أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

السبت، مايو 14، 2016

أهداف المسرح المدرسيّ / د. طارق العذاري

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, مايو 14, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

مقـــــدمة
المسرح المدرسي أداة للتعلم والتثقيف والإغناء الروحي والوجداني, ولا يمكن الاستغناء عنه في أي مرحلة يعيشها المجتمع أو الأفراد.
ولكن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن هناك انحساراً شبه تام في حركة هذا النشاط على صعيد المهرجانات السنوية أو الأعمال المتفرقة, دون تحديد أسبب موضوعية لمثل هذا التوقف غير المبرر.
ففي الوقت الذي كان فيه معهد الفنون الجميلة في بغداد فقط يغذي هذا النشاط, وحقق نجاحات متميزة وخرّج كوادر مهمة للمسرح العراقي, نراه الآن وبعد استحداث ثلاث كليات, وأربعة معاهد للفنون الجميلة يتراجع إلى الخلف دون سبب يستحق الذكر. 
إن الأهداف التربوية والاجتماعية التي تأسس في ضوئها المسرح المدرسي لا تزال قائمة وملحة, لكن هذا الزائر الجميل الذي يداعب أخيلة التلاميذ اختفى.
وهنا لا بد من عودة إلى استعراض الأهداف, وبيان أهميتها على الصعيد الفردي أو العام, لإعادة الحياة إلى المسرح المدرسي ليعانق أهدافه السامية والجليلة.
1)المسرح المدرسي
المسرح المدرسي: رافد من روافد الحركة المسرحية في البلد المعني, إذ أن عمله يتجاور مع عمل مسرح الأطفال والكبار, الواقعي والملحمي والرمزي والتعبيري أو الكلاسيكي. ولكل واحد من هذه الأنشطة والفعاليات المسرحية هدفه المحدد الذي يصبو إليه جمالياً وفكرياً واجتماعياً.
مسرح الأطفال مثلاً يسعى لإرضاء شريحة الأطفال بشكل عام ضمن حدود وأهداف ومنطلقات يحددها القيّمون على هذا النشاط من فنيين أو مخططين تربويين ونفسيين.
وكذلك الحال مع بقية المجاميع المسرحية الرسمية منها وغير الرسمية, المحترفة أو الهواة.
أما بالنسبة للمسرح المدرسي فإن الأمر مختلف تماماً, إذ أن أهدافه مستمدة أساساً من أهداف الدولة والوزارة والمديرية ثم المدرسة وموقعها الجغرافي والجهة المخاطبة ومعطيات البيئة المادية والاجتماعية لتحقيق أهدافه العلمية والزخلاقية والتربوية. بمعنى أن هناك دوراً مرسوماً لهذا المسرح بما ينسجم فكرياً وعقلياً مع مواد الطالب ومستواه ومرحلته العمرية ودرجة إدراكه وتقبله للأشياء والأعمال التي يراها أو يسمعها.
لعل الأهداف المرسومة لهذا النشاط المسرحي تتحدد بالبعد العام الذي يشمل المؤسسة الرسمية في كل حلقاته من الأعلى إلى المدرسة. وكذلك بالبعد الخاص الذي يشمل التلميذ ومجمل علاقاته العامة في المدرسة والأسرة والمجتمع.
فالمؤسسة المثبتة لها أهدافها المتوخاة في إنشاء مدارس لتعليم أجيال وتربيتها, وهذه الأهداف ذات علاقة مباشرة في إعادة تشكيل عقلية المواطن بما ينسجم واعتبارات وحسابات الحاضر والمستقبل.
وهذا الإعداد يتطلب منها تهيئة وسائل مباشرة وغير مباشرة كالكتاب ووسائل الإيضاح والأنشطة والممارسات المختلفة كالرياضة والرسم, والموسيقى والمسرح. على اعتبار أن هذه الأنشطة تمنح الطالب فرصته لإظهار إبداعاته ومهاراته وتميزه عن أقرانه في رسم مستقبله العلمي والإنساني. كما أنها فرصته لتحديد ميول الطالب. وكذلك فهي فسحة ذهنية وشعورية تسحب التلميذ قليلاً عن قاعات الدراسة وجديتها وجفافها أحياناً.
إن الأنشطة المدرسية بشكل عام هي برهة لترطيب ذهن التلميذ وتهيأته مرة أخرى لمقاعد الدرس بكامل حيويته بعد محطة استراحة فنية ورياضية. وبذلك لم يعد المسرح والتمثيل غاية في حد ذاته بل وسيلة لتوضيح المعلومة الدراسية من خلال نسجها وتأليفها درامياً في حوارات واستعارات علمية وأدبية وافية.
إن المعلومة العلمية وطريقة توصيلها وأسلوب انتفاع الطالب منها هي أهم هدف للمدرسة والمعلم والمؤسسة على حد سواء, وبهذه الطريقة ستحقق المدرسة نجاحات باهرة. كما سيصبح الدرس أكثر حيوية وبعيداً عن الرتابة والملل والتلقي المكرر لاسيما أن التلميذ (المتلقي) سيبذل قصارى جهده, ويستنهض كافة حواسة لاستقبال المعلومة, لأنه سيرى زملاءه يؤدون الفعل (المسرحي - العملي) بحركات وإيماءات جسدية وطبقات صوتية منسجمة مع الفئة العمرية للتلميذ. سيكون التفاعل العمري والذهني في تبني المعلومة والانقياد إلى المشرف الفني أو معلم المادة المعروضة. وتعطي التلميذ إمكنية في التعبير عن إمكاناته في الوقوف أمام مجموعة أصدقائه وزملائه في الدرس وقيادتهم في بلوغ الدرس المنهجي ومادته العلمية.
ويمكن القول ( إن المدرسة مطالبة الآن وبإلحاح أن تقدم المعرفة والقدرة على الاستيعاب والتكيف والسيطرة على الواقع إلى جانب تعلم الطالب النظريات والمعارف والعلوم وتقديم المعلومات لتؤهله لاستشراف المستقبل وصنعه.
وبذلك تصبح ضرورة وجود المدرسة, متساوية مع ضرورة وجود المستقبل والتطور والتحضر, بل وبناء الحياة وفق معايير وقياسات منسجمة مع العالم, وبذلك تشتق المدرسة أهدافها من أهداف الحياة والحاجات المعرفية والتربوية في فترة تاريخية محددة يعيشها شعب أو أمة ما. كي تصبح أهدافها وطلبتها وخريجوها أداة لتحقيق أهداف الدولة والمجتمع برمته. ولكن ليس كل أهداف المجتمع بل ما يجعلها أمة إيجابية تضيف للإنسانية قيماً جديدة ومتطورة.
ومن هنا يصبح الاستيعاب حالة مهمة بالنسبة للقائمين على الأنشطة المسرحية, أي أن يدرك المشرف والطالب خطورة أهدافه وموقعه منها كي ينفذها بوعي كامل وتبني حقيقي وصادق يحققه الإيمان بالهدف الأعلى والأسمى.
وتأخذ هذه الممارسة شرطين أساسيين:
الأول : ما يتعلمه الطالب تعلم مجرد.
الثاني: ما يمكن أن يوصله للآخرين مما تعلم عبر وسائل المسرح التقليدية والمعروفة.
ففي الشرط الأول ينبغي للطالب أن يكون نابهاً مجتهداً. والثاني عليه أن يكون مرناً مطاوعاً في صوته وجسده ومنضبطاً كذلك في الالتزام والحضور والطاعة والحرص العالي على تنفيذ أوامر المشرفين.
وهذا يتطلب إيجاد فريق عمل منسجم ومميز بإمكانه أن يعي سياقات أهداف المسرح المدرسي. لا باعتباره ممارسة هامشية وجانبية خارجية يمكن الاستغناء عنها في أي وقت لضعف دورها. بل على المدرسة أن تعمق دور المسرح بها من خلال توضيح أهدافه للتلاميذ وأسرهم وأصدقائهم حيث ( تأتي أهمية المسرح المدرسي من أهمية المدرسة ذاتها, وهو جزء من أهدافها ووسائلها لتحقيق مسؤولياتها لبناء الجيل الجديد, وينتظر من المدرسة دوماً تأهيل الأطفال والشباب ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع بكل طبقاته وشرائحه. هذا هو الهدف الأساس الذي يصعب تحديد مهمات المدرسة في تحقيقه.
لعل الهدف الأخلاقي القيمي, هو الأساس الذي يلتقي به المسرح والمدرسة وكل المعارف الاقتصادية والسياسية والدينية عنده, ألا وهو تربية المواطن وتحصينه بالمثل الأخلاقية القويمة التي تجعل منه فرداً نافعاً في المجتمع. وتلغي النظرة المختلفة التي تشيع في بعض الأسر من أن المسرح نشاط لا أخلاقي يساعد التلميذ على التسيب وترك الدروس وبالتالي يفشل الطالب من جراء عمله في المسرح المدرسي أو الأنشطة المدرسية الأخرى.
وهنا يصبح الانفتاح على الطلبة وأسرهم ضرورة اجتماعية أيضاً من خلال توضيح أهداف المدرسة, وإمكانية مساهمة المسرح في تحقيق وتطوير هذه الأهداف بما يخدم العملية التربوية والتعليمية والأسرية أيضا, وليس العكس كما يظن البعض من الذين يحملون نظرات متخلفة للممارسات والهوايات والأنشطة اللاصفية.
ويساهم في تأكيد هذه النظرة بعض المدراء والمعلمين والإداريين في مفاصل الجهاز التعليمي والتربوي.
ويمكن التأكد من صحة رسالة المسرح المدرسي وعمقه, بتتبع الأشخاص الذين مارسوا هذا النشاط عندما كانوا تلاميذاً في بداية مراحلهم الدراسية. فإن أغلبهم تخلصوا من خجلهم وترددهم من الوقوف وجهاً لوجه أمام مجموعة من الناس والتحدث معهم. وأصبحوا قياديين في المجتمع في الجوانب الإدارية والعملية والإبداعية, لأن النشاط المسرحي أهّلهم لتحمل المسؤولية والعمل الجماعي والتدريب على تحليل المعاني وتفسير الأفكار والمعارف والتعرف على سير الأفراد وتواريخ الشعوب والمدن.
أي أن المسرح منحهم الفرصة لتجميع معارف منوعة وخبرات شخصية وجماعية مضافة ساعدتهم في تحديد مستقبللهم الإبداعي والوظيفي, يمكن القول (أن المسرح المدرسي كان النواة الأولى التي منحت المسرح المعاصر كوادر مهمة نقلته إلى مستويات عالية في التطور والجودة).
وفي أيام المحن والشدائد السياسية والعسكرية, كما كان يحدث في القضية الفلسطينية. فإن أغلب التلاميذ يجيدون تقمص أدوار المقاتل العربي الفلسطيني أو الفدائي. وهم بذلك يعبرون عما يجيش بخواطرهم إزاء هذه القضية القومية والإنسانية. كما أنهم لا يخفون رغبتهم وسعيهم في أن يظهروا بثوب الأبطال أمام عوائلهم وأصدقائهم.
لا شك, أن تعزيز الروح الوطنية, في الظروف الحرجة هو واحد من الأهداف السامية للثقافة الوطنية, التي لم تغب عن بال المربين والمثقفين والأدباء والفنانين وأصبحت من الوسائل التي يستعان بها على بث الروح الوطنية في نفوس الناشئين مطالعة القصص التي تنتزع من الحياة الوطنية, والروايات التمثيلية التي تمثل بعض نواحي الحياة الاجتماعية أو تعالج مشاكلها, والاشتراك في تمثيل هذه الروايات جهد المستطاع.
2) الأهداف القومية 
لا يمكن فصل مصير بلد عربي عن مصائر البلدان العربية الأخرى, في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية.. فالمصير والموقف مشترك وإن شابه أو اعترته بعض المواقف السلبية, وسواء طال الزمن أو قصر, فإن الأشياء المشتركة ورابطة الدم هي الأقوى وهي كفيلة بإعادة الحياة إلى مجاريها العذبة.
وخير مثال على ذلك القضية الفلسطينية, التي يشعر فيها المواطن العربي أنها جزء من وعيه وثقافته وموقفه. وإن مراجعة سريعة لتراث الأدب المسرحي العربي سيجد الباحث أن جميع الدول العربية ومن خلال كتابها قدمت عروضاً مسرحية في المدارس تناولت مضامين القضية الفلسطينية على الرغم من اختلاف زوايا النظر إليها. سواء أكانت الزاوية سياسية أم دينية أم أخلاقية أم عسكرية.
