أخبارنا المسرحية

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الأحد، أبريل 24، 2016

محاكمات مسرحية

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأحد, أبريل 24, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

أنيتا سوبولوفا (خبير قانونى)، أولجا شاكينا (قاضية)، ميخائيل كالوزسكى (القاضي المساعد)
عن العرض المسرحي «محاكمات موسكو» للمخرج السويسري “ميلو راو”

محاكمات مسرحية.. المسرح كفعل وإعادة تجسيد


في عام 2013 قدَّم المخرج السويسري “ميلو راو” تجربة مسرحية في غاية الخصوصية، أصبحت فيما بعد تُشكِّل أسلوبًا مسرحيًّا خاصًا به وعلى نطاقٍ دولي. فقد عَقَد “ميلو راو” عرضًا مسرحيًّا على مدار ثلاثة أيام في متحف ساخاروف بموسكو، كإعادة تجسيد لمحاكمات حقيقية جرت في العاصمة الروسية خلال الأعوام 2003 و2006 و2012. لقد أراد المخرج السويسري الشاب حينذاك أن يفتتح أسلوبًا مسرحيا لا يضم ممثلين ولا إخراجًا مسرحيًّا بالمعنى المتعارف ولا حتى خشبة مسرح.. وقد نجح.

كانت موسكو قد عانت مما اعتبره الفنان تعسفًا في التعامل مع الأعمال الفنية على فتراتٍ متباعدة، ففي عام 2003 تعرض المعرض الفني “Caution! Religion” إلى المنع وتمت محاكمة فنانيه، وما لبث أن حلَّ عام 2006 حتى تعرض معرضٌ فنيٌّ آخر بعنوان “Forbidden Art” إلى مصيرٍ مماثلٍ لسابقه، وفي الحالتين صادرت الدولة محتويات المعرض أو تم تدميرها، ثم أُخلي سبيل الفنانين بكفالة بعدها.

أما الحدث الأقرب زمنيا فهو الدقيقة التي قضتها ثلاث نساء شابات في العشرين من أعمارهن (Pussy Riot) في الغناء وعزف الموسيقى داخل كاتدرائية المسيح المخلص بموسكو، وهو ما أدى إلى القبض عليهن ومحاكماتهن وترحيل اثنتين منهن إلى معسكر تأديبي بينما تم إخلاء سبيل واحدة فقط.

تعد تلك الأحداث هي مصادر الإلهام الفني لميلو راو في إبداعه لعرضه الفريد، فهو من ناحية يسعى من خلال المسرح إلى مساندة حرية التعبير الفني، لكنه أيضا يفسح الفضاء المسرحي لآليات المحاكمة التقليدية مما يعتبر استعادة للدور القديم للمسرح كحيز عام للمدنية وللديمقراطية يجوز من خلاله -ولو بشكل مؤقت وافتراضي- إجراء مراجعات موضوعية للآراء المجتمعية المتعارضة حول موضوع حرية التعبير كبديل حيوي لنتائج المحاكمات الأصلية.

آنا ستافيتسكايا (محامى الدفاع) مع ليونيد بازهانوف


هكذا استلهم المخرج الموضوع والشكل الفني من الحدث الحقيقي الأصلي، فكسر مواضعات مسرحية في خطوة واحدة وثبّت قدميه في مجال المسرح كفعل وكإعادة تجسيد، وليس المسرح كتخييل وكسرد خيالي. لقد استبدل “ميلو راو” الخشبة المسرحية بفضاء المحاكمة وبالتقسيم المتعارف عليه لمواقع القضاة والمحلفين والمحامي المدافع والمدعي بالحق العام، كما استبدل الفكرة التقليدية للممثلين بأشخاص حقيقيين يظهرون في شخصياتهم وأدوارهم الحقيقية كي يعرضوا وجهات نظرهم الحقيقية بتلقائية وبدون سيناريو مسبق، غير أن الجميع يشارك على منوال نسق وترتيب المحاكمة التقليدية.

