أخبارنا المسرحية

أحدث ما نشر

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الجمعة، ديسمبر 22، 2017

المعرفة وعلاقتها بالفنون بصفة عامة / محسن النصار

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الجمعة, ديسمبر 22, 2017  | لا يوجد تعليقات

كتابات مسرحية

المعرفة  وعلاقتها بالفنون بصفة عامة / محسن النصار 


وتميل معظم النظريات إلى أن المعرفة في  الفنون  ضرب من الإلهام، وأن الفنان انسان غير عادي يمتلك الموهبة والأبداع والمشاعر والأحاسيس والعاطفة المؤثرة لذلك نجد بأن موهبته خاصة تمتلك الأبداع سر وسحر وأعجاب.
((لكن " الانتباه الاستطيقي " لايتحقق - وحده- كي نتذوق القيمة الكاملة للاثر إلا بالانتباه الكامل الى تفاصيلة , و" الانتباه" يخلق , او هو بالفعل قيمة معقدة وغامضة ازاء النص او النصب او التمثال او اللوحة. فامتلاك هذا " الوعي " بهذه التفاصيل وقيمتها الفنية والابداعية وعلاقاتها ونسيجها الداخلي هو الذي يجعل عملية التمفصل مع الاثر للوصول الى خطابه هو " التمييرdiscrimination " , والواقع ان الناس كثيرا ما يفقدون قدرا كبيرا من تجربة الفن , ليس فقط لان انتباههم ضعيف بل لانهم يعجزون عن " رؤية " كل ماله اهمية في الاثر الابداعي , وادراك حركية افعاله ..)) (1) وكان مثل هذا الظن بين العوامل التي دعت العرب، في القديم، إلى القول إن لكل شاعر شيطاناً يلهمه ما ينطق به من الشعر. وكان الكثير من الفنانين في عصر النهضة وما قبله يرون أن أعمالهم تتحقق بوحي إلهي.سيرورة , وبذلك فأن المعرفة في الفنون يكون بناءها الأساسي الأبداع و(ما المقصود بالأبداع وصولا الى تأطير مفهومة الابداع الفني يعرف شتاين Stein الأبداع بأنه "عملية ينتج عنها عمل جديد يرضي جماعة ما ،او تقبله على انه مفيد" ويعرفه سيمبسون Simpson بأنه
"المبادرة التي يبديها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير الى مخالف كلية " ويعرفه كلوبفر Klopferبأنه ((استعداد الفرد لتكامل القيم والحوافز الاولية Archaic بداخل تنظيم الذات والقيم الشعورية ,وكذلك تكامل الخبرة الداخلية مع الواقع الخارجي ومتطلباته ))(2)
ويتناول كاغان في الجزء الاول من كتابه "سيرورة الأبداع الفني يتحدث فيه كاغان عن الفنان (المرسل)، المحور الاساسي الذي تبدأ سيرورة الابداع من عنده، ويتناول عناصر وشروط الابداع لديه التي تمهد لولادة الافكار وهي: شخصية الفنان، الموهبة الفنية، التجربة الحياتية، التأملات في هذه التجربة، حيث انتاجه الابداعي هو ثمرة كل هذا، مع التركيز على اهمية معرفة وتجربة الحياة، فاي عمل ابداعي هو في نهاية المطاف ليس الا انعكاسا لهذه التجربة، وكلما كان الفنان على معرفة واسعة و فهم عميق بالحياة، كلما كان قادر من خلال ابداعه على اعادة صياغة العلاقات الواقعية الحياتية، وكلما ابدعت موهبته بنجاح.
لكن موهبة الفنان ليست العنصر الوحيد الذي يعتمد عليه نجاح الفنان، انما هناك ايضا عوامل اخرى منها:
اولا: منهج الفنان الابداعي الذي هو الجسر بين موهبة الفنان وتأملاته الحياتيه، فيتناول الكاتب عناصر المنهج الابداعي الاربعة: المعرفي، التقيمي، البنائي، والاشاري، ودورها في العمل الفني الذي يتكون بواسطة الصلة المتبادلة بين هذه العناصر.
ثانيا: المهارة وهي الوسيلة اللازمة لبناء العمل الفني، فتتحول من خلالها الاحتمالات الابداعية الكامنة الى تجسيم مادي، وهي من تظهر اذا كانت الفكرة الفنية المعنية قد تحققت ام لم تتحقق، وبما ان المهارة في الفن هي قوة ثانية مع الموهبة فيعرض كاغان وظائفها واختلافها عن الموهبة , يذكر زكريا إبراهيم في كتابه «مشكلة الفن» أن غوته Goethe يذهب إلى أن كل أثر ينتجه فنّ رفيع، وكل نظرة نفّاذة، وكل فكرة خصبة تنطوي على جدّة وثراء، لابد من أن تفلت من كل سيطرة بشرية، وأن تعلو على شتى القوى الأرضية، وأن كل إنسان مبدع أسير لشيطان يتملكه ,والإبداع في الفن يقابل المقدرة على إيجاد معنى جديد أو حلول جديدة لموضوع ما، أو إيجاد شكل فني مبتكر، أو إنه، كما يذكر شتولْنِتْز Stolnitz معالجة بارعة لوسيط من أجل تحقيق هدف ما.
وبذلك فأن المعرفة في المفهوم الفلسفي والأنتربولوجي والعملي هي نواة الابداع الذي يستند على  عملية عقلية تعتمد على مجموعة من القدرات تتميز بعدد من الخصائص والتي تشكل إضافة جديدة للمعرفة البشرية في ميدان الفن
والفنان المبدع يتمتع بتكوين نفسي متفرد وقدرات تخيلية وانفعالية خاصة تكسبه سمة الإبداع الفني التي تميزه من الصانع العادي.
(( ويتفق تورانس وجماعته على على تعريف الابداعية بأنها عملية يصبح الفرد بها حساسا للمشكلات والنواقص والفجوات في المعرفة والعناصر المفقودة وغيرها .اي تشخيص الصعوبة والبحث عن الحلول وعمل التخمينات وصياغة الفرضيات بخصوص النواقص واختبار الفرضيات وتعديلها أو اعادة اختبارها والوصول اخيرا الى النتائج)) (3) وكثيراً ما تسمّى هذه السمة «موهبة»، وهي على درجات ويسمي بعضهم الدرجة العالية منها باسم «العبقرية» , يذهب كروتشه Croce إلى أن الفن حَدْس أو هو معرفة حَدْسية، وهو حَدْس فني أو حَدْس شاعري جمالي تكون المكانة الأولى فيه للمخيلة في حين تكون المكانة الأولى للعقل ومحاكماته في المعرفة المنطقية. ومن خصائص الحدس الفني أنه مقترن بالتعبير سواء بالكلمات أم بالأنغام أم بالألوان. فالكلمة وسيلة الشاعر، والنغم وسيلة الموسيقي، واللون والأشكال وسيلة المصور. ويذكر كروتشه كذلك أنه لا يمكن تصور حدس من دون تعبير، وأننا لا نعرف إلا أشكال الحدس التي تمثّلت في التعبير: فالفكر لا يكون فكراً إلا إذا اكتسى بالكلمات، والتخيل الموسيقي لا يكون إلا إذا تجلّى بالأنغام، ولا يعني ذلك أن الكلمات يجب أن تلفظ بالضرورة بصوت مرتفع، وأن الموسيقى 
يجب أن تعزف، وأن الصورة يجب أن تثبت على اللوحة. وعلى هذا فإن كروتشه يعتقد أن الحدس والتعبير أمران متلازمان في داخل الفنان في عملية الإبداع حتى قبل تجسيدهما في وسط مسموع أو مرئي أو مقروء، وأن من البساطة بمكان تصديق أولئك المصورين أو الموسيقيين أو الشعراء الذين يدّعون بأن رؤوسهم مليئة بالإبداعات الفنية ولكنهم لا يتمكنون من ترجمتها في قوالب تدركها حواسنا، لقصور في التقنيات التي يمكن أن تستوعب أفكارهم، مع أن تلك التقنيات ذاتها استوعبت إبداعات هوميروسHomer وفيدياس Pheidias ,
((ففي كتابه (تأملات في الشعر) في العام 1735 قدم (باومجارتن) (1671-1713) (مفهوماً جديداً سماه (الاستطيقيا) والذي يبحث فيه عن قضية (الجمال والقبح) من النواحي الإبداعية والنقدية, إذ ميز (باومجارتن) بين مفهومي (الاستطيقيا) و (المنطق) بناءً على فكرة مهمة مفادها أن قياسات التعبير الفني تعرف وفق تأثيرها الحسي وليس بمنطقيتها, فالحكم المنطقي, أو البناء المنطقي للفن ليس له أساس قوي قدر البناء الحسي, الذاتي, فالاستطيقيا استمد من كلمة يونانية تعني (الإدراك الحسي) وهو ما يمثل لدى (باومجارتن) نوعاً من الغموض, لأن الجميل عنده يتوفر في الأشياء أو الأجزاء الغامضة من الوعي ))(4)

