مجلة الفنون المسرحية
-------------------------------------
المصدر : محمد حجازي - اللواء
«جوهر في مهب الريح»
إنه عنوان المسرحية الجديدة التي تقدمها المخرجة زينة دكاش في أحد عنابر سجن رومية بمشاركة 19 سجيناً مصابين بأعراض نفسية مختلفة همهم العمل من أجل الفوز بتعديل أو إلغاء مواد في القانون تتعلق بالمحكومين مؤبد، أو لفترات طويلة، لذا كان طبيعياً دعوة عدد من القضاة للاستماع إلى حقيقة الشكوى المرفوعة، وقد لبى عدد منهم الدعوة، وتصدروا الحضور الكثيف في قاعة ضيقة وصلنا إليها عبر باصات عسكرية خاصة جرى تحضيرها لهذه الغاية، بينما كانت المسرحية السابقة تقام في قاعة أفضل نسبياً في مكان قريب من المدخل الرئيسي.
غلب على الحضور الطابع النسائي. وهناك من أدمعن على بعض روايات السجناء عن واقعهم وعما حل ببعض زملائهم، ومنهم إثنان قضيا مؤخراً بالسرطان، ومن الملامح المطلوب التعامل معها، النظر إلى الحالات اللانسانية ببعض الرأفة، خصوصاً مع وجود أمراض مستعصية على الشفاء، فلماذا ترك المحكوم يفني كل عمره في السجن، مثلما وصل مؤخراً مع نموذج عاش 45 عاماً في السجن ثم مات.
المطلوب تحرير هذه الحالات عندما تستقر أوضاعهم الصحية وإرسالهم إلى بيوتهم في الحياة المفتوحة، وما أن باشر الممثلون يقدمون مطالعات وشروحات عن أوضاعهم عمد عدد من الحضور إلى أخذ ملاحظات على دفاتر صغيرة تمهيداً لنقلها إلى غرف مقفلة تبحث في إمكانية تعديل أو إلغاء بعض القوانين رأفة بمن هم في عداد الأموات.
19 سجيناً توزعوا الكلام والشكوى والصراخ وعرض الحال والمفاتحة، فقالوا كل شيء تقريباً، وصوت زينة دكاش لا يغيب، تصوب بعض المعلومات وتنبه هذا الممثل أو ذاك إلى طبيعة الدور الذي تدرب عليه وأتقنه فلماذا ينسى، ولماذا لا يتذكر ما أعاده عشرات المرات قبل الإفتتاح.
ونجزم أن إثنين على الأقل من المشاركين يعتبران اكتشافاً فنياً مميزاً هما لاعب شخصية: معك ولعة، والرياضي الذي غنى بصوت جهوري معبر. وهذا يعني أن إمكانية الفوز بمواهب، واردة حتى مع سجناء. وفي حديثنا مع المخرجة زينة بعد العرض أكدت أنها إشتغلت على الممثلين وقتاً ليس قصيراً لكي يصبحوا على ما هم عليه من إجادة وعفوية أسهمت أكثر من مرّة في تصفيق حار من الحضور، وبدموع من بعض الصبايا على ما سمعنه من وجود بعضهم في السجن من 31 عاماً، أو 27 عاماً وهم يتوقون ويأملون في بناء حياة جديدة خارج الأسوار.
وتكمن أهمية الشهادات والأدوار التي يؤديها السجناء، في صدق الحالات، والإشارة النموذجية إلى مكامن المعاناة، وكيفية المعالجة، ولاحظنا أن معظمهم إمتلك قوة حضور متميزة وبدأوا يتصرفون كالفنانين المحترفين، الذين يلاحظون الاهتمام بهم من جمهور واسع، فكانت تصرفاتهم في غاية اللباقة والإحترام، بعدما رددت بعض الصبايا مواقف من أنهن يشعرن ببعض الخوف من ردّات بعض السجناء على وجود عناصر نسائية، وهم لم يروا نساء منذ زمن..
صحيح أن مشروع الذهاب إلى رومية يأخذ وقتاً، ويحتاج في مجمله إلى أربع ساعات، نصفها للعرض فقط، والباقي في الطريق إلى أكبر سجون لبنان، والخضوع في داخله لإجراءات الأمن الدقيقة، التي تُخضع كل الداخلين من مدنيين وعسكريين إلى التفتيش الدقيق الموحّد، وإستناداً إلى لوائح موثقة لأسماء الوافدين فيكون الجميع تحت سقف التنظيم.
لقد خضنا تجربة رائعة، عميقة ومؤثرة، ورغم أنها ليست الأولى لنا، إلا أن خصوصية الموضوع، وعناصره، والقائمة عليه زينة، وحكايات السجناء، وأسلوب عرض ما مر بهم من معاناة، وما يعيشونه اليوم، لنجد أحياناً أن أحداً ليس مرتاحاً خلف القضبان أو بعيداً عنها. فالمشاكل قد تختلف إلا أن المحصلة النهائية متساوية، والزمن الذي نواكبه هو السيء، ويأخذ في جريرته كل جيد في يومياتنا وخصوصياتنا، ليبقى أمل واحد فقط، وهو الإيمان بأن الأفضل لا بدّ أن يأتي ولو تأخر.
المصدر : محمد حجازي - اللواء
0 التعليقات:
إرسال تعليق