هناك قضاة حقيقيون ومحامون ومحلفون، ويظهر الجميع في مِهَنهم الأصلية ويُدلون بمنظورهم حيال القضية. هناك اتهام حقيقي، ويدافع المتهمون عن أنفسهم كما يدافع عنهم محامون محترفون، هناك أيضا شهود، وفي النهاية يصدر قرار المحكمة. أما الفارق الوحيد بين هذه الحالة والمحاكمة القضائية الحقيقية فهو أن الحكم في حالتنا لا يستتبع أية مترتبات قانونية في الواقع. هكذا يتخلق توتر رائع لاسيما عندما يحمل كل متفرج وجهة نظره الخاصة إزاء القضية محل النظر.

            ياكترينا ساموتسيفيتش (Pussy Riot)


لقد ضحى “ميلو راو” بسيطرته كمخرج، بل ضحى بمجرد معرفته بالمسار الذي سوف يؤول إليه الفعل المسرحي، فالأحداث طازجة طزاجة لحظة إنتاجها أمام جمهور المحاكمة-العرض ولا أحد يعرف ما سوف يدلي به الآخر سلفًا ولا حتى ما سوف يقرره المحلفون في نهاية الرحلة. وقد كانت هذه الشجاعة النادرة للمخرج في التخلي عن سلطته التقليدية هي المفتاح الأول الذي طور هذه التجربة من مجرد إعادة التجسيد -فهناك أنواع في إعادة التجسيد تكون مصممة للوصول إلى نهاية محددة ولو كانت مساراتها منفتحة نسبيا- إلى المغامرة التي يضطلع فيها المشاركون بقيادة الدفة دون أي تدخل من المخرج.

نستطيع أن نقول إن “ميلو راو” قد أعاد إلى التجربة المسرحية بدائيتها وخلصها من تاريخ مسرحي كامل قائم على مواضعات تخييلية وإيهامية. ففي «محاكمات موسكو» يظهر كل فرد بشخصيته الحقيقية وباسمه الحقيقي ومهنته الحقيقية، إنه يتبنى المساحة الديمقراطية التى يمنحها له العرض المسرحي لكي يمارس حقه في المواطنة وإبداء الرأي وقيادة مجتمعه دون سلطة مباشرة من الدولة ودون رقابة قمعية. وبالطبع يعود الفضل في ذلك إلى كون المسرح فضاء فنيا بالدرجة الأولى، مما يمحي لدى المشاركين أي إحساس بالوقع الممتد لما يمارسونه، فجميعهم يعرفون أنها “فرضية” وذات طابع زمني مؤقت بحكم طبيعة العملية المسرحية. وربما لذلك كان جميع المشاركون محترمين لضوابط المشاركة، ولوجود قاضية حقيقية أدت دورها كقاضية افتراضية في «المحاكمات المسرحية».

ياكترينا ساموتسيفيتش (Pussy Riot) في الاستجواب. على منصة القاضي: أنيتا سوبولوفا، أولجا شاكينا، ميخائيل كالوزسكى


لقد اختار المخرج سبعة محلفين من مختلف الأطياف الفكرية بالمجتمع الروسي، وكان ذلك رهانًا على قدرة العرض على استشعار نبض المجتمع -خلافا لحكم القضاء- من خلال قرار المحلفين في النهاية. وجرت المحاكمة بدرجة عالية من الحرفية، فهناك شهود من الشخصيات العامة بالمجتمع ومن الفنانين أنفسهم، وهناك عرض منضبط للوقائع التى تجرى بسببها المحاكمة، لكننا نشهد كذلك سردًا لما أستصدره القضاء من أحكام حيال تلك القضايا، مما يتم طرحه للنقاش أيضا كجزء من المراجعة فكأننا في مرحلة الاستئناف.

تمت المحاكمات الافتراضية -التي أجراها “ميلو راو” في شكل مسرحي- على مدار ثلاثة أيام: 1-2-3 مارس من عام 2013. أي بعد قرابة عام من آخر أحداث وقعت في صيف عام 2012. كانت مهمته تجميع المشاركين مما يعد -في حالته هذه تحديدا- مهمة إخراجية بالدرجة الأولى حيث سوف يحدد هذا الخليط من المشاركين لاحقا أحداث “العرض”. أجرى المخرج كذلك حواراتٍ مع جميع من وقع عليهم الاختيار، وكان واضحًا للجميع أنها فرصة جديدة وجدية لإجراء حوار مجتمعي من خلال المنصة المسرحية، ومع ذلك فالجميع أحرار في ردود أفعالهم طالما أنهم يعلمون الهدف الأصلي من المغامرة وأنها بلا مترتبات واقعية.