كما أن المناهج الدراسية هي الأخرى لا تخلو من حكايات ومواضيع وقصائد تناولت القضية الفلسطينية, وهذا يدل على متانة الحس القومي لدى المواطن العربي من الخليج إلى المحيط.
وغير القضية الفلسطينية, توجد الكثير من القضايا التي يمكن للمسرح أن يلعب دوراً في تبنيها والتركيز عليها, مثل قضية التجزئة, وتوزيع الثروات والتكافل الاقتصادي العربي وتوحيد المواقف إزاء الأطماع والأخطار التي تحيط بالأمة العربية.
مثل تلك (الثيمات) والأفكار هي جوهر العمل المسرحي ذي الحس والاتجاه القومي, ويمكن للمسرح المدرسي أن ينهل منها ما يشاء فيما إذا توافر كتّاب مسرحيون جيدون وعلى مستوى عالٍ من الشعور بالمسؤولية القومية.
ولما كانت اللغة عنصراً مهماً من عناصر إجماع الأمة في لسانها وفي الحفاظ على ميراثها الحضاري, فإن تعلم اللغة وفهمها واستيعاب قواعدها ضرورة للحفاظ على هويتها. من خلال استذكار وتتبع وتسجيل تاريخها القديم والحديث الذي يمكن استعادته من أعمال, أدبية كالقصة والرواية والقصيدة والنص المسرحي وفنية كالمسرح والسينما والتلفزيون والفيديو.
واللغة أيضاً عامل في جمع شمل الأمم, لأنها الوسيلة التي تبلغ الآخرين رسائلهم القومية والوطنية في شعورها وعواطفها التي تخفف الترجمة من تأثيرها وغلوائها على صعيد إفهام المقابل حقيقة المعنى والمغزى الداخلي للخطاب الأدبي أو السياسي.
والحوار المسرحي (Dieloge) يصبح بمثابة تمرين على الحدث والتفاهم وبناء الأفعال والمجاملة الاجتماعية, والإقلال من الثرثرة. لأن الحوار المسرحي مرسوم بدقة أدبية وتقنية حسب حاجة المتكلم للتعبير عن حقيقة ما يشعر به أو يفهمه ويريد إفهامه وتوضيحه للآخرين بيسر بكلمات واضحة وتامة المعنى والتوصيل.
ويشمل الهدف القومي الوطن المشترك ووحدة الأرض التي تعيش عليها أمة من الأمم عبر تاريخها وعمرها الطويل, وتبنيها علاقة انتماء حقيقية. وهو من عوامل توحيد الأمة وإشعارها بكيانها المستقل وهويتها الجغرافية والبيئية, ولذلك يصلح أن يكون موضوع (الأرض) واحد من أهم المواضيع التي يمكن أن يتبناها المسرح المدرسي.
فهو إطلالة تعرِّف من خلالها التلميذ على أرضه في الجزائر أو ليبيا أو لبنان وغيرها. بالضبط كما نفعل بها في مادة جغراية الوطن العربي. 
إن درس الجغرافية كمادة علمية مجردة قد لا تساعد على تحبيب التلميذ بهذه الأرض, لكن المؤلف المسرحي بإمكانه أن يصوغ الموضوعة وييسرها ويجعلها متناغمة مع الشعور الوجداني للتلميذ وحسه العاطفي.
ويمكن العمل نفسه مع التاريخ وموضوعاته وأبطاله, وليس أدل على ذلك من التاريخ الإسلامي الذي تشترك جميع الشعوب العربية, وخاصةً فيما يتعلق بالفتوحات الإسلامية والقيم الروحية التي أرساها هذا الفكر في خارطة الأمة العربية وغيرت تاريخها.
والمنجزات العلمية في تاريخ الدولة الإسلامية تجعل المواطن العربي يفتخر بتلك الحقبة من تاريخ أمته. إذ بينما كانت أوروبا ترزح تحت الجهل والظلام, فإن أمتنا أعطت للإنسانية كل مؤهلات التقدم والإصلاح.
وهكذا هي أهمية التاريخ المشترك, وفي العصر الحديث يمكن تناول القضية الفلسطينية, باعتبارها أكثر القضايا الي تحقق بها الإجماع العربي لما تشتمل عليه من تناقض رئيس مع الأعداء.
ويمكن اعتبار المصالح الاقتصادية عاملاً من عوامل إحساس الأمة بكيانها, لذلك قامت الدعوات المخلصة للتكامل الاقتصادي العربي, وضرورة توحيد الزراعة والصناعة والثروات بكل أنواعها. فإن رفاه شعب أي قطر عربي ينبغي أن يعم أبناء الأمة بكاملها, لتعميق وحدة المصير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وترصين الشعور بأن الأرض واحدة والخيرات مشتركة, وفي حالة حاجة أي قطر عربي لأي نوع من أنواع التعاون أو التآزر فإن أبناء الأمة أينما حلوا سيلبون الدعوة بكل حب ومودة دفاعاً عن جزء عام من أجزاء الأمة الواحدة.
وهذا الدافع له علاقة مباشرة بالجانب النفسي الذي يتألف من الوطن المشترك والتأريخ واللغة والترابط الاقتصادي, وهو الحالة التي ترسم البناء الشعوري والانفعالي للمواطن التي يعبر من خلالها عن موقفه إزاء المتغيرات والمواجهات التي يصطدم بها في حياته العملية وأهدافه السامية.
إن الخصائص النفسية وملامحها القومية, وهي وليدة خصائص نوعية داخلة في ذات المواطن وموغلة في القدم, وتشكل في جزء أساسي منها (العقل الجمعي) كما طرحه العالم النفساني (يونغ). التي من خلالها تبنى علاقات اجتماعية صحيحة مع بني قومه مرتبطة بالدم والتأريخ المشترك والمقومات الأخرى.
يمكن القول إن عقل الفرد يتكون ويتأثر بالعوامل الذاتية والموضوعية التي تتكون أو تتكشل منها القومية بمعناها التاريخي المنفتح, الذي تتجاور فيه مع القوميات الأخر لإعطاء هوية إنسانية شاملة.
ولكن على القومية أن تدافع عن كينونتها من خلال خصوصية العناصر المكونة لها التي تؤلفها. والدفاع عنها يأتي من خلال الأنشطة الثقافية والمعرفية التي تساهم في إذكاء روح المواطنة الحقة. وواحد من هذه الأنشطة يقف المسرح في المقدمة منها, باعتباره العنصر الأكثر اتصالاً ومباشرة في مواجهة الجمهور والتغلغل داخل نفوس مشاهديه, ويمكن التأكد من هذا الافتراض, إذا عرفنا عن علاقة العرب بالشعر وكيف كانوا يقيمون له المنابر واللقاءات المباشرة مع المستمعين, ولنا في سوق المربد في البصرة عنواناً كبيراً لهذه الممارسة الإبداعية الحماسية خير شاهد على ذلك.
3 ) الأهداف الوطنية :
يسعى المسرح عموماً والمدرسي بشكل خاص لإعادة ترتيب ذهنية المواطن- التلميذ. وإذا كان المسرح العام يتوجه لمخاطبة كل الشرائح العمرية والطبقية, فإن المسرح المدرسي يتوجه لشريحة محددة الأبعاد والطموحات والأهداف, تنسجم في أحكاماتها النفسية والجسدية, وتتشكل ذهنيتها المتقاربة وعياً من مصادر متقاربة نسبياً من المحيط المعيش والتجارب الحياتية اليومية المتشابهة. ( وفي المسارح يتلقى التلاميذ مبادئ العلوم والفن في أسلوب صحيح, ويرون آمالهم صفحات مشرفة من التاريخ بما فيه من بطولات, وتعرض عليهم سيرة السلف الصالح لتكون قدوة ونوراً يسيرون على هديه. وفيه أيضاً يتعلم النشء المبادئ التي يجب أن يشبوا عليها.. مبادئ الإيمان الصحيح.. مبادئ الوطنية الصادقة.. مبادئ الحرية والسلام).
إن واحداً من قيم ومضامين المسرح المدرسي, الجانب السياسي, والتعبئة الوطنية, من الأفكار التي يمكن معالجتها درامياً مؤثراً في الجمهور وحشد الطلبة. إن الأمم والشعوب والأوطان تشعر بالحاجة إلى تعزيز وتذكير المواطن بوطنه الذي تربى فيه وتنعم بخيراته, خاصة بالنسبة لتلاميذ المدارس الابتدائية, لأن حب الوطن والدفاع عنه مسألة غريزية لكنها في الجانب الآخر بحاجة لتوعية مستمرة وتوضيح أهداف هذا الحب وهذه العلاقة بين التلميذ ووطنه ولا يمكن تعميق هذا الحس إلا بخلق وصناعة شواهد عينية أمامه من خلال المسرح والسينما والكتاب والمصادر والخدمات العامة.
4 ) الأهداف الأسرية :
يحقق النشاط المسرحي في المدرسة أهدافاً واضحة وبينة يمكن رصدها في ذات التلميذ الذي يشارك في هذا النشاط.
إضافة إلى عوامل اللغة والمحاورة وإذابة الخجل وغيرها, فإن المسرح المدرسي يكسب التلميذ مبادئ اجتماعية ومهارات تنعكس بشكل إيجابي في محيط الأسرة, فيما إذا لاقت بعض الأصداء الطيبة من قبل الوالدين أو الأخوان وكذلك الجيران.
إن انتشال التلميذ من الضياع وهدر الوقت. وتنظيم أوقات فراغه أجدى وأنفع له ولأسرته أيضاً, فهي تكون عارفة لطبيعة عمل ولدهم والفريق الذي يعمل معه وأهدافه ومكانته. وينتظرون النتيجة المرجوة منه وهي تقديم عرض مسرحي يحقق المتعة والفائدة لكل المشاهدين من التلاميذ وأسرهم وأصدقائهم.
وهنا يتولد إحساس لدى الأسرة بأن ابنهم ساهم في إسعاد الآخرين وتوعيتهم وقادهم نحو أهداف المسرحية أو الشخصية التي مثلها, وهي بالضروة أهداف إيجابية ومنتقاة لغاية تربوية وعلمية صحيحة.
وهذا الإنجاز يساعد بشكل فعال على بناء شخصية التلميذ واستقلاله في التفكير واتخاذ القرار والمواجهة وكلها دروس لا غنى عنها لأي شخص يطمح إلى التقدم في مدارج العلم والمعرفة.
إن التلميذ الذي يمثل مسرحية مدرسية سيكون محط فخر واعتزاز من قبل أصدقائه وإخوانه في المدرسة, وينظرون لقدراته العفوية على أنها فعل غير عادي وليس بإمكانهم القيام به. وهذا يعزز ويقوي ثقة التلميذ بنفسه, ويدفع زملاء آخرين لأن يحذو حذوه ويعتلوا خشبة المسرح في مدارسهم ومناطقهم.
ويتعلم التلميذ في المسرح المدرسي الطاعة الواعية وليست العمياء, فهو يطيع المشرف على النشاط وينفذ أوامره, ويطيع من هو أكبر منه سناً ويطيع رأي الجماعة ويتخلى عن أهدافه الفردية والأنانية لصالح المجموع. وكم من التلاميذ الذين تمسكوا بأنانيتهم نراهم يغادرون المسرح بعد المشاركة الأولى. لأن التقاطع يحصل بين النشاط الجماعي الذي تذوب فيه كل الفرديات وبين المحافظة على الذات على حساب الجميع.
وعن طريق المسرح يتعمق لديه احترام نفسه واحترام الآخرين وتقدير عملهم ومجهوداتهم التعاونية, وينمو لديه الإحساس بأن مبدأ الاحترام ضرورة, ولا يعني احترام الأفراد فقط, بل القوانين والتعليمات الذي تصدرها الدولة. واحترام الجيران وحقوقهم.
ويحترم الكتاب الذي يدرس فيه وجهود من ألفوه والدولة التي وضعته بين يديه بمثابة هدية لأجل تعلمه وتطوره.
إن مبدأ الاحترام يشمل الدولة المجاورة. والحي الذي نسكن فيه والشخص الذي يقدم لنا أي مساعدة. وبذلك يتفاعل التلاميذ في محيطهم وفق أسس الاحترام المتبادل, والشكر لكل عمل أو جهد يقدم له, غرضه وهدفه إضفاء نوع من الحالات الإنسانية والجمالية على بيئتهم ومجتمعهم.