ولعل من المفيد والأساس، في فهم ظاهرة الإبداع، العودة إلى ما يقوله الفنانون أنفسهم عن عملية الإبداع الفني بما لهم من خبرة مباشرة. إنهم يتحدثون مراراً وتكراراً عما يمكن تسميته «لا إرادية» الإبداع، أو «خروج المرء عن نفسه». إنهم يشعرون بأنهم لا يتحكمون في نمو العقل أو صوغه عن وعي في القالب الذي يريدون، بل يشعرون بأنهم مدفوعون بقوى ليس في مقدورهم التحكم بها: فالقدرة الخلاقة لا تخضع لإرادة الفنّان. بل تسيطر على إرادته. ويذكر شتولنتز أن نيتشه Nietzsche يعبر عن ذلك بقوله عن الفنان إنه تجسيد لقوى عليا وناطق باسمها ووسيط لها، إنه يسمع ولا يبحث عن المصدر، ويأخذ ولا يسأل من الذي يعطي، والفكرة تومض لديه كالبرق وكأنها شيء لا مفرّ منه , فهل يعني الشرح السابق للإبداع الفني أن الفكرة الإبداعية تنبثق كاملة في ذهن الفنان أو مخيلته ولا يكون أمامه سوى تجسيدها بالألوان أو الأصوات أو الكلمات؟ في الإجابة عن هذا السؤال وجهات نظر عدة , يقول بيكاسو Picasso إن من أغرب الأمور أن نلاحظ أن الصورة لا تتغير تغيراً أساسياً، وأن التصور الأول يبقى على حاله تقريباً إلا أننا نلاحظ أن هذا المعنى الذي يبدو في كلام بيكاسو لا يبرز التهيئة الطويلة الزمن التي مرّ بها هو، والدراسات الكثيرة التي قام بها، والتعديلات المتعاقبة التي أجراها من أجل إنجاز لوحته الكبرى «غويرنيكا» Guernica. والأمر ذاته يلاحظ في أعمال واحد من أعلام عصر النهضة الإيطالية هو رافايلّو Raffaello الذي كان ينفذ لوحاته الجدارية الرائعة في غرف الفاتيكان بسرعة مذهلة بعد أن يكون قد هيّأ لها دراسات متعددة بدقة وتأمل عميقين , وهناك مثل آخر يتعلق بالمقطوعات التي ألّفها شوبان Chopinللبيانو والتي تُعطي إحساساً واهماً بالتلقائية التامة والإبداع المنطلق بيسر,غير أن جورج صاند G. Sand تخبرنا كيف كان شوبان يحبس نفسه في غرفته أياماً كاملة وهو يبكي أو يمشي ويكسر أقلامه ويعيد سطراً في المدوّنة الموسيقية ويكرره مئات المرّات. إلا أن جورج صاند ذاتها تروي في مناسبة ثانية، أن الإبداع عند شوبان كان تلقائياً سحرياً، وأنه كان يجده من دون أن يلتمسه، بل من دون أن يتوقعه، وكأنما هو معجزة كانت تتحقق كاملة فجأة ,هناك من الباحثين من يعتقد أن الإبداع الفني ينشأ لدى أشخاص لهم تكوين فزيولوجي معيّن، أو أنهم مصابون بأمراض عقلية أو غيرها. ويحاول هؤلاء الباحثون البرهان على أن العبقرية مرتبطة بحالات خاصة، ويأتون بأمثلة عن فنانين وأدباء مشهورين كانوا مصابين بعاهات مختلفة مثل بتهوفن Beethoven وفان كوخVan Gogh ودستويفسكي Dostoyevsky . إلا أن كثيرين غيرهم من العباقرة تمتعوا بصحة جسدية وعقلية ممتازة الأمر الذي يعارض التعميم الأول ويلغيه , ثم إن هناك من يربط بين العبقرية والانفعالية لدى الفنان. ولكن من اللازم اتخاذ موقف الحذر من هذه الفكرة لأن صفة الانفعالية ربما كانت صحيحة لدى الفنانين الإبداعيين الذين أبدعوا فناً يغلب عليه الطابع الانفعالي. ولكن ذلك لا يمكن أن يكون قاعدة في فنّ يسوده التنظيم العقلاني والتحكم الشديد بالانفعالات كما يرى في الفنون الاتباعية وفنون النقش والزخرفة العربية التي تعتمد أسساً هندسية وعقلانية في غالب الأحيان , ولكن، كيف تتم العملية الإبداعية؟ يذهب كروتشه إلى أن الفن، كما سلف، حدس مقترن بالتعبير. فحدس الموسيقي نموذج من الأصوات المتناغمة، وحدس المثّال صورة من الكتل والحجوم المتناسقة. وهذا الحدس ينشأ في داخل الفنان قبل أن يجسده في صيغته الملموسة , ويستشهد كروتشه بقول ميكلا نجلوMichelangelo «إن المرء لا يرسم بيده بل بفكره»، ثم يقول عن نفسه: «أنا لا أنحت تمثال الملاك، فهو موجود ضمن الكتلة، أما ما أقوم به فهو إزالة طبقات الرخام من حوله».وهذا القول يذكر بكلمة ليوناردو دافنشي Leonardo Da vinci «التصوير موضوع فكري». والشواهد عديدة على أن عملية الإبداع تتم، في كثير من الأحيان، في ذهن الفنان بوضوح يقل أو يكثر. وفي جملة ما قاله موتسارت Mozart عن نفسه إنه يؤلف سمفونيته قبل أن يدونها, يستخلص من نظرية كروتشه أن العملية الإبداعية تتم وتكتمل في مخيلة الفنان ولا يبقى أمامه سوى نقلها وتثبيتها في الوسيط المادي.
(( وبالانتقال للفلاسفة المعاصرين نجد أن الفيلسوف الأمريكي جورج سانتيان (1863-1953)( (يرى أن الجمال لا يوجد مستقلاً عن إحساس الإنسان,فأن القول بأن هنالك جمالاً لم يدرك بمعنى أن ليس هنالك شعور ناتج عن الإحساس بالأشياء لأن الإحساس بالجمال يختلف عن بقية الإحساسات الأخرى, لأنه إحساس مصحوب بادراك وبأحكام نقدية وتفضيلات, فالأشياء تصبح ذات قيمة فنية وجمالية لأننا نفضلها ونشعر بلذتها ))(5)

 ويرى غيره من المفكرين والفنانين أنه لابد للفنان من أن يجسد حدسه التخيّلي فيزيائياً، ولا يمكن لعملية الإبداع أن تكتمل إلا بعد تعامل فعلي مع الوسيط. لذلك تظل رؤية الفنان ناقصة إلى أن تتجسد في ذلك الوسيط بعد أن تمر في التقنيات الفنية فتنمو وتتطور وتأخذ شكلها الفني الثابت,  نحوفلسفة الجمال:(( وتعني "... ما يتطابق مع بعض معايير التوازن والمرونة والتناغم المدوزن،والكمال في نوعه ، ومع صفات وكيفيات أخرى ، مماثلة".))(6)
وفي قول لشتولنتز عن الهدف الذي يسعى إليه الفنّان أنه كثيراً ما يكون غامضاً في البدء، وأن شكل العمل الفني وطابعه التعبيري وتفاصيله الخاصة لا تتضح إلا بعملية الإبداع،((اما كلفورد فإنه يميز بين نوعين من التفكير , التفكير المتشابه Convergent thinking وهو الذي تتحد فية عمليات التفكير بطبيعة المعلومات المتوفرة .والتفكير المتباين Divergent thinking وهو البحث عن معلومات لها صلة ضعيفة بما هو متوفر من معلومات .وهذان النوعان من التفكير يعتبران – لدى كلفورد – محور العمليات التي يتم بواسطتها التفكير . وهو يرى ان التفكير المتباين هو الذي يشير الى الابداعية .ويقصد بالتفكير المتباين ان يذهب التفكير في اتجاهات مختلفة ويتضمن التفكير المتباين عمليات عقلية فرعية هي : طلاقة الكلمات Word Fluency , والطلا قة الترابطية Associational fluency , والطلاقة التفكيرية Ideational fluency , والطلاقة التعبيرية Expressional fluency ,والمرونة التكيفية Adaptive flexibility, واعادة التعريف Redefinition , والاصالة Originality))(39)
وأن الفنان كثيراً ما يجرب حلولاً متباينة ثم يرفضها قبل أن يبدأ هدفه باتخاذ صورة محددة في ذهنه، وأن من الممكن أن نقول عن الفنان إنه لا يعرف هدفه المعرفة الواضحة إلا بعد أن ينتهي ويضع أدواته جانباً. ويذكر ما يشبه قول تشارلي تشابلن Charlie Chaplin : «قبل أن أعرف إلى أين أنا ذاهب، ينبغي أن أصل إلى هناك». وهكذا يتضح ما للوسيط المادي من شأن بارز في عملية الإبداع، وأنه هو الذي يوحي للفنان بأفكار لم تتهيأ في ذهنه مسبقاً. إن الأصوات والألوان غنية بأسباب التداعي والتعبير التي يستطيع الفنان استغلالها. ثم إن الألفاظ تتداعى مع القوافي وتوحي بأفكار جديدة. وفي جملة ما يذكر عن ماتيس Matisse قوله: عندما أضع لوناً أحمر على اللوحة البيضاء، فإنه يستدعي بالضرورة لوناً معيناً إلى جابنا وهناك عوامل عدة لها أثر بارز في الإبداع، وقلّ أن تكون وليدة المصادفة أو ابنة اللحظة. ولابد من التسليم بأن لدى الفنان برنامجاً معيناً على الغالب يريد تحقيقه في عالم يسمح للتجربة بأن تنقحه وتعدل فيه عن طريق المنجزات الفنية الأخرى. إن لكل عمل فني ماضياً ومستقبلاً، ولا بد له من أن يخضع لطائفة من المؤثرات قد لا يشعر الفنان بها. ولكن الأثر الفني يتمتع حتماً بشيء يميزه من غيره مثل إضافة عناصر إلى أسلوب سابق، أو حذف عناصر من تكوين سابق، أو القيام بمعالجة مباينة لمفاهيم قديمة، أو تبني طرائق مستوحاة من أعماق التاريخ، أو غير ذلك مما يصعب حصره.
وكلفورد يميز بين الجهد الابداعي)) Creative potential والانتاج الابداعي Creative production .فالانتاج الابداعي , بالمعنى الشائع , وهو ذلك الجانب الذي يمس الذوق العام للجمهور , لان انتاج الشخص الخلاق يأخذ عادة الشكل الظاهر للعمل الابداعي , الشعر , الرواية , القطعة الموسيقية , والتصوير ...اما الجهد الابداعي فهو – طبقا لكلفورد – استعداد الفرد لانتاج افكار أو نواتج سايكولوجية جديدة , بما فيها انتاج الافكار القديمة في ارتباطات جديدة ))(7)
فإذا جمعنا بين القول إن الفنان كائن غير عادي والقول بالآثار العميقة للبيئة في تكوينه، انتهينا إلى أن الظاهرة الإبداعية أقرب إلى الحوار والتفاعل بين الأوضاع الثقافية الاجتماعية السائدة في المجتمع والتكوين النفسي للفرد المبدع، وأن الفن مجرد تعبير عن التكوين الشخصي، وليس مجرد التعبير عن القيم والمثل الاجتماعية، بل هو نتيجة تبادل التأثير والتفاعل بين الجهتين. على أن من اللازم القول إن موهبة الإبداع لدى الفنان تمر، كما يمر الإنسان في حياته، بمرحلة مبكرة فيها الكثير من التعثر في أغلب الحالات، تنمو على مراحل حتى تصل إلى ذروة النضج. وقد يتبين في لوحات رامبراندنت Rembrandt الكثيرة التي صور فيها ملامحه الشخصية منذ شبابه وحتى شيخوخته أنه إلى جانب اختلاف ملامح الفنان على مر السنين، هناك تطور ونضج في الأداء والتعبير..
وإن المقارنة بين الصورتين الأولى التي تعود إلى مطلع شبابه عام 1629، والثانية التي تمثله في شيخوخته عام 1658، تظهر ذلك العمق الذي بلغ في اللوحة الأخيرة روعة نادرة المثال في تاريخ الإبداع الفني ويؤكد(( كلود آدريان هلفيتيوس أحد أعظم النظريين الدراميين التي تجسد كلماته متطلبات الجماليات الجديدة حين يقول : إن على البطل الدرامي أن يتحدث على خشبة المسرح في صراحة عن موقفه وموقف مجتمعه .فالأنسان لايبدع الإ ماتقع علية عيناه ))(8)  ومهما تعددت النظريات واختلفت الآراء في شأن الإبداع الفني، فإن من الحق القول: إن الإبداع يتجلى في تلك الروائع التي خلفها الفنانون والأدباء، والتي أغنت التراث الإنساني.

