لقمان ديركي وإخراج سامر المصري العام 2002, وعلى مسرح راميتا عرض الفنان وائل رمضان تجربته الإخراجية الأولى «لشو الحكي» عن مجموعة نصوص للماغوط أعدّها وقدّمها في إطار المسرح الغنائي, وفي العام 2003 قدّمت فرقة فواز الساجر عرضها الإيمائي «غفوة». 
كذلك يمكننا أن نضيف إلى القائمة المذكورة فرقة «أسرة الفنانين المهندسين المتحدين» التي أسسها همام الحوت مطلع التسعينيات في حلب, ونقلت عروضها إلى دمشق بعد حوالى عشر سنين من تاريخ تأسيسها, فقدّمت على المسرح العسكري «طاب الموت يا عرب» وعلى مسرح راميتا «ليلة سقوط بغداد» و«عفوا أميركا». 
ملاحظات على هامش الذاكرة 
لو تأملنا ملياً في بيانات المسرح الخاص, سوف نلاحظ أنه على خلاف الصورة التي أُلصقت به, والتي كرسّها العديد من النقاد والصحفيين ولا سيما في فترة السبعينيات والثمانينيات, على خلاف ذلك لم يكن مسرحا تجاريا ومسفّا على المستويين الفكري والفني في معظم نتاجه, وإن كان قد أفرز بعض الفرق التجارية وعددا من العروض الهابطة, بل كان المسرح الخاص رافدا حيويا وأساسيا من روافد الحركة المسرحية في سوريا, فقد استطاع أن يمدّها بالعديد من التجارب الطموحة التي حاولت صقل هوية خاصة بها, وقدّمت أعمالاً مميزة بأساليب فنية متنوعة تندرج في إطار المسرح الكلاسيكي والسياسي والشعبي والراقص والفقير ومسرح الكاباريه. وخلافا لتجربة مسرح القطاع العام التي غلبت عليها الموضوعات التاريخية والنصوص الأجنبية, فإن أغلب العروض الخاصة كانت تحاور الواقع الراهن وتنقده معتمدة على النصوص المحلية وعلى اللهجة العامية, مما جعلها أكثر تجارب المسرح السوري جماهيرية. 
المراجع 
“1” انظر د.رياض عصمت «ضوء المتابعة» وزارة الثقافة”دمشق 1983 “ص7779”.
“2” انظر غسان شمة «المسرح الشعبي... المسرح الخاص», نشرة «المنصة» العدد السادس 26”11”2004.
“3” انظر المصدر السابق
“4” د.رياض عصمت «ضوء المتابعة» مذكور “ص88”.
“5” انظر أنور بدر «تجارب مسرحية خاصة في سوريا» نشرة «المنصة» العدد الثامن الأحد 28”11”2004.
“6” انظر غسان شمة «المسرح الشعبي»... مذكور.

-----------------------------------------------------------
المصدر:  تهامة الجندي - الكفاح العربي
تابع القراءة→

الثلاثاء، يوليو 19، 2016

استعادة مسارات مسرحنا العربي قراءة في كتاب المسرح العربي بين النقل والتأصيل / عبد الهادي روضي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, يوليو 19, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية


تمهيد: المسرح كظاهرة كونية
حظي المسرح باعتباره ظاهرة إبداعية حديثة، ما فتئت تعبر عن هموم المجتمع وقضاياه، بمتابعة متوثبة، وواعية بأهميته كجنس إبداعي خلاّق، في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، رغم الفوارق والتباينات التي تُسجل بخصوص مكانته، وفاعلية تقبله، ودرجة التأثر به، إذ لازالت بعض المجتمعات العربية المتخلفة، تنظر إلى المسرح نظرة أخلاقية بئيسة، وتجرم حرية انتهاك المواضيع التي يلتجئ الممثلون والمخرج إلى الخوض فيها، ورغم هذا وذاك، لا أحد ينكر ما بلغه مسرحنا العربي والمغربي اليوم من فتوحات على مستويي الجانب الإبداعي كتابة وتشخيصان، وقد تأتى ذلك في نظرنا عوامل كثيرة ومتداخلة منها:
ـ تضاعف وثيرة المهتمين بالمسرح كأب للفنون كتاّبا، ومبدعين
ـ تأسيس معاهد وأكاديميات للفنون، ومنها فن المسرح
ـ الاستفادة من ترجمة النصوص المسرحية العالمية، والحرص على الاقتباس منها
ـ تزايد عدد خريجي المعاهد المسرحية، وإقامة التظاهرات المسرحية محليا، وإقليميا، ووطنيا، ثم دوليا.
ولأن المسرح ظاهرة كونية مثل سائر الأجناس الأدبية، فقد أولاه ثلة من الباحث ما يستحقه، عبر تعقب تاريخه الطويل، والنبش في مظانه النصية، في مسعى إلى توثيق ذاكرته، وحمايتها من الزوال، وتقريب مساراته وتجاربه من النخبة والعامة المهتمة به، ومن هؤلاء الذين كرسوا أبحاثهم في خدمة المسرح عربيا ومغربيا، نستحضر باحثين لامعين، كعلي الراعي، وزكي طليمات، وحسن المنيعي وغيرهم كثر في ساحتنا الثقافية والإبداعية، ووعيا منا بصنيع هؤلاء نقدم هذه القراءة التفكيكية العاشقة في كتاب هام رصد بوعي علمي حصيف نشأة المسرح العربي، وهو  المسرح العربي بين النقل والتأصيل لجماعة من الباحثين العرب.
هي قراءة تفكيكية عاشقة تنطلق من المتن الذي يقدمه الكتاب، وتنتهي لتسائل واقع الممارسة المسرحية العربية، بعيدا عن الخطاب الثقافي الرسمي، الذي غالبا ما يقف متهيبا بعض النماذج الجريئة، ومنغرسا في تشييع بعض المغالطات التاريخية، وتكريس أنصاف التجارب الضعيفة والهشة بناء ووعيا بإواليات الممارسة المسرحية الجادة، التي بقدرما تستشرف الأفق والآتي، تبقى مشدودة إلى رؤية ضيقة وهشة، وهي تبني رؤاها اتجاه الواقع والعالم والحلم، في اجترار واستهلاك لمشاهد وتفاصيل الواقعين العربي والمغربي، دون المساس وخرق الطابوهات المتعارف عليها،  والسؤال الموجهة لهذه القراءة هو: كيف قدم هؤلاء الباحثون مسارات المسرح العربي؟.

كتاب المسرح العربي بين التأصيل والنقل:
1ـ قراءة توصيفية:
  المسرح العربي بين النقل والتأصيل، هو الكتاب الثامن عشر، من سلسلة كتاب العربي الفصلية، قدمته مجلة العربي في الكويت سنة 1988، وهو من تأليف ثلة الباحثين في المسرح وقضاياه، وهم، علي الراعي، وعبد الرحمان ياغي، وأحمد علي، وزكي طليمات، وسعد أردش، وحياة جاسم محمد، وسلامى عبد الرحمان، وآخرون، والكتاب يحوي مئتين وثمان صفحة، من الحجم المتوسط، موزع على أربعة فصول تشمل مواضيع فرعية، تنسجم و عناوين الفصول الكبرى، والفصول معنونة ب:
ـ الفصل الأول: مشاهد من التاريخ: ويقدم ثلاث مقالات وهي: المسرح عند العرب قديما، المظاهر المسرحية عند العرب، ثم خيال الظل.. مسرح قبل المسارح الحديثة.
ـ الفصل الثاني: البدايات الأولى: ويحوي أربعة مواضيع وهي: مارون النقاش وتجربته الرائدة، و جورج أبيض والتيار الجاد في المسرح العربي، ثم مولد المسرح في الكويت، والمسرح العربي في الجزائر.
ـ الفصل الثالث: تجارب وعروض: وتناولت مواضيع من صلب الممارسة المسرحية وهي: صندوق العجب والمسرح الفلسطيني، ريش نعام سوداني، ومنارات مسرحية جديدة، وسهرة مع أبي الخليل القباني والغرباء، ومهرجان دمشق للفنون المسرحي، ثم مهرجان قرطاج المسرحي الأول.
أما الفصل الرابع والأخير، فوُقّع بدال قضايا وهموم، وحوى خمس مقالات حملت العناوين التالية: هموم النص المسرحي العربي، ونحو شخصية متميزة للمسرح العربي، ومن قضايا المسرح العربي المعاصر، والحكواتي وأزمة المسرح العربي، ثم أبو محروس ومشكلة المسرح العربي.



2ـ خطاب المقدمة:
    افتتح الدكتور محمد الرميحي، باعتباره رئيس تحرير المجلة، الكتاب بمقدمة انطلق فيها من سؤال جوهري، حول مدعاة تقديم كتاب العربي مجموعة من الموضوعات المرتبطة بالمسرح العربي، وقد اعتبر السؤال منطقيا ومعقولا لدى بعض القراء، ممن لا يهتمون بالحركة المسرحية في الوطن العربي، وهنا تكمن أهمية الكتاب لأنه موجه لهم في الأساس، ف(المسرحي العربي والمهتم قد حصلا حتى الآن على دراسات كثيرة كثيفة، أما الرجل العادي غير المتخصص أو المرأة العادية فإنهما ينظران إلى قضية المسرح من زاوية هامشية إلى حد ما، لهؤلاء يصدر كتابنا هذا)(1)، وقد أتى على تحديد تعريف للمسرح بمعناه الواسع، وعرفه بأنه( شكل من أشكال التعبير عن المشاعر والأفكار والأحاسيس البشرية، ووسيلته في ذلك فن الكلام، وفن الحركة،مع الاستعانة بمؤثرات أخرى كالرسم والديكور والإضاءة والملابس والمكياج)(2)، نافيا في السياق ذاته، أن يكون للمسرح تعريف شامل تام يمكن الاطمئنان إليه وقبوله حول المسرح، بل هو اجتهاد قابل للنقاش.
وانتقل بعد ذلك، إلى الحديث عن الاجتهادات والدراسات المتعددة التي خاضت في الحديث عن المسرح العربي،  مبرزا مضامينها، وهي مضامين متباينة وتتراوح الأقوال فيها،(بين من يقول إن المسرح العربي ولد وتطور غريبا عن المجتمع العربي نفسه، وماهو إلا تقليد للشكل الغربي، وان ظاهرة المسرح في الثقافة العربية لها خصوصية تميزها عن المكونات الأخرى في هذه الثقافة، كونها ولدت غريبة عن الذات الثقافية العربية)(3) ، من جهة، وبين من ذهب، (إلى الدعوة إلى أن نصرف صفحا عن الشكل المسرحي المتعارف عليه اليوم، للعودة إلى أشكال أخرى من ثقافتنا العربية، كمسرح السامر، أو فن الحكواتي، أو حتى المسرح الاحتفالي، نسبة إلى الاحتفالات الشعبية في الحياة العربية)(4). 
وإذا كانت هذه الطروحات، في رأي الرميحي، تبدو مشوقة ثقافيا، ومتوافقة مع طروحات أخرى باحثة عن التميز الثقافي العربي،  فإنها تبقى، (رد فعل لم يصل حتى الآن إلى تقديم محصلة حقيقية تسند الطروحات النظرية، وتجعل الأمر حقيقة واقعة)(5) ، لأن المسرحين العرب لم يدخروا جهدا، منذ بداية المسرح العربي الأولى، في التحرر من المضمون الغربي للمسرح، بغية تقديم مضمون عربي، له سماته وخصائصه المميزة، واستنادا إلى تقديرات الرميحي، فإن المسرح العربي صار له مضمون عربي في أغلب تجاربه ونماذجه، ولعل استعارته لبعض الأنماط المصاحبة للعرض المسرحي، (ما هي إلا إثراء وغنى لهذا النوع من العمل الفكري المتقدم، مثلها مثل أشياء كثيرة قي حياتنا، قبلناها دون إثارة تساؤلات، لنغني بها ثقافتنا، ونغني في نفس الوقت ثقافات الآخرين، لأن الثقافة في وجه من وجوهها ما هي إلا أخذ وعطاء)(6).
وبخصوص رسالة المسرح، فقد جعلها الرميحي، رسالة مقبولة مرغوبة في المجتمع العربي بأشكالها المتعددة، ودليله في ذلك ترعرع المسرح وانتشاره حتى عُدّ ظاهرة يحرص العربي على مشاهدتها في الحواضر العربية كلها، معتبرا فن التمثيل هو الجانب الأول الأقوى من التأثير المسرحي على المشاهدين، بينما النص المسرحي فيبقى من اهتمام النقاد لأنهم يهتمون أولا بالنص باعتباره عملا إبداعيا أدبيا، أما التأثير الثاني للمسرح فيكمن في، تعبيره عن كثير من مشكلات الحياة الإنسانية وأزماتها، وفي مقدور الأعمال المسرحية بحكم طابعها الإنساني الشمولي، أن تكون لغة للخارج في الحوار مع الآخر، وللداخل في الحوار مع النفس، كما العمل المسرحي له بعد آخر يتجلى في، مناقشة الأمور التي يمكن مناقشتها في إطار فني آخر، لأن (المسرح يحتوي على درجة عالية من التخيل، ويقتضي التقمص لتجسيد الشخصيات والمواقف، وفيه فوق كل ذلك نقد للمظاهر السلبية في المجتمع)(7).            
إن خصوصيات العمل المسرحي العربي، يقول الرميحي، هي خصوصيات المجتمع العربي عينه، حيث لا وجود للسيدات في مسرح مارون النقاش وفرح أنطوان، قبل مائة عام، وهو الوضع ذاته اليوم، إذ لا تقوم النساء بأدوار على المسرح في بعض الأقطار العربية،  مستحضرا فهم المتقدمين لغاية المسرح، ومنهم مارون الذي اعتبر المسرح عملا، (ظاهره مجاز ومزاح، وباطنه حقيقة وصلاح)(8) ، وهو فهم لازال المتأخرون يعتدون به، ويؤمنون به، لكن المسرح يتطور بشكل صحي في المجتمع العربي.