فالفلاح الذي يقوم بزراعة الورد ومقارنته في حديقة عامة لا شك أنه يساهم في تجميل بلده ومحلته, فهو جدير بأن نتعلم كيف نحترمه ونقدر عمله, لأن فيه خدمة للمجموع. إن ( وظيفة المدرسة هي ممارسة الحياة وإعداد الطالب للنمو الاجتماعي وذلك بتعديل سلوكه, وإكسابه الخبرات والمهارات التي تساعد على التكيف الناجح للمواقف المختلفة التي تعرض له. لذلك ظهرت الاتجاهات الحديثة في التربية التي ترمي إلى ربط المدرسة بالبيئة المحيطة بها كما تربط البيئة بالمدرسة). ولا شك, أن المسرح كأداة لتصريف أفكار المدرسة وأهدافها وتوصيلها للتلاميذ, لا بد له من دعم الأسرة له, وخاصة الأسر التي يشارك أبناؤها بهذا النشاط النوعي الهام.
إن إعداد التلاميد للحياة وإكسابهم المهارات المعرفية والسلوكية وفن (الاتكيت) في العلاقات والمخاطبة والأكل وغيرها, من الأمور الضروية التي ينبغي التعرف عليها من خلال المشاركة في الأنشطة اللاصفية. وإن الاقتصار على مفردات المنهج وحصرها في قاعة الدرس وعدم ربطها بالمحيط الأسري والاجتماعي يفقدها فاعليتها التنويرية والتعليمية.
5 ) المسرح والطالب : 
إن الشخص المستهدف بالأنشطة العلمية والرياضية والفنية والاجتماعية هو - بلا شك - الطالب على وجه التحديد, والمسرح واحد من تلك الممارسات التي يتفاعل بها الطالب مع مدرسيه للارتقاء بذهنيته وتطوير معارفه.
وإذا كانت بعض الأنشطة كالرياضة مثلاً تعنى بتطوير الجانب البدني والعضلي, فإن المسرح يعني بكافة الجوانب العضلية والبدنية والمعرفية, لأنه وكما يسمى بحق أبو الفنون لشموله على الحركة والصوت واللغة والمنظر.
والطالب الذي يتفاعل مع الأنشطة المسرحية بعمق ومحبة وصدق, فإنه سيجد مجالاً رحباً للتعبير عن مكونه البدني والعقلي على حد سواء. لأنها ( من العوامل المساعدة في اكتمال شخصية التلميذ ونضجه وتمرسه بفن الحياة المصغرة والمتمثلة بحضور التمثيليات, التي يقوم بأدائها بعض التلاميذ, ويحضرها الباقون بشوق وشغف).
إن العلاقات بين الطلبة التي يوفرها النشاط المسرحي تنعكس بشكل إيجابي على تنمية قدرات الطالب على التفاعل في الوسط الاجتماعي الذي يبدأ رحلته معه بشريحة صغيرة من زملائه مما يدفعه إلى نسج شبكات من العلاقات والتكيفات الواجبة لكي تكون العلاقة محتملة باتجاه تحقيق الهدف التربوي والإخلاقي من إنجاز وعرض العمل المسرحي.
ومن خلال معايشة الطالب لزملائه فإنه سيضطر للتنازل عن كثير من خصوصياته وأنانيته التي حصل عليها كحقوق مكتسبة في الأسرة, خاصة إذا كانت تلك الأسرة تميز الصبي بنظرة خاصة عن أخته الفتاة, وتقوم على تدليله أكثر من اللزوم.
ففي المسرح تذوب كل الفرديات وأهدافها المحدودة باتجاه هدف أشمل وأعم خاصة إذا توافر العنصر القيادي ( المشرف) الذي يثقف ويطلع طلبته على الأهداف الحقيقية والأصلية للأنشطة المسرحية.
إن خلية العمل المسرحي أو ما يسمى بفريق العمل المسرحي هو عبارة عن نواة للمجتمع الكبير فهي تجمع الطلبة ذوي النوازع الشريرة والخيرة, وهكذا يبدأ صراع حاسم بين الطلبة أنفسهم قبل وخلال وبعد فترة النشاط والتمرين والعرض ( المسرحي) وهذا أمر طبيعي, فهي مكان التنازل عن أشياء واكتساب أخرى مضافة أو بديلة عنها من شأنها الارتقاء ببناء الطالب وجعله عنصراً إيجابياً في المجتمع. لأن ( جماعية العمل المسرحي ذاتها هي معالجة نفسية للتلميذ, حيث أن العمل في المسرح يعزز سلوكاً جماعياً مشتركاً. وينبعث هذا السلوك من مواقف طبيعية وأخرى يمكن وصفها بأنها بايولوجية وتؤدي هذه الظروف إلى نتائج مميزة في طابعها الاجتماعي وهي تختلف حتماً في نوعها عن السلوك الانعزالي).
والانطواء قرين الانعزالية وهي أمراض يمكن أن يعالجها المسرح من خلال ما يوفر من علاقات إدارية وفنية ودية بين الزملاء ومدربهم الفني, وذلك من خلال التعاون والتنسيق وعدم إعطاء فرصة للطالب الانعزالي بالركون والخلود إلى نفسه وانفراده عن أقرانه في أوقات العمل والأكل والتدريب واللعب والمزاج.
وهنا يصبح التدريب على بعث الروح الجماعية واحد من أساسيات العمل المسرحي, لإلغاء الفردية المفرطة التي تعمق الحس الأناني بالأشياء والدافع الشديد للتملك والاستحواذ.
وهذا يتقاطع مع جوهر المسرح باعتباره عملاً جماعياً, يتوقف نجاحه على التعاون والصبر والمواظبة وإنكار الذات, والاعتماد على النفس).
وهذه القيم تفيد الطالب وهو يمارس حياته العملية في مجتمعه الكبير, الذي يحتاج أن يكون فرداً متعاوناً في حالات عامة تتعرض لها الأسرة أو الدولة لمواجهة حالة طارئة كالحروب والفيضانات والكوارث الطبيعية, لذا فإن الطلاب الذين يمتلكون قدراً كافياً من مبدأ التعاون يلتصقون ويعملون بالمؤسسات والمنظمات ذات الصالح العام التي يبرز دوره وتظهر هي وأفرادها قوية ساعة الأزمات الاجتماعية العامة.
فإذن التدريب على مبدأ التعاون ضروري جداً لتخليص الطالب من الانفرادية في التفكير والعمل. وإدماجه في أهداف وفعل اجتماعي كبير عند الحاجة.
والتعاون لا يلغي أبداً طابع التخلي عن التفكير والاجتهاد المنفرد بل يعمقه كي يسير الجميع إلى المبدأ السليم الذي يقود المجموعة العاملة في النشاط المرسحي المدرسي.
وبذلك تصبح الجماعية حالة من التبني والتفاعل وتقسيم الأعباء التي توجه المجموعة.
كما أن الصبر حكمة عظيمة تذكرها الكتب المقدسة ولنا بها شاهد كبير ألا وهو قصة سيدنا أيوب (عليه السلام) وما للصبر من قيمة ومغزى أخلاقي وتربوي عظيم في حياة البشرية, حيث يمكن للطالب التعرف عليها بالمسرح (المدرسي) حيث يبدأ عملية الصبر منذ بداية توزيع الأدوار والقراءة وحفظ الحوار والحركة لحين أيام العرض, فهو يعيش حالة من الانتظار والصبر والمواظبة التي تلزمه على الانتظام لحضور التمارين وفق جدول مومضح في زمان ومكان محددين, ويجد يوماً بعد يوم الفائدة التي يحصل عليها من خلال ملاحظات المدرب وزملائه أو من تفسير وتحليل النص المسرحي والتعمق بكلماته ومعانيه المستترة. وهو كذلك وسيلة تعليمية تعاون على توضيح المعلومات دون شرح أو تفسير, وذلك عن طريق تمثيل المعاني وحسن أدائها, فتثبت في أذهان التلاميذ, وتؤثر في سلوكهم لأنهم يرونها ماثلة وناطقة ومتحركة أمامهم. على اعتبار أن النموذج المعروض للطلبة إذا كان سلبياً ينعقد وإذا كان إيجابياً يحتذي. ويكون قدوة لهم مبدأً وعملاً وسلوكاً,ويساعد ذلك بناء شخصياتهم بالاتجاه الأمثل وكما تحدده أهداف المدرسة والعرف الاجتماعي لكل بلد.
فالشخصية الكاذبة في النص المسرحي ترسم بالضبط كما في سلوكها الحياتي اليومي المعاشي يتعرف عليها الطالب بسرعة ويتجنب سوءها وسقوطها. أما الشخصية الصادقة فلها ميزان آخر في نظره من خلال إظهارها سامية منتصرة تتمتع بالاحترام وتقدير الآخرين.
وعلى المسرح المدرسي أن ينسجم مع القيم الصحيحة الأصيلة للمجتمع ولا يبرر للشخصيات المنحطة سلوكها وبذلك يخرج عن هدفه التربوي ويخلق حالة من الانفصال والتشويش بين ما يوجّه إليه المجتمع وما يدعو إلي هو. لأن تراكم القيم الاجتماعي له أثر كبير في حياة طالب المدرسة ولا يمكن مغادرته بسهولة, لأنه منطقته ورثها وتربى عليها.
إن التقاطع إذا حصل بين التربية المسرحية والتربية الاجتماعية في قيمها الصحيحة والأصيلة فإن الغلبة تكون لصالح المجتمع ولذلك يعوّم المسرح عن دوره واتصاله بالمجتمع وأهدافه النبيلة, لذا جاء التمثيل كمهنة مسرحية والأنشطة بأكملها كمفردات تعمق التربية الاجتماعية, وتقوِّم الطالب قيمياً وفنياً, من ناحية فهم العلاقات والكلام وأجزاء الحوار, حيث ( أن استعمال التمثيل كوسيلة لتدريس اللغة المكتوبة على أنها لغة محلية ويساعد على إدراكها حين يمثلها التلميذ أو يستمع إليها ويساعد المدرس على رصد نقاط الضعف والقوة وتشخيصها عند التلميذ ليستطيع توجيهه. وهدف تعليم اللغة لا يتوقف على كتابتها وقراءتها بل يتجاوزها إلى التكلم واستعمالها في الحياة إن كانت لغة محلية وأجنبية).
إن الحوار المسرحي يعلم الطالب الطريقة المثلى التي يتكلم بها مع شركائه في الحياة الاجتماعية, خاصة إذا عرفنا أن الحوار المسرحي الجيد مكتوب بلغة سليمة ومفردات جديدة تضيف لقاموس الطالب كلمات جديدة قد لا يحصل عليها في الصف الدراسي. كما أن أسلوب المحاورة تمنح الطالب قدرة على تحديد بداية حديثة ونهاية وعدم مقاطعة الشريك في الكلام, كذلك تبعد عنه الخجل والتردد, وسماع الآخرين لصوته. لأننا وكما نعرف أن هناك الكثير من الطلبة يخجل من رفع صوته أو إسماعه للآخرين بحكم تربيته المحافظة. لكن في المسرح رفع الصوت أحياناً تمليه الضرورة الفنية, وليس للخجل مكان في المسرح فيما يخص ارتفاع طبقات الصوت بما ينسجم وانفعالات الشخصية الممثلة. ولكن هناك بعض الحالات المرضية وهي الزيادة والإفراط في الخجل مما يجعل الشخص الخجول متردداً في الحياة بين زملائه وغير قادر على اتخاذ قرار, ويجاري الآخرين حتى على حساب راحته ورغباته. والمجاراة كما هو معلوم تقتل روح المبادرة والإبداع لدى الطالب, وبذلك ينقل للمجتمع ضعفه وأمراضه النفسية التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة, لكنها خطرة جداً عندما تكون في المجتمع, خاصة وإذا جارى هذا الشخص أخطاء الغير وسار بخجله إلى حدود قصوى من الضعف فإنه قد ينقاد إلى كارثة اجتماعية وشخصية تسبب له إشكالات لا حصر لها.
والمسرح المدرسي ( يكسب المشتركين فيه الجرأة, ويقضي على الخجل عند من يميلون إلى العزلة والانطواء). ويأخذ المسرح دوره هنا كأداة للعلاج النفسي في كافة المراحل العمرية للإنسان, وهذا ما أثبتته الدراسات النفسانية الحديثة التي أسست نظرياتها على ما طرحه الفيلسوف اليوناني ( أرسطو) في مبدأ ( التطهير) في التراجيديا. حيث تخليص المشاهد من كل ما يحمله من خوف وقلق وانفعال من خلال ما يشاهده على المسرح وخاصة مصائر الأبطال.
إن المسرح النفساني ( السايكو دراما) التي نظر لها وطبقها بعيادته الطبيب النفساني ( مورينو) هي خير دليل على دور المسرح العلاجي وإمكانيته في تخليص الطلبة اليافعين من بعض الأمراض النفسية وإعدادهم إعداداً جيداً للحياة العملية.
إن المسرح المدرسي لا يقف في الحدود القيمية أو العلاجية, وإنما بإمكانه أيضاً أن(يمد التلميذ بمعلومات, ويزوده بخبرات ومهارات كثيرة كالأداء الجيد والنطق الواضح, والإلقاء الجيد وتنويع الصوت, ورعاية ما تقتضيه المقام من أنواع السلوك).