المصادر :
---------------------------
 (1)محمد الجزائري – كتاب خطاب الابداع الجوهر –المتحرك –الجمالي ص200وص201 اصدار دار الشؤون الثقافية بغداد - 1993

 (2)أنظر : قاسم حسين صالح - كتاب الابداع في الفن - ص 14اصدار دار الرشيد للنشر - العراق - سلسلة دراسات (276) 1981- ص 14

(3)أنظر :  نفس المصدر  - ص14 وص15
 (4)محسن محمد عطية, مفاهيم في الفن والجمال, ط1, (القاهرة: مكتبة علا, 2005), ص71

 (5)أنظر : أميرة حلمي مطر, مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن, ط3, (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر, 1997), ص(18)
15.
  (6)أنظر : لالاند ، اندريه . موسوعة لالاند الفلسفية ، المجلد الاول ، تعريب : خليل احمد خليل ، اشراف : احمد عويدات ،( بيروت-باريس: منشورات عويدات 1996م)،ص132
 (7)أنظر :قاسم حسين صالح - كتاب الابداع في الفن - صدار دار الرشيد للنشر - العراق - سلسلة دراسات (276) 1981-ص15
نفس المصدر ص15
 (8)أنظر : د. كمال عيد - علم الجمال المسرحي - الموسوعة الصغيرة - اصدار دار الشؤون
 الثقافية - العراق الطبعة الأولى لسنة 1990- ص 131




تابع القراءة→

الأربعاء، ديسمبر 06، 2017

المعرفة وعلاقتها بالظاهرة المسرحية / محسن النصار

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الأربعاء, ديسمبر 06, 2017  | لا يوجد تعليقات

كتابات مسرحية

  المعرفة وعلاقتها بالظاهرة المسرحية  / محسن النصار                                                                                                           

وعندما نتناول المعرفة وعلاقتها وبالظاهرة المسرحية على وجه الخصوص تضعنا المعرفة امام عملية عقلية تعتمد على مجموعة من القدرات تتميز بعدد من الخصائص والتي تشكل إضافة جديدة للمعرفة البشرية في ميدان الفن وخصوصا المسرح , فهو فكر وفلسفة تناوله الفلاسفة والمفكرين منذ أفلاطون وارسطو حتى العصر الحديث، وقد تحدث عنه فنانون وشعراء وادباء عاشوا تجربة الإبداع الفني والمسرحي وقدموا روائع مؤثرة في الوجود الأنساني. والمعرفة ثلاثة أنواع رئيسة هي المعرفة الحسية التجريبية
والمعرفة الفلسفية , والمعرفة العلمية , وقد اتفق كل من المذهبان الحسي والعقلي على الحواس باعتبارها مصدراً للمعرفة

والمَعْرِفَة هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد أو عن طريق اكتساب المعلومة عن طريق فهم العقل للتجربة أو الخبر، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس أو من خلال الإطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم، المعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتطوير التقنيات

والمعرفة الفلسفية أو التأملية وتعتمد على التفكير والتأمل في الأسباب البعيدة .                        
إن كلمة معرفة تعبير يحمل العديد من المعاني لكن المتعارف عليه هو ارتباطها مباشرة مع المفاهيم التالية:المعلومات، التعليم، الإتصال، والتنمية ,والثقافة ,والفلسفة

فنظرية   المعرفة عند ارسطو  تعالج  علم الجمال الارسطي فيجمع بين الفن والعلم في اكثر من جذر واحد ففي نظرية المعرفة يجمع بينهما في مرحلتين من مراحل المعرفة ان العلم والفن يبدأ تاريخهما في الممارسة الذاتية من نقطة واحدة هي الاحساس ثم يلتقيان في المرحلة التالية للاحساس وهي مرحلة تكوين  التصور

(( إن تصورات النظرية المعرفية لا تقوم على بنية منغلقة ذَّات توجه آحادي في العلوم ذات المبادئ التجريبية، فقد أرست نظرية المعرفة بما يمكن وصفه بالمباديء المستقرةـ حتى لا تفقد المعرفة المنطق الذي يفسر غاياتها حيثما بلغ الوعي بقيمة الحوار مبلغاً تخففت معه القيود التي تؤدي إلى تعصب يتنافي مع الطبيعة الانسانية المعرفية ))(1)

وفي تحديد مذهبه الفني ينطلق ارسطو  من فكرة محاكاة الطبيعة لانه يرى ان من خصائص الفن تحويل كل شيء في الطبيعة والحياة حتى البشاعات فيهما الى شيء جميل تنعكس انعكاسا فنيا كاملا وصحيحا تصبح عنصرا جماليا ولكي تصبح البشاعة الواقعية جمالا فنيا لابد للفنان ان يستند خلال عملية الخلق الى الوضع المحتمل في الشيء اي الى ما يمكن ان يكون لا الى ما هو كائن بالفعل فحسب ذلك يعني ان فكرة محاكاة الطبيعة في مذهب ارسطو لا تجري مجرى المذهب الطبيعي في الفن لان (ارسطو) لا يرى ضرورة تصوير الواقع كما هو في لحظة عملية الخلق بل يرى ضرورة ان يكون الفنان قادرا على تحديد المحتملات  وارسطو  ((يوجد عند ارسطو في فن الشعر الذي يتجنب التفسير الترميزي بوصفه دفاعا , ويؤكد على الأثر العاطفي للشعر بوجه عام وللمأساة بوجه خاص , فيصل بذلك الى مبدأ التطهر الشهير ))(2

يحدد بناء قاعدة جمالية للمسرح فيؤكد
((المأساة إذن هي محاكاة فعل تام , لها طول معلوم , بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لأختلاف الأجزاء , وهذه المحاكاة تتم بواسطة اشخاص يفعلون لابواسطة الحكاية وتثير الرحمة والخوف في نفوس المشاهدين , فتؤدي إلى التطهير من هذه الأنفعالات .
واللغة  المزودة بألوان التزيين تلك التي فيها ايقاع ولحن ونشيد , وأقصد بقولي تختلف وفقا لأختلاف الأجزاء , ان بعض هذه الأجزاء تؤلف بمجرد استخدام الوزن , وبعضها الآخر بأستخدام النشيد , ولما كانت المحاكاة إنما تتم بأشخاص يعملون فبالضرورة يمكن أن نعد من أجزاء المأساة : المنظر المسرحي ثم النشيد "الموسيقى " , والمقولة , فأن هذه هي الوسائل التي بها تتم المحاكاة , وأعني المقولة تركيب الأوزان نفسه , اما النشيد فله معنى واضح تماما , وفي ناحية أخرى لما كان الأمر أمر محاكاة فعل , والفعل يفترض وجود أشخاص يفعلون , لهم بالضرورة أخلاق أو أفكار خاصة , لأن الأفعال الأنسانية تتميز بمراعاة هذه الفوارق , فأن ثمة علتين طبيعتين تحدان الأفعال وأعني : الفكر والخلق والأفعال  هي التي تجعلنا ننجح او نخفق , والخرافة هي محاكاة الفعل لأنني أعني بالخرافة تركيب الأفعال المنجزة , وأعني بالخلق مايجعلنا نقول عن الأشخاص الذين نراهم يفعلون أنهم يتصفون بكذا وكذا من الصفات , وأعني الفكر كل مايقوله الأشخاص لأثبات شئ أو للتصريح بما يقررون ))(3)
ففكرة المسرح  وأفعاله مرتبطة بالوعي الجمالي والخبرة الجمالية الأدائية للممثل فهو محور نظم العلامات وحامل الخطاب المسرحي والوسيط المسؤول عن توصيل رسالة العرض إلى المتفرج عبر عمليات متعددة يعيها هذا الأخير بفكره وإدراكه بحواسه.
فمهمة الممثل هي التعبير وقدراته الإبداعية يجب أن تكون موجهة نحو التجسيد بأسلوب جمالي ((فعندما ينطق شخص ما بطريقة أدائية فهذا لا يعني أنه يلقي ببساطة عبارة ما، بل إن الشخص هنا يؤدي فعلا ما"))(4 ) فيجسد التعبيرات الدرامية والانفعالية صوتا وحركة ومرتكزا على بواعث ذاتية وموضوعية نلمسها من خلال الأداء السمعي  والحركي والبصري .
 ((يتصور بليخانوف أن علم الجمال المادي يتحرك على أرضية التاريخ وصراع الطبقات، ويدرس تبدل الأذواق والمثل العليا والتصورات الجمالية عبر التطور الاجتماعي، فالفنون مرتبطة بالمجتمع تعكس وتعبّر عن السمات
النوعية لفئة اجتماعية معينة في زمان معين، وتتعلق شتى البنى الفوقية
الايديولوجية ))(5 ).
ان نشوء الظاهرة المسرحية في بلاد اليونان كان لها جذورها وطقوسها الدينية  وتقاليدها وتربيتها كظاهرة مسرحية ا نشأمنها المسرح وجمهوره على حد سواء؛ أما العرب ، وعلى الرغم من امتلاكهم لأكثر من ظاهرة مسرحية، تبلوت في مجتماعتنا العربية  لكنها   ظلت الظاهرة نفسها بلا تقاليد ,واسس لتطويرها نحوالأفضل بينما كانت 
(( القضية في المسرح الأرسطي القديم قضية جبرية ؛ حيث الفعل هو أهم أساس قامت عليه نظرية المحاكاة الأرسطوية بعكس نظرية المحاكاة الأفلاطونية التي ألحت على ( محاكاة الفكرة المثالية المطلقة) فتلزم الفنان يمحاكاة ظل الصورة الأصلية المحفوظة في عالم الغيب . والفعل الدرامي أو الفكرة المطلقة كلاهما سابق الوجود( نظرية الماهية أسبق من الوجود) فالفعل بيد الغيب ( القدرة الإلهية) وما علي الإنسان إلا تجسيده ؛ وهذا هو جوهر الفلسفة المثالية عند أفلاطون وعند أرسطو؛ التي تقف عند حدود تبرير الوجود باعتباره المعطي الإلهي الدي نعيشه ونتفاعل معه على طريقتنا حتى نمضي فيعيشه من يأتي بعدنا ويتفاعل معه على طريقته إلى أن يمضي . وفي التبرير ثبات لظواهر ذلك الوجود على هيئته المعطاة .
ولا شك أن المسرح باعتباره فن الإتصال الجماهيري الحاضر هو ابن عصره يتغير بتغير العصر ،
وكدلك الفكر الفلسفي هو ابن عصره أبضا .))(6)
فكانت للمعرفة والفلسفة  تأثير  في خلق أجواء ساهمت في تطور الفعل المسرحي نحو الأفضل .


