أخبارنا المسرحية

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الثلاثاء، مايو 18، 2010

حرائق المسرح / منذر حلمي

مجلة الفنون المسرحية  |  at  الثلاثاء, مايو 18, 2010  | لا يوجد تعليقات

ما ان قررت الكتابة – بمناسبة يوم المسرح العالمي – عن اخر عمل لي , قبل مغادرتي الوطن اضطرارا في مستهل عام 1979 , حتى تزاحمت الافكار واختلطت المشاعر، وطفحت الى السطح ذكريات المشاوير الاخيرة قبل الرحيل – ذهابي مع صديقي الفنان القدير علي فوزي لالقاء نظرة الوداع، ربما الاخيرة، على بناية المسرح الوطني ، الذي لم يكن قد افتتح بعد ، لحظات الصمت الموجعة في اخر زيارة لفرقتي - مسرح اليوم - ، لقائي بالراحل الكبير جعفر السعدي ، عندما زرت مسرح بغداد ، اثناء اجراء فرقة المسرح الشعبي التمارين على مسرحية – رقصة الاقنعة – تاليف الشاعر شاكر السماوي واخراج جعفر السعدي ، والتى اضطر العديد من كادرها الفني الى الاختفاء او مغادرة العراق ، كالفنانة الكبيرة وداد سالم والفنانين المعروفين اديب القليه جي وفلاح شاكر ، بسبب اشتداد حملة ملاحقة المثقفين ، بعد ان اسفر الفرد المستبد عن نواياه المريبة في تشويه الثقافة وتزوير التاريخ ومصادرة حرية الاخر المختلف . الامر الذي حدا بالراحل جعفر السعدي ان ينفرد بي ويهمس في اذني – انه يحرق العراق ، والمؤلم يامنذر اننا لا نستطيع اطفاء الحرائق – ذلك ما قاله الراحل آنذاك ، على الضد من اولئك الذين امطروه بالاسماء الحسنى وحاولوا اضفاء الشرعية على قتله المنظم للانسان جسدا وروحا . والمؤلم هنا ، ان الحرائق مازالت مشتعلة ، يتطاير شررها أرهابا ، طائفية وفسادا ، وربما تتاح لي الفرصة في مقام اخر لاتحدث بتفصيل اكثر عن معالم تلك المرحلة .
الفنان منذر حلمي في مسرحية ( السيد والعبد)
دائرة الفحم البغداديةما اريد توجيه الاضواء عليه الان هو مسرحية تركت اثرا بالغا في نفسي وغصة ايضا . وعكس مآلها سمات تلك الفترة ، التي تميزت بتشوش السلطة واضطرابها ، وتنافر دعاواها ووعودها مع اجراءاتها الفعلية على الارض .
تلك هي مسرحية – دائرة الفحم البغدادية – التي اعدها الاستاذ عادل كاظم عن مسرحية – دائرة الطباشير القوقازية – لبرشت ، واخرجها للفرقة القومية الراحل الكبير – ابراهيم جلال – وقد استضافتني الفرقة في الموسم المسرحي لعام 1976 لتمثيل دور – المعنكي – (ازدك ) في تلك المسرحية . وكنت حينذاك عضوا في مجلس نقابة الفنانين ، ومتفرغا للعمل فيها ، اما الاستاذ ابراهيم جلال فكان نقيبا متفرغا . كان لدينا متسع من الوقت اذن لاجراء حوارات مستفيضة حول المسرحية وحول دوري فيها . اذكر انني كنت قلقا ومجهدا ، ومسكونا بهم غائر حارق ، وانا اشتغل على شخصية المعنكي ، بهدف اكتشاف دلالاتها ، تناقضها ومستوياتها المتعددة ، النفسية والثقافية والاجتماعية . اذ انك لاتمسك بمفاتيح الشخصية لمرة واحدة مكتفية بذاتها ، وانما عليك ان ترافقها وتتفاعل معها ، ومن ثم تستدرجها ، وتحرضها على مغادرة الماضي , مغادرة النص ، كيما تكون شخصية محايثة , تعيش الواقع الراهن ، وتعبر عن صبوات الجمهور ، تعكس معاناته وتتحدث بلسانه .