المصادر :
(1) بيرتون,1، ج, "التمثيل في المدارس", ترجمة الدكتور رياض عسكر, القاهرة, مؤسسة سجل العرب, 1966
(2) الجوهري, محمد شاهين, "الأطفال والمسرح", الدار المصرية للتأليف والترجمة, 1965.
(3) شهلا, جورج وآخرون, "الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية", ط- ع, بيروت: دار العلم للملايين, 1978.
(4) كرومي, عوني, "المسرح المدرسي", بغداد: وزارة التربية, 1983.
(5) مقبل, فهمي كوفين, "النشاط المدرسي: مفهومه, تنظيمه", علاقته بالمنهج, بيروت: دار المسيرة, 1978.
(6) هو يتهيد, الفريد نورث, "أهداف التربية", ترجمة نظمي لوقا, القاهرة: الشركة العربية للطباعة والنشر, 1958


تابع القراءة→

هارولد بنتر: الغائب الحاضر أبداً

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, مايو 14, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

لا يمرّ عام دون أن تشهد العاصمة الفرنسية عروضاً لمسرحيات الكاتب البريطاني الراحل هارولد بنتر (1930 ـ 2008)، هو الذي كان زائراً دائماً لباريس، وشبه مقيم فيها، وغالباً ما كان روّاد مسرحياته هنا يحظون بالمصادفة السعيدة في اللقاء به خلال أحد العروض. ومسرحيته الشهيرة «الحارس» من إخراج آن فوتي وتمثيل باتريك ألاغيراتيغي وجان ـ فيليب ماري وجاك روسي، وعرضت مجدداً قبل سنتين  على مسرح أكتيون، بعد أن افتُتحت عروضها بالفريق نفسه في السنوات  الماضية على مسرح ديشارجور.
وجاء في التعريف بالنصّ: «ذات ليلة شتائية، يقترح الشقيقان ـ الكبير أستون والصغير ميك، وكلاهما أغرب من الآخر ـ على ديفيز، العجوز المتشرد، أن يصبح حارس بيتهما. ما الهدف؟ وهل هما شقيقان حقاً؟ ومن هو ديفيز حقيقة». أما شعار المسرحية فهو لا يقل تشويقاً: «نحن لا نعرف من يتبدى خلف الباب، أليس كذلك؟». المسرحية ترسم عالماً داكناً، لشخوص عزلاء، تتآكل تحت وطأة أشكال شتى من العنف الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، وتنتظر معجزة ما، تصنعها واقعة غامضة ما، في زمن منفلت من المنطق، وفي سياقات لا حدود لقسوتها الإنسانية. ولقد شاءت المخرجة تظهير مجتمع بأسره من خلال شبكات التوتر التي تعصف بالشخصوص الثلاثة، والتقطت جيداً تلك الرسائل النقدية، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، التي يحرص بنتر على تضمينها في مسرحياته.
والأرجح أنّ بنتر كان، ساعة رحيله، أعظم كاتب مسرحيّ حيّ في اللغة الإنكليزية، وأحد كبار أدباء عصرنا؛ ولم يكن غريباً أن يدخل إلى الإنكليزية، وإلى قاموس أكسفورد أيضاً، اصطلاح الـ Pinteresque المنحوت من اسم بنتر، والذي يفيد ذلك المناخ الدرامي الإنساني الخاصّ، المعقد والبسيط، المحليّ والكوني، الفردي والجمعي، الرحب العريض والضيّق حبيس الحجرة الواحدة، في آن معاً. ولم يكن بغير مغزى أن الأكاديمية السويدية توقفت عند هذا النحت مراراً وهي تطري بنتر، حين منحته نوبل الأدب لسنة 2005، بل واستزادت عليه حين نحتت مصطلحاً ثانياً هو «الأرض البنترية» Pinterland، ذات «الطبوغرافية المميزة، حيث تتمترس الشخصيات خلف حوارات مباغتة، وبين سطور تهديدات لا حلّ لها يكون ما نسمعه علامات على كلّ ما لا نسمعه» حسب ما جاء في حيثيات منح الجائزة.
وبالطبع، عُرف بنتر ككاتب مسرحي ردّ المسرح إلى عناصره الأساسية، مثل الفضاء المغلق والحوار الصاعق والأنماط البشرية التي تخلق الدراما الكثيفة حين تتصارع وتتقاطع وتتلاقى وتفترق، ضمن خطوط حبكة في الحدود الدنيا، وتنويع عريض لأساليب مسرح العبث والمسرح الطبيعي والواقعي وتقاليد الفرجة. كما لعب دوراً حاسماً في إغناء مدارس الإخراج المسرحي، وكتابة السيناريو السينمائي والتمثيلية الإذاعية؛ فضلاً عن مواقفه السياسية الشجاعة، وأنشطته في ميادين الحريات العامة وحقوق الإنسان.
ما يجهله كثيرون، في المقابل، هو أنّ بنتر بدأ شاعراً، بل وكانت القصيدة هي أوّل منشوراته، قبل أن ينخرط أكثر فأكثر في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج. وقصيدته «السنة الجديدة في ميدلاندز» والتي كُتبت في مطالع الصبا، تذكّر كثيراً بمشهد الحانة في قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة «الأرض اليباب». وغنيّ عن القول إنّ معظم قصائد تلك المرحلة كانت تعكس مناخاً درامياً واضحاً، وكانت بذلك تنذر بالخيار الرئيسي الذي سيقتفيه هذا الفنّان الكبير: المسرح. وفي تكريم هذا الجانب من إبداعه، يقدّم الممثل البريطاني جوليان ساندز («حقول القتل»، «غرفة تطل على منظر»، «فاتيل»، بين أفلام أخرى)، قراءات من أشعار بنتر، بإخراج الممثل الأمريكي جون مالكوفيتش(«أماكن في القلب»، «في خط النار»، «مملكة الشمس»، «عن فئران ورجال»…)؛ على مسرح جامعة إموري، في أتلانتا، جورجيا، ضمن فعاليات مهرجان مكرّس بأكمله لفنون بنتر.
ولد بنتر سنة 1930 في هاكني، وهي منطقة عمالية صغيرة قرب إيست إند في لندن. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية جرى إخلاء الحيّ، وعاد ثانية إلى لندن وهو في الرابعة عشرة، وسيقول إنه لن ينسى أبداً مشاهد القصف الجويّ التي عاشها، والتي ستجعله مناهضاً للحروب بصفة عامة، وتدفعه إلى رفض أداء الخدمة العسكرية (أشفق القاضي عليه فاكتفى بتغريمه 30 جنيهاً بدل السجن). في عام 1950 بدأ ينشر في مجلة Poetry التي كانت تصدر في لندن، باسم مستعار هو هارولد بنتا. ثمّ عمل ممثلاً ثانوياً في الـ BBC ، وبعد أربع سنوات من التجوال في إرلندا والمسارح الريفية كتب «الحجرة» لصالح جامعة بريستول (وأنهى النصّ في أربعة أيام!)، ثمّ كتب تمثيلية للإذاعة بعنوان «ألم طفيف»، إلى أنّ أنجز أولى مسرحياته الطويلة «حفلة عيد الميلاد»، وتوالت بعدها نصوصه المسرحية الكبيرة التي جعلت منه أحد أعظم مسرحيي هذا العصر. وكان متزوجاً من المؤرخة الشهيرة ليدي أنتونيا فريزر، وظلّ حتى رحيله يعيش بين لندن وباريس.

------------------------------------------
المصدر : القدس العربي 
تابع القراءة→

الدور الثقافي للمسرح الإبداعي في المسرح التجريبي / ييجي شيرشونوفيتش - بولندا

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, مايو 14, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

منذعدة سنوات مضت، احتفل مسرح من مسارح مدينتي "بياويستوك" البولندية بالذكرى
السنوية لنشأة مسرحه. ومن أهم فعاليات هذه الاحتفالية ومسببات جذبها، كان 
تقديم العرض المسرحي "سيرانو دي برجراك". كان يقدم هذا العرض حتى هذا الوقت
الحاضر في فضاء مسرحي مغلق، وخصيصاً بمناسبة هذه الذكرى السنوية، انتقل 
العرض المسرحي ليقدم في فضاء مسرح مفتوح، يسع عدة آلاف من المتفجرين. وفي 
ظني أن هذه الفكرة، بمختلف المقاييس تتسم بطابعها التجريبي الفني. وبطبيعة 
الحال من وجهة النظر التكنولوجية كان هذا العرض نوعاً من التحدي الكبير، بل
يدخل في مجال التجريب الكبير! كان على العرض المسرحي أن يملك مختلف 
التقنيات الحديثة، التي تساعد في تجسيم مفردات التعبير، وتشغل فجوة الفضاء 
المفتوح المقترح، وتسهم في إيصال وسائل تعبير الممثلين الى آلاف الجماهير، 
الذين حضر معظمهم الى المسرح بشكل عفوي غير مقصود، قاصدين النزهة، من دون 
دعوة سابقة لحضور هذا العرض المسرحي بعينه. وللوصول الى هذا التأثير 
المرجو، استخدمت تقنيات الآلة المسرحية المركبة بأحدث أجهزة الإضاءة، 
ومكبّرات الصوت. وروعيت جميع المحاولات للوصول الى أعلى مرتبة من استخدامات
المؤثرات المسرحية، لكن الكارثة لا يمكن إيقافها؛ على الرغم من تحقيق أعلى
مستويات تقنيات التكنولوجيا! ففي أثناء أداء أهم مونولوج لبطل العرض 
المسرحي "سيرانو دي برجراك ـ Cyrano de Bergerac"؛ تعطّلت فجأة مكبّرات 
الصوت وخمدت. أما "سيرانو" المسكين، والواقف فوق المنصة (براتيكابل) 
المرتفعة خصيصاً، ليقف فوقها لأعلى متعدياً رؤوس المشاهدين، فقد ظهر وكأنه 
"فقد صوته" فجأة. هذا الخطأ الصغير غير المتوقع من قبل تقنيات أجهزة الصوت 
(ميكروفونات لاسلكية ومكبّرات) كان من الممكن أن يدمر هذه الاحتفالية 
الكبرى. ساد الصمت لحظات. كان من الواضح أن سماع ضحكة عابرة أو صفير مفاجئ 
من جانب المتفجرين، لسوف يحدث انهيار جبل الثلوج على الرؤوس جميعها ـ فسوف 
تتغير دراما "سيرانو" لتمسي ملهاة/ فارس طفولية.

شعر الممثل صاحب الخبرة والتجربة، واللاعب الدور الرئيسي، شعر بشكل حدسي/ 
غريزي بما حدث!! وعلى الرغم من عجز مكبرات الصوت إيصال صوته للجماهير، إلا 
أنه بعد لحظات قصيرة ـ تعد دهراً  طويلاً من الزمن فوق خشبة المسرح ـ
واصل أداءه للمونولوج المسرحي. وحدثت المعجزة: سكنت الجماهير وصمتت، توقفت
محادثاتهم العابرة، سكنت أرجلهم عن احتكاكهم بالأرض، وأصغت آذان آلاف عدة 
من البشر في صمت مطبق الى صوت حي ـ من دون مكبرات صوتية ـ يتجه بقوة نحو 
السماء المتخمة بالنجوم. لقد أصبح هذا الخطأ التكنولوجي حجر أساس في تشييد 
النجاح الفني لهذا العرض المسرحي، وانتصار للروح والفن على التكنولوجيا 
والمادة. إنني أؤمن إيماناً عميقاً بأن هذا الحدث قد جعلنا نرى في خلاصة
ميتافيزيقية، ماهية العلاقة بين فن المسرح والتكنولوجيا الحديثة؟! إنه 
يجعلنا نعي ما هو جوهر المسرح والتجريب المسرحي من جانب، ومن الجانب الآخر 
الوعي بما هو مجرد كونه وسيلة وأداة لتجسيده فوق الخشبة. إن استخدام تقنيات
التكنولوجيا الحديثة، والاكتشافات العلمية المعاصرة في العمل المسرحي 
بعينه هو عرض تجريبي. فالمصطلح ذاته "المسرح التجريبي" يمكن لنا تفسيره، 
إذا فهمناه وفقاً لمعناه الحرفي الذي يصاغ من بنية هذا المصطلح ومشتقاته. 
ومن وجهة نظري الذاتية، لديّ انطباع ـ ليس منفصلاً عن يقين الداخلي ـ من أن
المسرح إما أن يكون تجريباً أو لا يستحق أن يسمى "مسرحاً". إننا نقدره 
باعتباره فناً، وواحداً من أهم الوسائل ـ بجوار العلم والمعتقدات ـ لتعرف 
الإنسان على ذاته، ومحاولة تفهم عالمنا المحيط بنا. فالمسرح إذن هو تجريب 
متواصل، تتوالى عليه تغيرات في "الفورم" أو الشكل يكون في معظمها فجائياً 
ومرناً، بينما يكون جوهر العمل المسرحي وموضوعه الأساسي ـ عبر تراكمات 
الحقب الزمنية عليه، ولقرون تالية ـ هو "الإنسان"!