المصادر 
---------------------------

أنظر : الحوار و نظرية المعرفة - ناصر السيد النور - صحيفة  التحرير - 9 / 5 / 2017(1)


 (2)أنظر : جون ماكوين - موسوعة المصطلح النقدي - الترميز - ترجمة عبد الواحد لؤلؤة - دار المأمون للترجمة والنشر - بغداد -1990- ص 25

 (3)أنظر :   فن الشعر – ارسطو طاليس – ترجمة وشرح وتحقيق :عبد الرحمن بدوي – القاهرة – مطبعة مصر – مكتبة النهضة المصرية – ص18- ص 19
 (4)أنظر : مارفن كارلسون: فن الأداء، مقدمة نقدية، تر: د/منى سلام، مركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون، ص29.

 (5)أنظر : الفن والتطور المادي للتاريخ , جورج بليخانوف , ترجمة جورج طرابيشي- دار الطليعة بيروت طبعة 1 - 1977ص22

أنظر :  أبو الحسن سلام - التكوين المعرفي في المسرح بين النظرية ومناهج الإخراج(6)
الحوار المتمدن-العدد: 5393 - 2017 / 1 / 5


تابع القراءة→

الثلاثاء، ديسمبر 05، 2017

أنثروبولوجيا المسرح / محسن النصار

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, ديسمبر 05, 2017  | لا يوجد تعليقات

كتابات مسرحية

أنثروبولوجيا المسرح  / محسن النصار 

وقد أعطت  المعرفة  والفلسفة للمسرح  الكثير من العوامل المختلفة والمتنوعة التي أدت إلى ظهورها وإبرازها، كعامل  فكري محفز للمسرح  نحو أنثروبولوجيا مسرحية جديدة  

والتي يعرّفها  باربا بأنها ((دراسة التصرفات البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حالة العرض المسرحي، أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم بالحياة اليومية”، ذلك لأن الممثل يستخدم جسده في الحياة اليومية المعتادة بنوع من التقنية المشروطة بثقافته ووضعه الاجتماعي وطبيعة مهنته، في حين يستخدمه في العرض المسرحي بطريقـــة أخرى، وتقنية مختلفة كليا.
ويسمي باربا النوع الثاني من الاستخدام بالتقنية الخارجة عن المعتاد، ويرى أن المسافة التي تفصل بين التقنيتين في الغرب غالبا ما تكون غير واضحة وغير مدركة، في حين يوجد اختلاف واضح بينهما في الهند مقرّ به وله اصطلاحاته: “لوكادهارمي” و”تاتيادهامي”.
ويكمن الاختلاف في أن التقنية اليومية تتبع عادة مبدأ بذل الجهد الضئيل، أي بمعنى الحصول على النتيجة القصوى من خلال توظيف أدنى حدّ من الطاقة. لكن في التقنية الخارجة عن المعتاد يحدث العكس، إذ تعتمد على البذخ في الطاقة، لذلك يعبّر المتلقون في المسرح الياباني عن شكرهم للممثلين في نهاية العرض بعبارة “أنت متعب”، إشارة منهم إلى أن الممثل الذي أثار اهتمامهم وأمتعهم وترك تأثيره فيهم متعب لأنه لم يوفر شيئا من طاقته، بل فاض في استخدامها.

رغم ارتباط ظاهرة أنثروبولوجيا المسرح بـباربا، فإن ثمة من يذهب إلى أنها نشأت وتطورت، جنبا إلى جنب مع الأنثروبولوجيا بوصفها علما، في أوروبا وأميركا، نتيجة لأزمة ثقافية وأخلاقية لا يمكن فصلها عن التطور الحضاري وظهور الاستعمار، فقد دفعت هذه الأزمة باتجاه البحث عما هو أصيل ونقي وبدائي إما في أصول الحضارة الغربية في بداية تشكلها، أو في الحضارات الأخرى.))(1)

وكلمة “أنثروبولوجيا” معناها اللغوي هي دراسة الإنسان. ونتيجة لتنوع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، تبنى الأنثروبولوجيون التعريف اللغوي لعلمهم؛ ولذلك يحاولون دراسة الإنسان وكل أعماله، أي كل منجزاته المادية والفكرية، أي الدراسة الشاملة للإنسان .
و تعددت   مجالات الانثروبولوجيا وفروعها :الأنثروبولوجيا البيولوجية ,الأنثروبولوجيا الفيزيقية السّمات الفيزيقية للإنسان .
الأنثروبولوجيا الاجتماعية ,الأنثروبولوجيا الثقافية ,ويمكن  دراستها بطريقتين
الأولى، هي الدراسة المتزامنة: أي في زمن واحد، أي دراسة المجتمعات والثقافات في نقطة معينة من تاريخها .
الثانية، هي الدراسة التتبعية أو التاريخية: أي دراسة المجتمعات والثقافات عبر التاريخ
وتتناول الأنثروبولوجيا الثقافية، بمعناها العام، الحياة الثقافية للمجتمعات الإنسانية. وفي هذا الإطار العريض، يتجه علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى الاهتمام بالفنون المهارية وتصميماتها، وتقنيات تصنيعها.

ولهذا فإن الأنثروبولوجيا هي أكثر العلوم التي تدرس الإنسان وأعماله شمولاً على الإطلاق. وهناك دلائل وشواهد عديدة على هذا الشمول؛ فالأنثروبولوجيا تجمع في علم واحد بين نظرتي كل من العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، ثم إن الأنثروبولوجيا تهتم بالأشكال الأولى للإنسان وسلوكه بدرجة اهتمامها نفسها بالأشكال المعاصرة؛ إذ يدرس الأنثروبولوجي كلاً من التطورات البنائية للبشرية ونمو الحضارات ,واهتمامه بالجماعات والحضارات الإنسانية المعاصرة.
وأنثروبولوجيا المسرح من المفاهيم الجديدة  في علم الأنثروبولوجيا وهذا المصطلح  الذي  ظهر في بريطانيا عام 1593، وكان المقصود به دراسة الإنسان من جميع جوانبه الطبيعية والسيكولوجية والاجتماعية، وظل يحمل معنى الدراسة المقارنة للجنس البشري.

إلا أن تزايد البحث، وخاصة في المجتمعات البدائية، أدى إلى تطورات مهمة في النظر إلى الأنثروبولوجيا، وخاصة في علاقتها بالعلوم المتفرعة منها وغيرها من الدراسات التي تتصل بدراسة الإنسان. , ولهذا فإن الأنثروبولوجيا هي أكثر العلوم التي تدرس الإنسان وأعماله شمولاً على الإطلاق وقد كان المخرج الفرنسي أنتونان آرتو أوّل من تنبه للأشكال المسرحية غير الغربية عند مشاهدته لعروض الرقص القادمة إلى فرنسا من جزيرة بالي الاندونيسية ((فكرة"المسرح
الحر"المنبثق من "الجماعات الخلاقة" المتحدة، وهي الفكرة – التي مقابل المسرح المحترف والتجاري اليوم- تفرض مبادئ جمالية فوضوية جديدة...إن المسرح الحر هو شكل من الاحتفال الجماعي يستفيد من تعدد المواهب في مجموعة من الإفراد الذين يجمعهم"حب واحد للاحتفال"المسرحي .))(2)

