أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الاثنين، مايو 23، 2016

راهب المسرح والاب الروحي بهنام ميخائيل

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الاثنين, مايو 23, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

الى الشمعة التي احترقت من اجل ان تنير لنا طريق الايمان الحقيقي بالخشبة المقدسة 
                                       بهنام ميخائيل
حينما تصادفه ولاول وهلة , لا تصدق بان هذا الانسان هو من الذين يهتمون بالفن ويعشقون مذاهبه العالمية , ولا سيما المذهب الواقعي , هذه المدرسة التي انغمس بها حتى اذنيه وبكل تفاصيلها , انه انسان بسيط بهيئته , وقيافته فيها شيئا من البساطة والاعتدال ,قصير القامة, اصلع الراس انما على جانبي راسه شعر يمتزج سواده مع بياضه , جبينه تستدل منه عن وجود خفايا واسرار ومشاريع وامنيات , انما لا يسستطيع تحقيقها لكونه غريب الاطوار , ويختلف بنظرته الى هذا المجتمع عن عاداته وتقاليده وافكاره , وحتى ارائه ونظرته للواقع الذي يعيشه من عادات وتقاليد بالية لا يعترف بها , انما هو متواضع ويجمع مابين الخجل والشجاعة الادبية مستمدا اياها من ايمانه العميق بما يفكر ويفعل .
انا سمعت عنه في باحة معهد الفنون الجميلة في الكسرة , الصغير والكبير كان يتكلم عنه وعن خوفهم منه وعن جدية العلاقة مابينه ومابين الطلبه , ودقة تعامله معهم , وهذا لم يعجب البعض من الطلبة الذين اخذوا يصبون له العداء , ويخططون للاعتداء عليه , وهذا ماحصل , بعد ان اتفق اثنين او ثلاثة من الطلبة المشاكسين , حينما حاولوا الاعتداء عليه وضربه على راسه مما ادى هذا الاعتداء بنزيف دماء في راسه  , الا ان هذا الاعتداء لم يثنيه عن تغيير مبادئه التربوية والاخلاقية , بقدر ماحاول مجابهتهم بالابتسامة اللطيفة والمسامحة الكريمة  , كان نتيجة ذالك ندمهم  واعتذارهم منه عما بدر منهم بحقه في الوقت الذي لم يكن في علمهم ان تشدده ماكان يصبو الا من اجل فائدتهم وتثقيفهم على المفاهيم والاخلاق الفنية المسرحية  الصحيحة, والتي اعترفوا بها فيما بعد تخرجهم واستذكارهم لهذا الاعتداء ومسحة الندم والالم ظاهرة على حال لسانهم , وهم يتكلمون عن سوء معاملتهم ومشاكستهم لهذا المربي الجليل , حينما اتفقوا ثلاثتهم على الاعتداء عليه .
هذا هو بهنام ميخائيل ؟؟؟
المربي الفاضل وراعي المواهب الفطرية وصقلها بعد قبولهم طلبة في الصفوف الاولى في معهد الفنون الجميلة , لم يكن يبخل مما عنده من ثقافة وخبرة وتجربة , كان يمنحهم معظم اوقاته, ولا سيما بعد انصرافهم الى بيوتهم او الى اقسامهم الداخلية , ومن ثم عودتهم الى المعهد لتكملة التمارين على المشاهد الصفية , يفاجئهم بوجوده منتظرا اياهم , بعد ان استغنى عن وجبة الغداء حرصا منه على ان لا يتاخر عليهم , وكان من طبيعته ان يبحث في حدائق المعهد عما يثير فضوله وهو يراقب من زاوية عينيه تحركات الطلبه , لياخذ عنهم صورة عن حقيقة مصداقيتهم في التمارين العملية  على المشاهد الصفية , او بالاحرى كان يعمل كالبوليس السري في تسجيل ملاحظاته عن كل طالب , ليجابههم بحقيقة واقع حالهم , مطبقا المثل والذي كان دائما يردده ( من لسانكم ادينكم ) .
هذا هو بهنام ميخائيل ؟؟؟
واتذكر في اليوم الاول للمقابلة , ولشدة مادفعني الفضول للتعرف عليه , و خوفي مما سمعت عنه زاد هلعي وقلقي على اني ساواجه عقبة صعبة في طريق تحقيق احلامي وقبولي في المعهد , واكاد لم اصدق حينما اشاروا عليه وقالوا لي , هو ذا بهنام ميخائيل , فهرعت اليه واقدامي تتسابق الواحدة بعد الاخرى بغية الوصول اليه , عندها احسست انني امام عملاق ينظر اليا من زاوية عينيه, وبالحقيقة انه  كان يرغب ان يتجاهلني , الا انني جعلته امام الامرالواقع بوقوفي امامه , ونظر اليا وقال لي , ( ها جوزيف شلونك ؟ ) ولاشد ما اثار استغرابي هو معرفته باسمي , في الوقت الذي لم اذكر انني التقيته او عرفته باسمي  !!!!!! الا انني علمت بعد ذالك بانه كان قد اطلع على اضابير الطلبة الجدد , ومنها حفظ اسمي ,فاذهلني بهذه المفاجئة , وتلعثمت قليلا , , وطارت الافكار من راسي , وجميع الجمل والكلام اللبق والذي كنت قد هيئته له من اجل ان ابرهن عن ثقافة اسلوبي في الحديث , وعن خلفيتي الثقافية , الا انني انشغلت بالبحث عن الجملة التي تليق بي وانا امام هذا العملاق وبالرغم من انه  قصير القامه , الا انه بادرني بقوله وهو لا ينظر الى عينايا وهذه عادته وقال لي : كيف حالك واستعدادك للمقابله ؟ فاجبته بثقة عالية , نحن لها يااستاذ , وانا من خلال المجاملة الفارغة سالته وقلت له : استاذ العفو , ماهي اسئلتك التي ستواجهنا بها عند المقابله ؟ فابتسم بلطف وقال : اسئلة عادية , مثلا عن ثقافتك وتجربتك وخبرتك , فقاطعته بسؤال اخر , الا انه انزعج مني وقال : تعلموا فنون الكلام والحديث , ان تبقى منصتا لي ومن دون مقاطعتي الا بعد الانتهاء من الحديث , عندها ساسمح لك بالسؤال , وعندها لم اكن اعلم ماافعل من شدة اسفي وندمي على مقاطعته وعلى هذا الموقف والذي لا احسد عليه , انما تعلمت من بهنام ميخائيل في هذه الحظة الحرجة الدرس الاول .
ان لكل انسان تجاربه الحياتية , والصدمات الغير المتوقعة لحياته من ابناء جلدته , اضافة الى هذا الاكتساب الثقافي نتيجة البحوث والدراسات المطلع عليها , تضيف له اكتمال ماكان ينقصه ضمن مرحلة يعبر فيها عن نضوج رشده ولا سيما التجارب الحياتية والخاصة به , والمستمد احداثها من واقع مجتمعه ,مما تدفعه على التغيير لهذا الواقع , وتقديم الافضل مما عنده من الاراء والتجارب والتي هي السبب في تالقه في الحياة , ونجاح مسيرته وفق مااملته عليه هذه التجارب , صحيح انه تاثر في سلوكيته ونظام حياته بوالده السيد ميخائيل , والذي كان عسكريا متشددا بنظام حياته , وهذا ماكان يسري على افراد عائلته ومنهم ولده بهنام , والذي ترعرع على هذه الاجواء واثرت في نظامه الحياتي , وحتى على حياته الزوجية , والتي كان مثار خلاف لهذا , كان بهنام ميخائيل انسانا صارما ومتشددا وغير مساوما على مبادئه والتي يؤمن بها اشد الايمان , ليطبقها على ابنائه الطلبة في حياتهم الدراسية في المسرح , بكل حرص وبادق الملاحظات , مما ساعد من خلالها ومنهجيته المؤمن بها على تنمية وصقل مواهبهم , ولهذا كان مهتما في تعويد طلبته على تقوية حالة الاسترخاء والتركيز , لانه مؤمن اشد الايمان بان الاسترخاء يجب على الممثل ان يكون في حالة الاسترخاء وهو في الحلقة الوسطى ماخلف الكواليس , وفي الحلقة الصغرى امام الجمهور, ليتسنى له تادية الحركة بانسيابية وفيها شيئا من الجمال , وبعيدة عن التشنج والذي كنا نسميه ( متخشب ) اما  قوة التركيز عند الطالب ستساعده على التركيزوالتوقيت  على الاضاءة والموسيقى وعلى الحركة في ان واحد , وعلى خلق العلاقة مابينه ومابين الممثل الاخر , اضافة الى ان قوة التركيز ستساعده على الحفاظ على علاقة الممثل بالسينوغرافيه المسرحية وهو على المسرح اثناء العرض المسرحي  , وعلى ذكر التركيز , اذكر ان الاستاذ بهنام ميخائيل كان يدربنا على بعض التمارين والتي تنمي وتقوي التركيز عند الطالب , كأن يضع اقلاما ومساحات واشياء مختلفة اخرى وعديدة ومختلفة الاشكال , ومن ثم يطلب منا بعد ان يحجبها عن  اعيننا ذكرها وبالتفصيل , او يفاجئك بالسؤال  عن عدد الاقلام المرسومة على قميصك ومن دون الالتفات اليها فان كانت اجابة الطالب فيها شيئا من الصحة فيعني هذا ان قوة تركيزه جيد جدا وهذه اشارة حسنة عند الاستاذ بهنام ميخائيل , ونحن الطلبة قد تعودنا على مثل هذه الاستفزازات والاسئلة الغريبة , والتيكان  يتعامل بها مع الطلبة الجدد في المقابلة الاولى , انه الاستاذ الوحيد الذي كان بنفرد بمثل هذا الاسلوب الاختباري , ولربما قد يعود هذا الى تجاربه الخاصة او الى ثقافته الاستانسلافسكية , او الى تربيته الفنية والطرق التربوية التعليمية والتي استفاد منها من دراسته الجامعية في معهد كودفان ذيتر في شيكاغو , والمتخصص في الفنون المسرحية ( الاخراج والتمثيل والدراسات النظرية والعملية ) والتي انفرد بها عن بقية زملائه من الاساتذة , ولشدة ماكان تاثير تربيته الفنية والدراسية في المسرح على طلبة الصفوف المبتدئة في المعهد , وتهيئتهم كادرا فنيا ذوي مهارة وحرفية في التمثيل استفاد منهم كبار الاساتذة من المخرجين في اعمالهم وعروضهم المسرحية جعلتهم يتذمرون اشد التذمر حينما علموا بنقل الاستاذ بهنام ميخائيل من التدريس في المعهد الى التدريس في الاكاديمية , وقد صرح بذالك وعلى مسامعنا الاستاذ ابراهيم جلال رحمه الله حينما قال :لقد خسرنا الكونترول وصانع النجوم بهنام ميخائيل , لانني اشبهه بذالك الفلاح الذي يزرع بذرة ويراعي شتلاتها ويعتني بها ويصقلها , الى ان تاخذ مجالها في العطاء , لاننا كنا نستلم من بهنام ميخائيل ممثلين متكاملين الحرفية ونجوما في التمثيل متكاملين المواصفات والمواهب المصقولة والمثقفة , انما الان خسرنا بهنام ميخائيل وخسرنا ترفيد نجوم جدد .
ويكفينا ان نعلم بان العديد من المواهب الاكاديمية من الاساتذة الكبار من حملة الشهادات للدراسات العليا قد تخرجوا على يديه , ومازالوا يذكرونه ويذكرون جهوده المخلصة ويصرحون بهذا في محافل اجتماعية ومؤتمرات فنية بان للاستاذ بهنام ميخائيل له الفضل في وصولهم الى هذا المستوى الاكاديمي والمركز المرموق . 
كان بهنام ميخائيل يصب جهده من اجل صقل المواهب ويعطيها من تجربته وثقافته , ويتابع الصغير والكبير ويخلص في ارشادهم وتوجيههم , وبالرغم من مكافئتهم له بشتى وسائل النقد والعداء , الا انهم بعد حصولهم على الشهادات العليا , يستذكرونه بالحسافة والندم على مابدر منهم بحقه , ويترحمون عليه , معترفين بانه كان المربي الفاضل والاب الروحي , ولولاه لما وصلوا الى هذا الحال من الرقي والثقافة التي كان اساسها المنهاج التربوي والاخلاقي في مسيرة الفن والفنانين التي ارساها الاستاذ المرحوم واصبحت تذكر على السنة المثقفين من الاكاديميين المسرحيين , وهم يؤكدون وفي عدة محافل فنية او لقاءات اذاعية او تلفزيونية او ريبورتاجات صحفية , بان التاريخ الفني والمسرحي بالذات , سوف لن ينجب استاذا مثل بهنام ميخائيل , ولا مثل نجوميته في تدريس الطلبة وتربيتهم التربية الاخلاقية الفنية في عالم المسرح العراقي , وان كان صارما بعض الشيىء في اسلوبه وعلاقته مع الطلبة , انما كان هذا يصب في صقل المواهب وتعويدهم على الاسلوب الصحيح والقاعدة الاساسية لاعدادهم اعدادا حرفيا في الاعتماد على انفسهم في تحليل الشخصيات وايجاد ابعادها وتسخيرها على خشبة المسرح المقدسه , وهذه هي ايقونة بهنام ميخائيل والتي كان يرسمها باسلوب تعليمي وعلمي من اجل تطوير وصقل المواهب الفطرية , وتعويدهم على ظرورة احترام العلاقات مابين الفنانين ومابين ما يحيطهم من الانسان والحيوان والجماد , لا تستغربوا من هذا انها الحقيقة التي كان يؤمن بها بهنام ميخائيل من خلال تقديس واحترام كل الكائنات الحية , ان كان حيوان او انسان او نبات اضافة الى جميع مكونات الحياة والتي لها علاقة مع حياة الانسان  .
لا تستغربوا اعزائي من ظاهرة بهنام ميخائيل , وسلوكيته في الحياة اليومية , وايمانه المطلق بمبادئه التي يؤمن بها , ففي احدى المحاضرات وهو يوصي بنقاوة الفنان وسلوكيته الايمانية باتجاه علاقاته الانسانية , وبافكاره التي يطرحها من على خشبة المسرح , حينما كان يؤكد على مسامعنا واكثر من مرة ,( بانه يجب على الممثل ان ينظف اذانه , ولسانه , وقلبه , واقدامه , ونواياه , قبل صعوده على خشبة المسرح , وان يؤمن كل الايمان بما يطرحه على مسامع الجمهور في العرض المسرحي , فلو انه كان لا يؤمن يما يطرحه على مسامع المتلقين , فكيف يطلب من جمهوره الايمان بما يطرحه هو ؟) , ومرة طلب منا الاعتذار من الحمار لكوننا نقسوا عليه بتعاملنا معه , ونطلب منه الاعتذار بقولنا ( اخي سامحنا ) لا تتعجبوا من هذا , لانه بعد ذالك شرح لنا اسباب هذه العلاقة التي يتعامل بها الممثل مع الحيوانات , لانه يجب على الممثل التاقلم مع الحيوانات والتعرف على غرائزها وتقريبها الى الشخصيات والمراد منها تجسيدها , مثال على ذالك , شخصية شايلوك في مسرحية تاجر البندقية , فان غريزته الحيوانية هي الثعلبية التي يجب ان يجسدها الممثل  في تمثيل هذه الشخصية  , وفي مسرحية عطيل , يجب على الممثل الذي يجسد شخصية عطيل ان تتجسد فيه معالم غريزة الثور الاحمق , وغريزة الثعلبية الماكره عند ياكو , هذا هو الغرض من هدف بهنام ميخائيل  .
ومرة طلب من احد زملائنا الطلبة حينما جاء لياخذ محله على  احدى الكراسي , سحبها بقوة بحيث سمعنا صوت سحبها من خلال احتكاك ارجلها بالارض فالتفت الاستاذ بهنام ميخائيل الى مصدر الصوت والقى نظرة اشمئزاز وعتاب على الطالب , وبعدها بادره بالقول :لماذا اعتديت على هذا الكرسي ياولدي الحبيب ؟ , لماذا لم تعامل هذا الكرسي بلطف واحسان وسحبه باعتناء وتاني وبرفق ؟ الم تسمع استغاثة هذا الكرسي ؟ , لانه تالم , فارجوك ان تطلب الاستئذان في بادىء الامر, و من ثم اطلب منه السماح بالجلوس عليه , طبعا وبعد موافقته , عندذاك يمكنك ان تجلس عليه , اثار ت هذه الملاحظات استغرابنا وتساؤلاتنا , وبالفعل اتم ماراد للاستاذ بهنام ميخائيل , ومن ثم اعقبها بتعليق عما حدث موضحا الاسباب التي تستوجب على الممثل الاعتذار من الكرسي , لانه يعتقد بان الفنان الحقيقي يجب ان يملك رقة الاحساس بتعامله مع من حوله , وحتى ان كان ذالك جمادا او حيوانا , ليستطيع اختزان هذا التعامل في ذاته , وان يسترجعه كاحساس ورد فعل , من خلال هذا الاختزان مستقبلا لشخصياته المستقبلية على المسرح .