المتناقضات




منذ بضع سنوات مضت؛ وفي احتفالية اليوم العالمي للمسرح؛ كتب 
المسرحي الألماني "تانكريد دورست ـ Tankerd Dorst": (...) دائماً ما 
نتساءل؛ هل المسرح يلاحق الزمن؟! عبر ألفي عام جعلنا المسرح نرى ـ تماماً 
كالمرآة ـ العالم ومكاننا فيه. فالتراجيديا ـ وغالباً الكوميديا أيضاً ـ 
جعلتنا نشاهد أن ما يحكمنا هو "القدر". وأن الإنسان ليس بمتكامل، يرتكب 
الأخطاء الفادحة، يتصادم مع المتناقضات، يشتهي السلطة، يرينا المسرح بأنه 
ضعيف، مخادع، ساذج، سعيد في جهله. ويظهر في الأفق نوع أو جنس آخر من الوجود
الإنساني، يمكن صنعه، وإنتاجه عن طريق علم "الجينات" الذي يتحكم في توجيه 
مسارات الإنسان عن طريق استنساخه بشكل مثالي. هذا الإنسان المثالي ـ إن وجد
ـ لن يكون في حاجة الى مسرح مثل ذلك الذي نعرفه. لن يكون بمقدوره تفهم تلك
الصراعات التي تقوده وتحركه".
أريد أن أتحدث هنا ـ ولكني أختار أقل المسائل خلافية ومثيرة للجدل والنقاش ـ
عن القيمة الفائقة غير العادية لاختلاف المسرح عن العلم والمعتقدات، وهي 
أن المسرح في اختلافه عن المعتقدات أو العلم، لا ينشغل بتوصيف تاريخ
الظواهر؛ التي كان لها دور فاعل في الماضي، ولكنه يرينا الظاهرة ذاتها، 
يرينا الإنسان في لحظة حدوث هذه الظاهرة، وفي لحظة تغيرها. لا يوجد أي فن 
آخر كالمسرح؛ أو أي فرع من فروع العلم، ولا حتى المعتقدات نفسها بقادرة على
أن تمنحنا فرصة لاقتراب حميمي يتّسم بهذه الاستثارة السيكلوجية مثل "دراما
الوجود الإنساني".

كانتور

عندما سئل المبدع المسرحي البولندي الكبير "تادووش كانتور ـ 
Tadeusz Kantor"، لماذا يظهر بنفسه فوق خشبة المسرح في أثناء عروض مسرحه؟ 
أجاب بأنه في اللحظة النهائية لتقديم الإبداع المسرحي فوق الخشبة، في لحظة 
انكشاف الممثل أمام جمهوره، نجده منزوع السلاح، وهو كأنسان في حاجة الى 
حضور الإنسان الآخر. لأن المسرح الحقيقي، ذلك المسرح التجريبي الجاد، ليس 
مجرد نمر حواة، وليس بتهريج رخيص، بل دراما إنسانية معاشة هنا، وفي اللحظة 
الآنية".
وعندما نجلس في قاعة المتفرجين، فإنما نكتشف أنفسنا في موقف 
أقرب ما يكون الى زيارتنا لشخص مريض مرضاً ثقيلاً. نحن لسنا بأطباء، ولسنا 
بقادرين على مساعدته، ولكن يمكننا أن نكون مع هذا الشخص في أثناء البروة، 
في اللحظة التي يصارع فيها هذا الشخص المرض المميت. إن المرض المميت للمسرح
هو التعوّد، في تحجّر قوالبه وتكلّسها، في تعوّده على المسلّمات، والتي 
تحتاج في معظمها الى حلول فاعلة. إن ظاهرة التحرّر من قيود ذلك "المتعارف 
عليه"، تعدّ ظاهرة نادرة. فبعض الممثلين يقوم بأداء إيماءات مفرغة خالية من
المعنى، والبعض الآخر يبيع نفسه لوسائط (ميديا ـ media) أخرى، حيث يربت 
الممثل على جمهوره ويتملّقه، يسير في توافق فريد مع "الثقافة الشائعة ـ 
commen culture". وليس هذا بالشيء الذي يعاقب عليه، لأن الإنسان ـ والفنان 
على وجه الخصوص ـ هو وجود يتّسم بالخيلاء والغرور، يتعطّش الى الاعتراف به 
والوصول الى أعلى القمم، تماماً مثل السمكة في المياه. ولا يمكن لنا سجن 
الفنان في "بدروم"، أو نضع من حوله الأسوار التي تبعده عن العالم. لذلك فإن
تطوّر "التكنولوجيا"، خصوصاً "تكنولوجيا وسائل الاتصال"، تسبّب عنها في أن
العالم قد تقلّص وصغر. قيل ـ في وقت ما في بولندا ـ إن العبقري يأتي من 
الأقاليم. فالفرديات الشهيرة، والتي وهبت الشعور برسالة التبشير، ولا تملك 
قدرة إيجاد نفسها داخل البنية الرسمية (الحكومية)، قد هاجرت ـ جغرافياً الى
الخارج، أو هاجر في الداخل. ولقد راهن "تادووش كانتور" في عمله الإبداعي 
على ممثليه غير المحترفين ـ أبناء الطبيعة غير المشكلة، أما ييجي غروتوفسكي
ـ الذي ليس من الضروري التذكير باسمه ـ لم يبدأ عمله الابداعي في مسرحه 
المعملي بالعاصمة "وارسو" أو بالمدن الكبرى مثل "كراكوف ـ Krakow" أو 
غيرها، بل بدأها في اقليم "اوبولي ـ Opole" الصغيرة وشيد مسرحه هناك: "مسرح
الـ 13 صفاً. في تلك الحقبة الزمنية الصعبة بالنسبة للفنانين البولنديين، 
والتي تسمى "بزمن التخفي"، كان العثور على مأوي داخل هذه الأقاليم هو 
الطريق الأسهل. ولم تعد المشكلة في الوقت الحاضر في الهجرة فقط، بل حتى 
ايضاح تساؤل ملح: أين موقع هذه الأقاليم؟ ففي حيز المنطقة الثقافية وحدودها
يختفي رويداً رويداً معنى هذا المصطلح "الاقليم". لقد اصبح من الصعوبة 
بمكان الاختباء أمام العالم، ليكون بمقدور الفنان العمل بهدوء، أن يسعد بما
يبدعه، ان يجد الـ"تون" الصحيح غير التائه في شغب هذا العالم المحيط به 
واضطراباته.
مرة أخرى أعود الى المقولة المقروءة للكاتب المسرحي الألماني 
"تانكريد دورست". يكتب قائلاً: "المسرح هو فن ملتهم وفي ذلك قوته. بلا خجل 
او استحياء يستغل كل ما يلمسه ويقع ما بين يديه. يكسر مبادئه الذاتية. يخضع
بالقطع لكل ما هو "موضة"، يتوغل داخل الوسائط الأخرى. أحياناً ما يتكلم 
ببطء، وأسرع في أحيان أخرى. يتلعثم ويصمت. انه متطرف ومبتذل (تافه)، خبيث 
ماكر: يقطع من أوصال الرواية الأدبية، وفي الوقت نفسه يبدع شيئاً جديداً 
منها. إنني واثق من ان المسرح دائماً زاخر بالحياة ـ اذا كان بمقدورنا ان
نشعر بالحاجة الى اظهار: كيف نحن، وما لسنا نحن عليه، وكيف ينبغي ان 
نكون!!".

ميدانياً


تخفي هذه الأقوال مضامين بسيطة: يحتضن "المسرح" كل ما يقدمه 
العالم، لكنه لا يستسلم لفوضويته او زيفه ـ انه يحمل في قبضته كل ما يقدر 
عليه، من أجل التعبير عن نفسه كاملاً.

كيف تبدو هذه الظاهرة عملياً؟!، كيف يمكن لمبدعي المسرح البولنديين 
"الحداثيين" ان يبدعوا تطبيقيا "تجريبهم المسرحي"، و"معلمهم المسرحي"؟ في 
بحثي ـ وليس هذا الملخص ـ أتناول طرق ابداع فرقتين مسرحيتين بولنديتين، 
الأولى: تقدم العرض المسرحي "موروسوفوس ـ Morosophus" وهو أحد العرضين 
الممثلين لبولندا، والفرقة الثانية هي فرقة "فيرشالين ـ Wierszalin"، أما 
الفرقة الأولى فتاريخها حديث، وهي تتكون من شباب مبدعين لا تزيد أعمارهم عن
خمسة وعشرين عاماً. أما الفرقة الثانية "فييرشالين" فهي فرقة مسرحية 
معروفة لها تاريخها المسرحي الطويل، ومعترف به في بولندا، واوروبا، ويقدرها
اخصائيو "المسرح البديل ـ (Theater alternative) في العالم كله. وليس من 
الصدفة ان اخترت في بحثي هاتين الفرقتين! فما يعنيني هنا هو نوع التجربة 
المسرحية المغايرة لكل منهما، فهما غير متشابهين في "الموديل" المسرحي الذي
تقرحانه، ويفرقهما "التشكيل" والصياغة المسرحية المختلفان، والتي لا تسمح 
على المستوى العملي بالوفاق بين جيلين من المبدعين. باختصار شديد لقد بحثت 
داخل ابداعات هاتين الظاهرتين المسرحيتين اللتين على الرغم من اختلافهما، 
الا انني وجدت ثمة رابطة تربط فيما بينهما: إنها مسارح تنضوي تحت مسمى 
"التجريب" بكل ما يعنيه هذا المصطلح؛ وهي تعد مثالاً جيداً لتلك المسارح 
التي تتعامل في تناولاتها المسرحية مع "التكنولوجيا الحديثة". عن تجربة 
الفرقتين يمكن للقارئ ان يجد في البحث المطول ما قصدته

-------------------------------
المصدر : ترجمة: د. هناء عبد الفتاح - المستقبل

تابع القراءة→

الخميس، مايو 12، 2016

المسرح .. وخراب العالم / ياسر البرّاك

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, مايو 12, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

على الدوام كان المسرح لصيقاً بحياتنا اليومية ، مرة في تفاصيلها الصغيرة ، ويومياتها ، ومشاكلها الإجتماعية ، ومرة أخرى في أسئلتها الوجودية ، وإشكالياتها الفلسفية ، وأسرارها الجوّانية ، لذلك نجد الخطابات المسرحية تنوعت بتنوع الحياة الإجتماعية نفسها ، بل أن الحياة الإجتماعية تأثرت بالمسرح وديناميكيته في التعامل مع مفردات تلك الحياة ، وإن بنسب متفاوتة من مكان لآخر ، ما يعني أن العلاقة بين الحياة الإجتماعية والمسرح علاقة جدلية تخضع لمؤثرات التأثير والتأثر بحسب الظروف المحيطة بكلٍّ منهما ، الأمر الذي أدى إلى أن تكون المدوّنات الأدبية على الورق ، ومن بعدها البصرية على خشبة المسرح بفعل الممارسة الإخراجية ، إنعكاساً لحياتنا الإجتماعية ، مرة بصيغته الفوتوغرافية ، وثانية برؤيا جمالية فيها الكثير من ملامح الإبتكار والتجديد والإبداع ، لذلك نجد ثمة تنوعاً واضحاً في خارطة المشهد المسرحي العالمي وبضمنه المشهدين العربي والعراقي ، ولأن المؤلف سواء في صيغته التقليدية ، أو في شكله المعاصر حيث أصبح مخرج العرض هو الباني والمؤسس للرؤية الأدبية للنص ، فضلا عن الفرقة المسرحية التي تقوم بتأسيس المفردات الأدبية للنص عبر تقنية الإرتجال التي تُعدُّ ملمحاً من ملامح المسرح الحديث ، مازال يشغل الحيز الأكبر من مفردات العملية المسرحية ، فقد دأبت ( جماعة الناصرية للتمثيل ) بوصفها فرقة مسرحية على الإهتمام بالفعل التأليفي عبر مستويات عدّة أبرزها :