 ويحدد إيوجينيو باربا ميدان عمل أنثروبولوجيا المسرح في محاولة أيجاد تقنية لمسرحه تعتمد الحركة وذاتية الممثل  واكتساب طرق معينة للحركة والنطق والايماءات اثناء التدريب، ويوجد كأساس لمختلف الأجناس والأساليب والأدوار للتقاليد الشخصية والجماعية  وهذا التحديد الذي يذهب إليه باربا بوصفه المؤسس الحقيقي لأنثروبولوجيا المسرح ، ولم يأتِ أهتمام باربا دون مرجعيات محددة لذلك فقد تأثر وتتلمذ على يد المخرج البولندي جيرزي غروتوفسكي للمدة من 1961 – 1964 وغروتوفسكي تعامل مع الممثل والفضاء والنص المسرحي والجمهور، حيث تتضافر هذه العناصر معاً في نسق جمالي يولّد أثناء العرض حالة خاصة تتركز وظيفتها في تحريض الممثل على خلق دوره بنفسه، وليس على إعادة إنتاج الشخصية حسبما تخيلها ووصفها الكاتب. ومن هنا فقدت النصوص الأدبية قدسيتها عند غروتوفسكي، وأضحت محض مادة خام قابلة لإعادة النظر وللحذف والتطوير وإعادة الكتابة انطلاقاً من راهنية لحظة العمل. صحيح أن غروتوفسكي يتكىء على نصوص مسرحية لكتَّاب مسرحيين معروفين، إلا أن نص عرضه المسرحي الجاهز للقاء مع الجمهور لايتطابق ونص المؤلف إلا من حيث العمود الفقري للحدوث، أي إن ما يتعرفه المشاهد في العرض هو سيناريو جديد نتج من حال الارتجال مع الممثل في أثناء التمرينات .
وفي الفضاء المسرحي يركز غروتوفسكي على الممثل وحسب متخلياً عن مكونات العرض الأخرى كافة من ديكور وأزياء ومكياج وموسيقى وإضاءة. وقد أطلق على عروضه الجديدة تسمية «المسرح الفقير» في مواجهة المسرح الثري المزود بالتقانات الحديثة.
  و قد تعامل مع أنثروبولوجيا المسرح بوصفها علماً عبر أعتماده على التدريبات الطقسية للممثل والإفادة من الفلسفات الشرقية في تكوين نظرية ( المسرح الفقير ) التي أعتمدت بشكل أساس تكنيك  الممثل لذلك نادي "بممثل قديس لمسرح فقير"، فما كان يريده جروتوفسكي هو قاعة خالية تصلح لجلوس المتفرجين بينهم ممرات وفجوات لأداء الممثلين مشركين معهم الجمهور، فالمسرح بالنسبة إليه هو كل ما يدور بين الممثل والمتفرج وكل ما عدا ذلك يعد ثانويا. ويقوم منهج جروتوفسكي علي تقنية (الترانس) أي تكامل جميع القوي النفسية والجسمية التي تنطلق من أعماق الممثل وغرائزه وتنفجر بصورة تكشف عن هذه الأعماق. وتقوم تقنية (الترانس) هذه علي ثلاثة عناصر هي :الموقف الاستنباطي , الاسترخاء الجسمي , تركيز نشاط الجهاز العضوي كله في منطقة القلب.
  وكان يؤكد على ما هو طقسي احتفالي، وقد لجأ منذ منتصف الستينيات إلى استخدام الأساطير الوثنية والدينية وتضمينها في ثنايا عروضه، ولكن ليس بالمعنى الجمالي أو المعرفي، وإنما بوصفه حاملاً لقضايا الإنسان المعاصرفي همومه ومحنته  في الجماعة  وينسجم هذا الهدف وأسلوب العمل داخل فرقته، أي حياة التقشف المادي الجماعية التي يعيشها أعضاء الفرقة، وإبداعهم الجمالي وأخلاقياتهم الرفيعة
عبر العديد من الطقوس  الروحية وفي مقدمتها الإفادة من تكنيكات فن اليوغا الهندية ، ما دفع باربا إلى تأسيس  المدرسة العالمية للأنثروبولوجيا المسرحية ,الذي أكد فية على  دراسة التصرُّفات  والسلوك الذاتي للمثل وربطه بععلاقته مع الجماعة والمجتمع 
 ((فالمسرح يجد في الثقافة والحضارة المعاصرة موضوعا مهما  في انتاجه الجمالي , وفي محاولة لجعل الذاتي الفرداني المحلي موضوعا عالميا يمتلك
التاؤيل , بذلك ناقش المسرح الكلاسيكي في حالة معاصرة تنبع من عصر الحدث , وهذه احدى اشتراطات
العولمة التي تسعى الى تسطيح الخصوصية وتوحيد اللحظة الفنية بوصفها حالة كونية مستديمة  )) (3)

البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حالة العَرْض ، أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم بالحياة اليومية  لذلك كان أهتمام باربا في بحثه المسرحي ينصب على الممثل بوصفه الخالق للطقس المسرحي والسارد لتفاصيله ، وقد أفاد من في معمله
 المسرحي  من نظرية جروتوفسكي التي يسميها "من خلال الطريق السلبي "((إن الفرق في التدريبات في الفترة الأولى 1959- 1962 , والفترات التي تلت ذلك يتضح في التدريبات البدنية والصوتية .فقد أحتفظنا بمعظم العناصر الأساسية في التدريبات البدنية , ولكن أعدنا توجيهها بحيث تشكل بحثا عن العلاقة بين الممثل والآخرين , كما تدربه على تلقي الباعث من الخارج وكيفية رد فعله لما يتلقاه (وهي العملية التي نسميها خذ وأعطي ) ومازلنا نستخدم أجهزة تضخيم صدى الصوت في تدريباتنا الصوتية , ولكنها تسخدم الآن من خلال أنواع الدوافع المختلفة والأتصال بالجمهور . ومع تطور تدريباتنا استغنينا تماما عن تدريبات التنفس , فنحن نكتشف المعوقات في هذا المجال في كل حالة على حدة والبتالي نستطيع أن نحدد السبب فيها ونقضي عليها . فليست هناك تدريبات مباشرة للتنفس , وأنما نعمل في هذا المجال بطريقة غير مباشرة من خلال التدريبات الفردية التي تكاد أن تكون ذا طابع نفسي وبدني في آن واحد  )) (4)
وكان من ابرز التريبات التي يقوم بها جيروتوفسكي في المعل المسرحي  التدريبا ت البدنية , كالتسخين من خلال السير بأيقاع معين وتمرينات لتلين العضلات والعمود الفقري وتمرينات الأنقلاب رأسا على عقب وتمارين الطيران وتمارين تشكلية وتدريبا تفي التكوين ..الخ 
 ((الاستخدام السحري، لا على انه انعكاس لنص مكتوب ، ومجموعة القرائن المادية التي تنبعث من المكتوب . بل على انه انعكاس ملتهب لكل ما يمكن أن نستخلصه من نتائج موضوعية في الحركة، والكلمة، والصوت، والضوء، والموسيقى وتركيباتها))(5).

وللتجريب المسرحي وخاصة في المختبر العملي المسرحي يساهم في خلق ذهنية سريعة وقادة توسع فكر وخيال الممثل لتتوافق مع مجريات  الفعل والتركيب الحركي  ((إنني أؤمن ان الفنانين ـ وبخاصة التجريبين منهم ـ يتحملون مسؤوليات فريدة. ان الأصل الاشتقاقي لكلمة «تجريبي» يعني الذهاب خارج، او بعد الحدود. والحدود ليست مادية فقط؛ بل هي مادية وفكرية في الوقت نفسه، وهي تفصل بين الأمم والشعوب والأفكار. ومع ان الحدود قد تكون في الغالب ضرورية، فإن ثمة أمكنة وأزمنة يتعين فيها علينا ان نعبر هذه الحدود، ان نفكر في ما قد لا يخطر على بال، أو ما قد لا يصدقه عقل، وان نمثل في عوالم الخيال ليس فقط ما يحدث الآن؛ بل ايضاً ما سوف يحدث مستقبلاً.
ان العلم التجريبي يعتمد أساساً على طرح الفرضيات واختيارها ثم مراجعتها. اما التجريب في الفن فشيء آخر. فالتجريب الفني يتأسس على التجسيد، وتوظيف الرمز والاستعارة، واللعب على كل أوتار الخيال البشري)).(6)

((طريقة المبادلة المعرفية وبأساليب التدرب والأداء للدور، كل ذلك يجري في التمارين، ومن غير تدخل كبير حتى على كيفية بناء النص، وتخرج بالتالي موضوعات إنسانية شمولية، تتناسق فيها فنون العديد من الشعوب في عرض مسرحي واحد.
إن طريقة المدرسة العالمية لعلم أجناس المسرح الأساسية في التمرين هي المبادلة بين العلاقات المسرحية التي يوضحها باربا بقوله : إن مجتمع المسرح سوف يثبت في الوقت الحاضر في المجتمعات المحيطة خلال انتشاره، وخصوصيته. وفي الحقيقة فإن المسرح ليس فقط عرضاً، ولكنه أيضاً تقاليد للأفكار، والانتماء، ونقل التقنيات. وهو نموذج لعلاقات اجتماعية، ومقترح ينتظم، ويتحد من خلال الاختلاف. ويقول باربا بهذا الصدد: إن أسئلة كثيرة تشغل بال الفنانين، والأساتذة، والعلماء من مختلف القوميات الذين يتعاملون مع المدرسة العالمية لعلم أجناس المسرح )).(7)

ومن  أحدث فروع الأنثروبولوجيا، وهو أنثروبولوجيا الجسد، ويهتم بدراسة عمليات تجميل الجسد، التي عُدّت أسلوباً يتحول فيه الجسد البشري الطبيعي إلى ظاهرة ثقافية.
((وفي كتاب «الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد» تتعمّق الزهرة إبراهيم في دراسة الجسد كدلالة ثقافية تبعاً لما أفرزته الحداثة، مروراً بالقناع والدمية وتوظيفهما المسرحي والسياسي)) (8)
وعلاقة المسرح بالأنثروبولوجيا، تأكد  في إجابتها إلى ما هو اجتماعي، وما هو ثقافي داخل الحقل الأنثروبولوجي، لسبب أساسي، هو كون الظاهرة المسرحية، على حد تعبير”باتريس بافيس” متنوعة وشمولية ((يرى بافيس أن التحليل الدراماتورجي، وهو عنصر حتمي وجوهري في النظرية المسرحية، وينطوي على نموذج جدلي يستمد مقولاته من جماليات الإرسال والتلقي، الذي يقوم به المخرج، في حال تحويل النص إلى عرض، أو الذي يقوم به المتلقي، في حال تلقيه للعرض في شكله الإخراجي النهائي، يقوم على تمثّل نظام العلامات المتقابلة، ويصبح العمل الدرامي، وفق هذا التحليل، سواء أكان نصا نقرأه، أم عرضا نتلقاه، عملية وسيطة بين الإرسال والتلقي تنتظم من خلال ثلاثة مفاهيم جوهرية هي: التجسيد، الذي يلخص مفهوم التأويل من خلال القارئ، أو المتلقي، أو الجمهور في شكله الجماعي، ويكتسب شكل خطاب ملموس، في هيئة مقال، أو مراجعة نقدية، أو تعليق. ))(9)

وفي محاضرة ألقاها باربا  عام 1985 في مهرجان المسرح العالمي في برشلونة  بعنوان   (جسد الممثل المعطاء إمكانية الممثل المفترضة، لـتأهيله على حمل الرسالة للمتلقي) مبيناً علاقة الممثل الجسدية بين ما يفُهم ويُدرك. وبين ما يراد له عرضه، ضمن الرسالة. وهذا يتطلّب من الممثل وعياً كبيراً لمعرفة أعضائه فسيولوجياً، لتستجيب وتعكس التعبير المناسب.