ان بهنام ميخائيل بالرغم من تاثره بوالده العسكري , والتي اثرت على نمط حياته وسلوكيته الخاصة وعلاقاته بالمحيطين به الا انه يحمل في طيات ذاته , التواضع , والطيبة , وعفة النفس , هذه الصفات الانسانية القيمة اهلته للدخول الى كلية اللاهوت في اميركا , وحسب رغبة والده , انما عدل عن هذا الراي , وانخرط مع طلاب الدراما في شيكاغو , وعاد الى بغداد , وهو يحمل شهادة عليا في دراسة المسرح في سنة 1959 ليتعين استاذا في مادة التمثيل والاخراج المسرحي في معهد الفنون الجميلة , حيث كان علامة متميزة بين اقرانه من  الاساتذة الاجلاء  في التدريس , في ترسيخ مبادىء احترام المسرح وتقديس خشبته , ورسم مفاهيم جديدة للمسرح العراقي ,( وهو ان المسرح  , ليس غايته عرض الواقع وكشفه , وانما التحريض على تغييره , وتعرية السلبيات , وكشفها , وترسيخ مفاهيم القيم الانسانية والفكرية والعقائدية التي تحترم حرية الانسان , وتهدف ايضا الى تطوير حياته الاجتماعية والثقافية والفكرية  الى الافضل ,وقد يعود هذا الى ماكان يحمله من العقائد الايمانية , والتي اهلته لدراسة اللاهوت ليصبح رجل دين كنائسي , انما كانت الاقدار قد رسمت له غير ماكان مخططا لها   .
انتقل من معهد الفنون الجميلة الى الاكاديمية مدرسا فيها , اضافة الى كونه كان فاحصا للنصوص التمثيلية في الاذاعة والتلفزيون , ولكن مما يؤسف له تثمينا لجهوده ولمثابرته واخلاصه لمهنته التدريسية , فصل من معهد الفنون الجميلة , لتلفيق تهم باطلة بحقه , مما اظطرته الظروف الاقتصادية القاسية  ان يشتغل في احد المطاعم السياحية في متنزه الزوراء , الا ان العناية الالهية راعته واعادته الى وظيفة مدير المسرح القومي , ولحاجة معهد الفنون الجميلة لثقافته وخبرته , اعيد مرة ثانية استاذا فيه , اضافة الى التدريس في اكاديمية الفنون الجميلة  .
كان بهنام ميخائيل , يميل الى الواقعية , ويعتبرها مدرسة حقيقية , وفاعلة في عملية التغيير ,لاي واقع , فوجهة نظره هي , ان هذه المدرسة منبثقة عن واقع المجتمع والمختلف الثقافت والقوميات والاطياف , كان ستانسلافسكيا يميل الى مدرسة ستانسلافسكي بطريقته التدريسية النظرية والعملية , من خلال المحاضرات , والمستمدة من كتاب اعداد الممثلا وحياتي في الفن ( ستانسلافسكي ) .
بهنام ميخائيل وتغيير المفاهيم البالية :
لقد غير الاستاذ بهنام ميخائيل الكثيرمن المفاهيم البالية ومن نظرة المجتمع العراقي السيىء الصيت للمسرح , بعد ان كان يعتبره ملهى ليليا لقضاء متعة رخيصة وسويعات مزاجية ومليئة بالنزوات والشهوات الجسدية التي كان يقدمها ويعرضها بعض اصحابي النفوس الرخيصة والوضيعة من على المسارح الليلية , جاء ليساهم في تطهير المسرح من هذه النفوس الضعيفة والوضيعة ويغير نظرة المجتمع المتدنية  الى واقع  نظرة  تقديس واعجاب , واحترام الخشبة المسرحية , مبتدئا من طلبته قبل جمهوره , وارسائنا على بعض الاخلاق التربوية والاعراف المقدسة لاحترام الخشبة , وسماها الخشبة المقدسة , مما حدا به الى فرض تقبيلها قبل الصعود عليها  , وهكذا بدات عملية التغيير لنظرة واقع المسرح مبتدئا من طلبة الصفوف الاولى ,من الطالبات والطلاب , وتوصيل نظرتهم المقدسة  وواقع ايمانهم واحترامهم لهذه الخشبة وما يعرض عليها , الى ذويهم وعوائلهم من خلال دعوتهم لحضور عروض المسرح التجريبية في معهد الفنون الجميلة وتطهير افكاهم وغربلة نظرتهم المتدنية الى المسرح , مما خلقت جمهورا واعيا ومثقفا ومثمنا دور المسرح , كونه فعلا محركا للتغيير والتجديد نحوى الافضل , وتوطدت علاقة المجتمع بالعروض المسرحية , ومتابعاته المستمرة لهذه العروض ,وذالك يعود الى بناء القاعدة الاساسية في محاضرات الاستاذ بهنام ميخائيل في حث الطلبة على التعرف باخلاقية المسرح المقدسة , والعمل على صقل مواهب المتقدمين من هؤلاء الطلبة والراغبين في دراسة فنون المسرح , وباشرافه المباشر مما سهل الكثير على انتاج العروض المسرحية لاساتذتنا الكبار , من امثاال ابراهيم جلال , و جعفر السعدي , وجاسم العبودي , وجعفر علي , وبدري حسون فريد واخرين من اساتذتنا الكرام , في الاستعانة بطلبة بهنام ميخائيل في عروضهم المسرحية الناجحة والمتخرجين من مدرسة  هذا الاستاذ المربي , راهب المسرح , بهنام ميخائيل .
ليسى هناك دورا كبيرا  اودورا صغيرا , انما هناك ممثلا كبيرا اوممثلا صغيرا 
هذه المقولة لاستاذنا الكبير  ( ستانسلافسكي ) ترجمها الاستاذ بهنام ميخائيل في احد مقالات الاستاذ يوسف العاني في الحوار المتمدن قائلا :( كان عبد الواحد طه يراس مجموعة من الممثلين وهم : يوسف العاني , وهو يذكر سامي الواحد , وانا اعتقد انه كان خطأ مطبعيا , لكونه كان يقصد الاستاذ سامي عبد الحميد , مجيد العزاوي و راسم القيسي , ناهدة الرماح , ازادوهي صاموئيل ) مع عدد كبيرا من الكومبارس يتقدمهم المخرج الراحل بهنام ميخائيل , والذي وافق على العمل في المسرحية بدور لا حوار فيه , وانما كانت شخصية لها حضورا مسرحيا  .
الصفعة الاولى في حياتي الفنية 
ان الذي يسوقه الفضول للتعرف على بهنام ميخائيل , من الضروري جدا ان يتعايش معه , وعلى الرغم من انها تحمل الكثير من المعوقات وتوتر الاعصاب , الا ان المرء يستفيد منها , لانها تجارب يختزنها لحياته , ويستفيد منها في المستقبل بعد التخرج , لان بهنام ميخائيل مدرسة واقعية ومثالية في نفس الوقت , قل نظيره من الاساتذة الذين زاملوه في الدراسة والتدريس , له فلسفته في حباته الاسروية , والمهنية , صحيح انه كان رب اسرة متكونة من زوجة وطفلته ( منى ) الا انه كان متفرغا للتدريس , انه العالم الذي يجنح اليه , ويستانس به مكرسا كل جهده وامكانياته التدريسية لطلبته في معهد الفنون الجميلة , هذا الاستاذ الذي يتوهم كل من يعتقد بانه يستطيع كسب صداقته , لانه لا يعير لها اهمية بقدر مايؤمن , ان صديقه هو الذي يحبه ويطبق توجيهاته وتعليماته في حياته الواقعية والفنية , من حيث ان يكون جديا, ومثقفا , ومبدعا , وان ينتزع اعجابه مصفقا له وبكلمته  المشهوره ( برافو ياولدي الحبيب ) .
الصفعة الاولى 
بعد قبولي طالبا في معهد الفنون الجميلة , تعلمت شيئا مالم اكن اعرفه عن واقع الفنان , الا من خلال الافلام العربية المصرية والاجنبية , كنت اعتبر ان الفنان ومع فنه هو قطعة من الاتيكيت بعلاقته مع الناس فقط وقيافة ملابس وتسريحة شعر وقناني من العطور الفرنسية .
ولهذا كنت اعتبرها قانونا ودستورا لشخصيتي وسمعتي الفنية , فاينما كنت اذهب واتجه , وجب عليا ان اكون متهيئا باحلى قيافة , لماذا ؟ لانني فنان وفي طريقي الى النجومية وسلالم الشهرة الفنية ,وسيكون لي معجبين والعشاق لفني من متابعي انتاجاتنا الفنية , كما هو الحال مع النجوم العربية من فناني السينما والمسرح ,وانا في وقتها كنت معجا بالفنانين المصريين امثال احمد رمزي وكمال الشناوي ورشدي اباظه واخرون من نجوم السينما العربية ,انما الاستاذ بهنام ميخائيل ايقظني من تلك الاحلام الخيالية , في محاضرة له في قاعة الاستاذ حقي الشبلي في معهد الفنون الجميله , وانا في كامل اناقتي وقيافتي , وعطري الفرنسي ( مارسيدس ) , واذا به يشير عليا باصبعه كي اتبعه , في حينها تصورت ان لاناقتي الجميلة لها صلة بهذه المشاركة مع الاستاذ بهنام ميخائيل , وانا لا اعلم ماهي نوعية هذه المشاركة والتي يرغب مني ان اقدمها لزملائي الطلبة ,  والذين كانوا معي في الصف الثاني ومنهم  الاخت فوزيه عارف , وهناء المشهداني , وحيدر المولى , وفي الصف الاول نزار السامرائي وكاظم الخالدي ونصير عوده وحميد الحساني , وكثيرون لا اتذكر اسمائهم , المهم , تبعت الاستاذ بهنام الى خارج القاعة وانا متبخترا بخطواتي امام زملائي الطلبه , وفي خارج القاعة اشار الى سطل مملوء من الماء وماسحة ارض , وطلب مني حملهما وادخالهما الى القاعة ,وكلفني بمسح ارض القاعة وامام الطلبة , فاصبحت في موقف حرج , واخبرني ان لم امتثل لطلبه فسيرتشف فنجان قهوة مرة , كما يرتشفونها في التعازي على ارواح الموتى , وما كان مني الا ان امتثل لطلبه في مسح ارضية القاعة وامام جميع الطلبة وانا اسمع قهقهاتهم وهم يستهزئون بي , وانا اداري حرجي وخجلي مابين الضحك ومابين تقطيب حواجبي مستاء من استهزائهم مني , وبعد ان انهيت طلبه , حمدت الله على انني انهيت مهمتي , واذا به يفاجئني بان اتبعه الى خارج القاعة مستصحبا معي الماسحة والسطلة المليئة بالماء الوسخ ,واضعها في الخارج , واحمل اريكة من الخشب على ظهري وانقلها الى داخل القاعة , وفعلت مثلما اراد  , وحين دخولي الى داخل القاعة واذا بالطلبة ينفجرون ضحكا على منظري وانا حامل الاريكة على ظهري يتقدمني الاستاذ بهنام ليرشدني على المنطقة التي اضع الاريكة عليها , وبعدها كنت منتظرا منه تكليفا اخر , فخلعت سترتي ( الجاكيت ) مع رباط العنق , وطويت اكمام قميصي , واذا بالاستاذ بهنام ميخائيل يصرخ باعلى صوته ( برافو ولدي الحبيب )وهو مصفقا لي بكلتا يديه واسارير الفرح على وجهه , وفاتحا ذراعيه ليظمني الى صدره بحمية ومعقبا بقوله : الان ياولدي دخلت عالم الفن من بابه الصحيح , وبعد جلوسي اخذت افكربالاستاذ بهنام ميخائيل وما فعله معي , فادركت حينها الرسالة التي اراد من خلالها بهنام ميخائيل توصيلها لي عن مفهوم الفن , وكيف يجب ان تكون علاقة الفنان مع حياته الفنية , وهو يهم بوضع اولى خطواته باتجاه ارتقاء سلم التالق والنجاح , وبعدها تركت لبس القاط في المعهد وتعودت على لبس البنطرون الخاكي والتيشيرت مشمرا عن ساعديا لاكون عاملا وفنانا ومبدعا في هذا العالم الصعب والجميل , وهذا ماكنت اتطلع اليه .
مدرسة بهنام ميخائيل 
ان المتطلع الى مدرسة بهنام ليكتشف انها مدرسة ستانسلافسكية , فهي مبنية على حرفية التمثيل ومهارة فن التمثيل (اعداد الممثل ,,,,, حياتي في الفن ) هاذين المؤلفين للاستاذ ستانسلافسكي , يستنبط منهم تعاليمه وافكاره التربوية في المسرح ,كانت تكمن في ذات بهنام ميخائيل قوة داخلية مخلصة ومتفانية ليهب كل ماعنده من خبرة وثقافة وتجربة حياتية وفنية , ليهبها ويعمل عليها مع اي ممثل يبحث عن الابداع والتالق , كان يهتم بالصوت والالقاء وبجسم الممثل وبمرونته على المسرح , لانهما وكما كان يؤكد انهما سلاح الممثل , اضافة الى هذا كان يصقل اية موهبة يجدها لدى اية طالبة وطالب من طلبته ويحثهم على الاجتهاد والسعي والمثابرة , وهذا مااكده الاستاذ المرحوم ابراهيم جلال وعلى مسامعنا حينما سمع بنقل خدمات بهنام ميخائيل من معهد الفنون الجميلة الى اكاديمية الفنون الجميلة وبالحرف الواحد قال : لقد خسرنا ركنا من اركان التعليم التربوي والاخلاقي والتي يجب ان يتزود بها طلاب صفوف المرحلة الاولى في معهد الفنون الجميله , بعملية نقل هذا الراهب من صومعته الى الاكاديمية , حيث كان ينمي الاخلاق التربوية في المسرح ومحاظراته كانت تشمل التمثيل النظري والعملي , اضافة الى اصول الفن وحرفية الممثل الجيد , ( كان يؤمن ايمانا مطلقا بان الانسان هو جسد وروح , فالجسد هو البعد الطبيعي , والخاص بالممثل , وهذا الجسد يمتثل الى ردود الافعال الانعكاسية الداخلية للممثل , حينما سيتكيف ومع الصوت , وعلى ضوء هذه الافعال الانعكاسية بواسطة وسائل التعبير المختلفه , كالصوت , وعضلات الوجه , والاطراف والجسم كله , ويرسم الصورة التعبيرية للشخصية المسخرة على خشبة المسرح من قبل الممثل , واما الروح , او الجوهر , وهذا هو الاساس , والذي يهتم به اشد الاهتمام في محاضراته  , ولربما يعود هذا الاهتمام , كونه كان مطلعا على علم اللاهوت في بداية توجهاته الدراسية للكهنوت , الا انه فضل تغيير دراسته للتمثيل والاخراج المسرحي , وهذه الخلفية الثقافية في علم اللاهوت اختزنها كتجربة مختزنه ومكتسبه لتوضيبها لتعليم الطالب حرفية التمثيل على خشبة المسرح , حينما يبدي اهتمامه بالجوهر الحقيقي للشخصية , للروح ,و للاحاسيس الداخلية , والتي كان يؤمن بها ايمانا مطلقا , بان الدافع الفوقي لكل شخصية, مبعثه الروح والاحاسيس الداخلية , والتي كانت تتجسد على شكل ردود افعال انعكاسية , لترسم الصورة التعبيرية للشخصية المراد تجسيدها على خشبة المسرح  . 
كان بهنام ميخائيل لا تنفك من فمه  العبارات التي كان يؤمن بها دائما ويتمثل بها ويوجهها لنا حينما كان يطلب منا ان نمثل ولا ان نتمثل , كان يؤكد على عدم التفكير بحركة الجسد ( من الاطراف وتعابير الوجه ) ويطلب من الممثل ان يترك ذالك للردود وللافعال الانعكاسية وللاحاسيس الحقيقية ان ترسم هذه المعالم التعبيرية ,لتخرج بتلقائية وعفوية وغير متكلفة .
كان بهنام ميخائيل يساعد الطالب ويهتم بكسر حاجز الخجل عنده , ويهتم برفع جرأته الادبية بشتى التمارين والذي كان يطبقها على الطلبة من اللذين يعتقد بانهم يحتاجون لمثل هذه التمارين , مثلا , كان يطلب من احد الممثلين ان يخلع قميصه واحذيته ويسير حافي القدمين في الشارع العام , وعلى مرأى من الناس , ويطلب من الطالب ان يقدم له تقريرا مفصلا عما كان بسمعه وان يحتفظ بردود افعاله واحاسيسه كتجربة مختزنة , كان يطلب من الطالب ان يتكلم مع الحيوانات ويراقبها , يطلب من الطالب الاستئذان من الباب حينما يروم فتحه ليدخل الى الداخل , ويستاذن من الكرسي للجلوس عليه , وان يسير في القاعة بكل هدوء وسكينة وعلى رؤؤس اصابع القدمين .