قام “ميلو راو” بتصوير فيلم توثيقي عن التجربة على مدار الأيام الثلاثة التي استغرقها العرض، بالإضافة إلى بعض الحوارات الجانبية من الشخصيات العامة المشاركة فيه، وجزء من تلك الحوارات الخارجة عن العرض تعتبر مصممة مُسبقًا.

على مدار تلك الأيام الثلاثة تحول متحف ساخاروف إلى ساحة مسرحية للديمقراطية، حضر الجمهور يوميا لمتابعة تلك المحاكمة الإفتراضية ولمراجعة علاقة السلطة بالفن وبالإبداع. لقد اتضح تدريجيا حجم المعسكر الذي يدعم الدولة في مصادرتها للفن، وظهرت دعاوى واضحة من المشاركين لتحريم وتجريم الفن وحرية التعبير لو لم يتوافقوا مع معتقدات أغلبية المجتمع. ومع ذلك فشل هؤلاء في إثبات ما هي معتقدات أغلبية المجتمع، وكيف تتهدد بمجرد معرض فني بسيط للغاية وعدد زواره محدود في النهاية. ظهر ذلك الصراع بوصفه بالأساس صراعًا على مدنية الدولة ومعنى المواطنة، فالمصادرة التي قامت بها الدولة هي في الحقيقة مدعومة من تيارات مجتمعية متشددة للغاية ورافضة للمساواة في حقوق التعبير والحقوق الثقافية.

ظهر المخرج السويسري الزائر والمغامر أحيانًا كفنان مبدع وجريء، وأحيانا كدخيل على مشكلات المجتمع الروسي بل ومحفز لفقدان الهوية والتشبه بالغرب بالنسبة لهؤلاء الذين رفضوا مفهوم حرية التعبير من الأساس. ظهر التزمت الثقافي والتشكك في الغرباء كوجهين لعملة واحدة قائمة على حماية الذات من خطر مجهول قادم من ذلك الذي لا نعرفه. اقتحمت الشرطة الروسية قاعة المحاكمة-العرض ذات ليلة ودفعت إلى توقيف “المحاكمة” وتم منح الجمهور راحة مؤقتة حتى الانتهاء من إجراءات الشرطة للتأكد من تصاريح العرض بالمتحف وتأشيرة وأوراق المخرج نفسه.

لقد منحت الشرطة هكذا للعرض “لحظة خرافية” لم يكن لأي مخرج أن يتخيلها أو حتى أن يصممها بهذا الإقناع وبهذا التوقيت. لقد ربطت الشرطة بتدخلها بين الواقع الخارجي ودور الدولة وبين الواقع الافتراضي و«المحاكمة المسرحية».

أدت هذه اللحظة إلى اشتباك العالمين مما أنتج ذروة مصغرة للفعل المسرحي خارج نطاق المحاكمة الافتراضية. وقد أثَّرت تلك الذروة المصغرة على تصعيد النقاش والتفاوض عند العودة إلى الفعل المسرحي، وكذلك إلى الشعور بوقع العملية الافتراضية المسرحية على الواقع الخارجي، وهو ما لم يكن في الحسبان.

بدا الفعل المسرحي ذا قدرة فائقة على التأثير على الواقع ولو في شكل استدعاء الشرطة، وربما أن هذا الخطر الذي يشكله الفن والتجمع بين الناس هو ما دعا من الأساس إلى المحاكمات الأصلية للأعمال الفنية. وبالرغم من ذلك، فهذه المرة لم يتمكن أحد من منع العمل أو اعتراض سبيله، فقد كان مدعومًا بعدد كبير من جمهور الحاضرين، كما سانده المشاركون والذين يمثلون مختلف أطياف المجتمع الروسي. لقد اجتمع المختلفون كلهم في ذلك الظرف على رغبتهم في استكمال التجربة، وكأن هناك هدفا جديدًا اكتشفوه من خلال العرض، هدف أكثر متعة من مجرد إثبات أنهم على حق وأن الآخر خطأ.

ربما أن المشاركين لم يغيروا آراءهم الأصلية بنهاية التجربة لكنهم بالتأكيد اكتشفوا إمكانية التفاهم والتعاون والحوار. وبالرغم من أن تلك الإمكانية ربما تكون مدعومة بالظرفية المؤقتة للفعل المسرحي إلا أنها لا تنفي أن الإدراك قد تم.