تكييف النصوص المسرحية العالمية والعربية بما يتماشى وضرورات تجربتها المسرحية من أجل أن تكون تلك النصوص مهيئة للمتلقي المحلي ، وتتم عملية التكييف تلك عبر إعادة كتابة تلك النصوص مرة أخرى ، سواء عبر الممارسة الدراماتورجية التي تعيد حيثيات النص بما يتناسب مع الوضع الراهن بوصفهم منتجين للخطاب المسرحي بإعتماد تقنية الإعداد أو الإقتباس ، أو من خلال الممارسة الإخراجية التي تقوم بقص كل الزوائد التي تراها الرؤية الإخراجية غير ملبية لما تريد الجماعة قوله في العرض المسرحي ، إذ يجري قلب البنية الأدبية للنص في شكلها التقليدي لصالح بنية جديدة ومبتكرة متخذة شكلاً جديداً يتوافق مع الشكل البصري للعرض .
وضع النصوص العراقية على المحك عبر إعادة إنتاجها على خشبة المسرح ، ليس من منطلق الشعار التقليدي الذي يرفعه الكثيرون ( تشجيع المؤلف المحلي ) فحسب ، بل من منطلق إختبار القدرة على إنشاء نوع من التكاملية في العرض المسرح تنطلق من فكرة ( الهوية الوطنية ) في صياغة الخطاب المسرحي ، وبما يتماشى مع سعي الجماعة المسرحية لتقليل مسافة الغربة الواسعة بين الخطاب المسرحي والمتلقي المحلي الذي لا يشعر – على الأغلب – بالإنتماء لفكرة المسرح في بُعدها الوجودي .
تقديم رؤى المؤلفين الشباب إلى الجمهور ، مرة عبر خشبة المسرح ، وأخرى عبر المساهمة المادية والمعنوية في طباعة نصوصهم المسرحية ، من أجل تصديرهم إلى المشهد المسرحي المحلي أولا ، والعراقي ثانياً ، فضلاً عن المشهد العربي ، بعد مراجعة تلك النصوص ومعالجتها نقدياً .
إقامة الورش المسرحية في التأليف المسرحي عبر الممارسة النظرية والعملية ، وتعليم أعضاء الجماعة أبجديات الكتابة المسرحية ، سواء تلك الكتابة الأدبية التي تقتصر على الورق ، أو الكتابة بالصوت والجسد على خشبة المسرح عبر تقنية الارتجال في صياغة العروض المسرحية ، تلك العروض التي تكون مرة بدون نص مسبق ، وأخرى بوجود نص محدد يتم الارتجال من خلاله .
توفير مناخ ( المثاقفة ) المسرحية فيما يتعلق بالنص المسرحي والكتابة الأدبية عبر التوجيه المستمر لقدرات وإمكانيات أعضاء الجماعة ، من خلال المتابعة الدقيقة والمستمرة لما يكتبونه وتوصيل انجازاتهم الفردية بحركة النقد بداخل فضاء الجماعة الثقافي ، من أجل أن تكون تجاربهم مؤسسة على خبرات علمية وأكاديمية .
ساهمت الآليات أعلاه في إنضاج العديد من تلك التجارب التي بدأت خلال السنوات الأخيرة تجتاز محليتها لتكون رقماً مهماً من أرقام بروغرام المسرح العربي ، فضلاً عن حصادهم لجوائز عربية في ميدان النص وفي مقدمتهم الكاتبين علي عبد النبي الزيدي وعمار نعمة جابر ، ولن تكون هذه الأقلام الأخيرة في عطاء الجماعة ، بل أنها مازالت تضخ أقلاماً جديدة تكتب نصوصاً مغايرة تماماً لطبيعة المنجز المحلي والوطني ، وأحدث تلك الأقلام ما يكتبه المؤلف الشاب ( مصطفى ستار الركابي ) الذي نتفائل كثيراً بموهبته المبكرة متجسدة في هذه المجموعة من النصوص ( حفل الإفتتاح الأخير ) الصادرة عن دار تموز في دمشق في طبعتها الأولى لعام 2013 ، التي نعتقد أنها ستضيف منجزاً مهما لمسرحنا العراقي .

في مسرحيات الركابي ثمة ميل واضح للإفادة من تيار مسرح اللامعقول ، وعلى الخصوص الأساليب البيكيتية المُؤسَّس لها في مسرحيات ( صموئيل بيكيت ) ، حيث نجد الإنتظار ثيمة مهيمنة على أغلب المسرحيات ، وإن كان ذلك الإنتظار متنوعا بأشكال تعبيرية مختلفة ، فضلاً عن إنتفاء فكرة التواصل بين الشخصيات تعزيزاً لشعور الغربة التي ينتابها طوال حدث المسرحية ، ناهيك عن الأجواء الكابوسية التي نجدها حاضرة في النصوص الخمسة ، لذلك نجد الركابي في نصوصه هذه يهتم بالمهمش والثانوي من الحياة الإجتماعية والنفسية لشخصياته التي تكون في الأغلب بلا تاريخ ، ما يعني أنه يكتب عن خراب مركّب ، يبدأ هذا الخراب من الذات أولاً ، ويمرّ عبر الآخر ثانياً ، لينتهي عند خراب العالم ، والخراب هنا ليس خراباً بمعناه المادي ، بل يتعداه إلى الخراب المعنوي ، خراب في الروح ، وخراب في القيم ، وخراب في المواقف ، ويتجسد هذا الخراب بأشكال عدَّة ، أحياناً يكون عبر أفعال جسدية تقوم بها شخصياته ، وأحياناً أخرى عبر ملفوظات حوارية تعزز الفعل النفسي بداخل النص ، متخذاً من التجريد سمة واضحة في لغة الحوار أولاً وفي علامتي الزمان والمكان ثانياً ، لأنه لا يريد الحديث عن يوميات الشخصيات إلا بقدر تأثير تلك اليوميات في تكوينها الأنطولوجي ، أي أنه يأخذ من الواقع والحياة الاجتماعية ثيماً غير مفكر فيها ، أو أنها مهملات لا يمكن تصديرها سيميائياً كفعل مسرحي قابل للتقويل على فضاء الورقة البيضاء أولاً ، وعلى فضاء الخشبة بعد ذلك ، وهذا التجريد العالي في نصوصه ينسحب على مساحة الرؤية الأدبية ، فالركابي لا يكتب نصاً مسرحياً بالمعنى الأدبي للنص ، إنما يكتب نصاً يضم بين تضاعيف رؤيته الأدبية نصاً إخراجياً ، بمعنى أنه يكتب نصه بروح دراماتورجية ، تلك الروح التي تزاوج بين خيال المؤلف وقدرة المخرج على تجسيد ذلك الخيال على خشبة المسرح برؤية بصرية ، ودليلنا في ذلك أن الركابي يهتم كثيراً بالنص الثانوي في نصوصه ( إرشادات المؤلف ) ويجعل منه نصاً موازياً لنصه الأدبي المُكوَّن من الميكانزمات التقليدية ( الشخصيات ، الصراع ، الحبكة ، ….. الخ ) .

في مسرحية ( بنيلوبي ) يستعير الركابي رمزاً أسطورياً إغريقياً ليتخذ منه قناعاً للبوح ، وأهم ما يفعله أنه يُفرِّغ ذلك الرمز من مرجعياته التاريخية ، بمعنى تعصيره ( جعله معاصراً ) والقذف به أمام القارئ / المتلقي ليجد فيه بعضاً من مأساته ، خاصة تلك المأساة التي تولّدت عن حروب عبثية ساهمت في وأد الأحلام ، ويتم ذلك عبر تشطير الرمز الأسطوري المتجسد في شخصية ( بنيلوبي ) ، مبتعداً فيه عن التعامل الشكلي مع الرمز ، لتصبح مفردات الإنتظار ، والإخلاص ، والأنوثة المهدورة ، مهيمنات واضحة في النص ، فضلاً عن ذلك فهو يعزز تشطيره ذاك بخلق مستويات عدَّة للغة المسرحية مستعيراً بعض السياقات اللغوية القرآنية ومتناصاً معها كما في سورة الفيل القرآنية التي تعزز القيمة اللغوية لحوار الشخصيات عبر اللعبة التناصية التي تمد حوار الشخصيات بالثراء اللغوي وتعين الحدث في ثيمة الخراب المركزية التي يعالج النص بعضاً من وجوهها .

تصبح اللغة في مسرحية ( W . C ) ليست أداة لنقل الأفكار كما هو الحال في المسرحيات الواقعية ، بل تكون مكمّلة لأفعال تكرارية نجدها في إرشادات المؤلف ( النص الثانوي أو الموازي ) ، لذلك نراها لغة مفككة تعتمد على الجمل القصيرة المبهمة ، فتصبح مفردة المرحاض بحضورها المادي في سياق الفعل المسرحي في النص رمزاً لواقع مأزوم يتم التعبير عنه بوساطة الرجل الذي يجلس على المرحاض متضايقاً من عدم قضاء حاجته ، تلك الحاجة التي تصبح معادلاً موضوعياً لأحداث تقع في الواقع تتجسد في هيئة أفعال لدى الشخصيات الأخرى تقوم بها شخصيتي ( العجوز ، والرجل ) وهي بمجملها أفعال تنحو بإتجاه التجريد .

يوجه الركابي في مسرحية ( حفل الإفتتاح الأخير ) إهتمامه صوب شخصية المثقف بوصفها بيضة القبّان في المعادلة الوجودية التي تعيشها البشرية ، فالمثقف – على الدوام – كان محط حركة التاريخ بوصفها محرّكا فاعلاً في تلك الحركة فهو صانعها ، وهو المؤثر فيها ، مُظهراً لنا تقهقر سلطة المثقف أمام سلطة الدكتاتورية عبر ثلاثة شعراء وعريف حفل واحد ، خالقاً بذلك عالمين ، عالم الشعراء ( الكواليس ) وهو العالم المرئي الذي نراه أمامنا ، وعالم السلطة / الدكتاتورية الذي يقع في قاعة المسرح والمنصة ، وهو عالم غير مرئي لا نراه أمامنا عبر تقنية فنية مبتكرة يشكل فيها عريف الحفل جسراً بين هذين العالمين ، فضلاً عن الأصوات التي تنقل لنا ما يجري في الصالة ، مُظهراً لنا الشعراء وهم في الكواليس وكأنهم شاعراً واحداً ، ما يعني أن هذه الصورة النمطية للمثقف الخانع هي نفسها في كل الدكتاتوريات ، معتمداً على المفارقة الدرامية التي تأتي في نهاية المسرحية مانحة الحدث المسرحي قوّة وغرابة بعد أن يخرج الشاعر أمام الدكتاتور ليتهم عريف الحفل بمحاولة قتل سيادته مستخدماً عناصر الشد ، والتشويق ، والتوتر تمهيداً لهذه المفاجأة التي تأتي في خاتمة المسرحية .

تهيمن في مسرحية ( للكبار فقط ) ثيمة العقم حيث تصبح معادلة الحياة / الموت مولِّدة لأحداثها ، فالعجوز غير القادرة على الإنجاب يقابلها ( الشخص ) غير القادر على ممارسة الفعل الجنسي الذي يضطره إلى الإستعانة ببديل عنه ( الرجل ) ، ولذلك يحتشد النص بالمرموزات في مستوياتها السيميائية مثل : الدكان ، اللافتات السود ، الكاميرا ، ماكينة الخياطة ، اللوحة غير المكتملة ، ما يعني أن الركابي يعزز الفرضية النقدية التي تحدثنا عنها في مطلع هذه المقدمة من أنه يكتب نصاً إخراجياً أكثر من كونه نصاً أدبياً ، لذلك نجده يستخدم الكاميرا السينمائية بوصفها جزءً من الحدث معززاً التقنيات البصرية في نصه ، عبر إستخدامها لتسجيل وتوثيق إعترافات الشخصيات ، فضلاً عن إشغال الحدث العام للنص بهيمنة أو سلطة الكاميرا التي تُعدُّ معادلاً موضوعياً لسلطة أخرى موجودة في الواقع .

أما في مسرحية ( مطلقات يبحثن عن …. ) فيلج الركابي عالم المرأة التي نجد لها حضوراً طاغياً في نصوصه الخمسة ، ويكون هذا الولوج أيضاً عبر الدافع الجنسي بوصفه مولداً للحدث المسرحي ، إذ أن فعل الطلاق يعني التوقف عن ممارسة الحياة الطبيعية في شكليها البايلوجي والسايكلوجي ، لذلك نجد فعل التشبث بالحياة يندرج ضمن الرغبات المعلنة للشخصيات التي تجعل من الشاب القذر أملاً في خصوبة مقموعة ، ناهيك عن العامل الديني الذي يبرز بوصفه محركاً آخر من محركات الدافع النفسي لدى الشخصيات حيث يصبح الدين فعلاً ديماغوجياً يضلل الشخصيات عن واقعها الحقيقي ورغباتها المكبوتة ، متخذا من فعل الرقص تعبيراً حسياً وجسديا عن تلك الرغبات .

يقيناً أن ما يخطَّه الكاتب الشاب مصطفى ستار الركابي في نصوصه الخمسة يمثل مرحلة جديدة من مراحل تطور الكتابة المسرحية الشابة ، تفتح لنا أفقاً للتوقع بظهور أجيال مسرحية قادمة تتولى مهمة التعبير عن حياتنا الإجتماعية المعاصرة برؤى فنية جديدة ومتجددة ترسم لنا صورة مستقبل مسرحنا العراقي .