جميع هذه التمارين والتي ذكرتها , هي عبارة عن تمارين لضبط النفس وتقوية الارادة , بالسيطرة على ردود افعال الشخصية , واعتبارها تجربة مختزنة يستفيد منها في حرفيته كممثل , يسترجعها وقت الحاجة ليجسدها على معالم الشخصية والمسخرة على المسرح , ثم ان هذه التمارين هي التي تساعد على تربية روح الشخصية و اذا ماعلمنا بان الممثل الحرفي وجب عليه ان يفكر , بثلاث دوائر قبل الدخول الى الحدث في الدائرة الصغرى , وان يكون في حالة الاسترخاء والتامل في الدائرة المتوسطة , اي خلف الكواليس و مابعد الدائرة الكبرى والتي تعني بارتداء الملابس وعمل المكياج , وتتوضح اكثر في مقولة الاستاذ بهنام ميخائيل حينما يطلب من الممثل وهو في الدائرة الوسطى ان يسال نفسه ب , متى و ولماذا , واين , وكيف سادخل , وكذالك يطلب من الممثل ان لاينسى( لو او اذا السحرية) و لانه من خلالها سيتمكن من الاجابة على عدة تسائلات تساعد على اكتمال الشخصية بكامل مواصفاتها الطبيعية والداخلية , اضافة الى كل هذا فحينما يكون الممثل في الدائرة المتوسطة , اي ماخلف الكواليس وهو في حالة الاسترخاء والتامل ,عليه ان يسال نفسه , متى سادخل ----ولماذا سادخل ----- وكيف سادخل ------واين سادخل , عندها سيكون متهيئا لاستحضار الشخصية الخارجية ( المعالم الطبيعية و والداخلية ) وعندها سيكون متهيئا وهو على اتم الاستعدادات لان يدخل الدائرة الصغرى ليواجه جمهوره .
بهنام ميخائيل , مخرج يهتم بحرفية الممثل   
في مسرحية الاب للكاتب سترنبرغ  , كلفني ان اكون مديرا للمسرح , وانا كلي خوف من شدة صرامته , وقلقي من انني سوف لا استطيع التعامل معه , وسوف اخفق في تدوين ملاحظاته , والالتزام بتوجيهاته , وحينها , حينما كنت اتابع رسم حركة الممثل وملاحظات الاستاذ بهنام كمخرج للمسرحية , كنت في حينها اركز على كيفية نعامله مع الممثل اثناء رسم الحركة على المسرح  .
مسرح بهنام ميخائيل , هو مسرح فيه حرفية ومهارة الممثل 
مسرح بهنام ميخائيل , هو مسرح تتجسد من خلاله حرفية ومهارة الممثل , من ابتكارات ذاتية وردود افعال حسية ,لذا كان حينما يرسم الحركة على المسرح قلما يحاول تحريك الممثل وحسب اهوائه كمخرج , انما كان يحاول توصيل معالم الشخصية وجوهرها ومضمونها للممثل , وياخذ منه مما عنده من الابداعات والاجتهادات الذاتية والمختزنة لديه , وعندما تستنفذ طاقة الممثل مما عنده من الخزين والمهارة الابداعية الذاتية عندها  يضيفمن عنده  بما يراه مناسبا , محاولا صقل موهبته واضافة لمساته الاخراجية على الممثل وعلى المشهد بنفس الوقت , كان دائما يوجه الممثلين , ويذكرهم بعدم التفكير بالحركة , وانما يهتموا بالتفاعل مع الفعل والاحساس النابع من داخل الشخصية , وعن طريق تحليل الشخصية وايجاد ابعادها , وعلى ضوء تجاربها الحياتية ( التجربة المكتسبه , والتجربة الذاتية , والتجربة المختزنه ) ومن خلال تحسسهم بها , فالممثل حينما كان يمثل وعلى ضوء رسم معالم الشخصية من قبل الاستاذ بهنام ميخائيل , تتمخض عن احاسيس واقعية , لها ردود افعال حقيقية , والتي حينما كان يجسدها الممثل على الخشبة المسرحية , كانت تبهر الاستاذ  , وتجعله يصرخ باعلى صوته كلمته المعهودة ( برافو ياابني الحبيب )  وهدفه من هذا دعم الممثل معنويا , انما كان في قرارة نفسه , ليس راضيا على الممثل وعلى مايبديه من طاقة من حرفية التمثيل , كان يطلب من الممثل ان يكون رقيبا ومراقبا لشخصيته اثناء التمثيل وان تتحرك الشخصية بايعاز من ذات الرقيب , اي الممثل بشخصيته الحقيقية , وبموجب مامرسوم لها من الحركة المسرحية .
الصفعة الثانية 
في احد المشاهد الصفية ل مسرحية العادلون لالبير كامو , اتذكر وانا امثل شخصية البطل كاليائيف ,والمشهد كان عبارة عن تحقيق معي من قبل المحقق ( سعدون سلمان )  وبعد عرضنا المشهد ولعدة مرات , لم تعجب الاستاذ بهنام , وبالرغم من انني كنت اقدم وزميلي الطالب سعدون سلمان كل ماعندنا من المهارة والحرفة الفنية , انما لم نكن نعلم مايرضي الاستاذ بهنام ميخائيل , الا بعد صعوده على خشبة المسرح ليشرح لنا كيف ان الشخصية وهي على المسرح بجب ان ترسم وتحدد علاقتها بالشخصيات الاخرى المشاركة لها في  المشهد الواحد , وان تحرك الواحدة للاخرى باتجاه خلق فعل وردفعل ينتج عنها الشغل الحرفي للممثل ( الاستيج بزنز ) ومن خلال رد فعل صادق , به من الاحساس والتعبير الفني ,ونحن بالحقيقة في وقتها لم نكن نعلم كيف نواجه هذه المعضلة والتي اسمها بهنام ميخائيل , الا بعد انتحاله لشخصية المحقق واخذ يقابلني بالتمثيل ويحاورني , وانا امثل دور السجين امامه واذا به يصفعني صفعة لم اكن انتظرها منه جعلتني افرك اثرها بكفي ,على مكان الصفعة , عندها صرخ باعلى صوته وقال , هذا هو الذي اريده , اي يجب على الممثل ان يحرك الشخصية التي تقابله على المسرح , عندها تعرفنا على شيىء اسمه , ( كيف تستطيع ان تحرك الممثل والذي يشاركك المشهد وان تخلق علاقة مع شخصيته ومعك في ان واحد ) ,وهذا لا تستطيع ان تجده مالم تجد العلاقة الاساسية مابينك كممثل ومابين الممثل الاخر , بحيث تسال نفسك عن ردود افعال الشخصية التي تشاركك التمثيل في المشهد , فمن دون افعال هذه الشخصية التي امامك , لا تستطيع تحرير ردود افعالك المعاكسة والتي مبعثها الدافع الفوقي لتساعدك على التعبير الصادق والاحساس الحقيقي لردود هذه الافعال .
كان مسرح بهنام ميخائيل , معتمدا على جمالية وعلاقة الممثل بالديكور وبالاثاث وبالاكسسوارات المسرحية حيث كانت تضفي شيئا من الجمال لحركة الممثل مع السينوغرافية المسرحية , ولهذا كنت تراه يفرح وينشرح حينما يشاهد الممثل وهو يتحرك بانسيابية وبتلقائية غير مفتعله  .
كان بهنام الفنان والمخرج يحاول انتزاع التجارب المختزنه والمكتسبه والانية من الممثل , ومن ثم يطلب منه مقاربة هذه التجارب وتطبيقها على الشخصية التي يمثلها , وان جاز التعبير , ان مدرسة بهنام ميخائيل في الاخراج , كان فيها شيئا من صعوبة الفهم والاستيعاب من قبل الممثل المبتدىءوالذي لا يعلم شيئا عن المدرسة الواقعية , ولا عن طريقة ستانسلافسكي في التمثيل .
كان بهنام ميخائيل يناجي الروح والجوهر للشخصية ,لترسم رد فعل معاكس من خلال احساس الشخصية مترجمة هذا الاحساس بلغة تعبيرية بواسطة وسائل التعبير الجسدية من الجسم والوجه , ولهذا كنت تشاهد الممثل في مسرح المخرج والاستاذ بهنام مليىء بهذه الاحاسيس والتي تلعب دورا في تنمية الصراع المتنامي باتجاه العقدة والذروة , ومن ثم الى الحل .
في يوم من الايام كانت لنا زيارة مع الدكتور عوني كرومي رحمه الله الى فرقة المسرح الشعبي , وهناك تعرفت على الاستاذ د. سامي عبد الحميد قبل انتقاله الى فرقة مسرح الفن الحديث ,وبعد ان عرفه د. عوني كرومي بنا على اننا طلبة جدد في معهد الفنون الجميلة , فاخذ يستفسر منا عن علاقتنا بالاستاذ بهنام ميخائيل , عندها تملكني نوع من الحرص عن شرح نوعية هذه العلاقة , معللا هذا ان لكل استاذ اسلوبه وطرق تعامله مع الطلبة , فبقيت ملتزما بصمت زادت من نظرات د.سامي عبد الحميد نحوي منتظرا الاجابة على سؤاله , 
انما انا بقيت بحيرة من امر الاجابة ,بماذا اجيبه ؟ ااقول ان بهنام ميخائيل مدرسة صعبة وثقيلة بنفس الوقت ؟ ففضلت بالصمت الا ان الفنان سامي عبد الحميد فاجأني بسؤال اخر 
مستفسرا مني عن السبب الذي يجعلني اسير على رؤوس اصابع قدمي , فاظطررت للاجابة قائلا : هذه هي تعليمات الاستاذ بهنام ميخائيل , فعقب على اجابتي قائلا : ولكنه ليس هنا ! فاجبته : استاذ رحمة بنا , دعنا وشاننا مع عالم ومدرسة بهنام ميخائيل , والا ستكون عواقب من لم يلتزم بتعليماته الفشل والرسوب ,فهنا ابتسم ابتسامة رضا ومحبة لاخلاصنا ووفائنا  للالتزام بتعليمات استاذنا متمنيا لنا الموفقية والنجاح مع مسيرتنا وعلاقتنا الامينة مع الاستاذ بهنام والتي تشوبها شيئا من الامانة والمصداقية معه ومع انفسنا نحن الطلبة , قد يكون هذا الجانب من الحرص مصدره الخوف من ان الاستاذ بهنام ميخائيل قد جند من زملائنا الطلبة لمراقبتنا خارج المعهد ليخبروه عن مدى التزامنا بتعليماته , وبعكس هذا ستكون كارثة لكل طالب تصل الاخبار عنه بانه لم يكن صادقا مع نفسه ومع الاستاذ بهنام , وكان الهدف من هذا التمرين تعويدنا على الالتزام بالتعليمات ومصداقية التعامل مع الاخرين  , معللا ذالك على ان الفنان يجب عليه ان يكون ملتزما وصادقا مع نفسه ومع الاخرين .
الاخلاق التربوية في مسرح بهنام ميخائيل 
في معهد الفنون الجميلة , وحينما كنا نسير على رؤوس اصابع اقدامنا , وتحت انظار الاستاذ بهنام ميخائيل , كان يقول : ( ترى مايعبر عليا شسي , الملتزم اني اعرفه , وكل تفاصيل حركاتكم توصلني بالدقة ) بهذا الاسلوب كان يستفزنا ويجعلنا ملتزمين بتعليماته , وبعد تخرجنا , توصلنا الى شيىء اسمه ( الاخلاق التربوية في مسرح بهنام ميخائيل ) اضافة الى هذا تعرفنا على مدى فائدة مدرسة واسلوبه في تكوين شخصية الممثل , وتطوير مهارته وصقلها والغرض من هذا خلق ممثل جاهزا حرفيا ومتكاملا على المسرح .
وكثيرة هي التفاصيل مع مدرسته , الا اننا مهما تعمقنا في هذه التفاصيل , لا يمكننا ان نصل الى ماكان يهدف اليه هذا المخرج الرائع  صانع الفنانين من الممثلين العراقيين , انه الفنان الرائد بهنام ميخائيل , رحمه الله واسكنه ملكوت السماوات في الحياة الابدية مع الابرار من الذين رحلوا في رحلة روحانية سمائية , ترك لنا تراثا وارثا , ومدرسة في التدريس والاخراج , لا يمكننا نسيانه .
اعماله المسرحية :
1 – افكار صبيانية 
2 – ماوراء الافق 
3 –الاشباح 
4 – مسمار جحا 
5 – مريض الوهم 
6 – مسرحية الاب , والتي لم يكتب لها الظهور على المسرح .
توفي سنة 1988 في بغداد بعد ان ترك بصمات تربوية اخلاقية في المسرح , وهذا مااكده كبار الاساتذة من الفنانين والمخرجين الرواد .
خلاصة مدرسة بهنام ميخائيل 
هذه الخلاصة تتضمن  , ان هذه المدرسة التي تعلمناها منه وتعودنا عليها واصبحنا لا نستطيع تمثيل اية شخصية , او تجسيدها بالصورة الصحيحة , مالم نتبع القاعدة والاسس الصحيحة والتي ارساها المخرج الاستاذ بهنام ميخائيل والتي كان يؤمن بها , وتتضمن , انه من الضروري جدا ان تعايش الشخصية باحاسيسك الداخلية , لانه يؤمن كل الايمان , بان الممثل يملك من القابلية الذاتية , والقدرة على الابداع , وتجسيد الاحاسيس , اذا كان يملك من الايمان المطلق , بقدرته على خلق الشخصية , ومن خلال هذا الايمان , سيتم والتعاطف والتعايش مع الدور , كان يوصي الطالب ويوجهه على ان يتبع القواعد الاساسية في تجسيد الدور المسرحي ومن دون اللجوء الى المبالغة , اضافة الى هذا , عليه ان يكون قياديا في خلق هذه الشخصية المسرحية , وان يعتمد على نفسه في بنائها من الداخل , باتباع الاساليب السايكولوجية في خلقها , والابتعاد عن المبالغة  اثناء تجسيدها من على خشبة المسرح , والابتعاد عن الحركات والايماءات البالية والمستهلكة والتي لا يمكنها من خلق عنصري التشويق والشد , كان يركز  على الطالب بمعايشته للدور وان يجسد من خلالها الغرائز الحيوانية مقربا  صفاتها من تصرفات الشخصية المسرحية , ويوصي بتجديد معالم الشخصية ويبتكر لها مهارات ابداعية , فيها شيئا من الجمال وصدق الاحاسيس و التعابير , وعلى ضوء هذا ستتجدد  شخصية الممثل وستتميز مابين عرض واخر .
كان يوصي و ويؤكد على  الممثل ان يحلل شخصيته , اي دوره في المسرحية , وان يجد ابعادها الطبيعية والنفسية والاجتماعية , كان يسأل الطالب , عن عمر الشخصية والتي يمثلها , وعن طولها ونحافتها او ضخامتها , عن مزاجها وعن حالتها النفسية والاجتماعية , متزوج ام اعزب , مثقف او امي , غني ام فقير , له علاقات اجتماعية ام انه منطويا على نفسه , ماهي العاهات الجسمانية التي يملكها ,ماهي طريقة كلامه وحديثه مع الاخرين  .
جميع هذه الاسئلة التي يتناولها الممثل والاجابة عليها  , بعد ان يغوص في اعماق الشخصية  , ستساعده على تجسيدها التجسيد الصحيح من على خشبة المسرح وان يؤمن بها الايمان المطلق , والا من دون ماسبق ذكره ستكون الشخصية كالطبل الاجوف , مجرد اصوات ومن دون احساس صادق مع نفسها ومع الاخرين , ولهذا , كيف يطلب من الجمهور ان يؤمن وان يصدق بما يعرض عليه , ان لم يكن هو مؤمن بما يؤديه من على خشبة المسرح !!!!!!!!! .
كان بهنام ميخائيل يطلب من الممثل ان يبحث ماخلف السطور , وان يكتشف معالم شخصيته , وان يجد المعاني المستتره , لتساعده على كيفية الالقاء والتلوين , لانه كان يؤمن بان لكل كلمة من حوار الممثل لها وقع خاص وفعل خاص والقاء وتلوين خاص , وبموجب ماتتطلبه عملية فن الالقاء , وعلى ضوء ردود افعال ودوافع الشخصبة , سيخرج الصوت مصبوغا بنبرات الحنجرة والمتفاعلة مع الاحاسيس الدخلية , والتي سيجسده الصوت , وسيتمثل لها الجسد وبموجب هاذا الالقاء والتلوين  .
فلو حاولنا اتباع وتطبيق هذه الاساسيات الانفة الذكر والتي كان يؤكد عليها استاذنا الراحل , عندها ستقودنا الى حرفية مسرحية ( ستيج بزنز ) حينها ستكتمل عند الممثل الصورة الحقيقية للشخصية , والمراد معايشتها على المسرح بعملية الاندماج والتقمص , فنكون بذالك قد توصلنا الى حالة من حالات الابداع والكمال , والتي كانت تبهر الاب الروحي وتستانسه  .
وفي الختام ---- لم اذكر الا شيئا قليلا من بحر كبير لمدرسة  الاب الروحي   بهنام ميخائيل وهذا مااسعفتني به ذاكرتي من استحضار في هذا البحث المتواضع , اامل انني سأوفي بحقه في بحوث اخرى , انشاء الله , انما يبقى الاستاذ الراحل بهنام ميخائيل عمد من اعمدة التدريس التربوي في المسرح  ,قل نظيره في عالمنا التربوي , العالم المسرحي والذي ودعه الراحل بهنام ميخائيل . 
------------------------------------------
المصدر : جوزيف الفارس - عينكاو دوت كوم