ثانيا: خطاب المتن:
3ـ1: المسرح عند العرب قديما:
  ادعى الباحث علي الراعي، في مفتتح دراسته، بكثير من الوثوقية أن العرب والشعوب الإسلامية تعميما، قد عرفوا أشكالا متعددة من المسرح، ومن النشاط المسرحي لقرون طويلة، قبل منتصف القرن التاسع عشر، ففي الطقوس الاجتماعية والدينية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، نجد إشارات واضحة إلى أن،( المسلمين أيام الخلافة العباسية قد عرفوا شكلا واحدا على الأقل من الأشكال المسرحية المعترف بها،. وهو: مسرح خيال الظل)(9)، ومن الإشارات القديمة القوية التي يسوقها الراعي لإثبات أطروحته، ما وجده في كتاب الديارات للشابشتي، حيث ذكر الكاتب أن الشاعر دعبل(10)هدّد ابنا لأحد طباخي المأمون بأنه سيقوم بهجائه، فرد الابن بدوره قائلا: والله إن فعلت لأخرجن أمك في الخيال، ومعنى ذلك، إنذاره بأنه سيوحي إلى أحد فناني المخايلة، بإظهار صورة أم دعبل بمظهر يدعو إلى السخرية، ولاشك أن اللعب بخيال الظل شاع  في عصر الخليفة العباسي المأمون، واعتمد الهزل والسخرية والإضحاك.
ومن الحجج الدالة التي يتحجج بها الباحث، ما قاله باحث مسرحي آخر، هو شريف خازندار، الذي عدّ الخليفة المتوكل، أول من أدخل الألعاب والمسليات والموسيقى والرقص في البلاط، وأنه كان يميل إلى التهريج والأغاني الهزلية، ومن ثم أصبحت قصور الخلفاء مكانا للتجمع والتبادل الثقافيين مع البلدان الأجنبية، وكان ثمة ممثلون بأتون من الشرقيين الأدنى والأقصى، ليقدموا تمثيلياتهم في قصور الخلفاء(11)، وكانت العامة من الناس تجد تسليتها عند قصاصين انتشروا في طرق بغداد، وعرفوا بقصّ نوادر الأخبار وغرائبها، وابتدعوا،لأجل ذلك، طرق الهزل، (كتقليد لهجات النازحين من الأعراب والخراسانيين والزنوج والفرس والهنود والروم، أو محاكاة العميان والحمير، ومن أشهر هؤلاء في عصر المعتضد: ابن المغازلي) (12). 
ويذهب، علي الراعي، إلى أن انتشار الغناء دفع،هو الآخر، إلى قيام دور المسارح الغنائية في عصرنا الحاضر، واستند في التدليل على ذلك، إلى إشارة وردت في كتاب الأغاني، ومفادها أن ابن رامين الكوفي استقدم مغنيات من الحجاز، وأقام دارا واسعة يقصدها الناس، للاستمتاع بالعروض الغنائية بالمعنى الحديث، وهي المبادرة التي احتذاها بعض الخلفاء العباسيين، كالخليفة الواثق الذي عُرف بحب الحانات، وسعيه إلى رفع مستواها، بل ثبت أنه اتخذ لنفسه حانتين، واحدة في دار حرمه، والثانية على حافة شط دجلة ضمن ضيافته(13)، وأمر باستدعاء أحسن القيان البارعات في الغناء، لتقام طقوس الرقص، بعد تناول الطعام، من طرف الجواري الراقصات وهن يرتدين الأثواب الشفافة، الموشاة برسوم الزهور، ويتبعهن جوار من نوع آخر، تكاد ثيابهن الشفافة الملتصقة بأجسامهن لا تخفي شيئا من الملامح المثيرة للشعور، وفي غمرة ثورتهن  الفنية في الرقص يعمدن إلى فك العقد الذي يضم شعورهن، فينسدل ليل الشعر على نهار الأجسام(14).
وانتهى الباحث إلى عدّ هذه الفنون كلها حياة فنية حافلة، جمعت بين فنون الأداء جميعا( الأداء بالكلمة الممثلة مثلما كان يحدث في حالة الحكائين والمقلدين في الشوارع والمساجد، والأسواق، وفي بلاط الخلفاء، أو الأداء بالكلمة الموزونة الملحنة، كما في حالة الغناء أو الأداء بالجسم البشري في عريه وكسوته، أو الأداء بالعرض المسرحي المعد بعناية، كعرض الورود الذي ابتكــره الخليفة المتوكل، أو لكي يحقــق هدفا اجتماعيا وسياسيا مثلما كان يحدث في مواكب الخلفاء في الشوارع أو في استقبالاتهم الرسمية لسفراء الدول الأجنبية)(15).
والواضح، فيما يثبته الدكتور علي الراعي، أن هذه الطقوس التمثيلية التي مارسها الخلفاء العباسيون ظلت مستمرة، ولم تتوقف في مصر الفاطمية والمملوكية، إذ ظل تيار العروض التمثيلية متواليا، عبر المواكب السلطانية والشعبية تسلية للناس، وإمتاعهم بأبهة الحكم، وقد استدل على هذه الاستمرارية بأقوال للمقريزي في وصف أحد تلك الاحتفالات،( وطاف أهل الأسواق، وعملوا فيه، عيد النيروز، وحرجوا إلى القاهرة بلعبهم، ولعبوا ثلاثة أيام، أظهروا فيها السماجات، الممثلين وقطعهم التمثيلية)(16)، وقد انضاف إلى هذه الطقوس الأولى، ملاهي الشعب متخذة طابعا طقوسيا في بعض الأحيان أيام السلطان الغوري، كإقامة حفل عرس لبركة الرطلي، يتخلله رمي الحلوى والحناء، وتخرج النساء كاشفات الوجوه، بارزات الحلي، ويعلقن قناديل كثيرة ويوقدونها في الليل، ويمثل الممثلون الشعبيون من قراديّن ومدربي حيوانات، ولاعبي الأراجوز، وفناني خيال الظل، والممثلين الشحاذين، والممثلين الجوالة،  في الشوارع وحفلات الزواج والختان، ويقدمون حياة تمثيلية متصلة، علقت بوجدان الشعب.
ووقف الباحث عند خيال الظل، باعتباره لونا من ألوان الملاهي، وأرقى ما كان يعرض على العامة والخاصة من فنون، بصرف النظر عن أكان العرب هم من اجتلبوه إلى بيئة العباسيين، أم أنه انتقل إليهم، ولا يتوان في وصفه بأنه، مسرح في الشكل والمضمون معا، لا يفصله عن المسرح المعروف إلا أن التمثيل فيه كان يتم بالوساطة،( عن طريق الصور يحركها اللاعبون، ويتكلمون ويقفون ويرقصون ويحاورون ويتصالحون نيابة عنها جميعا) (17).
ووصل مسرح خيال الظل مع محمد جمال الدين ابن دانيال الفنان والشاعر والماجن المفكر ، شوطا طويلا من النضج، ويسوق قولا له: (هيئ الشخوص، ورتبها واطْل ستارة المسرح بالشمع، ثم اعرض عملك على الجمهور وقد أعددته نفسيا لتقبل عملك بثثت فيه روح الانتماء إلى العرض وجعلته يشعر بأنه في خلوة معك. فإذا ما فعلت هذا فإنك ستجد نتيجة تسرّ خاطرك حقا: ستجد العرض الظلي وقد استوى أمامك بديع المثال، يفوق بالحقيقة المنبعثة من واقع التجسيد ما قد تخيلته له قبل التنفيذ)(18). وفي هذه القولة، حسب رأي الباحث، يجتمع التطبيق العملي والنظرية الفنية معا: (الشخوص وتبويبها وطلاء الستارة في جانب التطبيق، وفكرة الاختلاء بالجمهور وخلق مشاعر الانتماء إلى العرض في جوانبه النظرية، ويضاف إلى ذلك، التجسيد الذي هو حقيقة العمل المسرحي، وجمال المسرح يتركز في العرض أمام الناس، وليس في تخيل هذا العرض على نحو من الأنحاء: في الذهن مثلا أو بالقراءة في كتاب)(19).
لقد جسدت عبارة ابن دانيال تلك، لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ المسرح العربي، وفي تاريخ الكوميديا الشعبية بصفة خاصة، وإن كان المسرح العربي قد شهد محاولات للأنولود في بعض مقامات بديع الزمان الهمداني والحريري، فابن دانيال أخذ ما تكون في حضن المقامة من دراما، وجعل منها مسرحا حقيقيا له نظرية واضحة، وممارسة أوضح، يقول واصفا عمله في بابة: طيف الخيال:
خيالنا هذا لأهل الرتب
                              والفضل والبذل لأهل الأدب
       حوى فنون الجد والهزل في
                              أحسن سمط وأتى بالعجب
فهو فن يمزج الجد بالهزل، ويتوسل بالمهارة الفنية لإبهار النظارة، أما أسلوب أداء الفن فيقوم على مبدأ التشخيص، لكل دور، ولكل صوت، وهذا كله على خلاف الراوي الذي يتلبس كل الأشخاص ونطق بلسانهم: يقول ابن دانيال:
إذ قام فيه ناطق واحد
                               عن كل شخص ناظر واحتجب(20).
فمسرح ابن دانيال، (مسرح شعبي بالجمهور وللجمهور، وفن منوع يمزج الحقيقة بالخيال، والجد بالهزل، ويعتمد على أوسع قدر من مشاركة الناس فيه، بالمال والحضور والاستماع)(21). 
    الهدف الرئيسي منه هو،( إمتاع الجمهور وبهره بمناظر وشخصيات منتقاة من السوق: الواعظ، والحاوي، وبائع الأعشاب، الشربة العجيبة، كما نقول اليوم، والمشعوذ والمنجم، والقراد، القرداني، ومدرب الأفيال، والراقص الأسود، الذي يجمع بين البهلوان والمغني)(22)، وقد حرص ابن دانيال على انتزاع شخصيات مسرحه من واقع السوق، واستطاع أن يجعل
لها وجودا فنيا على رقعة المسرح، بواسطة، المقصوصات، أي رسمها عن طريق الجلد، وإحالتها إلى دمى ذات بعدين يحركها المؤدي من وراء ستار، ثم ينشىء لها حياة مؤقتة، تعرض فيها مهاراتها في الأداء، وتعرض أيضا حالها، فكثير منها يشكو الفقر للجمهور، بغية الاستعطاء، أو يغتنمون الصفو المؤقت كي يمرحوا بعيدا عن تحديد دائم الوجود في حياتهم.
إن أهمية بابات ابن دانيال ترجع من جهة إلى أسباب تتصل بالماضي وبالحاضر، إذ استدعت ما في المقامات من إمكانيات للدراما، ولكونها من جهة أخرى، أقامت في مصر مسرحا حقيقيا، زاوجت بين أمثلة تطبيقية لفن المسرح، وغرست فكرة المسرح في نفوس الناس، وحفظتها من الضياع إلى لحظة تعرف العرب المحدثون على المسرح البشري نقلا عن أوروبا.
3ـ2: المظاهر المسرحية عند العرب:
في سياق تمثل الباحث الدكتور، أحمد علبي، لمظاهر المسرحية في تحققها العربي، انطلق الباحث من طرح أسئلة استفهامية، بغية إدراك مدى توفر العرب على ما يشبه من وجه تمثيل الوقائع المعروفة الآن بالتياترو، أي المسرح، وتفاديا لأي تسرع عرض آراء بعض الباحثين ممن عالجوا الموضوع، وقام بالتعقيب عليها ومناقشتها، وتقديم رأيه الشخصي.
3ـ2ـ1: آراء الدارسين:
أول دارس استدعاه الباحث ذاته، هو جرجي زيدان الذي أقر بازدهار التمدن الإسلامي تناميه، إلا أن التمثيل ظل غير حاضر، ونفى في السياق ذاته، أن تكون المظاهر من قبيل التمثيل، بل لا تعدو أن تكون مجرد شعائر دينية، وهو طرح يأخذ به الباحث ويميل إليه، (وهذا رأي نقر بوجاهته، فالزوايا والتكايا ملأت العالم من دمشق إلى تطوان، ومن شاهد  الأذكار أو انخرط في الفرق الدينية والطرق الصوفية على أنواعها يدرك أنها لا تقتصر على الإشارات والحركات التمثيلية فقط، بل تشتمل أيضا على إيقاع في الخطو يشبه الرقص، وعلى صنوج تصطفق، ودفوف ينقر عليها، وعلى إنشاد جماعي يشدو بالمدائح البنيوية)(23)، 
   وبموجب ذلك، يؤكد الباحث أن هذه الاحتفالات الدينية والطقوس الدخيلة، التي تتخذ من أولياء الله محاور لها، كاحتفالات عاشوراء، أو مقتل الحسين بن علي في كربلاء، لا تدخل ضمن باب المسرح، بل ضمن باب الأدب الشعبي أو التراث الشعبي، ومدعاة التأكيد السابق، هو توسل بعض الدارسين بهذه الطقوس للتدليل على أنها أصل من أصول المسرحية في الأدب العربي، متناسين أن هذا التمثيل لم  تجعل منه البيئة العربية في الإمبراطورية الإسلامية مسرحا،  وإنما حدث في بلاد فارس ويعتمد اللغة القومية، وهو يسمى عندها بـ(روز قتل).
وينتهي الباحث إلى أن المظاهر الدينية بشتى مظاهرها، كعاشوراء، والمولد النبوي، ومحمل الحجيج، واحتفالات مولد السيدة زينب، والأعياد، والأعراس وأشباهها،(ليست مسرحا ولا هي منه في شيء، بل هي تدخل بمجموعها فيما ندعوه تراثا شعبيا غلى اختلاف فنونه)(24)، وحجته في ذلك، أن (مسرح. في نهاية المطاف ـ ومهما كان شأنه ـ دون نص مسرحي)(25).