 ((وحسب ريتشارد ششنر في مقدمته التي وضعت ضمن كتاب نحو مسرح ثالث لايوجنييو باربا  بأن المسرح الانثروبولوجي هو ابتداء مقارنة وبعدها مقاربة يضعها العاملون في المسرح الشرقي والغربي لاساليب عملهم حتى يتوصلوا الى تكنيك اساسي في مجال ماقبل التعبير, وهو المستوى الذي يتناول الكيفية التي يمكن بها جعل طاقة الممثل مفعمة بالحيوية كي يكون له حضور يستطيع من خلاله جذب الجمهور, من خلال اكتساب طرق معينة للحركة والنطق والايماءات اثناء التدريب، هكذا يصف ششنر اشتغالات باربا الذي يرى في المسرح بأنه الوسيط الفني والثقافي))(10)
فقد كان الممختبر العملي عند يوجنييوباربا يعتمد على مجموعة من الممثليين  من جنسيات مختلفة  ويتم تعايش الممثلين فيما بينهم رغم التنوع الثقافي  , فالمسرح عند  باربا مهمة انسانية  وثقافية يعالج فيها السلوك البشري بأسلوب الأنفتاح نحو الآخر.

المصادر :
 (1)أنظر : عواد علي - مقالة  ليوجينو باربا من لحام إلى مؤسس أنثروبولوجيا المسرح - جريدة العرب - العدد 10007 - 14- 8- 2015

 (2)أنظر:اندريه يستسلر .الجمالية الفوضوية . تر: هنري زغيب ، ط1(بيروت – باريس : منشورات عويدان للطباعة والنشر ،1982)ص53.
 (3)أنظر : سوزان ملروز ,اتجاها ت جديدة في المسرح , ترجمة : د. ايمان حجاز , القاهرة , اصدار مهرجان
. المسرح التجريي , 2002 , ص 65
 ( 4)أنظر : الدكتور سمير سرحان - تجارب جديدة في الفن المسرحي - اصدار دائرة الشؤون الثقافية العامة -العراق ص 170
(5)أنظر:  انتونا ن ارتو. المسرح وقرينه، ترجمة د.سامية اسعد. مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر (القاهرة) 1973 . ص64 .
 (6)أنظر : ما هو المسرح التجريبي؟من كلمة المسرحي الكبير ريتشارد شيكنر في افتتاح مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة 2009
 (7)أنظر : كتاب المسرح الثالث ليوجينو باربا: ترجمة سامي عبد الحميد من منشورات المكتبة الوطنية\- المجمع الثقافي - أبوظبي
 (8)أنظر : الزهرة إبراهيم - كتاب «الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد» (دار النايا ـــــ دمشق)
 (9)أنظر :عواد علي - باتريس بافيس: المسرح والتلقي - جريدة العرب 2016/11/05، العدد: 10446، ص15
 (10)أنظر : صادق مرزوق  - إيوجنييو باربا والمسرح الآخر- جريدة الصباح -16/5/2012


تابع القراءة→

السبت، أكتوبر 07، 2017

عناصر الشخصية المسرحية المؤثرة / محسن النصار

مجلة الفنون المسرحية  |  at  السبت, أكتوبر 07, 2017  | لا يوجد تعليقات

كتابات مسرحية

عناصر الشخصية المسرحية المؤثرة / محسن النصار

على الرغم من اجماع أغلب النقاد والكتاب على ان تأثير الشخيص المسرحي يتأتى دائما مما تفعله الشخصية نفسها في سياق الفعل والخطاب الدرامي ,فاننا لانستطيع ان نغفل اهمية العناصر او الوسائل الأخرى في تأثير الشخصية سواء كان تأثيرا فرديا او تأثيرا نمطيا لأننا نستطيع أن نرى من خلال المقومات والأبعاد المختلفة للشخصية المسرحية ونتحقق من أنسجامها , ودلالات الدوافع التي تحركها في ما يجري من أفعال وتصرفات ,وما ينتج عن ذلك من صراعات او خلافات بينها وبين الشخصيات الأخرى ,ويمكن تحديد عناصر ومقومات وتأثيرات الشخصية المسرحية بمراجعة النصوص المسرحية العالمية منها والعربية وأعتمادا على بعض المصادر التي درست الشخصية المسرحية وحددت ملامحها الأساسية كمقومات الشخصية وأبعادها وعناصرها وساتناول عناصر الشخصية ويمكن تحديدها بالعناصر الأساسية والعناصر الثانوية ..
فالعناصرالأساسية في عملية التشخيص هو ( التشخيص بالفعل ) وهو التشخيص الماثل بالفعل الذي تقو م به الشخصية من خلال تصرفاتها وسلوكها وحركتها ومواقفها في الأزمات وردود الأفعال ,وخارج الأزمات لأن جوهر الدراما هو تمثيل فعل ما ,فان هذا العنصر هو من أبرز عناصر التشخيص في في الخطاب المسرحي الدرامي , وعلية لابد من توافر صلة معقولة بين الشخصية والفعل , ولعل افضل وسيلة لمعالجة مشكلة العلاقة بينهما هي وسيلة الدوافع التي تحتم على الكاتب المسرحي الناجح والمبدع ,ان يأتي الفعل في ضوء وطبائع الشخصية ورغباتها ومشاعرها وغرائزها وقواها العقلية والتفكيرية ومن اشهر عناصر التشخيص بالفعل في المسرح العالمي , تشخيص الكاتب المسرحي العالمي وليم شكسبير لشخصية ياغو في مسرحية عطيل ,وماكبث ,والملك لير ,وكريولانس ,وهاملت .
وهنالك عنصر اساسي آخر في عملية التشخيص وهو ( التشخيص بالفكر ) .
وهو عنصر أساسي في الكشف عن الشخصية من خلال أفكارها وأطلاعنا على أدق اسرارها ومسالكها العقلية ,ورؤيتها للعالم من خلال مواجهتها لجميع المواقف والتحديات ولأزمات ودخولها في نقاشات مع الشخصيات الأخرى ويبرز هذا العنصر التشخيصي الفكري في المسرحيات الفلسفية والمسرحيات الكلاسيكية , ومسرحيات وليم شكسبير .
وأما العناصر الثانوية التي تساهم في عملية التشخيص هي ( التشخيص بالرأي , والتشخيص بالمظهر ,والتشخيص بالكلام ,والتشخيص بالمونولوج ).
فالتشخيص بالرأي هو عنصر ثانوي يحاول أماطة اللثام عن الشخصية من خلال ماتطرحه الشخصيات الأخرى عنها من آراء وأنطباعات وملاحظات ووصف لطبائعها وأبعادها النفسية والأجتماعية والطبيعية والفكرية 
وقد أكد الناقد مارتن أسلن ان ( هذا النوع من التشخيص المنقول لايجدي نفعا ,بل انه من اكثر الأخطاء تكرارا التي يقترفها كتاب المسرح الطموحون ,وغير المجربين ).(1)
وأما (التشخيص بالمظهر ) وهوالعنصر الثانوي الذي يعرفنا بمظهر الشخصية ,الشكل والبنية والقوام , ويوفر لنا معلومات كثيرة لفهمها وتحليل مزاجها وطبيعتها ومكانتها الأجتماعية .
واما عنصر (التشخيص بالكلام )وهو عنصر ثاني يساهم في بناء عملية التشخيص المسرحي من خلال الكشف عن بعض جوانب الشخصية من خلال الصوت (عمقه ,ومداه ,وحجمه ,واتساعه )الذي يميزها عن غيرها من الشخصيات ,فضلا عما يقوله هذا الصوت ( وترتبط هذه في التشخيص ارتباطا وثيقا بالوصف الجسماني ,فطبيعة الصوت ,ونوع الكلام الذي تنطق به الشخصية يوحيان لنا بالصفات التي تتحلى بها الشخصية من ذكاء او بلادة ,او رقة في الأحساس او تبلد فيه ,اوسعة في الخيال ,اوضيق فية )(2).
واما العنصر الثانوي ( التشخيص بالمونولوج ) هو العنصر الثانوي الذي يتيح للشخصية ان تفصح عن دخيلة نفسها لتكشف عن مشاعرها الباطنية , وافكارها وعواطفها ,وكانها تفكر بصوت مسموع , ويلجا أغلب الكتاب المسرحين الى هذا العنصر في التشخيص حينما تجد الشخصية نفسها تحت وطأة انفعال او ازمة عنيفة تسيطر على فكرها ووجدانها الى موقف حافل بالصراعات والأحداث والتي يجب ان يطلع عليها المتلقي ,ومن اشهر المونولوجات مونولوج هامات (أكون او لاأكون , ذلك هو السؤال )ومنولوج ( آه آه ليت هذا الجسد الصلد يذوب وينحل قطرات من ندى ) .
وقد أزداد شيوع هذا العنصر التشخيصي في المسرح مع ظهور مدرسة التحليل النفسي التي أمدت وزودت كتاب المسرح بمعلومات هائلة عن التركيب الشعوري والاشعوري للشخصية الأنسانية , والتداعي الحر للهواجس والأحاسيس والرغبات المكبوته , وكان المذهب التعبيري من أبرز الحركات ,الى جانب المذهب السوريالي .
ويقول اوسكار وايلد ( ان الشئ الوحيد الذي يعرفه الأنسان حق المعرفة عن الطبيعة البشرية هو انها تتحول وتتبدل والنظم التي تفشل هي تلك التي تعتمد على ثبات الطبيعة البشرية وليس على نموها وتطورها )(3)
.ومن هنا فأن عملية التشخيص المسرحي لها اهميتها الكبيرة والمؤثرة في الشخصية المسرحية وتفرض على الكاتب الامسرحي الألتزام بمقولة التغيير ونمو الكائن الأنساني ,فالشخصية لابد ان ينتابها تغير اساس في بنيتها وهي تدخل في سلسلة من المواقف والصراعات والأزمات .