تابع القراءة→

السبت، مايو 21، 2016

المسرح سبيلاً لوعي الذات: إبداع الفريد فرج نموذجاً

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, مايو 21, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

ينتمي الفريد فرج إلى كوكبة من المسرحيين العرب في مصر ممن انعطفوا بالكتابة المسرحية انعطافة هامة صارت إلى تحول واضح في الإبداع المسرحي مختلف عن المسرح الذهني الذي مثّله منذ عشرينيات القرن العشرين توفيق الحكيم (1902-1987) وأقرانه أمثال محمود تيمور (1894-1968) وعزيز أباظة (1898-1973) وعلي أحمد باكثير (1910-1969)، ومختلف أيضاً عن المسرح التجاري أو المتغرب عند نجيب الريحاني (1891-1949) ويوسف وهبي. وقد شكلت هذه الكوكبة حساسية فكرية وفنية مغايرة نهضت بالمسرح العربي نهضة شاملة في فهم المسرح وفي ممارسته، ومن أعلامها البارزين، على تباين اتجاهاتهم وطرائقهم، الفريد فرج ونعمان عاشور ويوسف إدريس (1927-199) وصلاح عبدالصبور (1931-1981) وعبدالرحمن الشرقاوي (1920-1987) وسعدالدين وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان.
1ـ التفكير الأدبي والمسرحي:
برز الفريد فرج أديباً ومسرحياً واعياً بشؤون إبداعه نظرياً وتطبيقياً، ولعله من الكتاب القليلين الذين يصدرون عن رؤية إبداعهم وفهمه في مصادره وطبيعته ووظائفه، فرافق الإبداع اشتغال يقظ على ترشيد الممارسة الأدبية والمسرحية في زمنها وفي تطلعاتها الفكرية والفنية، بل إن فرج طمح إلى ترسيخ المسرح جنساً أدبياً حديثاً ليصير مثل الشعر والرواية ديوان العصر، وقد حرص على أن يؤصل هذا الجنس الأدبي في الثقافة العربية بوعي التقاليد الحكائية والمسرحية في فنون العرض والفرجة والأداء الصوتي والحركي مما ميز الظاهرة المسرحية العربية طقساً أو شعيرة ما لبثت أن انغمرت بالأعراف والتقاليد الاجتماعية، محتفظة غالباً بمنشئها الديني ونزوعها الاتصالي شفاهاً أو كتابة. ونتلمس في هذا البحث عناصر التفكير الأدبي والمسرحي عند فرج للتعرف إلى طوابع التأصيل في تجربته العريضة والعميقة والثرية.
بدأ فرج مسرحياً معنياً بتجسيد نصوصه على خشبة المسرح، وقضى قرابة عقدين من الزمن مخلصاً لإبداعه المسرحي، تأليفاً وبحثاً وإدارة ومخاطبة للراشدين والناشئة في آن واحد، ثم لتأليفه في أجناس أدبية أخرى راسخة في الحياة الثقافية العربية مثل الرواية والقصة القصيرة والمقالة، على أن فعالية الأديب أو الكاتب أو الفنان لا تقتصر على خطاب جنس أدبي بعينه، وعلى أنّ الأجناس الأدبية متعددة أساليب البلاغة والإبلاغ.
أما أبرز شواغل التأصيل عند فرج فهي:
1ـ1ـ فهم الأصالة من خلال التقليد القومي:
أدرك فرج مبكراً وهم التليد الغربي والانهماك فيه، على أن أهمية الأدب والفن تنبع من طوابعه القومية، ولاسيما جماع الخصائص المعبرة عن هويته، فرأى أننا نختلف عن أوربا:
«لذلك كله، فإن التطلع إلى أن يكون لنا مسرح يزدهر على النمط الأوربي هو من أوهام الواهمين» (م12 ص38).
وثمة من يناهض الدعوة إلى الهوية في الأدب والفنّ من منطلق أن المسرح ظاهرة أوربية ونتاج عمليات التحديث، وعلى الرغم من مجاوزته لمثل هذا النقاش، إذ ربما كان صحيحاً بتقديره، إلا أنه يعمل النظر والمحاججة في استمرار التقليد العربي للأدب والفن وفي تطوره الكبير مع النهضة القومية:
«فقد كان المسرح العربي يتكون في منتصف القرن التاسع عشر في جو من الفنون الشعبية الجماهيرية في المقهى وفي السوق.. فنون الأراجوز والمحبظين والشاعر والحكواتي وحفلات الطرب والرقص وطقوس الاحتفالات ومغاني الأفراح والأعياد» (م12 ص43).
لقد تكون المسرح العربي عند فرج من تقاليده في مناخ التأثير الأوربي، واستنكر المغالاة في قول القائلين إن المسرح العربي «مبادرة من مبادرات التحديث الاجتماعي على النسق الغربي» (م12 ص33)، مثلما رفض مقايسة المسرح العربي على ما يجري فوق منصات المسارح الأوربية: «لهذا ينبغي دحض هذا المعيار والكشف عن عيوبه، مهما كان ذلك محفوفاً بالمزالق، أو خارجاً عن المألوف» (م12 ص35).
وأورد فرج اختلافات بينة بين المسرح الأوربي المستقر والمسرح العربي الناهض، وأولها نزوع الأول إلى العالمية ومخاطبة الإنسانية الشاملة ومجاوزة الفوارق المحلية، بينما ينزع الثاني إلى تكريس القومية وتوكيد عناصر الشخصية الوطنية بمعناها الضيق الذي يصل في أقصى تطرفه إلى الطائفية المحدودة، لأنه يتحرك بدواعي الهوية:
«وإن تأكيد الهوية الوطنية في حياتنا الفكرية والاجتماعية، حياتنا الفردية والجمعية، قوة نافذة لا تدع لجماهيرنا مجالاً كما في أوربا لأولوية الشعور بالعالمية أو أولوية الإحساس بالشمولية الإنسانية» (م12 ص37).
وأوضح فرج أن أولى المحاولات المسرحية في القرن التاسع عشر كان تأطيرها العربي على أيدي الرواد أمثال القباني والنقاش، وهو ما كان في صلب ازدهار المسرح في ستينيات القرن العشرين باكتشاف الصلة بين المسرح العربي والفنون الشعبية العربية تذكر جهود التأصيل النظرية مثل كتاب توفيق الحكيم «قالبنا السمرحي» ودراسة يوسف إدريس في مقدمة مسرحية «الفرافير» عن مسرح السامر الريفي والمسرح الشعبي عموماً، وكتب علي الراعي المتعددة، ولاسيما كتابة «الكوميديا المرتجلة» .ورهن فرج تطور المسرح العربي بجمهوره ضمن التنمية الثقافية الأعم وجماهيرية الثقافة التي تستند، فيما تستند إليه، إلى الخصوصيات الثقافية وتأصيلها:
«المسرح العربي يجب أن يقوم بالرحلة إلى جماهيره، ليكتسب أسلوبه الأمثل وشرعيته القومية، ولينطلق في مسار تطوره الطبيعي، ويصبح الشكل والمضمون واللغة موضوعاً اختياراً جماهيرياً واستفتاءً شعبياً واسعاً وانتخاباً طبيعياً حقيقياً» (م12 ص46).
1ـ1ـ1ـ الأدب قومي:
عزز فرج فهمه للظاهرة الأدبية والفنية بأنها قومية واجتماعية في الوقت نفسه، فقد دلت الدراسة النظرية والجمالية على أن «اكتشاف الشكل الفولكلوري البدائي للمسرح هو الشكل الضروري للمسرح الطليعي في بلادنا» (م12 ص21).
ثم ربط فرج جماليات الأدب والفن بمثل هذاالاندغام بين بعدي المسرح الاجتماعي والقومي، ودعا إلى تأصيل فن المسرح اجتماعياً، «أي إلى مداومة البحث من أجل تحقيق هذه العلاقة بين المسرح والجمهور ـ أوسع ما تكون، وأوثق ما تكون ـ فهي الأساس لكل نهضة مسرحية حقيقية، وهي حجر الزاوية في جماليات فن المسرح» (م12 ص31).
وجعل فرج البعد القومي للظاهرة الأدبية والفنية محك النظر في التجربة الغربية، وهو منطلق كتابة «شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك» الذي يرهن فيه على أن وعي الآخر مرتهن بوعي الذات حين أعاد إلى الذاكرة حقيقة أن العلوم العربية هي التي أضاءت ظلمات أوربا، مما يستدعي دوام التفاعل الثقافي: «وأفكارنا التي أنارت أفكارهم، فلا محل للتحوط أو النكوص عن استردادها وأن ننعم بثمارها وبتطوراتها. إن ذلك ليس تغريباً أو اغتراباً، فقد نبعت العلوم من أصالتنا، وأصالتنا قديرة على استيعابها واستقبالها بقلب مفتوح» (م12 ص220).
إن وعي الآخر مرتهن بوعي الذات، ولعل كتابه «دائرة الضوء» تعبير عن محاولات هذا الوعي من خلال شخصيات ثقافية مؤثرة أسهمت، العربية منها، في تأصيل الأدب والفن في الحياة العربية مثل الحديث عن أول وزير للثقافة (فتحي رضوان) وأول أوبرا عربية (جهود كامل الرمالي) والموقف من الفولكلور (يحيى حقي) ومسيرة الواقعية بوصفها مسيرة الصدق (نعمان عاشور) والتماس قيمة الفنان من جمهوره (يوسف وهبي) وأهمية ترسيخ دور الخواص في التنمية الثقافية (الموقف الرائد لمحمد محمود خليل وحرمه) والتوكيد على أن تقدير الفن نابع بالدرجة الأولى من بعده القومي والمحلي (نوبل نجيب محفوظ)..الخ. وثمة موقف أو حالة شديدة الدلالة في التعبير القومي للفن فيما انتاب صلاح جاهين من اكتئاب بتأثير الهزيمة العربية في عام 1967 حين قال: «كانت هزيمة 67 قد ألقت بي في هاوية من الحزن لا قرار لها»، ولقد أمعن مرض الاكتئاب في تعطيل إبداع هذا الفنان المتألق:
«إنني أشعر بالحزن والأسف مضاعفاً، لأننا نحن أصدقاءه لم نستطع أن نواسيه، ونخفف عنه بقدر ما أسعدنا وواسانا» (م10 ص167).
ويؤيد نظرة فرج لقومية الأدب والفن حفاوته البالغة بتجربة شيخ البنائين حسن فتحي الذي خصص له أول فصل من كتابه «دائرة الضوء»، لأنه انطلق في العمارة، وهي مجموعة طوابع ثقافية وفنية، من التزام الخصائص القومية والمحلية فيما سماه «المعمار التقليدي»، ورآه معبراً عن اشتغال عام بالهوية القومية في الأدب والفن:
«وهكذا مثلت العمارة بصورة فصيحة حوار الفكر المصري في فترة النهضة الوطنية واختلاف تياراته حول الأصول والانتماء. وفي دراما هذا الحوار كانت إضافة المهندس حسن فتحي رائدة إذ أنه توجه إلى الفولكلور، واعتبره خلاصة الطابع العربي للتاريخ المصري بكل مراحله. وبذلك التحق حسن فتحي فكرياً، وكان رائداً للمدرسة التي ضمت سيد درويش في الموسيقى، وكمال سليم في السينما، وبيرم التونسي في الشعر، ويحيى حقي في القصة، ورشدي صالح في الدراسات الأدبية، وعلي الراعي في الدراسات الفنية» (م10 ص26).
1ـ1ـ2ـ مواجهة الأجنبي:
ندد فرج بالأجنبي، على أنه مناقض للوجود، فخص مسرحيات كثيرة لفعل مقاومته وتحرير الذات القومية، كما في «سقوط فرعون» و«صوت مصر» و«سليمان الحلبي» و«النار والزيتون» و«عودة الأرض» و«وألحان على أوتار عربية»، ولم يقف تنديده بالأجنبي عند الاستعمار أو احتلال الأرض أو العدوان السملح، بل نبه إلى مخاطر الغزو الثقافي مبكراً وما يشيعه من مشاعر الاستلاب والاغتراب، ولم يصدر في تنديده عن تعصب قومي، فالعربي، كما تؤشر ملاحمه الشعبية، يميز بين الأجنبي والقومية الأخرى:
«والقاريء يلحظ أن القصص تنتظمها مسحة سخرية ظاهرة بالعجم والترك والروم، بينما لا تتجه القصص إلى التنديد بالقوميات الأخرى كالهنود أو الصينيين، فالعجم والترك والروم كانوا هم التحدي التاريخي في ذلك الوقت للقومية العربي» (م12 ص57).
وأعمل فرج مبضع النقد في التغريب الذي أثر طويلاً على تطور المسرح العربي في مصر: «وبدلاً من أن يكون المسرح مرآة تعكس حياة الناس، أصبح مرآة تعكس نزوع قياداته إلى التغريب والانبهار بالنموذج الفني الأوربي» (م12 ص79).
وقد فهم فرج الأصالة على أنها نبذ للتبعية، فحكايتنا مع العالم هي حكايتنا مع النفس ومع الماضي الحي بصراع الأصالة مع معوقاتها الاستعمارية الخارجية والداخلية:
«إن الغاية والمطلب هما اكتشاف الذات، وتحرير القدرة الذاتية القومية والاجتماعية مع كافة الظروف المقيدة والمعوقة ـ تحرير الروح.. من الواقع الذي نعيش فيه ضعفاء متخلفين ـ من رواسب الانقياد لثقافة قوية جعلها الاستعمار في مركز عالمي قوي ومؤثر بالضرورة، ومن رواسب ماضٍ ضعيف ومظلم مع ذلك» (م8 ص302-303).
وآلت مواجهة الأجنبي وكشف مخاطر الغزو الثقافي من خلال الاستلاب والتغريب والتبعية وسواها إلى ضرورة التعريب والتفكير باللغة العربية:
«فالتعريب ليس مجرد عملية تهدف إلى تسهيل التعليم. إنه حجر الزاوية في انطلاق هذه الأمة إلى آفاق العصر. اللغة أداة تفكير. يستحيل التفكير بغير اللغة» (م8 ص326).
1ـ2ـ استلهام التراث:
عدّ فرج استلهام التراث حجر الأساس في تحقيق الهوية القومية في الأدب والفن، ووجد ذلك في سحر القصّ الشهرزادي أو سّرد الليالي معبراً إلى وعي الخصوصيات الثقافية في الممارسة الأدبية والفنية، فاستلهم الليالي في عدة مسرحيات، هي «حلاق بغداد» و«بقبق الكسلان» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفه» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير والجميلة»، ثم مدّ مجال استلهام الليالي إلى الرواية «أيام وليالي السندباد» والقصة «ليالي عربية»، على أنه استلهم التراث العربي في المقامة والسرد الأدبي الجاحظي والملاحم والسير الشعبية، ونفى في هذا المجال التأثر بالتقليد الغربي عندما اتجه المسرح العربي إلى الملحمية بتأثير التراث، ولاسيما الليالي، «فهو أقرب إلى سرد الحكايات منه إلى تركيز الموقف، وتأثرنا في هذا المجال كان بالقصة العربية وليس ببريخت. وإذا تشابه توجهنا مع نظرية بريخت، فليس معناه أننا استلهمنا أسلوبنا من بريخت، ولكن توجهنا جاء من باب ألف ليلة» (م12 ص67).
وحدد فرج بدقة خصائص استلهام التراث الملتصق بالبعد القومي للأدب والفن، «فالرجوع إلى التراث العربي العام كان هو التوجه القومي العربي. حيث أن الفنان لم يقنع بالتراث القطري، وإنما امتد نظره إلى التراث القومي الذي يجمع الأمة العربية، لا التراث الذي يجزؤها. ومن ثم كان استلهام التراث مرتبطاً باللغة العربية الفصحى» (م12 ص66).
لا يتوقف استلهام التراث لدى فرج عند الشكل وحده، بل يجعل المحتوى الفكري بما هو منظومة قيمية تتصدرها قيم الجوهر العربي الأساس، لأن الطرح الفكري الواقعي والعصري شديد الالتصاق بإطاره الجمالي، «فحين نتحدث عن فكرة الحرية والعدالة الاجتماعية، أو نطرح رأياً عصرياً ومستقبلياً في إطار من ألف ليلة وليلة إنما نوحي للجمهور بأصالة فكرة الحرية والعدالة في تاريخنا وأصولنا الثقافية، ونضفي على الفكرة مصداقية تاريخية وتراثية» (م12 ص69).
ورأى فرج في استلهام التراث سبيلاً تربوياً للتلقي الثقافي مما يعين على شؤون التأصيل، وقد ثمّر هذا السبيل في مسرحياته، وفي روايته وقصصه التي تستلهم الليالي، من مفهوم الكتاب القصصي الذي ينوع الأشكال السردية إلى مزايا التشكيل وجماليات اللغة وتعبيرها عن الجوهر العربي والمنظومة القيمية وفي مقدمتها مواجهة الأجنبي:
«وألف ليلة حافلة بهذا المعنى الكبير، وهو معنى المواجهة بين العربي وغير العربي سواء في السندباد أو في غيرها من القصص تجد دائماً ذلك اللقاء مع الروم والهند والزنج وأهل الصين العجم» (م12 ص73).
ويفيد تثمير هذا البعد القومي رشاد الموقف من التراث، لا إعادته أو الانتقاء منه، بل استعادته بروح نقدية مؤمنة بالمستقبل:
«إن استخدام التراث كإطار مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ينطوي على قصد واضح لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة صياغة التراث. وهو بذلك موقف نقدي وجدلي من التراث، كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع. هو موقف للواقع ناقد للماضي، وموقف للماضي ناقد للحاضر.. هو موقف نقدي وحر من الواقع ومن الماضي معاً. ولعل هذه هي حكاية الأدب التقدمي مع الماضي ـ المسرح والقصة والشعر... إنه، كان في فنّ الأقنعة الزنجي استخدام لقناع الماضي بفرض التطهر من سطوة الماضي ومن سلطة الماضي». (م8 ص221).
واللافت للنظر أن فرج واع لمعاني الاستلهام ووظائفه من مستوى الحكاية في المسرحية وأصلها الروائي أو الشفاهي إلى مستوى الخطاب، وقد قال في نهاية سبعينيات القرن العشرين عن زياراته الأربع آنذاك لليالي:
«حلاق بغداد» مسرحية في حكايتين الأولى يوسف وياسمينة من ألف ليلة. والثانية زينة النساء من المحاسن والأضداد للجاحظ؟
شخصية أبو الفضول التي تربط بين المسرحيتين هي إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة، وهي شخصية مزين بغداد (في الجزء الأول من ألف ليلة).
المسرحية الأخرى من فصل واحد (بقبق الكسلان) وهي مسرحية للأطفال وهي أيضاً مستوحاة من ألف ليلة وليلة.
«على جناح التبريزي وتابعه قفه» مسرحية مستوحاة من ثلاث حكايات، وفيها طابع تركيبيي من الحكايات الثلاث وليست استحياء مباشراً من قصة واحدة. الحكاية الأولى هي المائدة الوهمية وهي قصة مزاح بين صاحب قصر وطفيلي فقير. وصاحبي الجراب التي أوردتها بين الفصلين في إطار مستقل لتؤكد المغزى العام للمسرحية على منوال الكوميديا (ديلارتي) التي تتصف بفاصل بين الفصلين، وهذا الفصل هو لحظة تنوير بالنسبة للمسرحية.
الحكاية الثالثة هي معروف الإسكافي، وهي قصة رجل فقير في بلد غريب ادعى الغنى لكي يحظى بكرم أهل المدينة. وهذا جزء من قصة معروف الإسكافي. وقد عملت على تركيب هذه القصص الثلاث في قصة واحدة ذات مغزى جديد تتعلق، أو تصور حدود الوهم وحدود الحقيقة أو الواقع، وهي قصة نقدية للعقل البشري.
المسرحية الرابعة التي استلهمتها من ألف ليلة هي مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، وتتضمن ثلاث حكايات مستوحاة من ألف ليلة وليلة وليس لها علاقة مباشرة بألف ليلة، وهي قصص مبتدعة ومتأثرة جمالياً وشكلياً بألف ليلة. وهذا أسلوب مختلف وحالة متقدمة متدرجة في مسيرة الاستلهام من التراث (حيث أن التأثر والاستيحاء قد أخذ شكلاً تدريجياً من التأثر المباشر ونقل القصة كما هي مع إضافة الرؤيا أو فكرة فلسفية، إلى استغلال قصص عديدة ومزجها في تركيبة واحدة مكونة مسرحية واحدة، إلى التأثر بالأسلوب فقط من الناحية الشكلية والجمالية في الليالي.» (م12 ص62-64).
ثم رهن فرج خلاص المسرح من أزمته ومواصلته لازدهاره ولفاعليته في الثقافة الجماهيرية باستمرار وعيه لهويته، ولاسيما استلهامه للتراث، بوصفه ينبوع التقاليد وحصن الأصالة في اللغة والسرد المفتوح على التجربة القومية جمالياً ومعرفياً:
«التغيير في الفكر السائد أيضاً كان بذاته سبباً في ظهور التناقضات.. في مجال المسرح مثلاً.. «الصفقة» مسرحية الحكيم كانت بشرى بظهور اللغة الثالثة التي ستحافظ على مقومات اللغة القومية الفصحى مع الالتزام بلغة الناس الواقعية، حلاً لمشكلة الازدواج اللغوي في المسرح والحياة. و«فرافير» يوسف إدريس كانت علامة كبرى في طريق الأصالة المسرحية القومية والشعبية لإبداع مسرح عصري قومي يستند إلى تقاليد السامر الريفي والمسرح الشعبي» (م8 ص345).
1ـ3ـ التحديث:
انطلق فرج في تحديثه من التقاليد القومية لأن «اكتشاف الذات هو اكتشاف علاقة الذات بالآخرين، اكتشاف الذات القومية هو تحديد موقفها من العالم وموقعها في الزمن» (م8 ص283)، وهذا ما دعاه لوضع كتب برمتها عن فهم الحداثة والتحديث داخل التجربة الذاتية، فكان كتابه الأول «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» وقد استهدف فيه القاريء من أجل يحب المسرح، وليضيف إلى خبرة المتفرج وعياً بفن أصيل وحديث هو المسرح، فحوى شروحاً تعريفية موجزة لأهم عناصر العمل المسرحي: فنّ المسرح، الديكور، الخلفية التشكيلية، الممثل، أدواته، تيارات فن التمثيل، فن اللعب، فن الضحك، أنواع الملهاة، المحلية والإنسانية، الملهاة الواقعية الحديثة المأساة، المسرحية، عناصر التأليف المسرحي، الحوار، لغة الحوار، الفصحى في المسرح، النجوى، الحائط الرابع، المسرح من زاوية نظر حديثة، العقل المحض، شكل المنصة، المخرج، العنصر الفكري للمسرحية. ومن الملحوظ أن كتابة فرج عن هذه العناصر الحديثة في تكوينها الناجز اقترنت بأمثلة واقعية من التجربة المسرحية العربية (ص23- ص41 - ص54 - ص57 - ص75 - ص101 - ص105- ص126 - ص127 - ص176 - ص177 - ص193 - ص200 - ص225 - ص227)، مثلما خصص فصولاً برمتها عن التجربة المسرحية العربية (ص76 - ص93 - ص109 - ص119 - ص151)، وختم رؤيته بحوار مع الحكيم حول مسرحه وفكره وفنه.
لقد بات جلياً أن فرج ينظر إلى الحداثة والتحديث من واقع التجربة المسرحية العربية، كما في افتتاحيته عن الخلفية التشكيلية:
«إذا كان الحديث قد ساقنا لمقارنة عابرة بين مزاج وفن كل من نبيل الألفى وحمدي غيث، فلا بأس من أن نسترسل في هذه المقارنة بعض لاسترسال بقصد التفريق بين اتجاهات طليعة مخرجينا المسرحيين في صدد تكوين الخلفية التشكيلية المسرحية.
الديكور يصممه رسام بالطبع. ولكن عمل الرسام محدد بعدة اعتبارات:
أولها: أسلوب المسرحية، سواء أكانت رمزية أو سيريالية أو واقعية أو طبيعية أو خيالية «فانتازيا». إلى آخر هذه الألوان..» (م8 ص22).
ولطالما استغرق فرج في التطبيق العربي على فهمه للمسرح، كما هو الحال مع تأملاته حول أصل الملهاة وأصولها:
«إن القدرات الخلاقة لممثلينا في مجال الكوميديا قد دفعت مسرحنا خطوات إلى الأمام. ونجومنا الساطعة: عبدالمنعم ابراهيم في «حلاق بغداد» وشفيق نور الدين في «القضية» و«السبنسة» وحسين رياض في «تاجر البندقية» وسعيد أبوبكر في «مسمار جحا» وفؤاد شفيق في «مضحك الخليفة» وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد في «الفرافير» وفؤاد المهندس في «السكرتير الفني» وصلاح منصور ومحمد توفيق في «الزلزال».. وغيرهم من الأبطال الموموقين دعموا فن الكوميديا في بلادنا وأتاحوا له بجدارة إمكانيات وآفاقاً لا حدود لها.
إن فن الكوميديا قد سبق الفنون المسرحية الأخرى في بلادنا، من حيث الرواج، فنحن شعب يحب النكتة، ولا جديد في ذلك. ولكن الجديد هو ما يقرره الفيلسوف الفرنسي برجسون من أن الشعب المولع بالنكتة شعب مولع بالمسرح..
إن الصلة بين الاثنين ظاهرة وهي صلة ـ كما هي جديرة بالتأمل ـ فهي مثيرة للأمل جداً..
أما الأمل فهو في قلوبنا. أما التأمل فهو يشحذنا لمزيد من البحث في أصول الكوميديا في بلادنا..» (م8 ص75).
ثم تتبع في فصل آخر تحديث الكتابة المسرحية الواقعية الملهاوية في ممارسة جيل المؤلفين المسرحيين الذي ينتمي إليه فرج نفسه:
«بعد أن أشرنا إلى المنحى الخاص الذي تتميز به مسرحية الفرافير، لابد أن نصل إلى وصف تيار فن التأليف المسرحي المصري الحديث، ذلك التيار الذي أثر طابعه على ذوق الجمهور وعلى الحركة الثقافية بوجه عام في السنين الأخيرة. ومع أن كلا من مؤلفينا يتميز بطابعه الخاص، فإننا نستطيع أن لمس في مسرح نعمان عاشور وسعدالدين وهبة ولطفي الخولي بشكل خاص تلك الصفات الخاصة التي تميز تيار الكوميديا الواقعية الحديثة..
إننا نريد هنا فقط أن نطل على هذا التيار الجديد الممتع، أن نتقصى خطوطه العامة، أن نكشف مزاياه الشعبية والفنية، ليكون هذا الفصل دليلاً للمتفرج إلى العالم المسحور الذي يصفه معظم الكتّاب الجدد في المسرح.. ومعيناً على الاستمتاع والفهم لفنهما الذي لاقى ويلاقي رواجاً عظيماً من الجمهور..» (م8 ص101).
وعندما تكلم عن المسرح من زاوية نظر حديثة، فإنه احتكم إلى تجربة المسرح العربي وتجربته بالذات:
«رأينا اتجاهاً للمدارس الحديثة يعمد إلى اختزال الحوائط والأبواب والإكسسوار والاقتصاد في زخرفة تفاصيل الأشياء والملابس فوق المنصة، والاستغناء عن تفاصيل التفاصيل بقصد تخفيف ثقل التركيبات في بناء الديكور، وضمان أن يكون الممثل البشر ركيزة التكوين التشكيلي كله فوق المنصة.
ورأينا أن هذا الاتجاه في الوقت الذي يضمن التوازن التشكيلي بين الممثل وبين الأشياء الجامدة فوق المنصة، إنما يصدر عن فهم عميق دقيق لحقيقة جلية: هي أنه لا يمكن خداع المتفرج عن مكانه (في مسرح الأزبكية مثلاً) وزمانه (في الساعة العاشرة مساء) وإيهامه إيهاماً كاملاً بأنه في عاصمة الدانمرك حيث سقط هاملت مطعوناً بسيف مسموم.
ورأينا أن الإيهام والتوهم في المسرح ليس إلا عقد اتفاق غريب بين الفنان والمتفرج تكلفه الإشارة المقتصدة من الديكورست إلى المكان والزمان المفترضين واستعداد طيب من المتفرج للتصديق بالإشارة المقتصدة والاندماج في الموضوع.» (م8 ص193).
لقد وضع فرج عدة مؤلفات عن متابعته الدؤوبة للمسرح الحديث والتفاعل الثقافي العربي مع اتجاهاته وتياراته المتعددة، مثل «أضواء على المسرح الغربي» و«شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك».
1ـ4ـ اللغة:
شغل فرج باللغة في المسرح منذ بداءة تجربته فدعا إلى توافر شروط جمالية وتعبيرية للغة الحوار تنفع في تحقق الوظيفة الاتصالية والإبلاغية، ويستلزم لذلك أن تكون اللغة فصيحة أو مفصحة:
«ولغة المسرح لها غير هذه الشروط الأدبية العامة، شروط خاصة أخرى كلغة لفن من نوع خاص.
يذهب بعض الباحثين إلى أن الشعر أوفق للمسرح من النثر. وبغض النظر عن صحة هذه الدعوى، فإنها تصدر عن نفس المفهوم القائل أن المسرح يقتضي لغة فنية من نوع خاص ـ سواء في اللهجة العامية أم الفصحى.
إن المسرح يقتضي لغة ذات طابع مركز ومعبر تعبيراً مباشراً بلا تعقيد أو لف أو دوران.. بلا استطراد أو تطويل، لغة تنأى عن التراكيب المتداخلة المعقدة.. فالمتفرج لا يملك الفرصة ليلاحق المعاني في مثل هذا اللون من التعبير..» (م8 ص163-194).
2ـ التأليف المسرحي:
وضع الفريد فرج سبعاً وعشرين مسرحية متفاوتة الطول، ومتباينة الموضوعات والاهتمامات والأشكال والتقانات، هي:
                                                                                                                                  صوت مصر (فصل واحد)       1956
                                                                                                                                  سقوط فرعون      1957
                                                                                                                                  حلاق بغداد 1964
                                                                                                                                  سليمان الحلبي      1965
                                                                                                                                  الفخ (فصل واحد) 1965
                                                                                                                                  بقبق الكسلان (فصل واحد)       1966
                                                                                                                                  عسكر وحرامية    1966
                                                                                                                                  الزير سالم  1967
                                                                                                                                  علي جناح التبريزي وتابعه قفه   1969
                                                                                                                                  النار والزيتون      1970
                                                                                                                                  الزيارة (فصل واحد)      1970
                                                                                                                                  زواج على ورقة طلاق    1973
                                                                                                                                  الحب لعبة  1975
                                                                                                                                  أغنياء فقراء ظرفاء       1977
                                                                                                                                  رسائل قاضي إشبيلية      1975
                                                                                                                                  رحمة وأمير الغابة المسحورة (للأطفال)  1975
                                                                                                                                  الغريب (فصل واحد)      1993
                                                                                                                                  العين السحرية (فصل واحد)      1978
                                                                                                                                  دائرة التبن المصرية (فصل واحد)        1979
                                                                                                                                  ألحان على أوتار عربية   1988
                                                                                                                                  هردبيس الزمار (للأطفال)        1989
                                                                                                                                  الشخص (فصل واحد)     1989
                                                                                                                                  عودة الأرض      1989
                                                                                                                                  مي زيادة (تمثيلية تلفزيونية)      1986
                                                                                                                                  غرابيات عطوة أبو مطوة 1993
                                                                                                                                  اثنين في قفة       1993
                                                                                                                                  الطيب والشرير والجميلة  1994
ولعلنا نتلمس علامات هذا التفاوت وهذا التباين في الملاحظات التالية:
2ـ1ـ الاستجابة للواقع:
شغل الفريد فرج، مثل أبناء جيله من المسرحيين الآخرين، بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، فصارت مسرحياتهم، في الغالب الأعم حتى مطالع سبعينيات القرن العشرين، وهي المرحلة الناصرية وامتدادداتها في مدّ وجزر على وجه التقريب، استجابة مباشرة أو غير مباشرة للأحداث والتبدلات التاريخية القومية والوطنية السياسية والاجتماعية العاصفة والغامرة حركة الواقع وشروط التاريخ، فكتب «صوت مصر» احتفاء بفعل المقاومة في بورسعيد (حازت ميدالية الفنّ في المعركة)، وضع مسرحيته التاريخية «سقوط فرعون» لمعالجة فكرة الحياد الإيجابي والسلام المسلح، وهي إحدى أطروحات النظام آنذاك تساوقاً مع مؤتمر باندونغ، وكتب «حلاق بغداد» في مناخ فانتازي يستلهم الموروث السردي وبعض المؤثرات التعبيرية والانطباعية والملهاوية لمعالجة سياسة الحكم، ووضع «سليمان الحلبي» في فترة انتشار قيم الشعبية وتصاعد المدّ الثوري العالمي والعربي إشاعة للفكر الثوري القومي في مصر عبدالناصر وانطلاقة رصاصة المقاومة الفلسطينية واشتداد عود الإرادة العربية على أن المسرحية بتعبير الفريد فرج نفسه «إجابة شافية على أول تحديات الاستعمار الأوربي للشرق في عصرنا الحديث» (م2 ص18)، كتب «عسكر وحرامية» عن تحالف قوى الشعب العاملة والنضال من داخل «الاتحاد الاشتراكي»، تنظيم السلطة الحاكمة، لمواجهة الفساد والإفساد، وكانت مسرحية «الزير سالم» دعوة لمجاوزة الخلافات القومية والجراح العربية النازفة في أكثر من بقعة والانخراط في ائتلاف قومي ينفع في مواجهة التحديات، ووضع مسرحية «علي جناح التبريزي وتابعه قفه» عن حتمية الحل الاشتراكي وانتصار الأفكار الاشتراكية وأفكار العدل الاجتماعي وإشاعة حلم التغيير، بالعدل المادي، وألف «النار والزيتون» إيماناً بانتصار المقاومة الفلسطينية وبالحل النضالي المقاوم سبيلاً لهذا الانتصار، ووضع مسرحية «زواج على ورقة طلاق» استتباعاً لمعالجة الحل الاشتراكي والتلاقي بين الطبقات المتصارعة.
وتميزت كتابة الفريد فرج بالاستجابة غير المباشرة، بينما كانت الاستجابة لدى مسرحيين آخرين مباشرة يظهر فيها صوت الأحداث والوقائع والأطروحات والشعارات مما يستعصي على التجلي الفكري والفني أحياناً، وقد تعاضدت صيغ التعبير عن الاستجابة المباشرة بعناصر الصوغ المسرحي، ولاسيما التحقق الفني لأفكاره ورؤاه بين التاريخي والراهن، بين المطلق والمتغير، بين الجوهري والعرضي...الخ.
2ـ2ـ الأفكار والموضوعات:
عني فرج في مسرحياته بأفكار تاريخية لطالما تناقضت مع أفكار وجودية، إذ عاين في مسرحيات كثيرة أفكاراً سياسية واجتماعية شديدة الارتباط بالتاريخ العربي في مصر وفلسطين وبقاع أخرى.
شغل على الدوام بأفكار العدل الاجتماعي والمقاومة والتحرير والاشتراكية على إطلاقها ثم ما لبث هذا المطلق إن انتابته أو تناوشته وطأة المتغير، وهذا واضح في مسرحياته «علي جناح التبريزي» و«سليمان الحلبي» و«الزير سالم»، ثم دخلت هذه الأفكار اشتراطات أو استحقاقات هذا المتغير مثل أن يكون السلام مسلحاً في «سقوط فرعون»، أو أن يمايز بين حلم العدالة ووهمها أو توهمها في «علي جناح التبريزي»، أو أن يتداخل الزمان والتاريخ في فهم العدالة المستحيلة في مسرحية «الزير سالم»، أو أن يتوارى الخلاص الفردي الممكن وراء الخلاص الجماعي المفترض في مسرحية «عسكر وحرامية»، أو أن يُغطى اللقاء الطبقي بشعاره في مسرحية «زواج على ورقة طلاق»، أو أن تربط الديمقراطية بتطبيقها وبظرفها تمييزاً بين الزمن المطلق والزمن المتصل أو الراهن في مسرحية «حلاق بغداد»، أو أن يربط الصراع بين الخير والشّر بالمواضعات الاجتماعية والوضع البشري في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة».
وقد اختار فرج لأفكاره موضوعات متعددة قومية واجتماعية من منظورات سياسية وأخلاقية وإنسانية صريحة. وقد بدأ كتابته المسرحية بالموضوع القومي الذي عولج بأشكال متعددة وبرؤى ثرية عن الوجود العربي الكريم في مراحل حاسمة للتأزم الذاتي القومي ومعضلات مجاوزته وتحققه، كما في مسرحياته: «صوت مصر» و«سقوط فرعون» و«عسكر وحرامية» و«النار والزيتون» و«سليمان الحلبي» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».
وثمة مسرحيات ذات طابع احتفالي يستجيب للموضوع القومي مثل «صوت مصر» المكتوبة تحية لفعل المقاومة ضد العدوان الثلاثي على مصر، و«عودة الأرض» المكتوبة حفاوة بالوفاق الوطني حول النصر في حرب تشرين الأول عام 1973.
وغالباً ما اندغم الموضوع القومي بالاجتماعي، عندما تُرى القضية الاجتماعية في بعدها العام كما في رؤية التطبيق الاشتراكي للأفكار المطلقة كالعدل والديمقراطية في بناء المجتمع وإنتاجه.
2ـ3ـ استلهام التراث:
نظر فرج إلى استلهام التراث مجالاً رحيباً للأصالة ووعي الذات القومية، فاستعمل السرد الشهرزادي في عدة مسرحيات، إذ زاوج لأول مرة في مسرحية «حلاق بغداد» بين حكايات من «ألف ليلة وليلة» وإحدى قصص الجاحظ في كتابه «المحاسن والأضداد»، ثم استوحى مسرحية «علي جناح التبريزي» من حكايات ثلاث من الليالي، هي حكاية المائدة الوهمية وحكاية الجراب وحكاية معروف الإسكافي، وبنى مسرحيته القصيرة «بقبق الكسلان» من فضاء حكائية الليالي، وتأثر في مسرحيته «رسائل قاضي إشبيلية» بحكائية الليالي وحوافزها السردية الواقعية الممتزجة بالفنتازيا. وكانت آخر مسرحياته «الطيب والشرير والجميلة» مستوحاة من إحدى حكايات الليالي أيضاً.
ويلاحظ أن اشتغال فرج على التراث موصوف بالطوابع التالية:
ـ التصرف في البنية الحكائية على سبيل التأثر النفسي والذهني، فلا يعاد المتن الحكائي في الحكايات المستلهمة، بل يستعاد نسقها في الفضاء السردي وعلاقاته الجمالية والدلالية، وتبدو مسرحيتا «حلاق بغداد» و«علي جناح التبريزي» مثالاً لهذا التصرف الذي يوائم في الأولى بين حكايات من الليالي ومن السرد الأدبي الجاحظي.
ـ النزوع النقدي والتعليمي في استعادة التراث السردي، فتصبح المسرحية مداراً للنقد والتأمل النقدي لأفكار الأرض والعقاب والسوق في مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، بينما تلح المسرحية على التعليم وتقدير العمل والعطاء، وهو ما توجزه نبرة الختام في مسرحية «بقبق الكسلان»، وكأنه صوت الجوقة:
«الجميع: (يتقدمون ناحية الجمهور) رأيتم بأنفسكم أيها السادة هذه الصورة التي صاغها المؤلف الشعبي العظيم في ألف ليلة وليلة منذ ألف سنة. ومغزاها أن أحلام اليقظة تحطم النفس كما حطمت الأباريق. وأن الكسلان يعوض فشله وقلة الحيلة، وأن الحياة والرخاء والسعادة أبناء العمل لا الأحلام. ونشكركم» (م1 ص216).