3ـ2ـ1: المسرحية الدينية:
     اعتبر الباحث أن الربط الذي أقامه احد الدارسين بين رواية الواعظ الصوفي* والمسرحية الكنسية، ضعيف مهلهل، لانقطاع الخيط بين الرجل الواعظ من جهة والمسرحية الدينية من جهة أخرى، في أول نشأتها، كما أن هذه الأخيرة، أي المسرحية الدينية، (انبجست فكرة طريفة في ذهن القساوسة، هذا مع العلم أن المسرحية الدينية في طورها البدائي، وقوامها حوار قصير، كانت الأناشيد والتراتيل هي السمة الغالبة عليها)(26)، وأكد بموازاة ذلك، أن مسرحيات الأخلاق لا يمت إليها الرجل الصوفي، لأنها اشتملت على ما تشتمل عليه الأنواع الأدبية من مسرحية أو رواية أو قصة،ويعني عنصر الأحداث المتدرجة والمتوالية حد التعقيد، ثم تشق سبيلها إلى الحل فالنهاية، وقد أثبت أن هذا النوع، في مراحله التمهيدية قد فرضت الحياة نفسها عليه، فغذت نصف دينية، ثم غزتها فيما بعد بموضوعات خطيرة الشأن، ومن ناحية أخرى، اجتهد الباحث لتبرير عدم حدوث التطور الذي بموجبه تتكاثر ظاهرة الرجل الصوفي وتنمو، سيما أن المسرح وجد انطلاقته من قواعد دينية، وأعزى ذلك إلى(الإقطاعية الشرقية التي من سماتها الحكم الفردي المطلق والطغيان، ليست أرضا صالحة لنماء المسرح القائم على نقد السلطات وكشف أضاليلها. إن الأدب لمحتاج إلى الحرية كحاجة السمك إلى الماء)(27).

3ـ3ـ1: خيال الظل: المفهوم ، وجهازه، وأنماطه
وقف الباحث، عبد الحميد يونس، في مقالته الموسومة بـخيال الظل .. مسرح قبل المسارح الحديثة، عند معناه اللغوي، واعتبر التسمية (إضافة مقلوبة صحتها: ظل الخيال) (28)، وعزا ذلك إلى ترجيح الناس لهذه التسمية، تحقيقا للانتباه على الأصل الذي ينعكس الظل عنه من ناحية، وأخذا بالقانون اللغوي الأصيل الذي يحتكم إلى الموسيقى في التركيب والوقوف، أكثر مما يتحكم إلى العلاقة العقلية في العبارة من جهة أخرى، وبقدرما ربط الباحث خيال الظل بالفنون الشعبية، أكد أن دراسته قائمة على المشاهدة الحية، عبر العرض التاريخي للأخبار المدونة في الكتب، وبالإضافـــة إلى ذلك اعتمد على(جهاز كامل متنقل، يتيح لأصحاب الصنعة أن يذهبوا به من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، كما أن كان يتخذ في بعض الأحيان دارا ثابتة له في القاهرة، ينتقل إليها الناس المتشوقون إلى التسلية)(29) 
   ويميز الباحث في خيال الظل بين نوعين:
ـ النوع الأول: عبارة عن منصة توضع قبالة رحبة من الرحبات، وتكون هذه الرحبة بمثابة مكان للنظارة، والمنصة بمثابة المسرح، وتستعرضه شاشة بيضاء وراءها مصباح كبير من مصابيح الزيت، وبين المصباح والشاشة، رسوم من الجلد تتحرك على قضبان، فتتجلى ظلال هذه الرسوم على الشاشة أمام الناس.
ـ النوع الثاني: أكثر مرونة من الأول، لأنه يتخلى عن المصباح، ويستبدله بنار توقد من القطن والزيت، أما الرسوم فيحرك كلا منها عودان من الخشب، والرسوم هي أشخاص المسرحية بأسمائها وأخلاقها، وأزيائها، غير أنها لا تقوم بذاتها، بل يحركها أفراد الفرقة، ويضفون عليها الأوصاف، ويتحدثون على ألسنتها، ويستخلصون من العلاقات والأحداث العظة المطلوبة، وقد يتدخلون في سياق المسرحية، سائلين أو مجيبين أو شارحين.
أقر الباحث ، بما أثبته الباحثون،بخصوص أصول خيال الظل، حيث تعود إلى حوالي ثمانية قرون من تاريخ العرب، فأقدم الروايات والأخبار الشواهد التي تتداوله، ترجع إلى القرن السادس الهجري، أما موطنه الأصلي فهو الهند، وهناك من يقول ببلاد الصين، وقد دخل الوطن العربي مع التتار، ومن أشهر منشديه الشيخ شمس الدين بن عبد الله محمد بن دانيال بن عبد الله الخزاعي المتوفي عام 711 هـ ، واشتهر فن خيال الظل في الإقليم المصري، مستفيدا من دعم السلطة السياسية العثمانية.

3ـ3: البدايات الأولى للمسرح:
   لا أحد بإمكانه، وهو يتحدث عن رحلة المسرح العربي الأولى، ألا يلفظ باسم مارون النقاش(1817 ـ 1855)، فله يعود له الفضل، حسب الباحث عبد الرحمان باغي، في اقتناص البذور المسرحية من الغرب، وزرعها في التربة العربية، وقد شكلت ثقافته المتنوعة وروحه المؤمنة بالمغامرة، والمشدودة إليها فــــي تخليه عـــن انشغالاته التجارية،  
وارتياد المسارح الإيطالية واستيعاب أبعادها في سبيل نقلها أو نقــــل بعض منها إلى بيته، ثم قرأ لموليير، وأدرك الفوارق بين المجتمعين المولييري والماروني النقاشي، لكنه مع ذلك ظل يجتهد حتى أمسك بالبؤرة التي يلتقي حولها مجتمع بيروت، عبر الخبرة التي راكمها من علاقاته بالناس، ومعرفتهم بأخلاقهم وطباعهم. 
     قدم مارون النقاش أول عمل مسرحي له عنوانه (البخيل) في بيته في بيروت سنة 1847، وكانت النظارة من طبقة قناصل بيروت، وأعيان بيروت، وسراتها، وفي سنة 1848 قدم في بيته مسرحيته الثانية المعنونة ب(هارون الرشيد)، وحضرتها شخصيات سياسية وثقافية وفينة هامة آنذاك، وتشكل المسرح من: باب في الوسط تعلوه كوتان، وعلى جانب منه نافدتان، وكانت الكواليس في آخر الفناء، وبالقرب منها تقع الأبواب الجانبية، بينما المنصة فقد أقيمت في الصدر، وجلس النضارة أمامها، ونشرت فوق القاعة ظلل من أشرعة السفن.
ووقف الباحث، وهو يجتهد في معرفة الأبعاد التي انطلق فيها مارون النقاش من خلال بعض الوثائق التي أرخت لجهوده التأسيسية، عند أربع حقائق:
1ـ أن مارون النقاش كان ممتلئ النفس، قناعة بأن ماهو مقدم عليه يشكل وسيلة حضارية وثقافية متقدمة، لم تروج من قبل في الوطن العربي.
2ـ أن المسرح معاناة فنية، ومجلبة للملامة، تكلف صاحبها الجهد والمال، ونظرة الناس المتدنية.
3ـ أن إدخال مارون المسرح، احتاج منه إلى سعة حيلة، وحسن تدبر، وتأنّ الأمور بحكمة.
4ـ أن مارون النقاش كان يعي الفروق بين المادة المسرحية المستوردة، وصياغتها العربية الشكلية، لذلك بدا حرصه على استدعاء التراث ضرورة.
وإلى جانب مارون النقاش يحضر بقوة المسرحي المصري جورج أبيض التي عرف المسرح الفرنسي، كأول طالب عربي يدرس فن التمثيل بكونسرفتوار باريس، وكانت أولى عروضه المسرحية  بميناء الإسكندرية، حيث قدمت فرقته، (مأساة هوراس) لكورني، ثم توالت عروضها فوق مسرح الأوبرا، وسط ترحيب كبار المسؤولين والصحافة والجمهور، وتميزت تجربته بتقديم العديد من المسارح العالمية، وترجمتها بواسطة أدباء كبار ، ومن نماذجها: (أوديب ملكا) لسفوكليس ترجمها فرح أنطوان، و(عطيل) لشكسبير ترجمها خليل مطران، و(لويس الحادي عشر) لكازمير دي لافيني، ترجمها إلياس فياض، ومن جليل أعمال جورج أبيض إنشاؤه فرقة مسرحية عربية،  تكفلت بتقديم مسرحية، جريح بيروت، وهي مسرحية شعرية كتبها الشاعر حافظ رمضان، وتناولت أحداث لبنان، التي تعرضت لاعتداء عسكري إيطالي، ردا على مقاومتها لتركيا وهي تغزو ليبيا، وقدمت المسرحية في التاسع عشر من مارس 1912.
والمعروف أن جورج انتصر لتشجيع المؤلفين المصريين الشباب، وتقديم الجيد من مؤلفاتهم، حيث قدم أول دراما مصرية وهي، دخول الحمام زي خروجه، لإبراهيم رمزي، إضافة إلى العديد من المسرحيات المؤلفة لعباس علام، ونجيب الحداد، وحسين رمزي، وأنطوان يزيك، وأحمد شوقي.
3ـ4: هموم المسرح العربي:
  حدد الباحث الدكتور علي الراعي، هموم المسرح العربي في ثلاثة هموم:
ـ الهم الأول: وسماه البعد عن إرث الجماهير، إذ كتب مارون النقاش وأبو خليل القباني، ويعقوب صنوح مسرحياتهم، تحت مبرر عدم معرفة العرب المسرح، واستدعوا المسرح الغربي المتبني للصيغة الإغريقية، متخذين كتابات موليير وراسين نماذج تحتذى، وتناسوا نماذج المسرح الشعبي، كخيال الظل، والقراقوز، ومسرحيات الشارع والسوق، وغيرها، واستدل بمسرحية سعد الله ونواس، سهرة مع أبي خليل القباني، التي جسدت الهوة الكبيرة بين الفن المسرحي الذي جلبه الرواد الأوائل، و(ما تخلص للناس عبر عشرات القرون من تجربة مسرحية كان بنبغي البناء عليها، بدلا من احتقارها ولعنها، في كل مناسبة)(30).
ـ الهم الثاني: قلة رجال المسرح بين الكتاب وحيرة النص بين أقطاب ثلاثة:
 يلاحظ الباحث ذاته، أن الغالبية الساحقة من كتاب المسرح في العالم العربي، لم تتمرس  بالمسرح تمرسا عمليا، إذ لم يعرفوا خشبته، وأغلب هؤلاء الكتاب كتبوا مسرحياتهم لرواج حركة المسرحية، ونتيجة ذلك، ندر النص المسرحي الجيد، فكثر الاعتماد على التعريب والاقتباس، وساهم ضعف النص المسرحي العربي على مضاعفة النزاع بين المؤلف والمخرج، و(أيهما أهم؟ فالمؤلف يرى انه مبتكر المسرحية، وهو وحده صاحبها، والمخرج لا يعترف بهذه الميزة للمؤلف إلا في حدود شكل النص المكتوب)(31)، ومن جهة أخرى، أشار إلى أن ضعف النصوص المسرحية دفع الممثلين إلى التدخل في النص المسرحي، ومما ساعد على هذا المنحى(نشوء فريق من الممثلين الكوميديين الموهوبين، ذوي الموهبة الكوميدية الواضحة، التي تتجاوز النص الكوميدي، وتضفي عليه قوة، إلى جانب تمتعهم بالقدرة على الخلق المتغير من حقل إلى آخر، وهؤلاء خلقوا حاجة إلى نوع من النصوص يكون مطاطا وقابلا للإضافة إليه بين الحين والحين)(32).
ـ الهم الثالث: ازدواجية اللغة العربية وقلة انتشارها:
 ويحدده في الاضطراب الحاصل بين اللغة الفصحى واللهجات الدارجة، وبموجب ذلك يبقى النص المسرحي قابعا في جدران الجزء الواحد من الوطن العربي، ويساهم في شيوع تداوله بين جمهور المسرح العربي على امتداد الجغرافيات العربية.
ـ الهم الرابع: غياب الناقد المسرحي الحق:
فساحة الكتابة ممتلئة بأدعياء النقد، ويحدد الباحث محددات الناقد الحق فيما يلي:
1ـ أن يكون فنانا مسرحيا بالإمكانية
2ـ وممثلا
3ـ  وكاتبا مسرحيا ومخرجا
4ـ ومتفرجا يفهم المسرح ومشكلاته، من وجهة نظر الطاقم الفني المسرحي والجمهور
5ـ ومتسلحا بثقافة واسعة تشمل حقل تخصصه، وتتعداه إلى فروع المعرفة البشرية

 على سبيل الختم: 
نخلص في ضوء قراءتنا التفكيكية لأهم المضامين والفصول، التي يحويها كتاب، المسرح العربي بين النقل والتأصيل، إلى أنه كتاب طليعي، يسجل له السبق في الوقوف على الممارسة المسرحية في بعض أقطار العالم العربي، والنبش في ماضيها البعيد، واستحضار أعلامها البارزين، بالإضافة إلى إبراز هموم الواقع المسرحي العربي في ثمانينيات القرن الماضي، غير أن ما يعاب عليه، أي الكتاب، أنه نسي أو تناسى الخوص في تاريخ الممارسة المسرحية لعدة دول لازالت إبداعيا تصنف على الهامش كالمغرب، والبحرين، وسلطنة عمان، لكنه مع ذلك كله، يبقى محاولة جريئة ترصد الماضي وتقيس الحاصر المسرحي بعيون تواقة إلى ممارسة مسرحية تتجاوز حدود الجغرافية العربية الضيقة، إلى الكونية.

