أخبارنا المسرحية

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الخميس، يونيو 16، 2011

نماذج من المسرح الروسي - المسرح الكوميدي- روسيا تلبس بخيل موليير ثوبها / ابتسام يحيى الأسعد

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, يونيو 16, 2011  | لا يوجد تعليقات



تعد مسرحية (البخيل) للكاتب الفرنسي (موليير) واحدة من قمم التراث الإبداعي للكوميديا الفرنسية، فهي قصيدة المال، كما سماها البعض، وصورة البخل التي جسدها البطل في مسرحية فريدة من نوعها، وهي قصيدة حقيقية للنقود. يصور المؤلف في هذه المسرحية بكل قدرته الساحرة شغف الإنسان الداخلي للثروة، وكيف يحل هذا الشغف مكان الجمال والشباب والشرف والحكمة والعاطفة النبيلة، وهو ما جسدته فكرة المسرحية. كما يكشف في مسرحيته هذه عن الطبيعة البشرية الفاسدة التي ظهرت في المجتمع الفرنسي بذلك العصر، وتحديدا بين طبقة النبلاء. 

يبدو أن اهتمام الروس بهذه المسرحية ينطلق من انه من الممكن إيجاد بطل مسرحية (موليير) في روسيا المعاصرة بشكل فعلي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث ظهرت طبقة في المجتمع من فاحشي الثراء، همهم الوحيد هو جمع المال وتكديسه، مما قادهم إلى التخلي عن كل ما هو إنساني فيهم، وعدم الاكتراث حتى إلى اقرب الناس إليهم، وبالتالي تغيرت بنية المجتمع وعلاقاته، وأصبح يحكمها منطق المال وابتعد بالناس عن المشاعر الإنسانية الحقيقية التي فطروا عليها، وبالتأكيد تأثرت في ذلك الأسر التي تشكل نواة المجتمع وأساسه، وكذلك العلاقات داخل الأسرة نفسها، وهو ما نراه في عرض (البخيل) الذي قدمته فرقة (مسرح الجيش الروسي) من إخراج (بوريس افاناسيفيج موروزوف)، وهو مخرج مخضرم في المسرح الروسي. 

لم يقم المخرج في هذا العمل باختصار النص أو إعداده، لأنه من المخرجين الذين يحرصون على احترام النص الأصلي للمؤلف، وعدم الاعتداء على ما يعتبره مقدسا بإعداده، ولذلك فان الخطة الإخراجية اعتمدت بشكل أساسي على قصدية المؤلف، التي لم يحاول المخرج الروسي أن يعيد قراءتها وإنتاج تأويلات للنص تتعارض وما رمى إليه (موليير)، بل انه استفاد من المفارقات المضحكة التي قام بتصويرها المؤلف في مشاهده، وقام الممثلون بتجسيدها على خشبة المسرح. فقد اعتمد المخرج (موروزوف) على ممثل محترف كبير في تقديم شخصية البخيل (آرباغون)، وهو الممثل المفضل لدى الروس (بوريس بلاتنيكوف)، الذي قدم اداءا متميزا على طول مساحة العرض، وكان لقدراته البدنية العالية أثرا بالغا، على الرغم من تجاوزه السبعين من عمره، فكانت حركات "اليوغا" والأداء الرشيق والتغيّر المبهر في الحالات الشعورية، تفرض نفسها على المتلقي في أن ينسى عمر الممثل، ويتغاضى حتى عن بخله، لأنه استطاع أن يكسب تعاطف الجمهور معه. بلغت ذروة أداء الممثل العملاق (بلاتنيكوف) في مشهد المبارزة الهزلي، الذي بني ساخرا منذ بدايته متصاعدا بروح الكوميديا، عندما يبدأ عملية لف قطعة من الورق بيد البطل ليصنع منه سيفين ورقيين، ليعطي احدهما لابنه، حيث يدعوه للنزال، منتزعا بذلك تصفيق الجمهور وإعجابه. كان حضور البطل بحرفيته العالية وأداءه المتميز أثرا بالغا بكسر حدة طول العرض -3 ساعات- وكان حضوره مهما لإزاحة الرتابة التي اعترت العرض أحيانا، حين يغادر البطل الخشبة، خاصة في الفصل الأول، مما ساهم بهبوط الإيقاع. 

قدم المخرج في هذا العرض شخصية البخيل المثيرة للشفقة، فهي شديدة الحزن مفعمة بالمرارة، حيث أظهر للمشاهد أن البخيل لا يشعر بالسعادة أبدا، لأنه طوال الوقت يفكر في ماله، ويعاني من الخوف الدائم على ضياع أو نقصان هذا المال، على الرغم من ثرائه الفاحش، ولذلك فانه يعيش في تعاسة داخلية لا حدود لها في أعماقه. ونتيجة لهذه المخاوف فهو يفقد حتى القدرة على بناء علاقة طبيعية بابناءه. ويبرز ذلك جليّا في ذروة الصراع الدرامي في هذا العرض، عندما يكتشف الأب حب ابنه للفتاة التي قرر (أرباغون) خطبتها، ويبدأ صراع الأب وابنه على الفوز بالفتاة، غير أن (آرباغون) يستسلم في نهاية المطاف إلى واقع أن محبوبته إنما هي حبيبة ابنه لا حبيبته هو. 