ـ الصوغ على نسق حكائية الليالي دون الالتزام بالبنية السردية تثميراً لقابليات حكايات الليالي الثرة، ولاسيما الدوران في شكل التحفيز الحكائي وخصائصه التخييلية مثل منطقها الخاص وتداخله المدهش بين الواقع والفنطزة، فلا تخفي الغرائبية أو العجائبية معقوليتها الخاصة، كما في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة» التي تمتح من معين حكائية الليالي سيرورة تقليدية لمعاينة فكرة الصراع الرئيسة في المسرحية بين الخير والشّر، وقد كشف فرج عن أسلوبية مثل هذا الاستلهام في افتتاحية المغني في الشهد الأول من الفصل الأول الذي يحمل عنوان «دكان الحلاق» بقوله:
«المغني: كل جيل كتب حكايات ألف ليلة وليلة على هواه.. ألف ليلة هي هذه وتلك من الحكايات.. ألف ليلة هي صيغة تروى بها الحكايات.. كل جيل روى بهذه الصيغة حكايات جيله على مقتضى احتياجاته الأخلاقية والروحية، واستخلص منها الحكمة التي يريدها ويطلبها.. ألف ليلة سفينة أحلام ركبها الناس من كل الأجيال.. وكل من ركب فيها حملته إلى ما يريد من البلدان.. فقد ذهبت بالراكبين إلى كل زمان ومكان وعلى كل المقامات الموسيقية وبكل الألحان (موسيقى مصاحبة)، ولو كان الأجداد يكتبون النوتة الموسيقية، ويدونون الموسيقى بالنقط كما نفعل اليوم.. لكانوا قد كتبوا حكايات ألف ليلة وليلة على أوراق الموسيقى المسطرة بالخطوط الخمسة كل سطر، كما تكتب الأوبريتات والمسرحيات الغنائية، فحكايات ألف ليلة مزينة دائماً بالصور والأشعار والأغاني والرقصات التي غناها وخيّلها الراوي دائماً لمستمعيه، ليجذبهم للدخول من أبواب الخيال والتصور إلى العالم الجميل الساحر لألف ليلة وليلة.. وسنبدأ حكايتنا كما كانت تبدأ القصيدة العربية في الزمن الخالي بالإنشاد للحب والغزل.. فنقول: هذه هي الليلة السابعة والعشرون بعد التسعمائة.. فاضرب الوتر» (الطيب... ص22).
وثمة تجربة فريدة في استلهام التراث الشعبي في مسرحية «الزير سالم» تتبدى في إعمال المخيلة إنطلاقاً من الوقائع المتداولة عن الراوي الشعبي المجهول، فتُبنى المسرحية على هدي نسق تنضيد جديد للحوافز تضيئه عملية الاشتغال على تفسير خاص، لتلتحم بعد ذلك جمالية التكوين المسرحي بمضاء الدلالية أو ما نسميه وحدة الأغراض أو فاعلية القصد، لأن المعول دائماً هو «الفكر في المسرح» بتعبير فرج نفسه (م2 ص166)، فاستبعدت التفاصيل أو الوقائع غير الدالة أو الوظيفية، وأُمعن ملياً في تركيب شبكة العلاقات السردية نفوراً من الاستطراد أو الحشو، مما يسعف ضبط البنية وإحكام نسيجها بالأغراض المتعددة من الإضمار إلى التصريح، ولعل هذا الولع بتمتين المنظور السردي هو مسوغ اختيار البناء الدائري حين تبدأ المسرحية بمشهد هجرس وتردده في الاقتراب من كرسي العرش بعد مخاض الدم والانتقام والكراهية الطويل، فيوجز هجرس القصد في المشهد الأخير الذي كانت المسرحية مسوغ البنية برمتها انتظاماً في تعليل الحوافز وإشباعها بدلالات التجربة:
«هجرس: وهكذا تدور اللعبة فتشملني أنا أيضاً في إعصارها الدوار. أين الفكاك من الدم؟ هاأنذا أتقدم إلى العرش برئياً من كلّ ذنب. صافي النفس نظيف اليد، بدافع الشرف، ورغم تحذيرات الشرف، لأجلس فوق المستنقع مزمعاً أن أتجنب التلوث جهد طاقتي، وأنا غير متأكد أني أستطيع. وقاني الله ارتداد بصركم أن يدفعني. أن يزجني في أيام مقبلة.. اللهم اجعلني رحمة ولا تجعلني لعنة على قومي» (م2 ص282).
2ـ4ـ التاريخ:
عمد فرج إلى الاشتغال المسرحي على التاريخ في بعض مسرحياته على سبيل المسرحية التاريخية في مسرحيتيه «سقوط فرعون» و«سليمان الحلبي»، وعلى سبيل التخييل للوقائع التاريخية في تمثيلية «مي زيادة»، وعلى سبيل الاستخدام التسجيلي المطلق في المسرحيته «النار والزيتون»، والاستخدام التسجيلي المحدود في مسرحيتيه «ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».
استند في المنحى الأول على التاريخ الفرعوني القديم استناداً رئيساً إلى كتاب سليم حسن «الأدب المصري القديم» قاصداً إلى معالجة أفكاره الفلسفية عن الصمود في وجه الغزاة والأعداء والمتآمرين خلال مرحلة أخناتون التي صارت إلى رحابة الأسطورة في رؤية التنازع بين الطبائع المتعارضة أو المتناقضة داخل الذات الواحدة.
يتركز الاشتغال التاريخي في المسرحية على فهم الحساسية السياسية واتبعات الرفق المروع بالمصائر المأساوية لشخوصه في ظل عنتهم الصارخ لمراودة الفعالية العامة بوصفها محط رهان الرؤية كقوله:
«وفرعون مصر يأبى أن يشنّ الحرب، والصلوات في معابدك، تترنم بكلمة السلام» (م6 ص320).
تستند فكرة المسرح عند فرج إلى تحويل الواقعة التاريخية إلى مدار طقس هو تخييله لمتتالية الحوافز في عملية الصراع نشداناً للقصد النهائي: بطولة سليمان الحلبي في مواجهة الأجنبي المحتل باعثاً في هذه البطولة المرامي البعيدة والعميقة لتكوينه العربي الأزهري (اندغام العروبة بنسق ثقافي تقليدي) فرداً من جماعة معبراً عن تطلعها مدركاً لخياراتها ضمن لحظة تاريخية حاسمة، محكماً وعيه حين يغوص في تشابك مكوناته الأصلية ومؤثراته الراهنة والضاغطة انطباقاً لمدى العقل على الخنجر، فليس فعل البطولة طارئاً يندرج في المصادفة، بل هو نتاج تصميم العارف «بمصيره طول الوقت، يخوضه بعيون مفتوحة وذهن حاضر ممتليء بالتوقعات» (م2 ص18)، ولعل الكناية الدالة عن أفق البطولة في إمكانية مقاومة العين لمخرز هي التعليل الأقرب للدوران في مدار الطقس، ونسيجه تلك الحوافز التاريخية التي يُعاد تنضيدها وكأن التاريخ مؤطر لاستعارة فعل الفداء عن سابق تصميم، أي أن المسرحية تغدو وعياً بالتاريخ في اشتغال عقلاني ووجداني داخل ذوات خاصة ما تلبث أن تصير إلى وعي الذات القومية العامة.
ويمضي فرج عميقاً في تخييل الوقائع التاريخية في تمثيليته التلفزيونية «مذكرات لم تكتبها مي زيادة»، فقد مازج بين ما كتبته وما توميء إليه هذه الكتابات استبطاناً لسيرة مناضلة مؤثرة في مجتمعها نداء متواصلاً لحربة الفكر وشجاعة الرأي، وقد وازى فرج بين الوقائع التاريخية وتعليقه عليها بصوت الكاتب الذي يستنطق هذه الوقائع الدلالات الأعمق للمعنى الوجودي الغامر لهذه الأديبة المبدعة الشجاعة، كمثل تثميره لحديثها عن رسالة الأديب في المشهد ما قبل الأخير الذي أفلح فرج في ألا يكون مقحماً على السياق، ونقتطف منه هذا المقطع:
«رسالة الأديب تعلمنا أن العالم العربي على تعدد أقطاره من المحيط إلى الخليج وحدة واحدة. رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات. رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. فكل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث. وأعظم فوائد الإنسانية تجمعت عن عصور العذاب والخطر. العاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير لا تزيدها إلا قوة ومناعة» (م11 ص296).
ولجأ فرج إلى الاستخدام التسجيلي المطلق في مسرحية «النار والزيتون»، على أن تسجيل وقائع حياة فرد لا تكفي لتسجيل حياة شعب، فعاد إلى الوثائق التاريخية لبعث نضال الشعب الفلسطيني من خلال التفاصيل الدالة في مجرى الصراع العربي ـ الصهيوني: «العنف الصهيوني، العذاب الفلسطيني، المقاومة الصلبة، التآمر البارد للقوى الإمبريالية العالمية» (م6 ص149).
وقد جمع فرج مادة المسرحية من مصادر متعددة ودعمها بالمشاهدة من خلال زيارة مواقع العمل الفدائي والاتصال عن قرب بأبطال المقاومة الفلسطينية وضحايا العدوان الصهيوني، على أن فرج حوّل هذه المادة إلى غناء شعبي للقضية الفلسطينية استخداماً أوفر وأوسع لمعطيات المسرح الشامل من أشعار وأغان وحركات إيقاعية وتشكيلية ومعروضات وسواها، ليقل بعد ذلك استعمال الوثائق التاريخية كالأقوال والإحصاءات والنصوص والمذكرات وسواها، وثمة ملاحظة هو العناية بوثائق شائعة ومتداولة والاشتغال الغنائي عليها بأقل من الاشتغال الدرامي بالاعتماد على وثائق من الشعر الفلسطيني أو الغناء الشعبي الفلسطيني، كمثل استقبال جثمان الشهيد حيث نجوى الأم المفجوعة وصوت الجميع يردد الأغنية الشعبية:
«الأم: لا تقولوا لي ولدي مات. ولدي حي.. اتبرع بنفسه. الله يرضى عليه. الله يجعله فدو عن فلسطين. الله يجعله فدو عن كل فدائي. أنا غاب عني ولد واحد، وربنا أعطاني كل فدائي ولد لي. كلكم أولادي. الله يرضى عليه. الله اختاره من بيننا لها الموتة الشريفة. وأخواته يتزفه. (تزغرد وهي تمسح دموعها)
(يلتف الفدائيون حولها والقائد يسلم لها وسام أم الشهيد والأغنية يرددها الجميع)
الجميع: هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه، وأبوه
أنا أمه يا فرحة أمه
يا عرسه في ليلة دمه
يا تراب الحرية ضمه
يا أخواته للثورة انضموا
زغروته ياللا حييوا
هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه وأبوه.» (م6 ص138-139)
وستخدم فرج بعض تقانات المسرح التسجيلي على نحو جزئي، مستحضراً وقائع من التاريخ القريب مثل موكب اللورد البني غداة اقتحام القدس ودمشق سنة 1917، وخريطة الوطن العربي وبجانبها سايكس وبيكو يؤشران إلى الاتفاقية السرية لتقاسم الأرض العربية واحتلالها، ومائدة اجتماعات الأمم المتحدة وقائمة قرارات الحقوق الفلسطينية، واستعراض القوة بشخص كيسنجر، واستعادة صورة زنوبيا التي تأبت على الاحتلال الروماني وقاومته، واستعراض أطراف المؤامرة الاستعمارية المستمرة بحق العرب، وإسناد نبوءة النصر إلى إحياء ذكرى صلاح الدين، لتكون هذه الوقائع التاريخية جميعها تعضيداً لموقف المقاومة الباسلة لزنوبيا ذلك المثل الحي للبطولة العربية:
«أصوات العامة: زنوبيا ملكة العرب.. الساحرة. ارجموها. اخفضي رأسك يا امرأة، انظري تحت قدميك يا أسيرة الرومان واذرفي الدموع في موكب النصر للأمبراطور أورليان..
الفتاة: بل انظر في الشمس وفي ضياء السماء. وأرى بالعين واللب والفؤاد ما ينتظر موكب الأمبراطور من خسران. فمن زرع الجريمة لا يحصد إلا الثأر، ومن بدأنا بالعدوان لا يجني غير الهوان في آخر المطاف، ومن رمى الناس بظلامه أعماه نور النهار.. انظر في عين الشمس أنا وأرى ملء عيوني ضياء عربياً آتيا من المشرق، أرى شمساً ساخنة تنبت الرجال في رحم الرمال.. وأرى روما! ويلاه.. تضج تحت أقواس نصرها تطلب من أعدائها رحمة هي بددتها! ويلاه أرى بدراً في الشمال وبدراً في اليمين يحملان سياط عذابهم فوق رؤوس ومعذبيهم. أرى دماً يجري على سلم الكابيتول يكتب على بلاطة بألسنة ساخنة: ويلك روما فقد زرعت الرياح ولا تحصدين غير العواصف.. زرعت النار لا تحصدين غير الطوفان.. أرى رجالاً فوق التلال وعلى ضفاف الأنهار.. أخوتي وأبنائيوآبائي حياة وعمراناً عربياً من قبلي ومن بعدي، فيا عرب.. هاأنذا أنتظر. أتعذب على أبواب بيوتكم، وفي بيوتكم وفي جلودكم أتعذب، وأنتظركم. امنحوني قدرتي وقدري وأيامي وشمساً في سمائي تبدد الظلمات امنحوني وحدة أمتي وحرية القرار وشرف الانتصار.. هاأنذا أصيح ليصلكم صوتي في كل البقاع: واعروبتاه!..» (ألحان على ص60).
وقد استعاد فرج طريقته الجزئية في استخدام المسرح التسجيلي وتقانات تطويع الوثيقة التاريخية لمعطيات المسرح الاستعراضي الشامل في مسرحية «عودة الأرض» مثلما فعل في «ألحان على أوتار عربية»، بل إنه أعاد بعض مشاهد بنصها مثل مشهد سايكس وبيكو واتفاقية تقسيم الوطن العربي بين المستعمرين، ومشهد صلاح الدين محاوراً العزيمة العربية للاستنهاض والمقاومة إشارة إلى دروس التاريخ العربي ذاته:
«صلاح الدين: ويزعزع ثقتكم في قدرتكم وفي عزائمكم، ويقعد بكم عن استفار رجال زمنكم.
الفتاة: لقد تصورناك كما أحببناك.
صلاح الدين: حب الضعيف وهيام العاجز وتعلقه بالتعاويذ والخرافات. وكان أولى بكم أن يكون حبكم للحياة والأحياء. وأن تكون نجدتكم لهم وأن يكون صمودكم بهم. ومن ثم تصنعون التاريخ.
الفتاة: علمني مولاي. كيف نصنع التاريخ؟
صلاح الدين: وهل تصنعون التاريخ إلا بالرجال المعاصرين؟ اطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اصنعوا أيامكم برجالكم. لن تصنعوها برجالي. التاريخ قد يكون فيه لكم حكمة أو تجربة. ولكن ليس فيه لكم فرسانكم وجندكم. فاطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اطلبوا رجال زمانكم واحتشدوا حولهم.» (م11 ص33).
وأضاف إلى الوثائق التاريخية المستخدمة مسرحة وصية الملك الصالح أيوب الداعية إلى النصر أو الموت، ثم مزج ذلك كله ببناء مسرحي يبعث فيه الأمل بالنصر الذي تحقق في حرب تشرين الأول 1973 والمقدرة على تحققه محدداً فيما سماه «عودة الذاكرة».
«المصور: عودة الأرض. عودة الروح. عودة الذاكرة. عودة العزة والكبرياء الوطني يرجع الفضل فيه إلى حكمة القيادة وشجاعة الجند وصلابة الشعب المصري العريق.. هم صنعوا النصر وأحنا صورنا الصورة» (م11 ص79).
2ـ5ـ التنوع والتجريب:
لا يكاد نص مسرحي عند فرج يشابه نصاً آخر في بنيته وشكله، فهناك المآسي مثل «سليمان الحبي» و«الزير سالم» و«سقوط فرعون»، وهناك الملاهي مثل «حلاق بغداد» و«على جناح التبريزي وتابعه قفه» و«عسكر وحرامية»  و«أغنياء.. فقراء.. ظرفاء» و«الحب لعبة»، وثمة الدراما الحديثة مثل «زواج على ورقة طلاق» و«الطيب والشرير والجميلة» أو المصاغة بروح التراث مثل «رسائل قاضي إشبيلية»، وثمة المسرح التسجيلي والسياسي القائم على تقانات المسرح الشامل والوثائق المختلفة، مثل «النار والزيتون» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض»، مما تتوسع فيه المسرحية لستارة الضوء والموسيقى والأغاني والحركة الإيقاعية التشكيلية والمعروضات المساعدة.
وهناك المسرحية الطويلة وعددها خمس عشرة مسرحية أولها «سقوط فرعون» وآخرها «الطيب والشرير والجميلة»، وثمة مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد هي: «صوت مصر» و؛الفخ» و«الغريب» و«العين السحرية» و«دائرة التبن المصرية» و«الشخص»، وثمة ثلاث مسرحيات للأطفال هي «بقبق الكسلان» و«رحمة وأمير الغابة المسحورة» و«هردبيس الزمار»، وهناك تمثيلية تلفزيونية واحدة يتوازى فيها السرد الروائي والسرد الدرامي.
ومثلما استلهم التراث العربي في مسرحيات كثيرة، استوحى بعض مسرحياته من تراث الإنسانية، فصيغت «أغنياء فقراء ظرفاء» على غرار فكرة المسرح الشعبي كما هو الحال في صياغة الإسباني «بينا فنتي»، ومثلها مسرحية «الحب لعبة» التي تستند إلى قصة شعبية أيضاً، وكان سبق إلى صياغتها الفرنسي ماريفو في مسرحيته «لعبة الحب والمصادفة».
وبلغ التجريب شأواً عالياً في مسرحية «الشخص» المبنية على تقانات مسرح اللامعقول ولاسيما لعبة الوقت تعبيراً عن ضيعة الأحلام وخناق الوحشة، كمثل قول الشخص في لوحة «الساعة اتناشر»، وهي المشهد الأخير:
«الشخص: أنا تهت. وقبل ما أتوه نسيت. وقبل ما أنسى ماكنتش عارف.. الساعة كام الميعاد. الإنسان منا دايماً أحلامه في ناحية ودنيته في الناحية التانية. إن مشى في سكة الأحلام مش ممكن يوصل للدنيا، وإن مشلا في دنيته مهما طال بيه الطريق مش ممكن يحصّل أحلامه. لكن أقسى شيء ممكن يبتلي بيه هو الوحدة.. العزلة. الانقطاع.. وعلشان كده اللي بيوصل خير من اللي بيقطع، لكن يعمل إيه بني آدم في انقطاع دنيته عن أحلامه، وانقطاع سكته عن غرضه، وانقطاع اللغة عن التعبير، وانقطاع الذاكرة، وانقطاع المعرفة عن الفهم، وانقطاع الذكاء عن المصلحة، وانقطاع الوالد عن ولده.» (م11 ص178-179).
وتستفيد على العموم مسرحيات الفصل الواحد وبعض المسرحيات الاستعراضية والموسيقية والسياسية من تقانات المسرح التعبيري مثل تجريد الوقائع والتسمية بالصفة أو بالدلالة، لا بالاسم، فلا تحمل أي شخصية في مسرحية «الشخص» أي اسم، لتقتصر التسمية على «الشخص»، و«الشبية»، و«الطبيب»، و«الشابين مفتولي العضلات»، و«الممرضة» و«الثري» و«الراقصة» و«البواب» و«البوسطجي» و«الشرطي».
أما شخصيات مشرحية «الغريب» فهي «الغريب» والسيدة وضابط الشرطة والممرضان، ولا تفترق التسمية في مسرحية «العين السحرية» عن عدم تسميته وكأن التسمية هنا علامة أو رمز، مثل «حسن» و«حسنين» «وشلضم»، لأن التسمية لا تعيّن صاحبه بعلامات فارقة كالنسب والماضي والهيئة والتكوين الخاص..الخ، لتنتهي المسرحية إلى تأمل بعض الشروط الإنسانية القاهرة، في مآل المسرحية:
«حسين: أنا حسين حسين المحامي، أثريت من حسن الدفاع عن جرائم شخصية، أعلم أسبابها الاجتماعية وأسخط عليها، ويلح على شرفي وكبريائي بفكرة الدفاع عن الإصلاح وحل التناقضات الاجتماعية.. أنفي الفكرة المفزعة التي تلاحقني من أيام الصبا والدراسة.. الفكرة تقتحمني.. فتسخر منها نفسي وتقول: أنت كالبكتريا لا تحيا ولا تسمن إلا في الجروح فكيف تداوى أنت الجروح؟! أحس بغربة قاسية وهذا جنوني..
حسن: أنا حسن حسن، الممثل، النجم السينمائي.. في صباي تدربت على أداء الأدوار التمثيلية المجيدة، وأطلقت أسراباً من الكلمات الشريفة.. اليوم ألهث وراءة الكلمات المزيفة. أنافق التفاهة والغباء والثراء. ألفق للجمهور في كل يوم قصة، بينما لا أعبأ بالاستماع إلى قصة كومبارس حقيقية وأليمة، وأنكرها. الناس في الشارع وجوههم ناطقة تقول وتحكي، ولكني أحيا حياتي بوجه يلفقه الماكياج.. أعمى وأبكم وأصم.. وأحس بقلق يدمرني. وهذا جنوني.» (م11 ص140-141).
2ـ6ـ اللغة:
شكلت اللغة إحدى معضلات التأليف المسرحي لدى جيل فرج، غير أنه حسم خياره باتجاه الكتابة بالفصحى أو بلغة مفصحة، وعدّ هذا الخيار علامة تأصيل ينفع في تعضيد الهوية القومية في الأدب؛ ثم جاوز هذا الانشغال إلى تثمير الفصحى أو المفصحة في مسعاه الإبداعي، فاللغة حاجة فكرية وفنية، وليست مجرد زينة أو التزام خارجي، فعني فرج بمواءمة اللغة لطبيعة المسرحية في نوعيتها، تاريخية أم سياسية أم تسجيلية أم مأساوية أم تجريبية..الخ، وفي خطاب شخوصها وبيئاتهم...الخ، ولعله صدر في ذلك الخيار أو الاحتياج الفكري والفني عن فهم اللغة في العمل المسرحي تواضعاً متفقاً عليه، لا نقلاً عن واقع، لأننا في الفن محاكاة صريحة ومباشرة للواقع أو استغراقاً في اتجاهات حداثية وسواها لا نصف الواقع أو ننقل عنه، بل نعيد إنتاج علائقه، نصوغ مجتمعاً خاصاً هو مجتمع المسرحية، فاستفادت اللغة من نصوص الأدب المصري القديم في مسرحية «سقوط فرعون»، وهي لغة تقارب الشعر في مواقع كثيرة، وتألقت اللغة الأدبية التي تستفيد من فخامة التراث الأدبي العربي القديم في مسرحيات متعددة مثل «علي جناح التبريزي» و«الزير سالم» و«سليمان الحلبي» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير والجميلة»، فطاعت اللغة الفصحى لحاجات المسرح.