هوامش الدراسة:
1ـ جماعة من الباحثين، المسرخ العربي بين النقل والتأصيل، سلسلة كتاب العربي،ط1، الكويت، 1988، ص:05
2ـ نفسه، ص ص: 05 ـ 06
3ـ نفسه، ص:06
4ـ نفسه، ص:06
5ـ المرجع السابق، ص: 06
6ـ نفسه،ص: 07
7ـ نفسه، ص:08
8ـ المرجع السابق، ص: 09
9ـ نفسه، ص:13
10ـ دعبل الخزاعي الشاعر
11ـ المرجع السابق، ص:14
12ـ نفسه، ص: 14
13ـ نفسه، ص: 19
14ـ نفسه،ص، 20
15ـ المرجع السابق، ص:21
16ـ نفسه،ص: 22
17ـ نفسه،ص: 25
18ـ نفس المرجع،ص: 26
19ـ نفسه، ص: 26
20ـ نفسه،ص: 27
21ـ نفسه، ص:28
22ـ نفسه والصفحة
وهي ثلاث: طيف الخيال، وعجيب غريب، ثم المتيم والضائع اليتيم، كان مقصودا بها أن تعرض تباعا في ثلاث ليال متوالية، وهذا تقليد مسرحي معروف في دراما العصور الوسطى الأوروبية.
ـ يقول جرجي زيدان: فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر، وليس فيه تمثيل، إلا ما كان من قبيل الشعائر الدينية كتمثيل قتل الحسين عند الشيعة، أو بعض ما يأتيه أصحاب الطرق الصوفية من الإشارات أو الحركات التمثيلية... ص: 36
23ـ نفسه، ص ص:35 ـ36
24ـ نفسه، ص: 39
25ـ نفسه، ص: 39
*ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد،ج 6، ص:152، رواية الرجل الصوفي قائلا:( كان غافلا عالما ورعا، فتعمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، ويعلق الباحث قائلا: معنى ذلك أن الصوفي كان يتظاهر بالحماقة كحيلة ليعقد محكمته، فهو غافل مجنون. المرجع ص: 43
26ـ نفسه، ص: 39
27ـ نفسه، ص ص: 42 ـ 43
28ـ نفسه، ص: 44
29ـ نفسه المرجع، ص: 46
30ـ نفسه، ص: 163
31ـ نفسه، ص: 164

--------------------------------------
المصدر : الرافد 
تابع القراءة→

الاثنين، يوليو 18، 2016

"المنهج التفكيكي بين النظرية و التطبيق" / محمد يوب

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, يوليو 18, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

"المنهج التفكيكي بين النظرية و التطبيق" 
التفكيكية منهج نقدي أسسه الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا ( 1930-2004 ) ويهدف من خلاله دراسة النصوص التي غلبت عليها صفة المطلق و المثالية اعتمادا على هذا المنهج التفكيكي الذي لا يعطي اعتبارا للمقدس فيولد من خلاله أشياء كثيرة سكت عنها النقاد القدماء ، وقد طرح آراءه في ثلاثة كتب نشرت في سنة 1967 وهي (حول علم القواعد) و (الكتابة والاختلاف ) و(الكلام والظواهر)
واستند ديريدا في هذا المنهج إلى قطيعة سبق أن أعلنها الفيلسوف نيتشه تجاه الميتافيزيقيا ، وتتجلى التفكيكية في أنها تقوض مفهوم الحقيقة بمعناه الميتافيزيقي كما تقوض الواقع بمعناه الوضعي التجريبي وتحول سؤال الفكر إلى مجالات اللغة والتأويل .
ويعتبر منهج التفكيك deconstruction أهم حركة ما بعد البنيوية في النقد الأدبي إضافة إلى أنها الحركة الأكثر إثارة للجدل في الوقت المعاصر ويستخدم التفكيك (( للدلالة على نمط من قراءة النصوص بنسف ادعاها المتضمن أنها تمتلك أساسا كافيا في النظام اللغوي الذي نستعمله ، كي تُثبت بنيتها ووحدتها ومعانيها المحددة))
و أي مناقشة للتفكيك لابد أن تبدأ بالقارئ ، وتجربة القارئ التي لا يوجد قبل حدوثها شيء " فهو يفكك النص ويعيد بناءه على وفق آليات تفكيره . وهو بذلك يعتمد على آليات الهدم والبناء من خلال القراءة ،و لعل من البديهي لدى القارئ أن مصطلح التفكيك يعتمد على الهرمنيوطيقا الذي يمارس من خلاله تفكيك النص ، فالقارئ " يحدث عنده المعنى ويُحدثه ، ومن دون هذا الدور لا يوجد نص أو لغة أو علامة أو مؤلف.
و يبحث جاك دريدا عن المنطوق أو أفضلية الكلام على الحضور رغبة منه في قلب المعنى وإسقاطه من اللغة .. فهو يرى " إن اللفظ الاستعماري للترجمة أو النسخ خطير ، لكونه خطير يفترض نصاً موجوداً في الآن ، نصاً جامداً ، حضوراً لا انفعالياً لتمثال ، لحجرة مكتوبة أو لوثيقة ..." إن عمل دريدا " عمل مفكك De-constructeur لكونه قد أعاد النظر في المفاهيم التي تأسس عليها الخطاب الغربي الذي لا يعدو أن يكون خطاباً ميتافيزيقياً ، وليس هناك بديل يقدمه دريدا ، بل إن مشروع عمله لا يمكن أن ينحصر في دائرة محددة أنها مغامرة لا يمكن التنبؤ بنتائجها ولكن يمكن معرفة سمعتها ونقصد هدم الميتافيزيقيا .. " ،ولهذا يقود التّفكيك، إذن، هجوماً ضارباً وحرباً عشواء على الميتافيزيقيا في قراءة النّصوص: فلسفيّةً كانت أو غير فلسفيّة. ويُقصد بالميتافيزيقيا التي يستهدفها التّفكيك في هجومه: "كلّ فكرةٍ ثابتةٍ وساكنةٍ مجتثّةٍ من أصولها الموضوعيّة، وشروطها التّاريخيّة"
ويتّصف التّفكيك بطابعٍ سياسيٍّ فضلاً عن كونه إستراتيجية فلسفيّةً لأنّه يتقدّم باتّجاه النّصوص، لا لكي يهدم ويُقوّض المنطق الذي يحكم النّصّ فقط، وإنّما، أيضاً، لكي يفضح الميتافيزيقيا.
و يهدف التّفكيك إلى كسر الثّنائيّات الميتافيزيقيّة: داخل/خارج، دالّ/مدلول، واقع/مثال.... لإقرار حقيقة (المتردّد اللاّيقينيّ) في عبارة (لا هذا.. ولا ذاك). وانطلاقا من خلفيته الدينية والتي انطلقت منها التفكيكة وهي ما دفعته إلى القول بوجود خلخلة في المثالية الدينية المتمثلة في سيطرة اللوغوس / الكلمة في الكتاب المقدس .
إن التفكيكية منهج في الدراسة النقدية تعتمد في منطلق على رفض كل ما غيبي لاهوتي يقول د. غسان السيد : ((لقد جاءت اللّحظة الحداثويّة الأوربيّة التي نقلت الإنسان من واقعٍ إلى واقعٍ آخر مختلفٍ تخلخلت فيه كلّ الثّوابت السّائدة التي جمّدت العقل البشريّ لقرونٍ طويلةٍ. فتشكّل وعيٌ جديدٌ معارضٌ بصورٍ كلّيّةٍ للوعي اللاّهوتيّ الذي أراد توحيد العالم حول مركزٍ عقائديٍّ موحّدٍ يتجسّد فيه المعنى الوحيد للحقيقة التي لا تقبل النّقاش)).
ويمكن الحديث عن أهم المعطيات النقدية التي قدمها دريدا لمشروعه النقدي التفكيكيّ من خلال النقاط الآتية:‏ 
1ـ الاختلاف :.‏: يشير المصطلح الأول (الاختلاف) إلى السماح بتعدد التفسيرات انطلاقاً من وصف المعنى بالاستفاضة، وعدم الخضوع لحالة مستقرة، ويبين (الاختلاف) منزلة النصية (Textualité) في إمكانيتها تزويد القارئ بسيل من الاحتمالات، وهذا الأمر يدفع القارئ إلى العيش داخل النص، والقيام بجولات مستمرة لتصيد موضوعية المعنى الغائبة.
2-نقد التمركز:‏ Critique of centrait‏ : ويُبين هذا المعطى أن التفكيكية لها إمكانية كبيرة في فحص منظومة الخطاب الفلسفي الغربيّ عبر قرونه الممتدة زمنياً، والمكتسبة لخصوصية معينة في كلّ لحظةٍ من لحظاتها، بوصفها المراحل المتعاقبة للبناء التدريجي للفكر الأوربي الحديث، ويكشف هذا المعطى في الوقت نفسه عن التأمل الفلسفي المتعالي، ويعمل على تعريته، وتمزيق أقنعته بوصفها رواسب حجبت صورة الحقيقة.
3-نظرية اللعب: وتهدف هذه النظرية إلى تمجيد التفكيكية لصيغة (اللعّب الحرّ) اللامتناهي لكتابة ليست منقطعة تماماً عن الإكراهات المغيّبة للحقيقة، وتأكيد المعطى الثقافي للفكر والإدراك، وغياب المعرفة السطحية المباشرة، واستلهام أفق واسع من المرجعيات الفكرية المماثلة، والفلسفية المعقدة، والنظم المخبوءة، وطرائق التحليل الخاصة .
4-علم الكتابة : يعدّ هذا المنهج نقداً لثنائية سيسير (الدال والمدلول)، ورؤيته لدور العلامة وفاعليتها في بناء النص، فالدال عند سيسير هو تشكّل سمعي وبصري، وصورة لحمل الصوت، وقد عدّ دريدا ذلك تمركزاً حول الصوت، وصورة واهمة لحمل المعنى، وقد اقترح دريدا استبدال (العلامة) بمفهوم الأثر (Trace) بوصفه الحامل لسمات الكتابة، ولنشاط الدال، وقد تحولت اللغة وفقاً لذلك من نظام للعلامات ـ كما هي عند سيسير ـ إلى نظام للآثار ـ كما هي عند دريدا ـ وتعين تلك الآثار على ترسيخ مفهوم الكتابة، وتوسيع اختلافات المعنى المُتحصل من نشاط دوالها، لذلك عدّ دريدا علم الكتابة "بأنّه علم للاختلافات"
5-الحضور والغياب: من أهم المرتكزات التي اعتمدها ديريدا لأنّ جميع إجراءات العملية النقدية للتفكيك تخضع لحضور الدوال وتغييب المدلول، فضلاً عن أنّ معطيات (الاختلاف، ونقد التمركز، ونظرية اللعب، والكتابة) تبرز فيها بشكل مباشر ثنائية الحضور والغياب، وقد انطلق دريدا من خلال هذه الثنائية ـ إلى جانب المعطيات السابقة ـ لنقد توجه الخطاب الفلسفيّ الغربيّ، وتقويض أُسسهِ من خلال كشف تناقضاته واللّعب بأنظمته وممارساته، وتحويل معادلته المعرفية من (ميتافيزيقيا الحضور) إلى غياب المعنى واختلافه وتعدده.

تابع القراءة→

جاك دريدا ، ونظرية التفكيك / س . رافيندران ترجمة : خالدة حامد

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, يوليو 18, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية


يعد التفكيك deconstruction أهم حركة ما بعد بنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً . وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة . فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد ( مثل ج. هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ) هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم ، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون في خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم على التفكيك الذي يعدونه سخيفاً وشريراً ومدمراً . ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد .

فهل أن التفكيك مدمر حقاً ؟ إذا كان الجواب نعم ، كيف يكون ذلك ولماذا ؟ وإذا كان الجواب لا ، فلماذا هذا الرعب ؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد فهم مفاهيم التفكيك الأساسية وتقويمها ، ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا هو كتاب " في علم الكتابة " (2) Grammatology Of الذي يعد لسان التفكيك … العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا ، الفيلسوف والناقد الفرنسي .

وأنا أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان ، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه ، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations محتملة ، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا . وسأعمد إلى توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بوصف وتقويم مفاهيم التفكيك . 

يؤكد م. هـ. ابرامز M. H. Abrams أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو : " 1ـ أنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة ، النص المكتوب أو المطبوع ، 2ـ أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية " (3) . ولم يعمد أبرامز إلى تبسيط مكانة دريدا بوصفه تفكيكياً من خلال مساواته مع البنيويين الفرنسيين الآخرين حسب ، بل إنه شوهه إلى حد كبير حينما حاول تعريف بعض الكلمات الأساسية في النقد التفكيكي مثل " الكتابة " ecriture و " النص" text . وقد بين أن الكتابة عند دريدا هي النص المطبوع أو المكتوب وأن مفهوم النص محدد على نحو غير اعتيادي .

وسأبرهن في معرض تقييمي لدريدا وتعليقي عليه أن ما جاء به أبرامز لا يتعدى كونه حفنة من سوء التأويلات التي لم يحدثنا فيها عن ماهية التفكيك بل عن أمور لا تمت إلى التفكيك بصلة .

أما نيوتن غارفر Newton Garvar فهو معلق آخر على دريدا ، إذ يؤكد أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة ، وأنه يشدد على أسبقية البلاغة على المنطق :

ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات utterances في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى ، والذي بسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية (4) .

وقد حظيت المحاجة التي تقول أن التفكيك حقل معرفي بلاغي ، بدعم هيليس ميلر الذي يقول : " إن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر ، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً " (5) . ويعتقد موراي كريغر Murray Krieger أن دريدا " بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها ، وربما يكون قد أبطلها أيضاً " وأضاف إن الهجوم الذي شنه دريدا يعد " شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير" (6) . ويؤكد فريدريك جيمسون Fredric Jemson أن فكر دريدا ينفي وهم تخطي الميتافيزيقيا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف (7) .