المراجع
(1) كتاب تشريح الدراما - تأليف مارتن اسلن - ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت . –اصدار العراق –بغداد 
(2) ميليت –وجيرالد ىيدس بنتلي – كتاب فن المسرحية – ترجمة صديقي حطاب – اصدار دار الثقافة –بيروت 
(3) لاجوس اجري – كتاب فن كتابة المسرحية – ترجمة دريني خشبة – القاهرة

تابع القراءة→

الخميس، سبتمبر 07، 2017

أدولف آبيا الملهم الأول في التقنية البصرية للعرض المسرحي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الخميس, سبتمبر 07, 2017  | لا يوجد تعليقات

كتابات مسرحية

أدولف آبيا الملهم الأول في التقنية البصرية للعرض المسرحي 

محسن النصار 

اهتم المخرج أدولف آبيا السويسري عبر مسيرته في وضع مجموعة من النظريات في طريقة التعامل مع خشبة المسرح، و كان واحدا من أهم من أكدوا أن الإضاءة هي لغة مسرحية بحد ذاتها، لا تقل أهمية عن اللغة المنطوقة أو اللغة الموسيقية المسرحية ,, لذلك قد اعترض آبيا على الفضاءات المسطحة المتعادلة الناتجة عن استخدام الإضاءة الأرضية وتعويضها بالإضاءة المتموجة ذات الظلال الشاعرية غير المركزة أو الإضاءة العامة.
وقد اهتم بالسينوغرافيا التجريدية كما ظهر ذلك واضحا في مسرحية ” فاوست” لجوته،وبالإيقاع البصري والجسدي الوظيفي المتناغم مع كل مكونات العمل المسرحي.
وقد اعجب بأطروحات فاغنر الموسيقية فاصدر كتابه الاول في المسرح بعنوان (اخراج درامات فاغنر) واهتم بتحقيق عرضا مسرحيا جماليا متكاملا ومتناغما من خلال تأكيده على الوحدة والتجانس بين مكونات العرض المسرحي . وكان من اتباع المسرح الرمزي ومؤيديه حيث اتخذ أبيا منهجا رمزيا في تأسيس عرضه المسرحي .
وأستطاع ان يجعل اعماله المسرحية متميزة ومثالية وتعبر عن وعي المسرح الحديث كي تتلائم مع فنون الديكور والإضاءة والحركة والميكانيكية الحديثة ، حيث عمل على استبدال الديكور المرسوم الثابت بالقطع والاشكال المتحركة وجعل خشبة المسرح متحركة ايضا ولها قابلية على التغيير بين الحين والاخر بحسب المنظر المطلوب.لذلك حقق التجديد والادهاش في صياغة العرض المسرحي المفعم بحركة الممثل وجعله اكثر تماسكا مع العرض فهو يرى ” بدون جسد الممثل يصبح الفضاء لا نهائيا من جديد بعد ان تم تحويله لفضاء مسرحي بجسد الممثل”.
واهتم آبيا في تصميم التقنية البصرية للعرض المسرحي بما يضمن حالة انسجام مابين الممثل ومحيطه البصري بالشكل الذي يتيح للممثل سهولة التحرك فيها ويحقق صورة شعرية جمالية , لذا كل مناظره كانت مرسومة ومصممة بحيث تسير في توافق وانسجام مع الممثل ذي الابعاد الثلاثة الذي يتحرك داخلها.من خلال الاضاءة المسرحية اهمية كبيرة في بصريات عرضه , بجعلها احد اهم عناصر العرض المسرحي واعتبرها خطاب بصري ولغة معبرة تحمل في تموجاتها وشدتها الكثير من المعاني فهي تحقق عرض فكري وجمالي وتبث روح الحيوية فيه حيث ان ” النتائج الجمالية التي يمكن ان يحققها سريان الضوء على خشبة المسرح يمكن ان يكون اعظم بكثير من مجرد التجمع الميكانيكي لاجزاء الخشبة” وللضوء امكانية التعبير عن الحالات الشعورية والعاطفية للشخصية التي يجسدها الممثل على خشبة المسرح كعوامل مساعدة وساندة للممثل في تجسيد شخصيته ، حيث اعتبر آبيا الاضاءة المسرحية واحدة من أهم التقنيات البصرية في العرض المسرحي , فمنظور الشكل المسرحي جعله على مستوى: الضوء والموسيقا والديكور ورسومات المناظر.. متأثرا بالرمزية ، من خلال إثارة الأسئلة، واستفزاز المخيلة، والإبهار من أجل تطوير الذائقة والحس الفني.‏‏‏
وعلى صعيد الإخراج والعرض المسرحي كان ابيا رجلاً مؤثراً في مجرى تطور الخشبة ’ بدعوته للتخلي عن الفوتوغرافية التي تقدمها المسارح، لأنه كان يعتقد ان فيها قتلاً للفن والابداع , حيث دعى للتخلي عن مبدأ التصوير الأيقوني للواقع وإلى طرح المسرح كفن له مرجعيته الخاصة.‏‏‏
وكان ابيا متأثرا بفاجنر وموسيقاه، الذي دعا لعمل فني متكامل في المسرح بما يسمى بالمسرح الشامل والرؤية الجديدة لفن المستقبل.
لذلك سار ابيا على مسار فاجنر باهتمامه بالإضاءة والضوء حيث يعتبر الإضاءة من الوسائل التي تعطي للمكان والممثل قيمة تشكيلية كبيرة.. لقد أفرغ الخشبة من الإكسسوار وجعل الإضاءة بديلاً عن الديكور.‏‏‏
ويرى ابيا أن روح الموسيقا هي التي تعطي الروح للدراما، والتي تحدد التكوين البصري من انسجام وتتابع.اتخذ ابيا منهجاً رمزياً مغرقاً بالرمزية فأهتم بإظهار العوالم الخفية من حياتنا انطلاقاً من الحلم الذي يعبر عما بدواخل الإنسان، والذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالفن.‏‏‏
يرى ابيا في الموسيقا فناً مثالياً.. وتناغماً ما بين الموسيقا والحوار فيما يخص الموسيقا الأوبرالية، وكذلك التفصيلات الصغيرة في حركة الممثلين تلك النغمات الهارمونية التي تتخللها المشاهد، بالإضافة لتموجات الضوء، كل هذه العناصر كانت مصدر إبهار كبيراً له.‏‏‏
كانت الموسيقا عند ابيا الشرارة لانطلاق مسار المسرح الحديث أو فن المستقبل، كانت طروحاته تسير في اتجاهات عدة منها الموسيقا، الضوء، العناصر التشكيلية.. وانصب مشروعه على خلق حالة التجانس أو الانسجام ما بين الديكور المرسوم والممثل.. لأن الممثل هو الذي يبعث الحياة في تلك الصورة من خلال حالة الانسجام.. لهذا ركز اهتمامه في نقطة المنتصف، ما بين مقدمة الخشبة والأرضية، كون هذه المنطقة من الخشبة ستكون بمواجهة المتفرج وبالتالي سيكون المتفرج تحت تأثير المشهد البصري، وستكون منطقة تواجد الممثل ومساحة لعبه هي الأرضية (خشبة المسرح).. بين قطع الديكور والرسومات.. كان هدفه من ذلك إدهاش المتفرج بصرياً من خلال تركيزه على منتصف الخشبة، باعتبارها أقوى نقطة في الخشبة.. وعين المتفرج تذهب لا إرادياً إلى المنتصف دائماً.‏‏‏
بالإضافة للموسيقا وجد حلولاً كثيرة وجريئة بما يتعلق بعناصر الإخراج التشكيلية والضوء أهمها، فأبهر الكثيرين باستخدامه (لسلايدات زجاجية ملونة) لإبراز الصور وفق وحدة ضوئية معينة، كذلك تغيير بيئة المكان من خلال استخدامه للون الذي يتطلبه المشهد وكانت هذه الطروحات أخذت أهميتها الكبيرة على الممثل الذي استطاع من خلال الألوان ومساقط الضوء الولوج لروح الشخصية التي يمثلها وطالما أن الضوء يحيله إلى الحالة التي يريد تجسيدها.. فسيكون ذلك حافزاً لإظهار التعبير الإنساني.‏‏‏
هذه الإصلاحات ورغم تقدم التكنولوجيا.. إلا أنها أصبحت الأرضية التي بنيت عليها هذه التكنولوجيا الضوئية على المسرح.. المسرح الذي جاء بعد ابيا.‏‏‏أدولف ابيا مصمم ديكور ومنظر مسرحي سوسيري، عرف باتجاهه الرمزي الذي يؤكد على اعطاء المتفرج مناخاً بدل المظاهر الواقعية، استبدل الوحدات ذات البعدين بسلالم وإنشاءات ذات ثلاثة ابعاد لتصعيد حركة الممثل ولدمج الأرضية الأفقية بالمشاهد ألمرتفعه عموديا.أستخدم الإضاءة بطريقة لا واقعية مشابهه للموسيقى على خشبة تجريدية مؤلفه من كتل بيضاء ورمادية مجسمة.
ارتبطت تجربة ابيا منذ بداية نشؤها بفاجنر، وبالتحديد على الأعمال التي قدمها فاجنر، وهذا ليس مثلبا،وهذا ما اكده ابيا، بان فاجنر كان المحفز الأول لكل طروحاته النظرية واشتغالا ته العملية، هو الذي أفضى عليه بذلك السر الساحر الذي وهبنا تلك المتعة والدهشة البصرية (ظللت أعتمد على نموذج فاجنر،لانه في ذلك الوقت كانت أعماله هي فقط التي كان يمكن ان تقدم نقطة انطلاق،ولكن بكتابتها أصبحت بالتدريج واعيا بالمدى الذي فصل تفكيري نفسه عن عمل فاجنر من اجل تناول الموضوع بكل تعقيداته وتضميناته). 
اتخذ ابيا منهجا رمزيا، بل مغرقاً في الرمزية مثل شريكه بالثورة البصرية من اجل اصلاح المسرح كوردن كريك، اهتما كلاهما بأظهار العوالم الخفية من حياتنا، انطلاقا من الحلم الذي يعبر عن ما بدواخل الإنسان والذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالفن.
وجد ابيا في الموسيقى فنا مثاليا، لتكامل عناصره الفنية، والتي كانت فيها حرية كبيرة بالنسبة له كفنان من خلال المشاهد التي تقدمها، وكذلك التناغم ما بين الموسيقى والحوار، فيما يخص الموسيقى الاوبرالية، وكذلك من التفصيلات الصغيرة في حركة الممثلين تلك النغمات الهارمونية التي تتخللها المشاهد، بالإضافة لتموجات الضوء، كانت كل هذه مجتمعه مصدر ابهار كبير له، لهذا يجد في الموسيقى حريته الكاملة لانها تركز على الجانب العاطفي اكثر من الجانب الواقعي، يجد بان وظيفة الفن هي التعبير عن العوالم الداخلية للجمهور، وهذا ياتي فقط عن طريق الموسيقى، وهذا ما يذهب اليه بقوله (على الفن ان يُعبر عن هذه الحياة الداخلية للجمهور بشكل مباشر، ولايمكن التعبير عن هذه الحياة إلا من خلال الموسيقى، والموسيقى هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها ان تعبر عن هذه الحياة). 