 ---------------------------------------------------------------------------------
المصدر: كتاب المسرح العربي المعاصر قضايا ورؤى وتجارب  تأليف د.عبدالله أبو هيف
 منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ـ 2002

تابع القراءة→

الخميس، مايو 19، 2016

تطور المسارح مؤشر على تغيير واسع يقوده الشباب في إيران

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, مايو 19, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

يبدو “مسرح باران” في طهران مكانا يستبعد أن تقام فيه الأمسيات الثقافية، ولكن إشراف المستثمرين والخواص عليه جعله يقدم عروضا منتقاة منذ افتتاحه قبل عام، بما أن معظم مرتادية من الشباب الذي يحاول توفير مناخ للعيش يعمّه الانفتاح الثقافي والاجتماعي.
قبل العرض المسرحي كوميديا مثل القتل “أو كوميدي لايك أو موردا”، وهي مسرحية ساخرة لحسين كياني الذي أثار الجماهير منذ انطلاق العروض قبل شهرين، يقول ميلاد ذو الـ23 عاما، وهو طالب دراسات عليا “على الأقل أشاهد مسرحية واحدة في الشهر، من المثير للغاية أن يكون لنا الكثير من الفعاليات الثقافية في المدينة”. ويضيف كيميا وهو أستاذ محاضر يبلغ من العمر 40 عاما “إنه لأمر رائع أن يتم فتح مسرح خاص جديد في كل ركن من طهران”.

واستثمر اثنان من الخريجين الجامعيين فهيمة أمنزاديه وخيام فاغهار مدخراتهما لتحويل مستودع سابق إلى مكان يضم 121 مقعدا ومقهى، بهدف أن يصبح فضاء شاسعا وثريا يحتضن المسرحيين والفنانين الأقل شهرة والموهوبين والمبتدئين. هذا المكان مثل العديد من الأماكن الأخرى الممولة من مستثمرين خواص، ظهرت في طهران واختارت مقرات لها قرب مسرح “سيتي ثيتر”، المسرح الفاخر الممول من الحكومة والمخصص للفنانين المشهورين.

وقالت أمنزاديه “المحترفون فقط لديهم فرصة لعرض أعمالهم على ركح مسرح سيتي ثيتر. لذلك يشكو العديد من المسرحيين الشباب المتخرجين حديثا من قلة فضاءات العروض، ما أدى إلى نشوء فكرة تشييد مسارح خاصة”.

إن ازدهار المسارح هو جزء صغير من عملية تغيير واسعة في إيران في رئاسة حسن روحاني، في الوقت الذي يتم فيه التركيز على إصلاح السياسات الاقتصادية والخارجية للرئيس، ولا سيما التوصل إلى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب، يلاحظ المحللون تحولات صغيرة ولكنها في الوقت ذاته مهمة في اتجاه إقامة المجتمع الأكثر انفتاحا، الذي يطالب به الشباب في إيران.

هذه الأرض لا تحتاج إلى فنانين، وحتى لو كان كذلك، فإنه يراد منهم أن يكونوا أذلاء ومضحكين لا أكثر
كما هو معلوم فإن قائمة الممنوعات والمحرمات في القانون الإيراني كثيرة وهي تستهدف الحد من الحريات الشخصية للمواطنين، وعلى رأسهم الشباب التواقون بطبيعة سنهم إلى الحرية، فلا يمكن للشباب في الجمهورية الإسلامية الذهاب إلى أماكن الترفيه مثل الحانات أو الملاهي الليلية، ويحظر عليهم شرب الكحول وأحيانا يتم الفصل بين الجنسين. ولكن يمكنهم حضور الفعاليات الثقافية مثل العروض المسرحية والحفلات الموسيقية في دور السينما وقاعات العرض، وكذلك الفعاليات الأدبية التي يتم عقدها في محلات الكتب من أمسيات شعرية وغيرها.

ما كان ليتم فسح المجال لإنشاء الفضاءات المسرحية الخاصة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لو لم تتوفر القناعة على الصعيد السياسي خاصة، بأنه لا بد من توفير فرص أكبر للشباب، فالنظام الإسلامي يدرك تماما أن بطالة الشباب والتضييق على حرياتهم لعبت دورا رئيسيا في الثورات التي اجتاحت الشرق الأوسط عام 2011، وكذلك المؤيدة للحركة الخضراء الإيرانية الفاشلة التي اندلعت عام 2009 مطالبة بالإصلاح.

حوالي ثلثي سكان إيران البالغ عددهم 78 مليون نسمة سنهم دون الأربعين عاما، وهم اليوم يشكلون 25 مرة أكثر ممّا كانوا عليه في عام 1979 (تاريخ قيام الثورة الإسلامية)، بما في ذلك حوالي 1400 خريج جامعي سنويا في اختصاص الدراسات المسرحية، والذين لم تتوفر لهم فرص عمل كافية لاستثمار تكوينهم ومؤهلاتهم.

وتمثل العروض المسرحية في المسارح الخاصة في إيران متنفسا للشباب الإيراني ومساحة ليوظف خريجو المعاهد والجامعات في الاختصاصات المسرحية طاقاتهم ومواهبهم ومؤهلاتهم الفنية.

70 بالمئة نسبة الترفيع في ميزانية الأنشطة الثقافية لهذا العام ما يظهر التزام الحكومة تجاه الفنون
ويتم يوميا عرض حوالي 100 مسرحية تعالج مواضيع تتعلق بالحياة اليومية في البلاد. على سبيل المثال، مسرحية كوميديا مثل القتل “أو كوميدي لايك أو موردا” مستوحاة من اغتيال الملك ناصر الدين شاه قاجار في القرن التاسع عشر. وقد جمع هذا العمل الفني بين تقاليد الكوميديا الفارسية والرقص والموسيقى، وتناولت دور الفن في المجتمع الإيراني. يقول حاركي خان، البطل الرئيس في المسرحية “هذه الأرض لا تحتاج إلى فنانين، وحتى لو كان كذلك، فإنه يُراد منهم أن يكونوا أذلاء ومضحكين لا أكثر”.
يقول رئيس قسم الفنون المسرحية التابعة لوزارة الثقافة في إيران مهدي الشافعي “رغم التقيد بالقوانين إلا أنه يستمع أيضا إلى انتقادات الفنانين كما أنه لم يتم حظر أي عمل خلال العام الماضي كما حدث من قبل”، مضيفا أن الترفيع بنسبة 70 بالمئة في ميزانية الأنشطة الثقافية لهذا العام يُظهر التزام الحكومة تجاه الفنون.

دوليا، كانت الصادرات الفنية الإيرانية الأكثر شهرة هي للمخرجين السينمائيين عباس كياروستامي وجعفر بناهي. ولكن، في وقت لاحق من هذا العام، سوف تصبح مسرحية “هيرينغ” لأمير رضا كوهيستاني أول مسرحية إيرانية يتم اختيارها لمهرجان المسرح بأفينيون في فرنسا.

ويقول فاغهار، أحد مؤسسي “مسرح باران” بما أنهم يعتمدون بشكل كلي على مداخيل شباك التذاكر، فإنهم كثيرا ما يعرضون مسرحيتين أو ثلاثا في اليوم. في المقابل ترى أمنزاديه أن الأمر يستحق هذا العناء، وتقول “لقد كانت خطوة جيدة جدا، نحن فخورون بمسرح باران الذي يعتبر الآن من المسارح الخاصة الرائدة في مجال تشجيع الشباب في إيران”.
---------------------------
المصدر :طهران -  العرب 
تابع القراءة→

الأربعاء، مايو 18، 2016

عودة شكسبير وأورويل وكافكا وتذمر اليهود في المسرح البريطاني

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأربعاء, مايو 18, 2016  | لا يوجد تعليقات

مجلة الفنون المسرحية

شهدت مسارح بريطانيا سنة 2015 العديد من العروض التي لاقت نجاحا لافتا، وأسالت الكثير من الحبر لجرأة المواضيع وكذلك لطبيعة الأداء التمثيلي والقدرة على تقمص الأدوار. المسرحيات سجلت أيضا عودة وليام شكسبير وجورج أورويل وفرانز كافكا إلى صدارة الأحداث، كما اعتلت المسارح وجوه سينمائية أتقنت في كثير من الأحيان المزج بين التفاعل المباشر مع الجمهور والاحترافية العالية في التحول من الفن السابع إلى الفن الرابع. ورغم ما كتب من نقد حول هذه العروض، وصل أحيانا إلى درجة التهجم، كما في مسرحية “يهود سيّئون”، فقد عرف الموسم المسرحي البريطاني نجاحا كبيرا نظرا لقوة النصوص وإتقان الممثلين لأدوارهم وتماهيهم مع الشخصيات المجسدة، الأمر الذي ترجمته نسب الإقبال وعدد الوافدين على المسارح.