ومن الممكن أن تكون هذه التعليقات مصدر تضليل إذا عددناها بياناً أو تقويماً سليماً لنظرية دريدا ، على الرغم من فائدتها في سيرورة البحث في التفكيك ، فنحن حينما نعد دريدا مع بقية فلاسفة اللغة الذين يعتقدون أن المنطق مستنبط من البلاغة ، فإن هذا يعني سد الطريق أمام إمكان إدراك حداثة أفكاره ، كما إن مساواة دريدا بأفلاطون والتأكيد أن دريدا يكرر النزاع القديم مع الأسطورة myth يمثل إساءة لمكانة دريدا ، والتأكيد على أن دريدا لم يفعل شيئا سوى نقل الاهتمام من " الكلام " إلى "الكتابة " وبذا فإن حصر النص في حجيرة خاصة ، لهو سوء تأويل حقاً . إذ ينبغي للمرء أن يكون حذراً عند مقاربة المصادر الثانوية الرامية إلى فهم دريدا والتفكيك . وقد انقسم النقاد على فريقين … فهم أما يخفقون في فهم دريدا أو يسيئون تأويل أفكاره ، ولهذا السبب لا يمكن الاعتداد بالمادة الثانوية ، ولا يمكن أن نعدها طرقاً سالكة توصل إلى عالم التفكيك ، لكن مع ذلك يوجد نقاد آخرون أمثال هارولد بلوم Harold Bloom وهيليس ميلر وبول دي مان Paul DeMan وجيفري هارتمن Jeoffrey Hartman الذين هم بقدر أصالة دريدا ، إلا أن كل واحد منهم يشكل مدرسة تقريباً ونادراً ما يفسر دريدا … المعلم العظيم الأول للتفكيك . ويعد فهم دريدا الخطوة الأولى على طريق فهم التفكيك ، ومما لا شك فيه أن الخطوة الأولى تستدعي مماحكة أفكار دريدا .

يمكن القول إن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وإن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تستعصي على التعريف . وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك … وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا ، وسأنوي بعد وصف المصطلحات وتحليلها التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال الذي يخص الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي ، وسأبين في المراحل النهائية من تحليلي إن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وإن للتفكيك مضامين روحية .

ومن الجدير بالذكر أن " الكتابة " و " الكلام " كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا . وتتمتع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة ، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وإن الكلمة المنطوقة " صوت" phone كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي . كما تُعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصورة الصوتية . وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم ، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر . ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال . ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئا أشبه بالثالوث في هذه العلاقة : الذهن الإنساني ، الدال (الصورة الصوتية ) ، المدلول (المفهوم) .

والآن ، ما المكانة التي تحتلها الكلمة المكتوبة في الفهم التقليدي للغة ؟ انطلاقاً من المفهوم التقليدي للغة تعرّف الكلمة المكتوبة بأنها التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة : وبهذا الصدد فإنها دال الكلمة المنطوقة … وهكذا فإن " الكلمة المكتوبة هي دال الدال وتعد ثانوية بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة " ولا يمكن أن تقوم الكلمة المكتوبة بأي شيء عدا تمثيل الكلمة المنطوقة في حين أن الكلمة المنطوقة هي الدال . فإذا أردت أنا استحضار مفهوم " زهرة " ينبغي لي عندئذ أن أنطق صوت " زهرة " (زَهْرَ ة) ، والدال هو هذه الصورة الصوتية أو الصورة السمعية . لكني حينما أكتب كلمة " زهرة " فما عليّ سوى تمثيل الصورة الصوتية من خلال بنية كتابية graphic structure . ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية بأية صلة بالمفهوم ، بل أن الصورة الكتابية لا تستطيع تمثيل المفهوم لأنها بنية مرئية للصورة الصوتية غير المرئية حسب ، أنها شيء أشبه بالطيف . وهي ثانوية بالنسبة إلى الصورة الصوتية ومن الممكن إهمالها ، بل لا بد من إهمالها .

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الحجج التقليدية التي نسبت مكانة ثانوية إلى الكلمة المكتوبة ومكانة رئيسة للكلمة المنطوقة هي حجج ميتافيزيقية ولاهوتية (  . وكتب دريدا في تعليقه على الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه مفهوم الكلمة المنطوقة قائلاً :

…. إن فهم الله هو الاسم الآخر للوغوس logos بوصفه حضوراً ذاتياً . ومن الممكن أن يكون غير متناه وحاضرٍ ذاتياً ، كما يمكن توليده من خلال الصوت بوصفه صفة ذاتية . إنه ترتيب الدال الذي يمكن للذات من خلاله أن تستعير من خارج ذاتها الدال الذي تبعثه وتؤثر فيه في الوقت نفسه . وكذا الحال مع تجربة الصوت ، إذ تحيا هذه التجربة وتعلن عن نفسها بوصفها إقصاءً للكتابة ، بمعنى آخر إقصاءً للدال " الخارجي " ، " المحسوس " ، " المكاني " الذي يعيق الحضور الذاتي (9) .

ويؤكد دريدا أن مفهومي الكلام والكتابة التقليديين " يحيلان إلى خارج المعنى" (10) logocentric ، وهذا مصطلح مهم آخر يستعمله دريدا ليعني به ما هو متجه ميتافيزيقياً أو ما هو متجه لاهوتياً (11) . ولكي أكون أكثر دقة أود أن أوضح أن مفهومي الكلام والكتابة قد شكلتهما واشترطتهما وتحكمت بهما الميتافيزيقا . والحق إن هذا " التمركز حول اللوغوس " هو " تمركز حول الصوت " phonocentrism .. ذلك الاعتقاد الذي يرى أن الصوت يقارب الواقع المتعالي (12) transcendental . ونجد في نظرية دريدا أن التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت هما مصطلحان مختلفان يمثلان ظاهرة واحدة : النشوء الميتافيزيقي metaphysical genesis لمفهوم الكلام والفهم . ويركز التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت على الصوت لأن هذين المفهومين يتولدان من الاعتقاد القائل أن الصوت يتوسط بين العقل الإنساني والواقع المتعالي . ويمكن القول أن هذه الحجة مقاربة للمفهوم الهندي لسلطة الـ mantras . الذي يمكن تعريفه " بأنه صوت أو سلسلة من الأصوات . ونحن نعتقد أن للصوت سلطة لأننا نرى أن بإمكانه إثارة السلطة المتعالية ؛ إذ تعزى الأهمية إلى نبرة الكلمات التي ننطقها … فكيف يمكن لصوت كلمة معينة نطلق عليها اسم " mantra" أن يكون متمتعاً بالسلطة ؟ إنه يتمتع بهذه الميزة لأننا نرى أن الصوت يعمل وسيطا بين اللوغوس والسلطة المتعالية . وأنا لا أسعى هنا إلى تأكيد أن المفهوم الغربي التقليدي الخاص بالتمركز حول اللوغوس ، التمركز حول الصوت هو المفهوم نفسه الخاص بـ mantra لكني أؤكد وجود أوجه تشابه . 

ونلاحظ في التفكيك أن ثمة عنصراً آخر هو " التمركز حول الكتابة " graphocentrism ، وهو مصطلح مهم بحاجة إلى التفسير قبل الدخول في صلب نظرية دريدا . ومن الممكن أن نبدأ القول بأن الكتابة writing كتابية graphic ، وأن الجرافيم grapheme هو حرف في الأبجدية أو أنه مجموع الحروف أو المجموعات الحرفية التي من الممكن أن تشير إلى الفونيم phoneme ( الذي يمكن تعريفه بأنه أصغر وحدة كلام تميز ملفوظا ما أو كلمة ما من ملفوظ آخر أو كلمة أخرى في اللغة) . وإذا علمنا أن الكتابة كتابية لذا يمكن القول أن الجرافيم ، تبعاً إلى ما يذكره المفهوم التقليدي ، دال صرف يقصد به أن وحدة الكتابة ليس لها أية صلة عدا كونها تمثل الصورة الصوتية . ولهذا السبب يمكن القول أن المقصود بالتمركز حول الكتابة هو انتقال الأهمية من الكلام إلى الكتابة ، وهو يمثل قلباً للمفهوم التقليدي القائل بأولوية الكلام أو الكلمة المنطوقة على الكتابة أو الكلمة المكتوبة .

وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول اللوغوس إلى التمركز حول الكتابة (13) ، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولا بد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير ، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس . فإذا كان بالإمكان مقارنة الكتابة والكلام والمفهوم الذي يمثلونه بالجسد والروح والواقع المتعالي فعندئذ يكون التركيز على الكلام هو التركيز على الروح ( والتركيز على الكلام هو التركيز على التمركز حول الصوت والتمركز حول اللوغوس) . أما التركيز على الكتابة فهو التركيز على الجسد ( والتركيز على الكتابة هو التمركز حول الكتابة). فإذا كان التفكيك تمركزاً حول الكتابة ، وإذا كان التمركز حول الكتابة يعني التركيز على الكتابة فعندئذ يمكن تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط ، وإنه تحد لما هو أخلاقي ، إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب … فهل من المقنع أن نقول أن التفكيك عدمي nihilistic؟ يمكن القول أن هذه التوكيدات كلها صحيحة ، والجواب عن الأسئلة أعلاه هو " نعم " عن كل ما يقوله دريدا ، وكل ما يقصده التفكيك . سأعود لهذه المشكلة بعد دراسة مصطلحات دريدا التي تعمل بصفة أدوات تفكيكية .

فبعد أن عرض دريدا الأساس الميتافيزيقي واللاهوتي لمفهومي الكلام والكتابة ، شرع في فحص مسألة الوصف اللساني للغة والمفاهيم التي يحاول الوصف بناءها . والحق أن دريدا يأتي كرد فعل على نظرية سوسير التي تقول إن العلامة sign اللسانية هي وحدة الدال والمدلول . وتزعم اللسانيات الحديثة ، التي ترتكز على مفهوم الدال والمدلول ، والبنيوية ، التي تدين لذلك المفهوم ، أنهما جعلتا من دراسة اللغة وفعل النقد حقلين معرفيين علميين ، وقد بين دريدا أن هذا الزعم هو خداع حسب لأن مفهوم الدال والمدلول في اللغة الذي جاءنا من اللسانيات هو صورة أخرى لمفهوم الكلام والكتابة التقليدي . وقد لاحظ دريدا في أثناء عرضه للعلاقة المتبادلة بين الميتافيزيقا واللاهوت ، ما يأتي :

دائماً ما يوحي مفهوم العلامة داخل ذاته بالفرق بين الدال والمدلول … حتى إن تم تمييزهما بأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولهذا السبب يبقى هذا المفهوم ضمن تراث مفهوم التمركز حول اللوغوس الذي هو في حقيقته تمركزاً حول الصوت : التقارب المطلق بين الصوت واللصوت والكينونة being ، وللصوت ومعنى الكينونة ومثالية المعنى . ( OG, p. 112 )

ولهذا السبب فإن نسق اللغة الذي يقال أن اللسانيات جعلته علمياً وأن البنيوية استعارته بحماس بوصفه نموذجاً للنقد ، هو في حقيقته النسق القديم نفسه ، أي نسق " التمركز حول اللوغوس – التمركز حول الصوت " الذي هو نتاج الميتافيزيقا .

ومن الواضح أن دريدا حشر الميتافيزيقا واللسانيات في خانة واحدة وهذا يعني أن الميتافيزيقا فسحت المجال أمام اللساني ليتصور ظاهرة اللغة في ضوء القطبية الثنائية ، بمعنى أن المفاهيم الميتافيزيقية ـ مفهوم الواقعي والمثالي ، مفهوم الجسد والروح ، مفهوم الخير والشر ـ قد فسحت المجال أمام اللساني ومكنته من تصور اللغة في ضوء قطبية ثنائية مشابهة . وتعد الحجة اللسانية ، التي تقول أن الصورة السمعية تستحضر المفهوم ( أي أن الدال يستحضر المدلول) ، تركيزاً على أولوية الكلمة المنطوقة على الكلمة المكتوبة ، وبهذا الصدد فإن اللسانيات البنيوية هي صورة معدلة عن الإهمال التقليدي للكتابة ، ذلك الإهمال الذي نتج عن النفور الفلسفي والميتافيزيقي من الطابع الخارجي والمرئي والمجسد للكلمة المكتوبة ، ويتضح من ذلك أن خلف مفهوم اللغة التقليدي ، وخلف مفهوم العلامة اللسانية عند سوسير كمنت ميتافيزيقا على شكل قوة اشتراطية قوية .

وقد أطلق دريدا تسمية " المفهوم المبتذل للكتابة " على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة ، وعدّه مفهوماً ثانوياً ، أي شيئاً ليس له وجود إلا لغرض تمثيل الصوت الذي تجسده الكتابة . ويضيف قائلاً أن الاعتقاد الذي ساد في التراث الغربي بصدد الكتابة هو أنها "الحرف " و " النقش المرئي " و " الجسد والمادة " الخارجية بالنسبة إلى اللوغوس . وهذا هو المفهوم المبتذل تحديداً . وقد نبذ دريدا هذا المفهوم المبتذل الذي كان يوجه فهمنا للغة ، على الرغم من أننا لم نكن واعين به تماماً ، مثلما وجه أداءنا في ميدان النقد الأدبي من خلال دفعنا إلى الاعتقاد بأن كل شيء يستنبط المعنى ويعطيه فقط حينما يرتبط بفكرة ما ، والتي ينبغي أن ترتبط ، بالمقابل ، بفكرة أخرى وهكذا دواليك بحيث أن هذه الأفكار كلها ستتجمع في فكرتنا عن الكينونة المتعالية ، ولهذا السبب أصبحت فكرتنا عن الكينونة المتعالية تعمل بمثابة فكرة تتحكم في أفكارنا عن اللغة ، وأفكارنا في النقد … وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها… ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى ، وستتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية. ومن الجدير بالإشارة أن جميع شذرات الأفكار التي يمكن نسجها في نسق واحد ، يجمعها مركز واحد تمثله فكرتنا عن الكينونة المتعالية وإن احتمالية النسق توحي بوجود المجموع . ويمكن تعريف المبدأ الجمعي بأنه فكرة الكينونة التي هي إبداع الميتافيزيقيا . وقد تمثلت محاولة دريدا بتحرير فهمنا للغة وفعل النقد من هذا التأثير الجمعي الذي مارسته الميتافيزيقا ، وتوصل إلى عملية التحرير هذه من خلال صياغته لمصطلحين جديدين من الممكن أن يبطلا مفهوم اللغة القديم وطريقة النقد القديمة . إلا أن أذهاننا خضعت لاشتراطات الفهم التقليدي للغة سواء كنا واعين بذلك الفهم أم لا . فنحن حينما نزعم إننا صغنا أفكاراً جديدة فإننا لم نفعل في حقيقة الأمر سوى تحويل الأفكار القديمة . فعلى سبيل المثال إن المصطلحات اللسانية التي جاء بها سوسير ـ التي يقال أنها أحدثت ثورة في فهمنا للغة ـ هي نتاج آخر للميتافيزيقا ؛ فنحن نكرر أنفسنا حينما نقول إن نسق اللغة الجديد علمي . والحق أن بالإمكان أن تتولد أفكار جديدة حينما تكون أذهاننا محايدة . وإن القصد من وراء عرض دريدا للأساس الميتافيزيقي للغة والنقد هو دفع أذهاننا إلى الحيادية لأننا ندرك تماماً أن ظاهرة طبيعية تماماً مثال اللغة تخفي في داخلها بذور الميتافيزيقا ، بل حتى التفسير العلمي للغة الذي قدمه سوسير هو في الحقيقة ضحية الميتافيزيقا . وقد شرع دريدا ، بعد عرض الأساس الميتافيزيقي الذي تقف عليه اللغة ، في صياغة مصطلحاته الخاصة التي بإمكانها توليد فهم جديد للغة .. وتشكل هاتان الخطوتان بنية التفكيك . وسأبدأ الآن بوصف المصطلحات التفكيكية وتقويمها . 