كانت الموسيقى هي المحفز الابداعي الاخر لابداعات ابيا، الذي سعى من خلالها لتحرير الصورة المسرحية، والبحث عن الفعل الكامن خلف تلك التعبيرات المشهدية، وكذلك الزخم التعبيري، والتعبيرية هو واحد من احب المصطلحات الى قلبه.
الموسيقى هي العلاج الشافي الذي وصفه ابيا للمسرح في اوربا، كونها هي المنظم الاول للمشهد المسرحي على الخشبة، وايضا فهي لا تعيد التوازن الحسي فقط للممثل والمتفرج، بل ايضا توازن التكاملية في المشهد البصري (الموسيقى والموسيقى وحدها تستطيع تنظيم عناصر العرض المشهدي كلها في وحدة انسجامية متكاملة بطريقة تتجاوز تمام التجاوز قدرة خيالنا المضعضع). 
لم تكن الموسيقى وحدها من اخذت اهتمام مشروع ابيا بكامله، بل كانت هي الشرارة التي انطلق منها ذلك المشروع المهم، كانت خطوطه ورسوماته لدراميات فاجنر الموسيقية، تشكل منعطفا مهما في مسار المسرح الحديث او فن المستقبل، وايضا في مشروع ابيا برمته، اصبحت هذه الخطوط والرسومات مصدرا مهما ومثيرا لاهتمام المشتغلين بالفن المسرحي، كات طروحات هذا الرجل السويسري واقتراحاته للضوء، طروحات جديدة تماما، لم يدركها رجالات المسرح بعد، بل لم يدركها فاجنر نفسه، والذي يعتبره ابيا معلمه وملهمه الاول.
كانت طروحاته تسير في اتجاهات عدة منها الموسيقى، الضوء، العناصر التشكيلية، خطوطه، واذا اردنا ان نستعرض الطروحات التي كانت تظمها نظريته لمعالجة المشاكل الجمالية في العرض المسرحي، فإننا سنبدأ بالعناصر التشكيلية، والمشكلة الجمالية في تصميم المنظر، حيث لم تكن هناك علاقة سببيه بين الاشكال والفضاء، هذه العلاقة التي يتعامل معها مصمم المناظر بسطحية من خلال الرسومات الغير متجانسه، والتي توضع على خشبة المسرح، وبالتالي يتحتم على الممثل ان يجد له مكانا لحركته فيها، لهذا سعى ان يكون التنظيم ذو ابعاد ثلاثة، وبدون هذه الابعاد ستسقط كل قواعد الفن التصوري وتكون ليست بذي جدوى بتواجدها ـ لهذا طلب بأن يكون الوهم المرسوم للبعد الثالث سليما في الصورة المرسومة على الورق، لانه يستثير الفضاء والكتلية، حدد ابيا العناصر التشكيلية في تصميم المشهد المسرحي في أربعة أشياء، بحيث يجب ان تكون حاضرة في كل تصميم للمشهد وهي(المشهد المرسوم المتعامد الخطوط، الارضية الافقية، الممثل المتحرك والفضاء المضاء الذي شمل الجميع).
كان مشروعه ينصب على خلق حالة التجانس او الانسجام ما بين الديكور المرسوم والممثل، لان الممثل هو الذي يبعث الحياة في تلك الصورة من خلال حالة الانسجام تلك، لهذا ركز اهتمامه في نقطة المنتصف، ما بين مقدمة الخشبة والارضية، كون هذه المنطقة من الخشبة ستكون بمواجهة المتفرج وبالتالي سيكون المتفرج تحت تاثير المشهد البصري، و ستكون منطقة تواجد الممثل ومساحة لعبه هي الارضية (خشبة المسرح) بين قطع الديكور والرسومات، كان هدفه من كل ذلك هو ادهاش المتفرج بصريا من خلال تركيزه على منتصف الخشبة، بإعتبارها اقوى منطقة في الخشبة وفق التقسيمات العلمية للخشبة وكذلك في جماليات الاخراج، وكذلك عين النظارة تذهب لا اراديا الى المنتصف دائما.
الممثل بالنسبة لابيا هو وحدة القياس، التي تحاول ترتيب العناصر الجمالية على الخشبة بهارمونية عالية،من خلال تحركاته بين قطع الديكور والصور المرسومة، والتي يحاول الممثل استنطاقها، هذا التجانس بين الممثل والمرسومة وقطع الديكور يجب ان يهتم به مصمم المناظر، من اجل تكامل عناصر الاخراج التشكيلية على الخشبة، هذه العناصر تظل مرتبكه ومربكه اذا ما تركت على حالها دون اصلاحات.
من اجل تكاملية الابعاد الثلاث التي طالب بها ابيا، يجب الاهتمام بالضوء، ويذكر بانه اول من فرق بين الضوء الفضائي، والانارة المنتشرة، والتي هي وسيلة لجعل الاشياء مرئية، لان الفرق واضح بين الاثنين،في حالة اللجوء لاستخدام الضوء الفضائي سنحصل على ظلالا ايحائية معبرة على الخشبة، ويعطي صفة نحتية للاشياء والممثل،والحيز الذي يشغله الاعداد المسرحي عند ابيا هو باكمله وحدة نحت.
ارتبط مشروعه الجمالي كثيرا بالموسيقى كما ذكرنا سابقا وهذا ما نجده يلجا اليه، حتى عندما يسعى لنحت مصطلحات او تعبيرات اخرى لطرح مشروعه، يحاول قدر الامكان الاستعانة بمصطلحات موسيقية مثل (اوركسترا الضوء) وهذا التعبير فيه إحالة مباشرة لمنابعه الموسيقية، وايضا لاهمية الضوء، كأهمية الموسيقى كما ذكرنا ذلك سابقا، فلقد قسم مصادر الضوء على المسرح الى نظامين (نظام منتشر او نظام عام، يطغي على المسرح بانارة متناسبة تدعى الانارة الجارفة في يومنا هذا، مركزا ضوءاً متحركاً يدعى اليوم الضوء المسلط على خشبة المسرح.إن هذا الضوء هو الضوء المهم، الذي اشار اليه ابيا، بعد ان كان مصدر الضوء يصيبه الاهمال). 
بينما الانارة المنتشرة على قطع الديكور والرسوم وأرضية المسرح، هي انارة شاحبة غير معبرة، غير عاطفية، بمعنى اخر انها مجرد وسيلة مرئية تكشف لنا عن الاشياء المعتمه، الضوء هو عنصر تشكيلي مهم من عناصر الاخراج التشكيلية بالنسبة لابيا، و واحداً من اهم الاركان التي اعتمدها بطروحاته او ثورته البصرية او كما سميت حينها بالبيانات الثورية لاصلاح المسرح، فالضوء عنده كما يقول (الضوء هو أهم عنصر تشكيلي على المسرح… بغير قوته الموحدة تستطيع عيوننا ان تستوعب الاشياء، لا ما يعبر بها… فما الذي يستطيع ام يرفدنا بهذه الوحدة السامية القادرة على الارتقاء بنا؟إنه الضوء……، وحده، بغض النظر عن اهميته الثانوية في انارة مسرح مظلم ن يملك اعظم قوة تشكيلية ذلك انه اقل الاشياء عرضة للمواصفات(المسرحية) ومن هنا جاءت قوته ليجلو ببهاء، بشكل تعبيري فريد، التموجات الخالدة لظواهر العالم)، ومن خلال الظلال التي يطبعها الضوء الفضائي تجعل من ارضية المسرح والمشاهد وحدة واحدة، وحدة هارمونية اعد لها الممثل اعدادا جيدا، مستشهدا بان الشاعر يقدم الموضوع للموسيقى، والممثل يقدم الاعداد المسرحي للضوء.
اعطى ابيا اهمية للضوء كاهمية الموسيقى، وجد فيه مصدر قوة لتوهج الشكل المشهدي وكذلك للتعبير عن كوامن الممثل الداخلية من خلال تحفيزه الداخلي لاخراج روح الشخصية التي يمثلها، فيه يجد حرية كبيرة وهي مشابه لحرية الموسيقى بالنسبة للشاعر، الضوء والموسيقى هما وحدة هارومونية يكمل احدهما الاخر على الخشبة، من خلال الضوء يستطيع ان يعطينا كل تجليات الحالة العاطفية، بواسطة ظلاله، وحدته،وتموجا ته، فالضوء والموسيقى وحسب تعبير ابيا، هما الوحيدان اللذان يستطيعان التعبير عن الطبيعة الباطنية لكل الظواهر.
تحكم ابيا بكل مساقط الضوء على خشبة المسرح، حيث وجد بان المساقط الضوئية الامامية التي تسلط على وجوه الممثلين وهي مليئة بالمكياج، تمحو الجوانب الانسانية من كل تعبير، بينما اذا كانت مسلطة من الاعلى عندها سنحصل على وجوه نموذجية للممثلين، وهذا اشبه بعملية النحت التي يمارسها النحات على وجوه شخوصه، مؤكذا بذلك(بان الضوء لن يستخدم لمجرد تقوية او اضعاف التشكيل النموذجي للوجه، بل بالاحرى سيعمل على توحيده او عزله عن الخلفية المشهدية، بطريقة طبيعية، اعتمادا على دور الممثل الخاص، اهو الذي سيسطر على المشهد او ان المشهد سيسطر عليه).
تلك الطروحات والمعالجات جعلت الضوء راسما للمشهد المسرحي، فيما يتعلق بعناصر الاخراج التشكيلية، كون الضوء يستطيع من خلاله ابراز الصور وفق حدة ضوئية معينة، كذلك تغير بيئة المكان، من خلال استخدامه للون الذي يتطلبه المشهد، فكانت اهميتها كبيرة للممثل الذي استطاع من خلال الالوان ومساقط الضوء بالولوج الى اعماق الشخصية وتجسيدها بروح ابداعية متميزة .

المصادر :
1- كتاب «رواد المسرح والرقص الحديث في القرن العشرين – النظرية والتطبيق» تأليف د.مجد القصص الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية
2 – كتاب”نظرية المسرح الحديث”.تأليف: أريك بينتلي – اصدار .دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1986


تابع القراءة→

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

المقالات المتميزة

احدث المنشورات في مجلة الفنون المسرحية

أرشيف مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

موقع مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

الصفحة الرئيسية

مقالات متميزة

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9