تعددت العروض المسرحية في بريطانيا عام 2015، وتنوعت مواضيعها، فمن الكوميديا الساخرة إلى التراجيديا وصولا إلى السير الذاتية، تمتع الجمهور بروعة الأداء واحترافية الممثلين، إلاّ أن السمة الطاغية كانت عودة الأسماء المعروفة في سماء الكتابة المسرحية. كما شهد العام بروز الكثير من الوجوه السينمائية في ثوب جديد وأدوار مختلفة، حققت نجاحا كبيرا، وهو ما شكل نقطة تحول في مسيرة هؤلاء الممثلين الإبداعية.

فناء الدنمارك والعالم

على مسرح باربيكان اللندني عُرضت مسرحية شكسبير الشهيرة “هاملت”، وهي من إخراج البريطانية لينزي تيرنر، الفائزة بجائزة لورانس أوليفيه، وبطولة بنيديكت كامبرباتش والممثلة الإنكليزية أنستيجيا هيل وإنتاج شركة “سونيا فريدمان”.

المسرحية تدور أحداثها على أرض الدنمارك، تحت أنين الصراعات العائلية التي تفتت الجبهة الداخلية. كان أميرها هاملت مشلول النفس والقلب، هائما في تردد كالتائه، مرغَما عقب مقتل أبيه على أن يوقع بالجاني مثلما جنى. ولعجزه عن القصاص يطيح به الحنق فيغيب عقله رويدا رويدا في متاهة الضياع.

القصة لا تخفى ولا ريب على قارئ. ما الذي أضافته إذن المخرجة إلى هذا العرض تحديدا؟ فهاملت بريطانيا قد يختلف عن هاملت الدنمارك أو هاملت الهند، وهاملت في عهد إليزابيث الأولى غريب عن هاملت إليزابيث الثانية. ولعالميته إنسانية الطابع، يرنو كل مسرحي، سواء كان كاتبا أو مخرجا أو ممثلا، إلى هاملت رنوّا متفردا كل التفرد. وجدير بأيّ امرئ أن يشكّل هاملته الخاص العصيّ على التعريف. يستقيه من بين ألف وخمسمئة سطر كتبها شكسبير عن الشاب الملحمي أو على لسانه.

ورغم دعاية هستيرية نظمتها شركة الإنتاج، لم يحسن كامبرباتش تعرية ذاته، وجاء أداؤه في بعض المواقف متحجرا ينزع إلى الكبت، فاقدا للكثير من التلقائية.

في تسعين دقيقة وهي مدة عرض مسرحية "فخامة"، نسترق السمع إلى ما انغلقت عليه صدور نساء من تواريخ

تراجيديا مسرحية

شهدت خشبة المسرح في لندن عرضا لمسرحية “مصلحة بلدنا” المكتوبة سنة 1988 للكاتبة البريطانية تيمبرليك ويرتنبيكر، وهي مستوحاة من رواية الكاتب المسرحي الأسترالي توماس كينيلي، وقد اعتبر العرض خير معبّر أدبي وفني عن فكرة أن التراجيديا تطهّر المشاهد المسرحي، وقد درج المسرح منذ زمن أرسطو -صاحب هذه الفكرة- وإلى اليوم مرورا بأزمنة متعدّدة ومنها زمن فولتير. وكان أرسطو يعتبر أن التراجيديا تُفاقِم مشاعر الشفقة والخوف، دون أن تخلقها من العدم، حتى تعتمل في القلوب فتنقيها من الدنس والشوائب الأخلاقية.

فازت مسرحية “مصلحة بلدنا” بجائزة لورانس أوليفيه/ بي بي سي، وجائزة حلقة نقاد الدراما بنيويورك، وجائزة إيفنينغ ستاندارد. وتنصبّ ثيمتها حول نشأة قارة بأكملها، إنه موضوع جذاب ومدرّ لأقلام مؤرخي الحضارات، وقد نبع أصلها الروائي تخليدا لذكرى 200 سنة على تأسيس المستعمرة الإنكليزية (أستراليا) في عام 1788.

في مضمون المسرحية حقيقة في الواقع، إلا أن مدى ما ورد فيها من صحة تاريخية لا يمكن تحديده بدقة. يخبرنا التاريخ بأن الربان كوك أرسى عام 1770 على سواحل أستراليا، بعد أن احتال على حكومته وأقنعها بأن أستراليا غنية بالكتان والخشب، طامحا إلى التخلص من المورّدين الأوروبيين. وكل دولة وطئتها القوات البريطانية ألفت فيها سلعة ذهبية للاستغلال، من كتان أستراليا وحتى بترول العراق.

وعقب 17 عاما، عزمت الحكومة البريطانية على إخلاء سجونها المكتظة بفعل قسوة قوانين الأراضي. والعرض يبدأ بمنظر لعابري المحيط، الأشرار منهم والأبرار، تحت إمرة الربان آرثر فيليب. الحمولة الأولى تغصّ بمنبوذي البلد ومشوّهيه. الأساطيل تشحن المجرمين كالقطعان إلى خليج بوتاني، حتى صارت بوتاني تطلق على أية بقعة أسترالية أرسلت بريطانيا إليها المنحرفين. ولأن البيئة قاحلة عديمة الرحمة، وأستراليا قوس قزح جغرافي، يهجرونها على الفور إلى جون سيدني ليغدو مستعمرة -أو جحيما- لإنزال العقاب.

سيدة الحمض النووي

على مسرح نويل كاوارد قامت الممثلة الأسترالية حاملة جائزة أوسكار نيكول كيدمان بدور عالمة الفيزياء الحيوية البريطانية اليهودية روزاليند فرانكلين (1920-1958) في مسرحية بعد 17 عاما من الغياب عن مسارح لندن.
     نيكول كيدمان تعود إلى خشبة المسرح بعد طول غياب

المسرحية مستمدة من كتاب الصحفية الأميركية برندا مادوكس، “روزاليند فرانكلين: سيدة الحمض النووي الغامضة”، تأخذ ببساطة بثأر العالمة، في نص موجز شعري للمؤلفة الأميركية آنا زيغلر، ومن إخراج البريطاني مايكل غراند إيدج.

تعيش فرانكلين حياة موحشة، لا تمرّ بها علاقة عاطفية واحدة، سمتها كبت عاطفي خليق بالعلماء، حتى حين ترد عليها أنباء مرضها، لا تزايلها العزيمة، ولا يندّ عنها سوى التقهقر إلى معملها.

فرانكلين نفسها لا تنطق بالكثير، ولكنها تظهر في تفانيها استماتة في الدفاع عن آرائها، والخطابة المعيبة تتناهى إلينا من أفواه الشخصيات الأخرى التي كثيرا ما تخطو فوق مربعات شبه شفافة، تنير بعضها كما في صالات الديسكو لطرح بعض الظلال وخلق أثر درامي، لا تُبرز المسرحية الشخصية كغيرها من الأدبيات، باعتبارها قديسة، وإنما تحسر النقاب عن عيوبها التراجيدية.

تصدّ العالمة ما تشهده من تمييز جندري ومعاداة للسامية بانعزال فظ لا يعرف الهراء، مكررة، “إنني لا أمزح”. وتطل علينا بطبيعة برمة تفرط في الوسوسة وتكاد تدنو من احتقار الآخرين، شخصية برعت كيدمان في تشخيص أبعــادها المتعددة بمنتهى التوازن.

تتلبس كيدمان الشخصية المنهجية المتزمتة بما عهدناه منها في السينما من براعة. وبتشبث فرانكلين بكبريائها الفولاذي وإيثارها العزلة، ترفض التعاون مع ويلكنز، فلا تصير فقط فريسة لانتهازية الرجل، وإنما ألدّ أعداء نفسها، خالقة عن عمد صورة نمطية للعالمة، بأنها خشنة مثل الرجال، وغير محبوبة.


"1984" في مسرحية

بعد نجاح ساحق على مسرح ألميدا، انتقلت مسرحية “1984” إلى مسرح بلايهاوس اللندني، وعلى مدار 100 دقيقة، لا ينقل أيك وماكميلان تلك الرواية الأيقونة نقلا حرفيا أعمى، وإنما يقلبان الآية ويبدآن من النهاية، ونهاية الرواية هي الملحق المعنون بـ”مبادئ لغة النيوسبيك”. و”النيوسبيك” كلمة صاغها أورويل ليسخر من الاشتراكية الإنكليزية. وهي تشي بلغة موهمة، تلك التي تقرّ بشيء وتنفيه في الوقت ذاته. يستغلها الساسة عبيد الأيديولوجيا في أعمال البروباغاندا وخداع الجماهير.

يدور الملحق عقب عام 2050 وإن استحضر ديكور النص أربعينات القرن الفائت وموسيقاه، حين يتقاطع الماضي مع المستقبل، ويتوه منا الواقعي المتقلِّب في زحمة الخيالي. وأورويل، العالِم بالغيب، يعلن فيه هزيمة الأخ الأكبر، ربما في بلاد الإنكليز غير أننا لن نشهد ولا شك اندحار الشرير في بلاد العرب.

يطرح المشهد الافتتاحي للمسرحية قضايا فكرية ملهمة وعويصة؛ إليكم ستة أفراد بلا هوية معلومة، يتخذون مجلسهم إلى طاولة خشبية في حلقة لقراءة الكتب، يتحدثون حديث معجميين رجعيين تلمّ بهم الحيرة وهم يلوكون سيرة كاتب لا يصرحون باسمه.

تتوالى المشاهد فنتعرف على دولة تسلطية مستقبلية، وقتذاك، تحكم بالحديد والنار. في الساعة الواحدة ظهرا من شهر أبريل، عام 1984، يشرع ونستون سميث الرفيق 6079 -لفظ مذكّر بالدكتاتوريات البائدة، والرقم يوحي بأنه ترس في آلة- في كتابة يومياته. يسأل محتارا في أول صفحة، “لمن أكتب؟”.

مسرحية "المحاكمة" تتشظى بمونولوجات ساخرة، يؤديها البطل في هذيان ملغز لا مبال، ملونا تيار وعيه بإيحاءات جنسية 

كافكا و"المحاكمة"

أزيح الستار عن مسرحية “المحاكمة”، المقتبسة من رواية “المحاكمة” للكاتب النمساوي الراحل فرانز كافكا، على مسرح يونغ فيك اللندني في 19 يونيو الماضي بعد أن عدّلها لتتوافق مع مسرح الكاتب البريطاني نيل جيل. تتشظى المسرحية بمونولوجات ساخرة، يؤدّيها البطل في هذيان ملغز لا مبال، ملوِّنا تيار وعيه بإيحاءات جنسية من أهوائه ونزواته الماضية، وهو لا شك العجب بعينه. صحيح أن الهزل يتفتق دوما من افتتاننا بالمتنافر والمتضارب أو من المشاهد المنطوية على المفارقة، ذلك التقارب بين المعتاد والوهميّ، وهو من سمات رواية “المحاكمة”.

ولكن هذا الجثام الغامض المتسلل إلى عبارات الرواية، والافتقار إلى المغزى والمقصد، والفقرات السوريالية المحبّبة لكافكا، والوعيد المربك بحدوث ما لا نرغب فيه، بل والإشارات الاجتماعية والسياسية المتخمة في النص الأصلي، يتعارض كل ذلك بالقطع مع قرار المخرج المسرحي والأوبرالي ريتشارد جونز، حامل وسام الإمبراطورية البريطانية من الملكة إليزابيث، بإدماج مسحة هزلية، كثيرا ما تخرج جنسية مبتذلة، تشي بجوع المراهق شبه المكبوت إلى جسد المرأة.

تبدأ الحكاية بعيد ميلاد جوزيف كيه الخامس والثلاثين، ثمة طرق على بابه، لا أثناء نومه مثلما ورد في الرواية، وإنما وهو يحملق في خُمار السكر إلى راقصة تتعرّى، تبدو كالآتية من بيت مشبوه، وهو المتلصص على فضائحها. تقوم بدورها البريطانية الموهوبة كيت أوفلين، المتقمصة أيضا لخمسة أدوار أخرى في المسرحية وكأنه لا وجود لممثلة غيرها.

يعجز جوزيف المنكوب في المشهد الأخير من “المحاكمة” عن الفرار من الحكم بالإعدام على فعلته المجهولة. يمرر منفذو الحكم السكين من يد إلى يد. أضاف كذلك تلميحات جنسية من الثقافة الشعبية بلا داع حقيقي مما خذل كافكا الذي لم يمسك عن انتقاد فرويد، واصفا التحليل النفسي بأنه “خطأ بائس”.

                مسرحية "يهود سيئون" تستنكر إحدى بطلتيها "تقوى الهولوكوست"


في انتظار الدكتاتور

على مسرح دونمار ويرهاوس قدمت كاتبة المسرح الإنكليزية آبي مورغان مسرحيتها “فخامة” من إخراج البريطاني روبرت هاستي. وهو المخرج الذي أخرج هذا العام مسرحية دون عنصر نسائي واحد على المسرح نفسه تحت عنوان “ليلتي مع ريغ”.

يستهل عرض “فخامة” بمشهد دال على الوفرة والثراء المريب، كل شيء ينمّ عن فحش، بدءا من الملابس الرائعة وكؤوس الخمر المتلألئة إلى نوافذ ذهبية تطل على لا شيء.

تترقب صحفية في جناح للتصوير بقصر الرئاسة عودة الطاغية بلا طائل، والغرض هو التقاط صورة “جليلة” له.

الصحفية غربية تلعب دورها الأيرلندية جنيفيف أورايلي، تألَف فظائع العالم الأدنى كما تسميه، بيد أننا لا ندري تحديدا أين تقع الأحداث، أغلب الظن أنها في إحدى دول البلقان، يشي بذلك الشعر الأشقر الذي يعتلي رأس السيدة الأولى. معها تنتظر مترجمة المصورة وهي الممثلة الإنكليزية زاوي أشتون، وما هي إلا لصة انتهازية لها أغراض سرية، تدس في حقيبتها تُحف القصر الثمينة لبيعها في السوق السوداء. وهناك أيضا صديقة زوجة الرئيس وهي الممثلة الأيرلندية ميشيل فيرلي، إحدى بطلات مسلسل “صراع العروش”. وفي تسعين دقيقة وهي مدة العرض، نسترق السمع إلى ما انغلقت عليه صدورهن من تواريخ شخصية ورؤى لبلد أفضل، أو أسوأ، لشعب يخط التاريخ ويترنّح على شفا… شفا ماذا؟ تفسّخ عرقي فوضوي أم نهضة باعثة؟ النتيجة هي الأخرى خافية عنا، وإلى أن ينسدل الستار لا نلمح أثرا للرئيس، فهل هرب أم اختبأ؟

والنسوة كلهن على بعد دقائق من انقلاب سياسي كاسح، ينزل بمجتمع اتّهم يوما بالخنوع، ولكنه الآن ينفجر تلقائيا تحت أنين الجوع والقهر.


يهود سيئون

تستحضر مسرحية “يهود سيئون”، التي عرضت على مسرح سانت جيمز اللندني، قصة “ابنتا الخالة” للكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس، وتستنكر إحدى بطلتيها “تقوى الهولوكوست”.

خرج الطبيب النفسي البريطاني آدم فيليب في مقالته “ريبيكا، اخلعي عنك ثوبك”، بأن يهود غرب أوروبا تفطنوا منذ العصور الوسطى إلى أنه في باطنهم “يهوديّ غير مقبول”، ثم اضطرّوا إلى أن ينبذوه كي يبقوا على قيد الحياة. وما نجم عن هذا هو شكل خبيث من أشكال معاداة اليهود لأنفسهم.

سوف يصعب على غير الخبير بمأزق اليهود إبان الحرب العالمية الثانية أن يلتقط عددا من التفاصيل، وأن لن يغيب عنه لبّ الكوميديا. قد تبدو كل هذه المواضيع غاية في الجديّة إلا أن هارمون كتب مشاهد لن يكف معها المتفرج عن الضحك لحظة، بل وسيتساءل كيف يكون بمقدور الممثلين التسامي بهذا الأداء الرفيع وسط موجات الضحك المتتالية.

تقوم جينا أوغن بدور دافنا؛ توقيتها عند التدخل الكوميدي رائع، ووقفاتها وحركاتها تحمل بوتقة من المضامين والتلميحات: رفعة إصبعها، هزة رأسها، خطوتها المحسوبة يمينا أو يسارا، وقد أبدع المخرج مايكل لونغهيرست في كل تعليماته دون استثناء. المعجز هو قدرة أوغن على تكثيف فقرات قد تتواصل لمدة عشر دقائق من الحديث -أو بالأحرى الصياح- عن واجب اليهودية، وجدّها الميت لتوّه وخطيبها جلعاد الضابط في الجيش الإسرائيلي.

ابن عم أوغن الملحد يغيظها حين يتهمها باختلاق هذا الخطيب، الضابط جلعاد، فقد اخترعته كي تلصق نفسها عاطفيا وعنوة “بالأرض الموعودة”، فالفتاة متصلبة تصطنع المرح، ولا تخطر ببالها إلا نصوص العهد القديم، حيث تقيس قيمة كل من حولها بمدى اقترابهم أو ابتعادهم عن النص الإلهي، هل تذكّركم هذه الخصال ببعض أصحاب الأديان الأخرى؟

-----------------------------------
المصدر : هالة صلاح الدين - العرب

تابع القراءة→

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9