لقد استند مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا إلى ثلاث كلمات معقدة جداً ، هي : الاختلاف difference والأثر trace والكتابة الأصلية [الأولى] (14) arche - writing. وسأعمل على تفسير كل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاث بأوسع قدر ممكن تسمح به محددات هذا المشروع ، وسأبين الكيفية التي تؤدي بها هذه المصطلحات إلى فعل التفكيك. فالاختلاف يشير إلى فعلينactions : 1 ـ أن يختلف ، أن لا يكون متشابهاً " differ " 2ـ أن يرجئ ويؤجل (15) (11) " defer" . وينبغي الانتباه إلى إن الأول مكاني spatial والثاني زماني temporal . ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة : أي الاختلاف والتأجيل ، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل ، وليس من خلال الدال والمدلول ، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى ، وشيء غير موجود في العلامة على الإطلاق . ويمكن توضيح ما ذكرناه بالمثال الآتي : فنحن نميز بين كلمتيthree [وتعني ثلاثة] و tree [تعني شجرة](16) في الكلام والكتابة ، فهما مختلفتان تماماً وتكشفان عن هويتهما . ويعد هذا الاختلاف إحدى القوتين الموجودتين في كل علامة . أما القوة الأخرى في العلامة فهي قدرتها على الإرجاء ، أي قابليتها على التأجيل . فعلى سبيل المثال إن كلمة " وردة " في قصيدة ما لا تبدأ بكشف المعنى إلا حينما ندرك أنها ليست تلك الوردة التي نراها في الواقع ، بل أن لها شيئاً آخر ، ذلك الشيء الذي ينبغي اكتشافه . ولهذا السبب فإن العلامة نصفها واف والنصف الآخر غير وافٍ ، وهذه الحقيقة ضرورية لبداية فهمنا إلا إنها غير كافية بسبب نقصها . ومثلما أكد سوسير فإن العلامة هي ليست " الدال + المدلول " بل العلامة هي " الاختلاف + الإرجاء " . ويرى سوسير أن العلامة اتحاد في حين يراها دريدا اختلاف .

وبما إن العلامة غير وافية وناقصة لذلك ينبغي أن تفهم على إنها " تحت الشطب [ المحو] " under erasure وهو مصطلح صاغه دريدا ليشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها . فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة ، فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها . ولهذا السبب تحمل كل علامة هذه الإشارة عليها . فعلى سبيل المثال إن كلمة " مرئي " التي استعملها آنفاً لم تحمل أية إشارة واضحة عليها ، لكنها علامة على الرغم من ذلك . لكن إذا نظرنا اليها من زاوية تفكيكية فإنها ستظهر عندئذ علامة مشطوبة ، على النحو الآتي : " مرئي " . وينبغي ألا نأخذ فكرة تشطيب العلامة على نحو حرفي ، بل على نحو إيحائي فقط . فهذه الشطبة توحي بنقص العلامات وعدم كفايتها ، بل عدم قطعيتها . إذ لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها انها دال لشيء أزلي ، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة ، كما إنها لا تحيل أي شيء متعالٍ .. فالعلامة سياقية contextual ، وهي تخلق سراب المدلول ، وإن جل ما تستطيع القيام به أنها ترسلنا بحثاً عما تحتاج هي إليه وتذكرنا بما هو غير كائن فيها . ولهذا السبب إن العلامة " أثر " ، فهي ليست التمثيل المرئي أو الكتابي المحسوس للصورة الصوتية بل إنها الأثر الذي يصفه دريدا بأنه ليس طبيعياً ، ( أي إنه ليس الإشارة أو العلامة الطبيعية أو المؤشر index بالمعنى الهوسرلي ) ، أكثر من كونه ثقافياً ، وإنه ليس مادياً أكثر من كونه نفسياً ، وإنه ليس بايولوجياً أكثر منه روحياً .

إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها ، ولهذا السبب فإن ما هو موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها ، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها ، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة . وهكذا نقول أن العلامة أثر ، وتحمل في أثرها قوتين هما الاختلاف والإرجاء . لذا صار من الضروري أن يتغير مفهوم الكتابة مع ظهور مصطلحي " الاختلاف " و " الأثر" إذ ما عاد بالإمكان الإبقاء على تعريفها بأنها " الحرف " و " النقش المحسوس " و " الجسد والمادة " الخارجية بالنسبة إلى العقل . وعند محاولة دريدا تعريف الكتابة وضح ذلك قائلاً : "... إنها النقش inscription عموماً ، سواء كان ذلك حرفياً أم غير حرفي حتى وإن كان ما تم توزيعه في الفراغ غريباً عن نظام الصوت..."(OG, p. 9) (17) . وبهذا المعنى يمكن أن نعد التصوير السينمائي والرقص والباليه والموسيقى والنحت جميعها كتابة . وقد لاحظ دريدا عند التوسع بمفهوم الكتابة هذا أن :

قد يتحدث المرء أيضاً عن الكتابة الرياضية ( أي الرياضة عموماً ) أو الكتابة العسكرية أو السياسية في ضوء التقنيات التي تتحكم بهذه المجالات حالياً . وهذا لا يصف نسق الدلالة الذي يرتبط ارتباطا ثانوياً بهذه الأنشطة حسب ، بل يصف أيضاً ماهية هذه الأنشطة ذاتها ومضمونها. ( OG, p. 9
عن مجلة "أفق"

جاك دريدا ونظرية التفكيك (2)

فاللغة بذاتها هي كتابة ضمن ذلك المعنى ( GO, p. 8 ). وقد لاحظ غايتاري سبيفاك Gayatri Spivak أن : " ثمة شيء يحمل في داخله أثر التغير الأزلي ، أي بنية النفس ، بنية العلامة . ويطلق دريدا على هذه البنية اسم " الكتابة" (1  . وقد ذكر سبيفاك الملاحظة الآتية في معرض توضيحه لمفهوم الكتابة : " هكذا نجد أن الكتابة هي اسم البنية التي يسكنها الأثر دائماً . وهذا مفهوم أوسع من المفهوم التجريبي للكتابة الذي يشير إلى نسق دلالة تجريبي على جوهر مادي " (OG, p. xxxix) .

وقد أطلق دريدا تسمية " الكتابة الأصلية " على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق . وتعمل الكتابة الأصلية في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية . والكتابة بمعناها الضيق تعد كتابية graphic تعتمد مفهوم الجرافيم الذي هو في حقيقته دال صرف . أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها ، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي . ويمكن القول أن الشكل الكتابي graphe هو " أثر متمأسس (19) institutionalized " ( GO, p. 46) .

وقد أصبح لتوجه النظرية التفكيكية نحو التمركز حول الكتابة دلالة تضمين واسعة بسبب الأثر المتمأسس ، ولهذا السبب فإن التغيير الذي أحدثه دريدا لم يكن تغييرا بالأهمية التي تمتع بها مفهوم الكلام على مفهوم الكتابة ، قدر تعلق الأمر بالفهم التقليدي لهذه المصطلحات . إذ يوحي التمركز حول الكتابة ، بالمعنى الذي حدده دريدا ، بالتوجه الذي يسلكه الفهم على نحو يدفع الذهن إلى تصور وظيفة الأثر في أنواع التعريف كلها التي تسير الوعي أو الإدراك . فالأثر يبدي عمله في صورة البورتريت (الصورة الشخصية) ، والملصق الجداري (البوستر) واسم العَلَم ، والإيماءة والكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة ، وغيرها . ويمثل التمركز حول الكتابة الإدراك الجديد لوظيفة الأثر . فأنا حينما أتصور صورة شخصية يبدأ ذهني أو إدراكي بالعمل رغبة مني في فهم دلالة هذه الصورة ، وتعد عملية اشتعال الذهن غير مادية . فالذهن يتحرك بحثاً عن شيء بعيد عما موجود في الصورة (بمعنى البحث عن شيء خلّف بصماته الشبحية على الصورة) ، وتلك هي وظيفة الاختلاف . في حين أن البصمة الشبحية هي الأثر . لأن الأثر بذاته غير موجود ( GO, p. 167) . ويمكن تعريف التمركز حول الكتابة بأنه هذا الإدراك الحسي الجديد بأن شيئاً ما ، شيئاً غائباً ، قد ترك بصماته ( بصماته الشبحية ) على الموضوعات التي تخلق حركات معينة في الذهن (وتلك البصمات الشبحية هي الأثر) .ويبدأ الأثر بالعمل من خلال الاختلاف والإرجاء (الاختلاف + الإرجاء = الاخـ" ت " لاف) (20) .

ويتم عرض مفهوم اللغة التقليدي بوصفه أسطورة .. فقد كان ينطوي بداخله على شيء باطني [صوفي] : مثل قرب الصوت من المدلول ، وغيرها . ونلاحظ أن العنصر الباطني هو العنصر الميتافيزيقي ، فقد كانت الميتافيزيقا تسيطر على مفهومنا للغة . وقد صاغ دريدا مصطلحات جديدة وشكل مفاهيم جديدة حتى يتكون فهم للغة متحرر من مفهوم الميتافيزيقا . ولهذا السبب يعد تحرير فهم اللغة من الميتافيزيقا إزالة للغموض والحيرة ، إذ يتم التخلص من العنصر الغامض تماماً . وإن إزالة الغموض هو في حقيقته إزالة للأسطرة (الطابع الأسطوري) أيضاً (21) . ومن الصواب أن نقول أن التفكيك يبدأ بإزالة ما هو باطني وإزالة الأسطرة في الفهم التقليدي للغة.

لقد انطوت دراستنا هذه للتفكيك على ثلاث مراحل ، تمثلت المرحلة الأولى في تسليط الضوء على مفهومي الكلام والكتابة ، واشتملت على مسألتين مركزيتين هما : السبب الذي يكمن وراء الاعتقاد السائد الذي يقول بأسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وما مدى البعد الذي وصلته الميتافيزيقا في تأثيرها . ودرسنا في المرحلة الثانية الزعم اللساني القائل أن اللسانيات الحديثة أضفت طابعاً علمياً على دراسة اللغة وجعلتها حقلاً علمياً . وتمثلت المسألتان المركزيتان اللتان تناولتهما في هذه المرحلة بتأكيد أن المفهوم اللساني للعلامة هو صورة أخرى للمفهوم التقليدي للكلام والكتابة ، وعلى أن اللسانيات الحديثة هي ضحية الميتافيزيقا ، وتتألف المرحلة الثالثة من وصف مصطلحات دريدا وتقويمها : الاختلاف والأثر والكتابة الأصلية . وقد سلطنا الضوء على دلالة مصطلح التمركز حول الكتابة من منظور دريدا .

وبناء على ما سبق ، لقد تغير فهمنا للغة ، فما مصير النقد ؟ يبدأ الجواب عن هذا السؤال بافتراض أن الأدب هو شكل من أشكال الكتابة ، وإن القصيدة أو القصة أو أي عمل أدبي هو بنية آثار.. تلك الآثار التي نعرف أنها بصمات شبحية لا نعرف ماهيتها إلا إننا واثقون من كينونتها ووجودها . أما النقد ، الذي يعرف بالدرجة الأساس بأنه بحث في كلمة ، وسطر ، ونص ، أو أي شيء يحرك الذهن من نقطة إدراك حسي معينة إلى عوالم البحث بمعية دافع قوي للتأويل ، فإنه يبدأ بالشك ، الشك الذي يستند إلى الإقناع . فالناقد يشك في مظهر العلامة (كأن تكون كلمة ، وسطراً ، وقصة وتمثالاً ، صورة وبورتريتاً ، …إلخ ) لأنه يحمل قناعة مؤداها أن ما يظهر له هو ليس كل شيء ، بل هناك شيء آخر ، فنحن لا نكتفي بالأشياء كما هي ، بل نرغب بالبحث فيها والتوغل إلى أبعد من حدودها لاكتشاف أسرارها لأننا نشعر أن ثمة شيئاً مفقوداً أو شيئاً غائباً عما نتصوره نحن وندركه حسياً ، وإن هذا الشعور الأزلي بأن هناك شيئاً مفقوداً أو غائباً هو الكتابة الأصلية . ويعد الأدب واحداً من أنواع التعبير عن الكتابة الأصلية ، بينما يعد الرسم نوعاً آخر ، والموسيقى نوعاً آخر أيضاً ، وتعمل الكتابة الأصلية بصفة آثار في الموضوعات . فالآثار أشبه ما تكون بطبع الأقدام .. فمن هو الذي مشى على الرمال ؟ لقد مشى أحدهم وخلف وراءه آثار أقدامه في كل مكان ، وإن كل تلك البصمات التي تركها خلفه تذكرنا به إلا أنه مفقود وغائب . ويمكن تعريف الكتابة الأصلية بأنها إدراكنا حقيقة أنه مفقود ، وأنه غائب ، والذي يرافقه الشعور بالمعاناة المتولد عن تجربتنا التي نستشف منها عدم القدرة على اكتشاف هذا الغائب على الرغم من صمتنا المطبق أو عنفنا الصارخ ، فكل البصمات التي يخلفها وراءه هي الآثار لأنها هي التي تؤكد حضور هذا الغائب على الرغم من غيابه ، فياله من موقف غريب حقاً ! (وربما كان التشخيص - أي إضفاء الصفات الشخصية على غير العاقل - صيغة من صيغ التبسيط إلا أنه قد يساعد على الفهم ) .