تابع القراءة→

المسرح السياسي العربي تغييب / د.عزة القصابي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, مايو 12, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

المسرح السياسي العربي

عندما سئل (برشت) عن سبب كتابته لمسرحياته السياسية مثل ( البنادق السيدة كارا ) رغم الجو السلمي الذي تعيشه الدنمارك؟… فأجاب قائلاً : “إن تجميع الكلمات الجيدة والطيبة لا يُعد فنًا، ولكن كيف يستطيع الفن تحريك الناس، إذا لم يستطع تصوير مصائر البشر والأقدار التي تمس الناس في كل مكان ؟…وإذا وقفت مكتوف اليدين إزاء بؤس وآلام الإنسان، فكيف يمكن يا ترى أن تخفق قلوبهم إزاء ما أكتب ؟..وإذا لم أسع أنا نفسي لإيجاد طريق لهم لإنقاذ أنفسهم من آلامهم، فكيف يمكنهم إذن أن يجدوا طريقًا إزاء كتاباتي؟!”[1]

يعتبر المسرح نظامًا ثقافيًّا حيَّا يستمد مكوناته من النظامي  السياسي والاجتماعي، حيث            لا يمكن أخراج  المسرح عن دائرة هذين النظامين  في المجتمعات، فهو جزأ لا يتجزأ منهما ، كونه  يتمتع  بخصوصية  منفردة  تميزه عن بقية العناصر الأخرى.[2]ومن هنا انطلقت تباشير محاولة التحام المسرح بقضايا السياسية الاجتماعية . وبرزت مفاهيم جديدة مثل المسرح السياسي، ورغم التحام المسرح بالسياسية منذ الأزل، إلا أنه كمصطلح ظهر في مرحلة لاحقة .

وهناك صعوبة  في تحديد مفهوم  (المسرح السياسي) ، حيث  عادة ما ينتاب هذا المفهوم شيئا من الغموض، وخاصة إذا بحثنا في تاريخ المسرح العربي. وهذا مغالطة واضحة بين (المسرح المسيس) والمسرح السياسي. ولقد  أشار (سعدالله ونوس) في مقدمة مسرحيته  (مغامرة رأس المملوك جابر) إلى الفرق بين المسرح السياسي ومسرح التسييس. فما نجده في الواقع العربي؛هو عبارة عن عروض مسرحية تحاول جاهدة التنفيس والتعبير عن مواقف، يكون هدفها الأول التنوير والتعبير عن الموضوعات  الاجتماعية . ويسعى مسرح(التسييس) إلى  طرح  القضايا  السياسية ذات الصلة الوثيقة بالهم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.

ويقوم هذا النوع المسرحي بإرسال إشارات سريعة تتضمن فكرة رئيسية تدور حول بعض الأفكار الفرعية إلي عقل  المتلقي ، لتعكس علي وعيه صورًا جزئية ومشكلات ومظاهر سياسية ذات تأثير علي الحركة التنموية في المجتمع [3].

ويشهد  الواقع العربي ظهور الكثير من المسرحيات التي يمكن إدراجها تحت أطار ما يسمى (تسييس المسرح) ، والذي يتمثل في عدد من المسرحيات: مسرحية ( جواز علي ورقة طلاق – علي جناح التبريزي وتابعه قفه – حلاق بغداد – الزير سالم – سليمان الحلبي ) لألفريد فرج،    ( مأساة الحلاج الأميرة تنتظر – ليلي والمجنون – بعد أن يموتا لملك ) لصلاح عبد الصبور،     ( الفتي مهران – عرابي زعيم الفلاحين – النسر الأحمر- وطني عكا) لعبد الرحمن الشرقاوي،           ( أنت اللي قتلت الوحش ) لعلي سالم.

ومن ناحية أخرى، فقد غاب (المسرح السياسي) بمعناها الحقيقي الذي يهدف إلى اتخاذ مواقف معارضة لسياسات معينة، والتي يمكن أن تمارس ضغوطًا مغايرة  لتوجهات الغالبية العظمي في بلد ما تحكمه أنظمة سياسية قمعية. ويسعى  (المسرح السياسي)  إلى عرض الظواهر التاريخية ومسرحة قصص مماثلة تتحدث عن ظاهرة الاستغلال، ونهب ثروات الشعوب، وعرض صور للقهر العنصري والاستعماري لهذه الثورات،ويكون ذلك بهدف تأجيج الجماهير لمواجهة ناجزة  لمظاهر الظلم السياسي والاجتماعي[4] .

وهناك الكثير من المسرحيات التي تنضوي تحت راية مفهوم (المسرح السياسي) في الوطن العربي، أمثال: مسرحيات سعدالله ونوس (مغامرة رأس المملوك جابر – الملك هو الملك – الفيل يا ملك الزمان – حفلة سمر من أجل 5 حزيران ) ومسرحية ( محاكمة الرجل الذي لم يحارب ) لممدوح عدوان ، ( النار والزيتون – ألحان علي أوتار عربية) لألفريد فرج،  ومسرحية ( مسافر ليل) لصلاح عبد الصبور ( الحمار يفكر – الحمار يؤلف ) لتوفيق الحكيم.

ولقد وردت كلمة (السياسة) في سياق الحديث عن المسرح لأول مرة في عبارات (اوكيسي) ، إلا أنه لم يصل النقاد الغربيون إلى تحديد تعريف نهائي للمسرح السياسي[5].

وتعود  الأبعاد السياسية في تاريخ  المسرح العالمي  إلى زمن التراجيديات التي  تتحدث عن  الأنظمة الحاكمة  والحروب والقرارات المصيرية، وصولا إلى مسرحيات شكسبير وموليير وراسين أو ستندربج أو بيكت… والتي كانت عبارة عن مسرحيات سياسية غير مباشرة ، والتي عادة  ما يغلب عليها الرؤية الوجودية أو التاريخية أو الإنسانية[6].

ويقترن المسرح السياسي العالمي، باسم ( ببسكاتور)[7]والذي فسر فلسفة المسرح السياسي،  بأنها  فكرة الفن للفن ما هي إلا تسلية عابرة ومؤقتة. لذا ينبغي على الفن أن يكون معملا وتربية أخلاقية  ووسيلة من الوسائل التعليمية. ويسعى هذا المسرح  إلى إبراز الإنسان السياسي الثوري ، حيث أن مثل هذا الإنسان جدير بالصعود على خشبة المسارح، لإظهار أبعاد التاريخ، وإظهار موقف الإنسان في مواجهة المجتمعات الظالمة، وإظهار قدر الشعب كمجموع، قبل قدر الإنسان كفرد، بل والتعرض إلى قدر العصر نفسه[8].



          وأكد (بسكاتور) أهمية ارتباط المسرح السياسي بحركة وتحركات طبقة العمال (البروليتاريا)، والكادحين، والمواطنين العاديين. من اجل إتاحة حياة حرة كريمة، ترفع من إنسانيتهم، وتحقق حقوقهم المهنية سياسياً واقتصادياً[9]. واستطاع هذا المسرح في النهاية، استغلال المشكلات السياسية لصالحه، وتنوير الجماهير سياسياً، وتعبئتها وجدانياً وعاطفياً. ولم يكن هدفه تقديم متعة جمالية للجمهور، بقدر ما يدفع هذا الجمهور إلى اتخاذ موقف عملي من القضايا التي تهم  بلاده. ذلك أن المسرح عنده، يعني برلمانا، والجمهور هو الهيئة التشريعية[10].

وتعرف  الناقدة المصرية (نهاد صليحة) المسرح السياسي بأنه  : ” مجموعة الأفكار أو الفلسفة التي تشكل نظرية الحكم، التي يتم في ضوئها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات في المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تتحكم في توزيع السلُطة والمال، وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للإفراد والجماعات”[11].

فيما  يضع  (أرتو)  لمفهوم المسرح السياسي  تعريفًا  مغايرًا، عندما يقرنه بحدث سياسي ما،            وفي ذات الوقت، فقد رفض السياسة كمادة مسرحية بحته، وكان يدعو  إلى التحريض السياسي محل الثورة السياسية والثورة الشاملة، كما يعتبر فعل الثورة السياسي، هو فعل مسرحي” [12].

وتعود بدايات المسرح السياسي إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ، ما رافقها من تحولات جوهرية على مستوى الأنظمة الدينية والعسكرية والتحولات التقنية والموجه الصناعية الكبرى[13]..وتزامن ذلك مع ثورة الحداثة، حيث اعتبرت الأبعاد السياسية والاقتصادية أحد أركانها، إضافة إلى الضغط الهيمني للدولة والاستثمار البيروقطي للحياة الاجتماعية والفردية، يهيئان دون شك لأزمات كبرى في هذا المجال[14].

وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية  القرن العشرين شهد المسرح السياسي ظهور الكثير من  المسرحيات هدفها الأول انتقاد الشخصيات الحاكمة والدولة وبرامج الحكومة والدعوة لنصرة قطاعات الشعب الفقيرة والحديث عن الاستعمار والكولنيالية والحروب، والانتصار لقوى الثورة ومساندة مصائر الشعب، والحديث عن المشاركة في حركات التحرر كما حدث في بلدان كالصين واسبانيا وكوريا وفيتنام [15].

وتشير الدراسات المسرحية إلى أن  بدايات ظهور (المسرح السياسي)  في الوطن العربي، كان  بعد نكسة يونيو  1967م من خلال عرض مسرحية (باب الفتوح) التي هي من تأليف محمود دياب، ومن إخراج سعد أردش وبطولة عبد المنعم إبراهيم وفردوس عبد الحميد،والتي قدمها المسرح القومي المصري عام 1976 م[16].كما يقرن (عبد الفتاح قلعة جي) بدايات المسرح السياسي في مصر بالمسرح الفرعوني من خلال قصة (إيزيس وأوزريس) . والتي تعتبر من بواكير  التمثيل الديني  الذي يقوم على الصراع حول السلُطة بين الأخوين أوزيروست[17].

وهناك الكثير من العوامل التي ساهمت في عدم استمرارية المشهد السياسي المسرحي العربي، منها ارتباط هذا النوع المسرحي بالكوميديا؛ وكأن المسرح السياسي العربي لا يمكن أن يظهر إلا في أحضان الكوميديا، فمسرح (الشوك) رغم أهميته كتجربة مسرحية، فإنه  لم يكن سوى مشاهد كوميدية تعتمد على نجومية (غوار الطوشة) الشخصية الشهيرة التي كان يؤديها الفنان السوري دريد لحام، والذي يتصف بقدرة هائلة على القيام بالأدوار الكوميدية ذات الطابع السياسي ، ولعل أشهر أعماله مسرحية (كأسك يا وطن).

وهناك المسرحيات السياسية الكوميدية التي قدمها الفنان عادل إمام في مصر التي تنضوي تحت تصنيف المسرح السياسي عام 1995 م [18].

فيما قدم الفنان أحمد بدير مسرحية بعنوان ( دستور يا أسيادنا )، والتي  أثارت ضجة إعلامية رافقت العرض، بعد حجبه من قبل وزارة الثقافة المصرية. وفي الخليج  العربي ظهرت  تجارب مسرحية ذات طابع سياسي؛  مثل تجارب حسين عبد الرضى (باي باي يا عرب) ومسرحيه (سيف العرب)ومسرحية (باي باي لندن). إضافة إلى تجارب غانم السليطي،  مثل مسرحية  (هالو جلف)  ومسرحية  (أمجاد يا عرب) ومسرحية  (أنا ومراتي والإرهاب) ومسرحية (عنبر و11 سبتمبر) …وغيرها[19].

وهناك محاذير كثيرة للمسرح السياسي جعلته متعثرًا في مسيرته الفنية، مما جعل  البعض ينأى عن هذا النوع المسرحي، ويميل نحو المسرح الاجتماعي (المسيس) …ولعل أهم تلك المحاذير التي ترتبط بحرية التعبير في ظل الأنظمة الحكومات العربية الضاغطة، مما يجعل هناك صعوبة عند محاولة  المقارنة بين المسرح السياسي العربي والغربي. نتيجة غياب مقومات المسرح بصورة عامة، والمسرح السياسي بصورة خاصة، ونأمل أن يقوم هذا المسرح بدوره الطليعي الذي رافقه منذ  خمسينيات القرن المنصرم، وخاصة في ضوء المتغيرات السياسية التي تعيشها الأقطار العربية.

وبالرجوع إلى عصرنا الحالي وما يعتمل فيه من  ثورات ربيعية، فإنه يفترض أن يقوم المسرح بدوره الحقيقي لشحن المشاهد بالجرعات السياسية التي يمكن أن تصنع  منه ماردًا، يمكن أن يثور  في وجه الأنظمة القمعية كما ذكر (سعدالله ونوس)[20] في مقدمة كتابه (بيانات لمسرح عربي) [21] .

وينقسم المسرح السياسي إلى ثلاثة أنواع[22]:

مسرح سياسي إصلاحي: يسعى هذا المسرح إلى أصلاح النظام السائد، بطريقة إيجابية بناءه.