عن الفنان إبراهيم جلالكان المخرج يطلب من الممثل منذ الوهلة الاولى ان يوازن بين الاداء التغريبي الواعي للشخصية وبين التدفق الحر لها على خشبة المسرح . فلم يحسب ابراهيم جلال على ذلك النمط من المخرجين الذين يدعون الممثل قانعا متطامنا الى تحليل المخرج للنص ولابعاد شخصياته ، فهو يشركه منذ ملامسة النص عند القراءة الاولى له وحتى ليلة العرض ، بل تتواصل هذه العملية في احيان كثيرة على امتداد ايام العرض ، في عملية التحليل هذه ، وفي ايجاد الحلول البصرية والصوتية ، وفي اعطاء هذه الحلول مذاقا خاصا ، ينفرد به الممثل ، ويتميز به عن اقرانه ، يسجل في رصيده وينتمي اليه . اما على صعيد الاخراج اجمالا ، فكان يحرص على الرغم من اعتماده على التغريب منهجا اساسا في التعامل مع ابعاد النص وتفاصيله ، وفي اعادة انتاج دلالاته ومعانيه ، على الاستفادة من مختلف المدارس الفنية عبر علاقة جدلية لا تخل بوحدة العرض المسرحي . كان الراحل ابراهيم جلال يمتلك حسا انسانيا رفيعا وخيالا فسيحا وموقفا نقديا واعيا . وقد امدته كل هذه الامكانيات بالقدرة على كتابة نص جديد ، هو نص ابراهيم جلال بامتياز . نص العرض المسرحي الذي ينطلق من نص المؤلف ، ليجعله اكثر خصوبة وثراء . وهذا ماتجسد في عرض مسرحية – دائرة الفحم البغدادية – اذ تجلت فيه قدرة المخرج الفائقة على تشكيل التكوينات ذات القيمة الجمالية العالية وعلى تحريك هذه التشكيلات عبر طرائق منسقة ومتوازنة ، تسهم في تعميق وعي الجمهور للنص ومضامينه.
وهناك سمة بارزة اخرى تميز بها الراحل إبراهيم جلال ، تمثلت في حرصه البالغ على تجديد رؤاه بالعلاقة مع حراك المشاهد ونبض الايقاع وطبيعة اداء الممثلين في تجسيد الصراع المتنامي والمحتدم بين شخوص المسرحية . فهو قد يعمد الى الاستغناء عن ما تم الاتفاق عليه من تشكيل وحركة ، والاستعاضة عنه بمخطط بديل ، لا يلغي ما تحقق سابقا ، بل يحتويه في علاقة جدلية جديدة ، تنفيه وتؤكده في الان نفسه ، ولكن في صيغة اخرى .
استمر العمل على المسرحية لاكثر من ثلاثة اشهر ، وكانت تلك الفترة واحدة من اخصب الفترات في حياتي الفنية ، تعرفت فيها على عدد غير قليل من فناني وفنانات الفرقة القومية ، الذين كانوا يعتبرون التمرينات ، موعدا لهم مع الفرح ولقاء لإجتراح الأرقى والأجمل ، الى المدى الذي استطاعوا فيه بجهودهم الحثيثة ان يصلوا الى ذروة عطائهم . وقد بذل الفنان الطيب رحيم التكريتي مدير المسارح والفنان القدير الراحل طعمة التميمي مدير الفرقة القومية كل ما في وسعهما لدعم الانتاج ، ولاشاعة جو من الالفة والانسجام بين صفوف العاملين في المسرحية . وجاء يوم العرض الموعود ، وعرضت المسرحية في جو مفعم بالتواصل بين الخشبة والصالة وابدع فيه الممثلون ايما ابداع ، وتجاوب من خلاله الجمهور مع المسرحية ، فاصبح ، هو نفسه احد عناصر العرض .