يكثف (موليير) تصوير بخل بطله، وهو ما أظهره المخرج الروسي بطريقة مضحكة، بمشهد يري فيه (آرباغون) يتحدث عن خطة يضعها للتقليل من مصروفات الزواج اولا ولكسب مزيدا من المدخولات ثانيا، فيتقدم بمشروع للزواج من (ماريانا)، وهي فتاة فقيرة، على أن يعطي ابنته إلى (آنسالم)، وهو رجل كبير في السن لكنه غني، في حين يريد تزويج ابنه (كليونت) أرملة من معارفه. وهنا تكمن المفارقة، لأن (فالير)، الشاب الذي يحب ابنته (أليزا) يضطر ان يتظاهر بأنه يوافق (أرباغون)، لكنه في الوقت نفسه يتحين الفرص للهروب مع (إليزا) إذا اقتضت الظروف. 

كشف لنا المخرج (موروزوف) الشبه الكبير بين شخصية البخيل بالمرابي اليهودي في مسرحية (تاجر البندقية) لـ(شسكبير)، وذلك عندما يبحث ابنه (كليونت) عن قرض بـ 15 ألف فرنك، كي يتمكن من الهرب والزواج من حبيبته، فيجد له خادمه مقرضا، وبينما كان (كليونت) متضايقا ومستنكرا لنسبة الفوائد الخيالية والشروط المستحيلة التي وضعها المقرض، يكتشف فجأة أن المقرض لم يكن إلا أباه، فيبدأ بالشجار معه ومعاتبته على حبه لماله الذي يفوق عاطفته لابناءه. 


ومما يحسب للمخرج أيضا، انه حقق في هذه المسرحية نظرة (موليير) للكوميديا، على أن لها وظيفتين أساسيتين ؛ الأولى تتعلق بتسلية الجمهور وإمتاعه، والثانية الوظيفة الاجتماعية، من حيث كونها وسيلة لكشف حقيقة الأوضاع التي يعيشها الناس وانتقادها عبر تقديم مواقف ذات طابع ساخر هزلي لموضاعات جادة ، وهو ما ينطبق وقول (موليير) من أن "دور الملهاة هي إصلاح أخطاء الإنسان من خلال إضحاكه". ولذلك يرى أن الكثير من القضايا الاجتماعية يجب أن تعالج من خلال الأدب الهادف. 

ومع أن المخرج قدم لنا أحداث المسرحية ضمن عرض تقليدي يراعي فيه التكوين الاجتماعي والنفسي للمتلقي الروسي الذي يمكن أن نقول عنه انه جمهور محافظ، فهو يميل إلى العروض الواقعية الكلاسيكية، غير انه حاول الخروج عن تقليدية العرض، من خلال مشاركة الجمهور في العرض المسرحي، عبر توجيهه للممثلين بالتواصل مع المتلقي بواسطة عدم الالتزام بحدود الإطار المسرحي (البروسينيوم) الذي فرضه التصميم الكلاسيكي للخشبة الواسعة (العلبة)، بل قام الممثلون بكسر الجدار الرابع باتجاه الجمهور والحركة بينهم، بل وحتى مخاطبتهم وسؤالهم عن رأيهم فيما يجري من أحداث، وهو ما عزز التواصل بين الممثلين والجمهور، وأعطى دلالة على أن الجمهور كان حاضرا مع المخرج عند وضع خطته الإخراجية، معتبرا ان المتلقي احد العناصر الرئيسية في العرض. وهو مؤشر لتأثره بالأسلوب الملحمي البرختي والرغبة بعدم الاندماج كي يعطي للمتلقي فرصة للتأمل لما يحدث أمامه والمشاركة بوعيه. ويؤكد ذلك ان المخرج لم يفرض علينا على أن البخيل شخصية سيئة، بحيث يستهجن المشاهد سلوك (آرباغون) ويرفضه، بل انه قدمه كشخصية يجب التعاطف معها، لأنه أرانا هذه الشخصية وهي تتألم وتعاني، لكنه في نفس الوقت منح المشاهد فرصة لتأمل البخيل والتدقيق في مسلكه لأخذ العبر. 

ان ما تميز به المخرج حقا كان في سينوغرافيا العرض الذي عزز فكرة المسرحية التي تقوم على ان حب المال ممكن أن يحل مكان غريزة الحب التي فطرت الطبيعة الإنسانية عليها، حيث كان اللعب في فضاء مسرح خال من معمار الكتل والجدران والأثاث، الا من كومة من الجلد تتوسط وسط المسرح، كانت هي البناء والأثاث المادي، فتكون سريرا او اريكه أحيانا أخرى، وكأن المخرج أراد أن يجسد ثيمة البخل والخواء الروحي بشحة مفردات السينوغرافيا، مستعيضا عنها بشغله مع الممثلين في ملأ فضاء العرض، فكانوا يتمددون أو يجلسون أو يقفزون أو يبنون علاقة مع كومة الجلد فقط، وهنا تبينت قصدية المخرج حين اقترب نهاية العرض بمشهد النهاية السعيدة الذي توج باحتفال الزواج، عندها تم رفع أطراف كتلة الجلد إلى أعلى المسرح ليتضح انه ليس إلا كيس يختزن البخيل فيه النقود. أن لهذا التصميم قصدية توحي بدلالة فكرة مبتكرة لدى المخرج، مفادها أن حب المال لدى البخيل هو القضية الجوهرية التي تتفوق على عاطفة الحب الإنساني السامية. وباختصار يمكننا القول أن الضحك الإنساني في هذا العرض، يفصل الإنسان عن ماضيه، ويدعونا لابتسامة مبهجة لمواجهة الحاضر. 

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9