هكذا تكتسب المغامرة بعدا إضافيا ربما لم يكن في توقع المخرج، إنه هذا البعد الإدراكي الجمعي الذي يعادل في المسرح التقليدي “التطهير”. فنحن هنا لا نسعى إلى التطهير التقليدي، ولا ندفع المتفرجين في أية اتجاهات – صيانة لمفهوم الديمقراطية داخل العرض- إلا أنهم هم الذين يصيغون خلاصة تجربتهم بأنفسهم ولنفسهم، فتكون الرغبة في استمرار العرض والحرص عليه نقلة كيفية في حجم التعاون الذي يمكن الخروج به من العرض إلى أرض الواقع لاحقًا.

                                مكسيم شيفتشينكو (خبير بارز بالنيابة) يتحدث مع لجنة التحكيم.


ربما يروق للكثيرين إضفاء صبغة استشفائية على هذا النوع من المسرح، إلا أن هدفه المعلن ليس علاجيًّا بقدر ما هو اجتماعي وتفاوضي. أما حيز الاستشفاء الجماعي من الأزمات الشخصية والاجتماعية والسياسية فهو حيز داخلي مغلق على كل شخص وحده وخاضع لمسار علاقته بالموضوع، ومع ذلك يظل طابع العلنية المتعلق بالفعل المسرحي عاملا أساسيا في استعادة المشاركين لكرامتهم كمواطنين وكأصوات حرة جديرة بالإنصات إليها.

لقد استمر “ميلو راو” في تطوير أسلوبه المسرحي من خلال عدة تجارب مماثلة في مختلف أنحاء العالم، هو مهتم للغاية بذلك الفضاء الذي قد يشكله المسرح للتفاوض بين الأطراف المتصارعة وإعادة تجسيد الفعل الديمقراطي خارج شروط القانون التقليدي.

فالمسرح هنا يخضع لشروط أخرى؛ إنها شروط الفعل والمشاركة والتي يتساوى فيها الجميع ويحافظون على مواضعات الجلسة من حيث زمن المداخلة وضوابطها. ففي تلك الحجرة الصغيرة تمكن المشاركون والجمهور من إعادة إبداع تقاليد الديمقراطية خارج نطاق السياسة. إنها الديمقراطية كطريقة للنقاش والحوار والتفاهم، وليس كأداة للسلطة. وهكذا عاد المسرح إلى نشأته الأولى بوصفه ذلك اللقاء الجمعي الحر، وتلك المحاكاة التي يتواطأ فيها الجميع، ولا فصل فيها بين المشاركين.

لقد صنع “ميلو راو” أفضل دفاع ممكن عن الفن وعن حرية التعبير دون أن يتخذ أيا من الجانبين ودون أن يحفز المشاركين في أي من الاتجاهات. لقد صنع أفضل دفاع؛ لأنه أثبت أن الفن قادر على الاحتواء وعلى تسهيل الحوار وعناق المتناقضات داخل فضاء فكري واحد. إن المسرح يملك القدرة المذهلة على الدمج والاحتواء، أما سياقات المعرفة السلطوية فتقوم على الحذف والتمييز.

لقد تم تعريف المسرح دوما على أنه قائم على الصراع، وليس هناك أفضل ولا أكثر إقناعا من صراعات الواقع كي نتفاعل معها ونشارك في علاجها، إننا في تلك الحالة نجري تدريبًا مباشرًا على تطوير واقعنا بحيث إننا لا نحتاج إلى ممثلين، ولا حتى نحتاج إلى نتائج خاصة من محاكماتنا الافتراضية، كل ما نحتاجه هو نحن واستعدادنا للتخلي عن أنانيتنا ولو لساعات قليلة، تماما كما فعل “ميلو راو” وحصد ثمن شجاعته نجاحا فنيا مدويا في جميع أنحاء العالم.

إنه المسرح كفضاء للتدريب على الحياة، ليس من أجل أية حكمة نهائية متوارثة داخل المنظومة المعرفية الطبقية بل من أجل أن نعيش التجربة في حد ذاتها، وكل بطريقته.


--------------------------------------
المصدر : نورا أمين (مصر)- مؤسسة الثقافة السويسرية 

0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9