تحولت المسرحية بتشكيلاتها الاخاذة المبهرة – وكثيرا ما اعتمد الراحل في عروضه على عنصر الابهار - التي انتشلت الجمهور من حالة التلقي السلبي ووضتعه في قلب الاحداث ، وباداء ممثليها المتألق الصادق ، وبأناشيدها الهادرة ، الى مظاهرة شعبية واحتفال حاشد ، والى مرافعة ضد الاستبداد والعبودية . غادرنا المسرح القومي ، على امل اللقاء في اليوم التالي لمواصلة عرض المسرحية . وعند وصولي في الموعد المحدد للتهيؤ للعرض الثاني ، شاهدت الوجوه وهي تتشح بالحزن والارتباك . تقدم مني الاستاذ ابراهيم مضطربا ، وطلب مني حذف بعض العبارات في دوري وبخاصة تلك التي تعبر عن ازدراء المعنكي لقانون السادة وعن انحيازه للشعب . كذلك فعل مع الاخرين , واذكر من بينهم الفنان القدير - سامي قفطان - الذي مثل دور المغني ، حيث حذفت من دوره العبارات التى تندد بالاستبداد وتتوعد المستبدين بالعقاب الصارم الذي ينتظرهم . ارتدينا ملابسنا المسرحية ودخلنا غرفة المكياج وهنا لوحقنا مرة ثانية لمواصلة حذف المزيد من العبارات . ولم تنفع كل هذه الاجراءات ، اذ صدر القرار الحاسم – الغاء العرض- او بالاحرى منع المسرحية . وقع ذلك القرار علينا وقع الصاعقة . اصيب الجميع بالذهول والخيبة ، ودخل الاستاذ ابراهيم جلال اثر ذلك المستشفى مكتئبا حد الغثيان . اذ كان مقدرا ان يمتد عرض المسرحية بعد نجاحها المنقطع النظير في العرض الاول على امتداد الموسم المسرحي لذلك العام . ولكن ها هي السلطة تكشف ثانية عن عورتها وتتخلى مجددا عن حيائها الزائف . ومن الجدير بالذكرهنا ان طارق عزيز وزير الاعلام ـ آنذاك ـ وناصيف عواد مسؤول الاعلام القومي للحزب الحاكم حضرا العرض الاول بهدف تقييمه واختبار صحة التقارير التي كانت ترفع اليهما من داخل قاعة التمارين ، منددة بالعمل – كما علمنا مؤخرا – ومتهمة اياه بمعاداة خط الثورة ، وبالغمز من قناة قادتها . ثم بدات المصائب تلد مصائب اخرى . وزحف الظلام ليشمل العراق كله ، اذ اخذت السلطة تطلق الرصاص على الجميع وحدث بعد ذلك ما حدث ، حتى حلت الاصبوحات المسرحية الموحشة محل الامسيات المسرحية التي كانت تضج وتزدهي بجمهور المسرح ومحبيه . فمتى يستعيد العراق ، وبالتالي المسرح عافيته ليعود كما كان مصدرا للمتعة والمعرفة ، وسلاحا بوجه الطائفية المقيتة والفساد المستشري والارهاب المنفلت ؟ ؟؟
دليل مسرحية السيد والعبد 


0 التعليقات:

المشاركة في المواقع الأجتماعية

المنشورات في صور

حقوق الطبع والنشر خاصة بموقع مجلة الفنون المسرحية 2016. يتم التشغيل بواسطة Blogger.

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

الاتصال بهيئة تحرير مجلة الفنون المسرحية

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الترجمة Translate

من مواضيعنا المتميزة

جديد المقالات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الفنون المسرحية 2016

تعريب وتعديل: قوالبنا للبلوجر | تصميم: BloggerTheme9