مسرح سياسي ثوري: يدعو هذا المسرح إلى استبدال نظرية سياسية بأخرى. ومن أمثلته مسرح برخت الذي ينقل مركز الصراع الدرامي من خشبة المسرح إلى عقل المتفرج – أي إنه يعرض موقفا واقعيا ثم يسلط عليه ضوءًا نقديًّا مما يجعل المتفرج ينتبه إلى مواطن الخلل فيه[23].

المسرح الفكري السياسي الجدلي: يعتمد  هذا المسرح على الإيديولوجية القائمة على الجدل  الفلسفي، دون التزام المؤلف لموقف بعينه. وهو يتخذ موضوع الإيديولوجيا  أو الفلسفة ، والتي يقدمها كافتراض أساسي يتم طرح الصراع وحسمه في إطارهما [24].

ويذكر (عبد الفتاح قلعة جي) في كتابة (المسرح الحديث…الخطاب المعرفي وجماليات التشكيل) إلى أن علاقة السياسة بالمسرح تنقسم إلى قسمين؛ الأول ذات الصلة غير مباشرة، وهو الذي يطرح موضوعًا سياسيًّا، للتعبير عن المشكلات الاجتماعية التي هي نتيجة للأوضاع السياسية القائمة. أو أن تكون مسرحيات ذات صلة مباشرة بالسلُطة في العرض المسرحي بدعاوي إيديولوجية أو توقراطية أو كاريزمية ، مما يستدعي نشوء وعي مسرحي مضاد لنمط السلطة المسرحية[25] .

وتتفاوت الآراء حول دور المسرح بشكل عام، فالمسرح ليس بالضرورة أن يدخل في ملابسات السلُطة الحاكمة، ولكنه قد يقترن بالهم السياسي الاجتماعي، وهو يسعى إلى تفكيك الواقع، وتعريته ورفع أقنعته وفضح مشاكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بهدف التعبير عن  القضايا الإنسانية ، وهو  في النهاية يثير أسئلة أكثر مما يضع أجوبة[26] .

وتتباين الأشكال المسرحية التي يمكن أن يلجأ الفنان إليها، فقد تكون نصوصًا مسرحيةً تعالج موضوعًا مصيريًّا .  وسعت التجارب الحديثة في المسرح السياسي على منافسة وسائل الإعلام البصرية  وأنظمة الاتصال الرقمية الحديثة. حيث قدمت عددًا من  التجارب المسرحية الحديثة التي قلصت  مساحات الحوار ، واهتمت بالتقنية بغية صنع لوحة  بصرية تجاري  ركب المسرح العالمي .

ولقد أتاحت التكنولوجيا أفاقًا فنية لم يسبق اقتحامها، مما جعل المسرح يكون قادر  على منافسة الفنون المرئية الأخرى كالسينما والتليفزيون والإنترنت . والمسرح العربي اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بأن يكون أكثر قدرة  للتعبير عن الموضوعات المصيرية  العربية،  بغية الكشف عن الفساد وتعرية القضايا الاجتماعية المستترة في رحم المجتمع، والتي تحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب عنها[27].

ومن ناحية أخرى، فقد ساهمت (الرقابة)  في إخفاق المسرح في التعبير عن قضاياه ، والتي كانت بمثابة سندان يهدم  بنية العمل المسرحي الإبداعي، والذي يسعى إلى تفكيك فقراته ليتحول  إلى عمل يفتقد  إلى البناء الفني . وهذا ما يجعلنا نشير إلى كيفية استغلال الحريات المتاحة في المسرح العربي، لكون المسرح أحوج ما يكون إلى التحرر من القيود التي تثقل كاهله، عن طريق تقديم  تجارب مسرحية تعكس قضايا المجتمع.

برغم مضي ردح من الزمن على تأسيس المسرح العربي، إلا أن هناك  مزاوجة واضحة  بين التشجيع من عدمه، والتي هي  أحد مظاهر الرقابة، مما كان له الأثر السلبي على إعاقة استيعاب الظاهرة المسرحية، استيعابًا ثقافيًّا واجتماعيًّا شاملاً من قبل المجتمع. كما أوجدت في أوساط المثقفين روحًا منكسرة مهزومة، ظلوا بسببها يشعرون بأن كل حجج الرقابة والأنظمة الديمقراطية أصعب ما تكون. وهذا يجعل الرقابة أيا كانت أشكالها بمثابة المعول الذي ينخر في بنية الأعمال الفنية المقدمة، مما قد يسبب في أزمة حقيقية تحتاج إلى حلول وسطى، خاصة في ضوء ما نعيشه من انفتاح عالمي بواسطة القنوات الفضائية وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة[28].

ويشير محمد عزام إلى أن الرقابة استطاعت أن تهمش المسرح العربي، مثلما حدث في الجزائر عندما أغلقت أبواب معهد الفنون المسرحية،  كما كانت الرقابة في  تونس عاملا مهما في تجميد نشاط المسرح وأفلاسه . وهي ذاتها جعلت  المسرح في باقي البلدان العربية مثل البحرين والأردن والمغرب يكون مغيبا عن الواقع …وذلك بسبب انعدام حرية التعبير فيها، وفقدان الديمقراطية، وتحولها إلى مجرد شعارات زائفة. لذلك لجأ الكتاب والأدباء إلى التاريخ والتراث والرموز والأساطير، واتخذوها قناعا يختفون خلفه عن (الرقابة)[29].

وهناك صعوبة واضحة عند محاولة قياس حرية التعبير في نصوص المسرح العربي،  لكون المسرح ما هو إلا وجه واحد من أوجه الأنشطة الثقافية الأخرى، لذلك كانت هناك أشكال في   الاستدلال على الحريات المتاحة فيها. وإن كان هناك من لا يزال يمني نفسه، بإعطائه مساحة أكبر للتعبير عن  رأيه بشفافية أكثر، بدلاً من القيود التي تحد من حركته، والتي من شأنها تجميد  التفاعل بين الفنان والمشاهد، ومن خلال العروض المقدمة.

وليست بالضرورة أن تكون تلك القيود نابعة من الأنظمة السياسية، ولكنها قد تعكس الأطر الاجتماعية الواهية، التي تشكل حلقة من الصعب الخروج منها، فهناك بعض العادات الاجتماعية السطحية، وكذلك طريقة تفكير بعض الشخوص(لجان تقييم النصوص)  التي تنم عن عدم الوعي والفهم العميق لمعنى الفنون، وهذا بدوره أوجد فريقين من الناس، الفريق الأول هو من يحاول أقناع  نفسه بأنه متحرر ولو بالتقليد الشكلي.. والفريق الآخر يرفض التغيير المطلق! ..وفي كلتا الحالتين ينجم عنهما ضياع البُعد التراكمي للثقافة المسرحية[30].

ختاما، يضج  الواقع العربي المعاصر بالكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يصعب القطع فيها، ولكن أغلبها تدعو إلى الإصلاح والتغيير من أجل حياة كريمة تضمن للمواطن العربي الاستقرار والعيش الكريم.

وعند الحديث عن المسرح السياسي، فإنه لابد من الإشارة إلى المغالطة الناجمة عن اختلاط المفهومين  ” المسرح السياسي” و ” تسييس المسرح” ، حيث الغالب انتشار المسرح المسيس، وغياب المسرح السياسي الحقيقي. نظرًا لتضاءل نسب الحرية لدى المبدعين،  وذلك فيظل لأنظمة السياسية الشمولية السائدة، حيث ينضوى “المسرح” على الأغلب ضمن أطار المؤسسة الرسمية، لذا كان عليه أن يكون عنصرًا مسالمًا، وعليها لابتعاد عن التيارات السياسية اليسارية .

[1]القصابي، عزة،  (حرية التعبير بين الرفض والقبول في المسرح الخليجي) ، ندوة (المسرح والديمقراطية) في مهرجان الكويت العاشر 2008م، ص 5

[2]كرومي، عوني، الخطاب المسرحي: دراسات عن المسرح والجمهور والضحك، السلسلة المسرحية(الدراسات)، الشارقة2004، ص11

[3]القصابي، عزة، ورقة بعنوان  (أثر الفضائيات في الخطاب المسرحي العربي) ، المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجـزائر، يونيو 2007م، ص 4

[4]المرجع السابق، ص5

[5]المهندس، فؤاد، “المسرح السياسي في الغرب ونظيره في الوطن العربي”،
عالمالمسرح http://www.palmoon.net/2/topic-2014-112.html

[6]النصير، ياسين، أسئلة الحداثة في المسرح، الهيئة العربية للمسرح: الشارقة، الطبعة الأولى، 2011م،33

[7]اروين بسكاتور (1893 – 1966) : مخرج مسرحي ألماني، تتلمذ على يد المخرج (ماكس راينهاردت) في المسرح الشعبي الألماني، وهو أحد مؤسسي المسرح السياسي (البروباجندة) أو (الدعاية السياسية) . وأسس مدرسة للتمثيل فيها تحت

اسم :The     Dramatic Work shop)  المدرسة الدراماتيكية التجريبية) .

 [8]عزة القصابي، ورقة  بعنوان :(المسرح والإعلام في الربيع العربي)، الندوة الفكرية (مسرح المستقبل – تغيرات وتصورات )، مهرجان المسرح الأردني  (14-24 نوفمبر 2011م)، ص10

[9]المرجع  السابق، نفس الصفحة.

[10]جيمس روس – ايفانز، المسرح التجريبي من ستانسلافكي الى اليوم، ص64.

[11]صليحة، نهاد، المسرح بين الفن والفكر، هلا للنشر والتوزيع: الجيزة، الطبعة الأولى، 2010م. ص175

[12]االنصير، ياسين، المرجع السابق،35

[13]النصير، ياسين،المرجع السابق، ص32

[14]بودريار، جان (ترجمة : محمد سيلا)، الاشراف: جمال الأبطح، قضايا وشهادات، كتاب ثقافي دوري، (3) شتاء، 1991…ص288

[15]النصير، ياسين، المرجع السابق، ص31

[16]المهندس، فؤاد،المرجع السابق.



[17]قلعة جي، عبد الفتاح، ، سلسلة الدراسات (11)، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2012م. ص10

[18]عصمت، رياض، ” هوامش مفتوحة على  أزمة المسرح العربي…والكل متهم”، مجلة كواليس، مجلة فصلية، جمعية المسرحيين بدولة الإمارات العربية المتحدة، العدد 23، يونيو 2010م، ص 88

[19]المهندس، فؤاد، “المسرح السياسي في الغرب ونظيره في الوطن العربي”،
عالمالمسرح http://www.palmoon.net/2/topic-2014-112.html

[20]تتمثل  أهمية (المسرح السياسي) كونه يشكل مرحلة ما بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1967 والتي سميت بنكسة حزيران ، والتي أشهر  أعلامها  الكاتب المسرح السوري سعد الله ونوس، الذي كتب  أول نص مباشر يتحدث عنها هو  ” حفلة سمر من أجل 5 حزيران” . وقد مثل هذا النص عشرات المرات في عدد من الدول العربية، لينتشر لاحقا كصرخة احتجاج على الأنظمة والتيارات العربية التي قاد فكرها للهزيمة. ..  للمزيد أنظر ص 36 ، كتاب ( أسئلة الحداثة في المسرح)  النصير، ياسين،  الهيئة العربية للمسرح: الشارقة، الطبعة الأولى، 2011م.

[21]سعد الله ونوس،  بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد:بيروت، الطبعة الأولى، 1988، ص 42

[22]صليحة، نهاد، المسرح بين الفن والفكر، هلا للنشر والتوزيع: الجيزة، الطبعة الأولى، 2010م. ص175

[23]المرجع السابق، ص186

[24]صليحة، نهاد، المرجع السابق ، ص189

[25]قلعة جي، عبدالفتاح، ، سلسلة الدراسات (11)، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2012م. ص10

[26]قلعة جي، عبدالفتاح ، المرجع السابق، نفس الصفحة.

[27]صالح أبو إصبع،استراتيجيات الاتصال وسياساته وتأثيراته،عمّان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2005،ص246.

[28]عصمت، رياض، ” هوامش مفتوحة على  أزمة المسرح العربي…والكل متهم”، مجلة كواليس، مجلة فصلية، جمعية المسرحيين بدولة الإمارات العربية المتحدة، العدد 23، يونيو 2010م، ص 89

[29]عزام، محمد، مسرح سعدالله ونوس…بين التوظيف التراثي والتجريب ..دراسة، دار علاء الدين:دمشق، الطبعة الثانية، 2008م.ص200

[30]غلوم، إبراهيم ، ورقة بعنوان ” الرقابة بوصفها ثقافة نسقية”، مقدمة في مهرجان الكويت الثامن 2005م، ص 6-11.

------------------------------------------

المصدر :  مجلة  الخشبة

تابع القراءة→

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9