وقد اعتاد النقد التقليدي الظهور مع فكرة ما عبر المواجهة مع العمل الأدبي ، ولهذا السبب يعد نقد القصيدة اكتشافا لمعناها . ولهذا فإن المعنى فكرة أو مفهوماً يمكن أن يلحق بفكرة أخرى أو مفهوماً آخر والاستمرار بهذا الإلحاق حتى تلتحم هذه الأفكار في فكرة الكينونة المتعالية أو الحقيقة المتعالية . لكننا لا نعي حقيقة أن ما نسميه " المعنى" هو في حقيقة الأمر فكرة تتخذ من الميتافيزيقا ملاذاً لها . ولم تنج البنيوية ، التي يقال أنها سيرورة ثورية ، من قبضة الميتافيزيقا ، وإن القول أن البنيوية توحي بالنسق ، يعني أن هناك مركزاً في مكان ما ، وذاك المركز هو المفهوم المركزي الذي من الممكن اكتشافه بوصفه مفهوم الكينونة أو السلطة المتعالية . ويوحي مفهوم النسق أن كل شيء مفهوم على أفضل وجه ، أو أنه قابل للفهم في الأقل ، فحيثما وجد النسق ينعدم الإرباك أو التشويش . وسيؤكد التفكيك أن هذه أوهام حسب إذ كل ما نزعمه بأنه الحقيقة أو الكينونة هي " فبركة " ليس إلا . فهذه الكلمات تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل في بحثنا عن المعنى ، وهذا يعني في مرحلة ما من مراحل تاريخ البحث عن المعنى أن الباحثين أعلنوا ، لسبب أو لآخر ، أنهم وصلوا إلى آخر نقطة ممكنة من بحثهم وأنه لا ينبغي القيام بأي بحث آخر يتجاوز هذه النقطة ، ولغرض حماية ما أسموه " النقطة النهائية " من الإهانة التي يمكن أن تنسبها إليهم البحوث المستقبلية ، عزوا لتلك النقطة نوعاً من القدسية وأسموها الحقيقة truth أو الكينونة being أو أي شيء آخر . وقد عملت نقطة البحث النهائية أو المفهوم المقدس بصفة مركز للنقد بنوعيه التقليدي والبنيوي . لذلك كان ثمة خداع كبير سار على هداه نشاطنا النقدي وفهمنا للغة .

ألا توحي هذه التعليقات بأن كل ما كتب هو محض خيال ؟ أنا أعتقد إن التفكيك يوحي بذلك . وهذا يشمل كتبنا المقدسة أيضاً ! (والحق أن التفكيك لا يعترف بشيء اسمه كتاب ، بل بالنصوص فقط). فماذا عن مفهوم " الرب " إذن ؟ وما مصير المفاهيم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى مثل : المصدر origin والحقيقة والكينونة والواقع المتعالي و ... الخ ؟ إن دريدا لا ينكر وجود الرب بل إنه يتساءل ، على نحو غير مباشر ، عن مفهومنا للرب ومدى صلته ، ولعلنا كنا نستخدم مصطلح " الرب " god للإشارة إلى إله معين كنظام دفاعي لحماية مفهوم المصدر والحقيقة والكينونة وما يشبهها من مصطلحات . فما المصدر الحقيقي أو الحقيقة الحقة اللذان ينبغي البحث فيهما . ربما تكون هذه المفاهيم وراء نطاق فهم الإنسان . فقد يكون عالم الحقيقة ، أو الرب ، عالماً محرماً على الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً بإزائه سوى تخيله ، أو تكوين معنىً واهٍ عنه في أحسن الأحوال . إنه يشعر بغياب الكينونة الأسمى Supreme ولاشك ، وإن هذا الإحساس بالغياب و التوق للحضور هو الكتابة الأصلية ، أما بصمات ذلك الحضور الغائب الذي ندركه في كل مكان فهو الأثر . ومن خلال سعي دريدا إلى عرض الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه فهمنا للغة ، ومحاولة تحرير فهمنا من الميتافيزيقا ، شرع دريدا في إطاحة الأديان عن عروشها في ممالك اللغة . فقد مثلت الأديان حصانات وفرت الحماية للمفاهيم الميتافيزيقية . ومع ذلك ينبغي أن نقر بأن دريدا يوحي ، على نحو غير مباشر ، بأن الرب وراء جميع المفاهيم الإنسانية والمعالجات اللفظية . وينبغي التأكيد عند هذه النقطة تحديداً أن دريدا لا يوحي بأي شيء مهول ، فهو يتبنى منهج البحث الحر في مجال المعرفة ، ويحاول تحرير الذهن من الضغوط والضوابط التي فرضت عليه باسم الرب أو الأديان . ويدفعنا دريدا ، بقوة ، إلى إعادة التفكير بالمصدر أو الحقيقة من خلال عرض الذهن على الحرية الجديدة في البحث ، ولهذا السبب تنطوي جدالات دريدا وحججه على مضامين روحية.

وأخيراً ينبغي لي العودة إلى قضية النقد . فقد كان النقد ، بالمعنى التقليدي ، تطبيقاً لأنموذج يرمي إلى فهم العمل الأدبي ، وربما يكون هذا النموذج فلسفياً أو أخلاقياً أو دينياً أو لسانياً . ومن المحتمل أن الناقد غير واع تماماً بحقيقة أنه يطبق نموذجاً معيناً ، فالذي نطلق عليه أسم " التقويم الذاتي" هو في حقيقته غير ذاتي ، فنحن نلحق ما موجود في العمل الأدبي بشيء ما في سيرورة ذلك الفهم الذي يؤدي إلى التقويم . ومن الممكن أن يكون هذا الـ" شيء ما " هو النسق الأدبي الذي منح الكلمات والأفعال actions والظواهر إمكانية توليد المعنى . فعلى سبيل المثال ، إذا حاولت تفسير قصيدة The Lake Isle of Innisfree ، سأتمكن من ذلك أما من خلال ربط مضمون القصيدة بالمعلومات المتوفرة التي تتعلق بحياة الشاعر … تلك المعلومات التي تخص مزاجه وكآبته وتأملاته في الطبيعة سريعة التغير ، وسرعة زوال الأشياء الجميلة ، ونفوره من المكاسب المادية وعشقه للحياة الحالمة . ثم أبدأ بربط هذه الأفكار الموجودة في القصيدة بهذه الأفكار الخارجية التي تعمل بصفة نسق لربط الأفكار في القصيدة . ولهذا السبب تصبح الأفكار التي تزخر بها القصيدة ذات معنى فقط حينما أشرع أنا بعملية ربط هذه الأفكار بما هو خارج عن القصيدة . وفضلاً عن ذلك فإني قد أبدأ بالبحث في سبب كآبة الشاعر وأسباب عشقه للحياة الحالمة ، وأسباب دفعه إلى كراهية المكاسب المادية . ونلاحظ في هذا النوع من النقد أن التركيز لا يكون على النسق بحد ذاته لأن التركيز على النسق لدراسة النسق ذاته يؤدي بنا إلى البنيوية . فعلى سبيل المثال : ما المغزى الأدبي من ترك الموطن الرئيس والذهاب إلى جزيرة ؟ هل هناك مغزيات أخرى ؟ الجواب : نعم بالتأكيد . ونجد في بعض شخصيات شكسبير الكوميدية مثل مسرحية " كما تحبها " و " حلم ليلة منتصف صيف" أن الشخصيات تغادر المدينة لائذة بالغابات التي يتم فيها حل الصراعات وانتشار الحكمة ، وعلى هذا الغرار هناك عدد من الشخصيات في القصائد والروايات التي تغادر المدن صوب الجزر المعزولة ، ومثال ذلك شخصية " بروسبيرو " في مسرحية " العاصفة " وشخصية " جيليفر " في رواية "رحلات جيليفر " . ولهذا السبب نجد أن رغبة الشاعر ييتس باللجوء إلى جزيرة Innisfree تحاكي رغبة الكتاب السابقين . ونحن نقر بأننا نفهم القصيدة لأننا نألف هذه القناعة ، أي الاقتناع بترك المدينة ومباهجها واللجوء إلى الجزيرة ذات معنى كبير في الشعر ، ذلك لوجود قناعة أدبية أو اتفاق أدبي بأن لهذه الفكرة معنى ما وهكذا نجد أن بإمكان التحليل البنيوي أن يركز على العناصر الأخرى للقصيدة بغية دراسة النسق الشعري . وقد طبقت في المثال الأول ، أي مثال التطبيق غير البنيوي ، نماذج معينة متعارف عليها في الأدب على القصيدة فقط من أجل فهم القصيدة . أما في المثال الثاني ، أي مثال التفسير البنيوي ، فقد استعملت القصيدة وعناصرها لدراسة النسق الشعري أو لدراسة نماذج الأدب المتعارف عليها . وينبغي الإشارة هنا إلى أن التفكيك لا يمثل أي من هاتين الحالتين ، أو نقيضهما .

فالتفكيك لا يمنح الناقد أية نماذج ، ولا يطبق أي أنموذج على النصوص الأدبية ، بل أنه يدمر جميع النماذج الموجودة ولا يقدم أي نموذج ، ولهذا تسبب الكتابة التفكيكية حيرة كبيرة . فعلى العكس من النقد البنيوي لا يؤمن النقد التفكيكي بوجود نسق يمكن فهمه . إذ توحي فكرة النسق بأن الأشياء منتظمة أو من الممكن جعلها كذلك ، إلا أن هذه الفكرة مصدر مواساة حقاً ، ونحن نفضل المواساة على الحيرة . وعلى الرغم من أن المواساة قد تنطوي على خداع لكنها أفضل من معاناة الحيرة . وقد أعلن البنيوي ، بعد أن واجهته مشكلة تعقيد الأدب والأذهان التي تكمن وراء الأعمال الأدبية ، أن التعقيد قابل للتحليل ويمكن فهمه ، ويزعم وجود نسق أدبي بإمكانه تفسير التعقيدات . إنه تأكيد الإرادة التي تجعل البنيوي يزعم هذا الزعم . فالبنيوية هي التوكيد لإرادة الإنسان وقدرتها على حل ما هو معقد ، وعلى العكس من ذلك يبحث التفكيك في إمكانية النسق ، ويتساءل عنها وعن الكيفية التي جاءت بها التقاليد والمواصفات الأدبية إلى الوجود . فالمواجهة القائمة بين الوعي الإنساني ونسق العلامة هي من التعقيد بحيث يصعب فهمها . ولهذا السبب ، يؤكد التفكيك ، تبعاً إلى ما يذكره ديفيد اليسون David Allison ، ضرورة إعادة التفكير بمشكلة اللغة كلها (22) . وربما كان من الضروري وجود حقل معرفي جديد يستعمل أصول الكلمات [التأثيل] etymology وعلم النفس معاً بصفة حقل معرفي واحد لأداء هذه المهمة . ونلاحظ هنا أن التفكيك ينبذ الميتافيزيقا والفلسفة بوصفهما من أنماط الإدراك الخادعة ، كما إن اللسانيات التي كانت تخفي الميتافيزيقا في نماذجها الخاصة باللغة ، لا تلائم التفكيك . وكذلك لا يلجأ التفكيك إلى البنيوية التي ترتكز بقوة على اللسانيات .

قد يبدو التفكيك حقلاً تحكمه قواعد وأنظمة ولغة خاصة يصعب على المبتدئ فهمها ، إلا أن الحقيقة مختلفة . فنحن لدينا قواعد وأنظمة ولغة خاصة في النظريات النقدية التقليدية أكثر مما في التفكيك . فالمبتدئ يواجه مصطلحات تقنية كثيرة مثل شخصية، حبكة ، ثيمة ، صورة ، رمز، شعر غنائي ، سونيتة ، و ... إلخ ، وقد استعملناها مراراً وتكراراً حدّ أنها أصبحت طبيعية بسبب ذلك . وفضلاً عن ذلك ، فإننا إن لم نفهم المصطلحات التي على شاكلة " اختلاف " ، " أثر" ، " كتابة أصيلة " ، ... إلخ ، فإننا لا نتمكن من فهم واستيعاب أي عمل مكتوب ينضوي تحت هذه النظرية إذ من الصعب فهم أي شيء جديد . إلا أن المرء سيفيد من تعلم هذه النظرية كثيراً إذا ما تحمل الجهد أولاً . وتتمثل هذه الفائدة في أننا نتساءل في صلة فهم الإنسان وعالمه والمعرفة . ويلقي التفكيك ضياءً جديداً على عملياتنا الفكرية . ويخبرنا أن سلطة اللغة ليست متأتية من سلطة الأدب ولا من نسق اللغة لأن سلطة اللغة ، شأنها في ذلك شأن سلطة الموسيقى والرسم والنحت والطقوس ... إلخ ، متأتية من حس بدائي أصيل بشيء مفقود وغائب ، وتوجيه إدراك الإنسان بعد ذلك .

الهوامش :

(1) هذه المادة مترجمة عن كتاب ( البنيوية والتفكيك ) تأليف س . رافيندران Structuralism & Deconstruction. By: S. Ravindran. (المترجمة) 

(2) يُعرف جاك دريدا هذا المصطلح في كتابه " في الغراماتولوجيا " [في علم الكتابة] بأنه دراسة للأدب ولحروف الهجاء ولمقاطع الكلمات والقراءة والكتابة " قائلاً إنه يستند في ذلك إلى تعريف ليتريه Littre ، وأنه لم يعثر على هذا المصطلح في هذا القرن إلا في كتاب غيلب Gelb الذي يحمل عنوان " درس في الكتابة : أسس الغراماتولوجيا " A Study of Writing: The Foundations of Grammatology (1952) /د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة / وسيرمز له المؤلف بالرمز OG . (المترجمة)

(3) م . هـ . ابرامز "الملاك التفكيكي" مجلة البحث النقدي 3(1977) ص 428 .

(4) نيوتن غارفر ، تمهيد لكتاب " الصوت والظاهرة " ( إيفانستون : مطبعة جامعة نورثويسترن ، 1973 ) ص xxii . ويوضح غارفر في معرض تعليقه على مكانة المنطق والنظرية في فلسفة اللغة ، قائلاً : " نجد في تاريخ الفلسفة الغربية، ان فلسفة اللغة – وبضمنها الكثير من الميتافيزيقا – قد اعتمدت المنطق أكثر من اعتمادها البلاغة " ( التمهيد صxi ) . لكنه وضح في تعليقه على الحركتين اللتين حدثتا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين ، قائلاً : " لقد كانت الحركة الأولى تعزيزاً لفلسفة اللغة التي تعتمد المنطق إلا ان الحركة اللاحقة كانت تدميراً لذلك التراث ، تدميراً يتحدث عنه دريدا بوصفه ختاماً للميتافيزيقا " ( التمهيد ، ص xii ) .

(5) ج . هيليس ميلر " الناقد مضيفا " مجلة البحث النقد ي 3(1977)ص 41 .

(6) موراي كريغر ، " نظرية النقد " (بلتيمور ولندن : مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1972) ص 220 - 243 .

(7) فريدريك جيمسون ،"سجن اللغة"(برنستون:مطبعة جامعة برنستون ، 1972)ص176 .

(  " لقد اقترن نسق اللغة بالكتابة الأبجدية الصوتية ، ذلك النسق الذي تولدت فيه الميتافيزيقا المتمركزة حول اللوغوس ، التي تحدد معنى الكينونة بأنه الحضور . لقد كان هذا التمركز حول اللوغوس مطوقاً دائماً ومضطهداً لأسباب بعيدة تماماً عن التأمل في أصل الكتابة والمكانة التي تحتلها .... " ( جاك دريدا ، " في علم الكتابة " ترجمة غياتري تشابرافورتي سبيفاك - بلتيمور ولندن : مطبعة جامعة جون هوبكنز ، 1972 ) ص 43 ، وقد كانت الاقتباسات تلحق بالرمز ( OG ) .

(9) لقد أوضح جاك دريدا في تعليقه على الخلفية الميتافيزيقية لمفهوم الدال - المدلول قائلاً : " يعود الاختلاف بين الدال والمدلول إلى الحقبة الأخرى التي شملت تاريخ الميتافيزيقا ، هذا إذا نظرنا إلى الموضوع من منظور ضيق وضمني ، أما إذا ضيقنا المنظور أكثر فسننظر إلى حقبة الخلق والتناهي المسيحية التي تلائم المفاهيم الإغريقية "(OG ،ص 13 ) . 

(10) يستخدم دريدا مصطلح logocentric (التمركز حول اللوغوس )، أحياناً ، بدلاً من مصطلح phonocentric (التمركز حول الصوت ) للإشارة إلى نظم فكرية أو عادات التفكير التي تستند إلى ما يسميه بميتافيزيقا الحضور ـ وهو التعبير الذي وجده عند هيدغر ـ ويعني به الاعتقاد بوجود مركز خارج النص أو خارج اللغة يكفل صحة المعنى دون أن يكون قابلاً للطعن فيه أو البحث في حقيقته( د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة) . أما جابر عصفور فيذكر ( عصر البنيوية / تأليف أديث كيرزويل / ص274 ) أن اللوغوس لفظ يوناني يشير إلى الكلمة التي تعبر عن الفكر الداخلي ، أو الفكر الداخلي نفسه . وحينما يشير دريدا إلى التمركز حول اللوغوس ( الذي يترجمه عصفور إلى " مركزية اللوجوس ") فإنه يبغي تدمير تأثيره الطاغي ، وتدمير مبدأ الأصل الثابت الواحد ، وما يقترن به من مبدأ الغائية أو العلية ، وتأكيد أهمية الكتابة التي لن تغدو تابعاً بل أصلاً . (المترجمة)

(11) من الممكن أن نعرف على التمركز حول اللوغوس بالميتافيزيقا ، لأن كليهما تعبير عن الرغبة بالمدلول . ويجد التمركز حول اللوغوس المعنى كله في العقل اللوغوس ، تلك الكلمة التي تعكس العقل الإلهي .

(12) يمثل التمركز حول الصوت رفضاً للكتابة بوصفها تقنية حسب . وكذلك توكيد تقارب الكلمة المنطوقة من المدلول . فالكلمة المكتوبة لا تفيد إلا بصفة مدلول للكلام.

(13) " تنطلق هذه الحركة مما يسميه هو " النموذج المغلق " المتمركز حول اللوغوس للآراء التقليدية أو الكلاسية للغة (والتي يؤكد أنها تعتمد وهم الكينونة المتعالية الأفلاطونية أو المسيحية أو الحضور الذي يضمن المعاني ) وصولاً إلى ما أسميته أنا " نموذجه المتمركز حول الكتابة " الذي يعد الحضور فيه بمثابة " بصمة على البياض " ( م . هـ . إبرامز ، " (الملاك التفكيكي " ص ، 429 ) .

(14) الكتابة الأولى : التعبير مستقى من فرويد ، وقد استعمله للإشارة إلى اللاوعي عندما لاحظ لعبة للأطفال تتضمن ترك اثر الكتابة على الشمع بعد نزع الورقة . وقد استعمل دريدا هذا المفهوم ، مشيراً إلى فرويد مرات عدة في كتابه " الكتابة والاختلاف " . وهو يقول : " إن الكتابة تعد استكمالاً للإدراك حتى قبل أن يعي الإدراك نفسه . والذاكرة أو الكتابة هي فاتحة عملية وعي الإدراك بذاته . أما " المدرَك " فلا يمكن قراءته إلا في الماضي ، تحت الإدراك وبعده " . (د. محمد عناني / المصطلحات الأدبية الحديثة) . (المترجمة)

(15) يقول موراي كريغر أن مفتاح النقاش حول كلمة difference ( أي الاخـ"ت"لاف) هي اللعب على الكلمة الفرنسية differ التي تعني المعنيين الآتيين : (1) to differ ( أي يختلف ولا يشبه ) (2) to defer ( أي يرجئ أو يؤجل ) اعتمادا على الفرق بين الكيانات الحاضرة المختلفة ( الاختلاف ) والكيانات المتشابهة ، إحداهما حاضرة والأخرى غائبة تفصل بينهما فجوة زمنية (الإرجاء ) . وهناك بعض أوجه الخداع في " differance وهي أن (a) غير مسموعة وإن كانت مرئية ، وإن المصطلح لا تقابله أية كلمة ، وبذا فانه يفيد فقط في المساعدة على تذكر الكلمة التي يتباين عنها ، ولا تكون موجودة بصفة مفهوم لآتها تختلف عن ذاتها.(نظرية النقد،228 –231).

(16) تلفظ الأولي " ثري " وتلفظ الثانية " تري " (المترجمة) .

(17) يوضح دريدا في " الكتابة والاختلاف " قائلاً : " إن الكتابة واحدة من الأشكال التي تمثل الأثر عموماً ، لا الأثر نفسه " ( O G ص 167 ) . " وإن فكرة الأثر هي أنه يمكن أن يخضع لسؤال الماهية الأونطو– ظاهراتي ontophenomenological . فالأثر هو لاشيء ، وهو ليس كياناً ، بل انه يتجاوز السؤال الذي يقول : ما هو ؟ "(O G ص 65 ) .

(1  غياتري سبيفاك ، تمهيد لكتاب " في علم الكتابة " لجاك دريدا (بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز ، 1974 ) ، ص xxxix .

(19) التأسس : مصطلح يشير إلى العملية التي تتحول بها المعايير والقيم وأنماط السلوك إلى أنماط ثابتة . ( عصر البنيوية / تأليف اديث كيرزويل / ترجمة جابر عصفور / دار آفاق عربية للطبع والنشر / 1985 / ص 277 ) . (المترجمة)

(20) ينبغي الالتفات إلى أن دريدا اشتق كلمة اختلاف differance من الجمع بين الاختلاف difference ( بمعنى عدم التشابه ) + deference ( بمعنى الإرجاء وتفيد معنى الأثر ) ، أي انه استبدل الحرف( e ) في كلمة الاختلاف بالحرف ( a ) ويبدو الاختلاف واضحاً في هذه الكلمة إلا أن من الصعوبة توضيحه حين نقله إلى العربية لذلك عمد مترجم "الكتابة والاختلاف " كاظم جهاد إلى وضع حرف التاء بين معكوفتين صغيرتين. (المترجمة)

(21) تعكس ملاحظة ج ، هيليس ميلر عن اللغة موقفاً تفكيكياً : " إن اللغة ، منذ البداية، خيالية ووهمية ومنزاحة عن أية إحالة مباشرة إلى الأشياء كما هي . وينبغي احتجاز الظرف الإنساني في شبكة من الكلمات تتشابك عبر القرون وتزخر بالأساطير والمفاهيم والقياسات الميتافيزيقية ، أي باختصار نسق الميتافيزيقا الغربية بأكمله " ("التراث والاختلاف " ) في مجلة "داياكرتكس " 2 ، 4 ( 1972 ) ، 11 ) .

(22) ديفيد أليسون، مقدمة كتاب " الصوت والظاهرة " ص xxxvii – vii i

تابع القراءة→

الأحد، يوليو 17، 2016

لكي تكون مخرجاً مسرحياً ناجحاً!! / سامي عبد الحميد

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأحد, يوليو 17, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

1 - 2
صحيح ان الإبداع في الفن يحتاج اولاً الى الموهبة، ويقصد بالموهبة هنا الذكاء الحاد والمخيلة القوية ودافع الابتكار . ولكن هذا لا يكفي للفرد لكي يكون مخرجاً مسرحياً مبدعاً، اذ لا بد من توفر شروط الدرَبة والدراية. وتأتي الدرَبة من المشاركة في الاعمال المسرحية كأن يعمل مديراً للمسرح لسنوات او ان يعمل ممثلاً مع مخرج قدير لسنوات. وتأتي الدراية من الثقافة العامة اولاً ومن الثقافة المسرحية ثانياً ، ولا بد للمخرج ان يعرف شيئاً عن العلوم المختلفة سواء كانت صِرفة كالفيزياء والكيمياء او كانت إنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا اضافة الى تمكنه من اللغة وقواعدها لكونه يتعامل مع نص المسرحية وهو صنف من الأدب واللغة.
لكي يكون المخرج المسرحي فناناً عليه اولاً ان يكون عارفاً بتقنيات الإخراج المسرحي وبما يخص عمل الممثل وحركته وما يخص توظيف المناظر والأزياء والإكسسوار والإضاءة المسرحية وكل ما يخص الجانب المسموع من العرض المسرحي والجانب المرئي واستعمال الموسيقى والمؤثرات الصوتية ويتضمن الجانب الحركي وحركة الممثل وحركة المنظر وحركة الإضاءة ويتضن الجانب المرئي جسد الممثل والزي الذي يرتديه والمنظر الذي يحيط به والاضاءة التي تسقط عليه.
ناقش المنظّر الكبير (الكساندر دين) في كتابه الشهير (العناصر الأساسية لإخراج المسرحية) وقسمها بالنسبة للجانب المرئي الى خمسة هي: (1) التكوين، ويقصد به تنظيم وبناء المجموعة مع العناصر المرئية الأخرى. (2) التفسير، ويقصد به تفسير الصورة المسرحية وتعرف معناها. (3) الحركة ويقصد بها حركة العناصر المرئية في الصورة المسرحية : قوتها واتجاهها وطولها وعلاقتها بالجوار وسرعتها ولكل منها دلالته. (4) الإيقاع، ويقصد به انتظام الانطباعات البصرية والسمعية والحركية بتكرار لوحداتها التي بينها فواصل مكانية او زمانية ومفردات مشددة وأخرى مخففة. والايقاع وسيلة لنقل المشاعر وهو ايضاً نتيجة لظهور المشاعر. (5) التعبير الدرامي الصامت، ويقصد به الأفعال التي يقوم بها الانسان من غير ان يصاحبها بالكلمات وتشمل ايضاً التعبير عن ردود الأفعال. 
هناك عدد من العوامل لها تأثيرها في (التكوين) الذي يسمى أحيانا (التركيب) او (التشكيل) وأول تلك العوامل التأكيد ، أي تأخذ مفردة من مفردات التكوين دون غيرها ويحدد ذلك على وفق مبدأ المخالفة والتضاد كان يكون احد افراد المجموعة واقفاً على قدميه بينما ان يكون فوق مرتفع بينما الاخرون تحته او ان يرتدي احدهم لباساً ابيض اللون والاخرون يرتدون ألبسة سوداء اللون.. وهكذا. 
والتتابع هو العامل الثاني من عوامل التكوين ويقصد به علاقة عنصر مرئي بالعنصر الاخر الذي يليه بحيث تتكون سلسلة مترابطة ولها معناها. الاستقرار هو العامل الثالث اذ لا بد ان تستقر الصورة المسرحية للحظات بين الحين والآخر لكي يستطيع المتلقي ان يدرك معناها. التوازن هو العامل الرابع ولا يقصد به التوازن المادي او التماثل بل يقصد به التوازن الجمالي وان تتوازن الكفتين بالقيمة وبالتأثير كان تتوازن كتلة في اسفل يسار المسرح مع اشعة ضوئية قوية تسقط على اسفل يمين المسرح.

------------------------------
المصدر : جريدة المدى 
تابع القراءة→

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9